زيد يحيى المحبشي
تكتسب الانتخابات العامة في السودان أهمية كبيرة, يتوقف عليها في تحديد مستقبل بلد لا يزال مصيره مجهولاً ومفتوحاً على كافة الاحتمالات, لا سيما وأنها تأتي بعد انقطاع دام 24 عاماً على إجراء اخر انتخابات في عام 1986, شهدت البلاد خلالها الكثير من المتغيرات والأحداث والتحديات والمؤامرات, كانت معها محاولات البحث عن مواقف متقاربة بين أطيافه الداخلية ومعالجات مؤتلفة ومخارج مضمونة لأزماته المتناسلة وصولاً إلى بر الأمان وتحقيقاً لسودان مستقر وموحد ومزدهر, أمر في غاية الصعوبة والتعقيد في بلدٍ لم يشهد يوماً من الاستقرار منذ استقلاله عام 1956.
ومن هنا تأتي أهمية هذه الانتخابات والتي يعلق عليها الكثير في الداخل والخارج أمالاً عريضة لترسيخ الاستقرار والتداول السلمي للسلطة بعيداً عن العنف والإعتساف, باعتبارها الآلية الناجزة لإنفاذ التحول الديمقراطي, بعد مرور 42 عاماً (1968 _ 2010) من النظم الشمولية و21 عاماً (1989 _ 2010) من القبض السلطوي وما صاحبها من ضغوط دولية على نظام البشير تركت بصماتها في تفجير العديد من الأزمات المهددة بتشظي هذا البلد أو إعادته إلى مرحلة الاستعمار, في حين لا يزال النظام يراهن على ترابط آلية المصالحات واتفاقيات السلام والتحول الديمقراطي والطفرة النفطية ووحدة كيان البلد لمواجهة الضغوط الخارجية والسيناريوهات الداخلية النازعة إلى الإنفصال.
محطات انتخابية
خاض السودان في تاريخه الحديث خمس انتخابات رئيسية لاختيار أعضاء البرلمان الوطني وثمان انتخابات فرعية, غير أن الانتخابات الحالية مختلفة كلية عن سابقاتها من حيث الأهداف والمقاصد والتحديات والتعقيدات والتداعيات المترتبة عليها, خصوصاً وأنها تجري على ستة مستويات وبثلاثة أنظمة انتخابية مختلفة بالتزامن, يختار من خلالها الشعب رئيس الجمهورية ورئيس حكومة الجنوب وحكام الولايات الـ25 والبرلمان الوطني والبرلمان الجنوبي وبرلمانات الولايات, وبالتالي تصويت الناخبين البالغ عددهم 16 مليوناً في الشمال ثمان مرات وفي الجنوب 12 مرة وعلى مدى ثلاثة أيام 11-13 أبريل, وهي مسالة معقدة للغاية في الدول المتقدمة التي تكاد الأمية فيها شبه منعدمة, فكيف سيكون الحال في بلد كالسودان يعد الأكبر مساحة على مستوى أفريقيا وتصل فيها نسبة الأمية إلى 85% وسط انعدام الإمكانيات لسيطرة أجهزة الدولة على الأوضاع خلال الانتخابات, في ظل القلاقل والاضطرابات المستمرة والمتجددة في الجنوب ودارفور وكردفان, ناهيك عن الجدل المحتدم بين القوى السياسية وتقاذف الاتهامات حول نزاهة الانتخابات من عدمه بالتوازي مع تعالي أصوات المقاطعة والانسحاب بعد فشل مطالب التأجيل أو الإلغاء لهذا الاستحقاق.
فيما يتعلق بالأنظمة الانتخابية تستخدم الانتخابات النظام المختلط أي الأغلبية المطلقة 50% زائد واحد لفوز رئيس الدولة ورئيس حكومة الجنوب والأغلبية البسيطة لاختيار حكام الولايات، وبالتالي فالسودان دائرة واحدة فيما يتعلق برئيس الجمهورية والجنوب بولاياته العشر دائرة واحدة فيما يتعلق برئيس حكومته والولاية دائرة جغرافية لاختيار الوالي.
على صعيد البرلمانيات تم توزيع مقاعدها بمختلف مستوياتها بواقع60% دوائر جغرافية و25% تمثيل نسبي للمرأة و15% تمثيل نسبي لقوائم الأحزاب ومعلوم أن البرلمان الوطني مكون من 450 مقعداً منها 270 مقعداً جغرافية و112 محجوزة للنساء و68 لقوائم الأحزاب التي يتجاوز عددها 31 حزباً متنافساً, لكن الفاعلة منها لا تتجاوز الستة أحزاب, في حين يضم برلمان الجنوب 170 مقعداً بينما تم تحديد 48 مقعداً للولايات قد تزيد أو تنقص تبعاً لتعداد كل ولاية.
واللافت هنا اكتساب هذه الانتخابات لدعم أميركا والاتحاد الأوربي لأول مرة خارج إطار العمل الإنساني, سواء كان مادياً أو فنياً أو سياسياً, نظراً لأهمية هذه الانتخابات على صعيد تهيئة الأجواء لاستفتاء تقرير مصير الجنوب, المتوقع إجرائه في كانون الثاني/ يناير 2011, وإقرار البرلمان المنتخب لأول دستور دائم للبلاد, بعد مرور خمس سنوات من المرحلة الانتقالية وتقاسم السلطة والثروة بين المؤتمر الوطني في الشمال والحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب, بموجب اتفاقية نيفاشا للسلام الشامل بين الشمال والجنوب المبرمة في 9 كانون الثاني/ يناير 2005 والتي بموجبها تم وضع حد لنحو 22 عاماً من الحرب الأهلية.
ومعلوم أن اتفاقية السلام الشامل المنجزة حينها بناءاً على وساطة أميركية ركزت على مسألتين هما إجراء انتخابات عامة واستفتاء الجنوب من ضمن عدة مبادئ على رأسها التحول الديمقراطي لإحلال سلام حقيقي وطوي المرحلة الانتقالية والتوصل إلى صيغة عادلة لاقتسام السلطة والثروة والتأكيد على أهمية دور الرقابة المحلية والإقليمية والدولية في ضمان نزاهة الانتخابات, على أن الأهم ربط الاتفاقية إجراء الانتخابات بإجراء الاستفتاء, ولعل هذا هو السبب الحقيقي من وراء الدعم الأميركي والإصرار الغربي على إجراء الانتخابات في موعدها وبالتالي سحب الحركة الشعبية لمرشحها الرئاسي وانقسام المعارضة على نفسها.
كما أن الأحزاب الملوحة اليوم بالمقاطعة أو الانسحاب هي ذاتها التي قاطعت انتخابات 1996 و2000 الرئاسية والبرلمانية، وفضّلت بالتالي الانكفاء على نفسها بعد أن كانت متصدرة المشهد السياسي والحكم قبل ثورة الإنقاذ التي قادتها الجبهة القومية الإسلامية بزعامة عمر البشير وحسن الترابي وذلك في عام 1989, ما جعلها تراهن اليوم على إسقاط نظام البشير الذي تصفه بالبوليسي, وهو رهان يعكس عدم ثقتها وخوفها الدائم من هذا النظام مقابل تزايد ثقة النظام بنجاحه في الانتخابات واستمراره في السلطة والحصول على التفويض الشعبي اللازم, ومن ثم عودة هذه الأحزاب إلى التخفي ثانية.
سيناريوهات ملغومة
بعد مرور عام من الجدل الداخلي على إجراء الانتخابات من عدمه, وبالنظر إلى جوهر الخلاف, فالملاحظ اقتصاره على الجانب الإجرائي دون التركيز على أصل المشكلة, وهي: "كيف يمكن إجراء انتخابات وطنية شاملة, دون أن يكون هناك إجماع وطني, على عمل مشترك", ذلك أن المعارضة لا تريد أن تمنح الحكومة شرعية الاستمرار من خلال التحكم في مفوضية الانتخابات والسيطرة على مراكز النفوذ والحكومة لا تريد أن تجد نفسها في وضع تهتز فيه سلطتها والإقرار بأن دورها قد انتهى.
إذن فمشكلة هذا البلد تكمن أساساً في غياب التوافق الوطني الذي يقرر فيه الجميع أنهم يريدون العيش في إطار دولة موحدة قبل التفكير في تحديد الوسائل التي يحكمون بها بلادهم.
وهو ما يجعل من المرحلة المقبلة مليئة بالكثير من الألغام والأزمات والصراعات على نتائج الانتخابات خصوصاً وأن الحراك الأميركي حتى الآن لا يزال عاجزاً عن إزالة عوامل التوتر من الأجواء السياسية رغم نجاحه في شق صفوف المعارضة, ومما يزيد الوضع تعقيداً أن اتفاق التسوية بشأن دارفور لم يدخل بعد مرحلة التنفيذ, في حين لا يزال اتفاق السلام مع الجنوب ناقصاً ومحاطاً بالكثير من التباينات السياسية, بالتوازي مع توجه الحركة الشعبية إلى تركيز كل مواردها ومناوراتها للفوز بمقاعد تقودها إلى تشكيل حكومة دولة الجنوب المستقلة.
وهذا يعني في مجمله أن الوضع السوداني مفتوح منذ الآن على انتخابات مشكوك فيها, فضلاً عن أنه مفتوح على طلاق بين الشمال والجنوب والذي سيكون هذه المرة بائناً بينونة كبرى.
وتبقى نقطة التلاقي الوحيدة بين السودانيين وهي الاقتناع بفداحة تجدد الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب إذا تجددت وهو مستبعد طبعاً, وفداحة استمرار الكارثة في دارفور, وما يترتب على الحرب والكارثة معاً من تداعيات تضع هذا البلد على أعتاب حقبة تاريخية جديدة, لن تنفع معها مساحيق التجميل, في بلد يدل كل شيء فيه على أنه يعيش في أزمة حقيقية تستدعي ضرورة العمل لتمكينه من تجاوزها بأقل الأضرار والخسائر, وفي مقدمتها انقسامه إلى شطرين بعد عهد قصير من تجربة سودان واحد بنظامين, وما لذلك من استحقاقات ومقتضيات كل واحدٍ منها كفيل بإشعال فتيل حرب جديدة قطعاً ستكون معها الحرب الأهلية المريرة التي مر بها السودان مجرد نزهة قصيرة.
وعموماً تشير التوقعات إلى فوز البشير بالأغلبية المريحة في الجولة الأولى وفشل رهانات المعارضة على إجراء جولة ثانية, تقف فيها خلف الصادق المهدي لمواجهة البشير, والذي يبدو أنه سيكون أكبر الخاسرين في الانتخابات الرئاسية.
والملاحظ هنا أخذ الانتخابات الرئاسية طابعاً قومياً تتلاشى فيه القبيلة أو قد تزدوج فيه الانتماءات عكس انتخابات حكام الولايات في بلد لا زالت القبيلة تلعب فيه دوراً محورياً.
ومن التوقعات أيضاً تراجع شعبية حزب الأمة القومي في دارفور لصالح المؤتمر الشعبي والذي يعد في نظر الكثير من المحللين الوجه الأخر لحركة العدل والمساواة، وبالتالي استفادة الشعبي من انشقاقه عن حليفه البشير ووضوح موقفه منذ البداية حول المشاركة في الانتخابات وهو ما يجعله متصدراً لقائمة الرابحين في هذه الانتخابات على الصعيد الولائي والتشريعي مقابل خسارة المؤتمر الوطني لبعض الولايات والحصول على مقاعد مقبولة في البرلمانيات تعوض خسارته في ولاة الولايات وعدم حصوله على الأغلبية المطلقة في الرئاسيات وكل هذا سيمكن المؤتمر الوطني من الانفراد بالمشهد السياسي في الشمال والتحكم الكلي في آلية إعادة رسم المعادلة السياسية الشمالية بصورة تتيح له حرية التحرك والمناورة على صعيد استفتاء الجنوب وإكمال مشروع المصالحات واتفاقيات السلام في الشمال ومواجهة الضغوط الدولية وفي مقدمتها مذكرة الاعتقال الصادرة بحق البشير.
لكن في بلد كالسودان لا تحكمه الولاءات السياسية وحدها بل هناك الولاءات القبلية والمناطقية وولاءات المصالح وما أكثرها, كل هذا يجعل من عامل المفاجآت سيد الموقف والثابت الوحيد في هذا البلد, وهذا لا يعفي قادته من الإقرار بأن الانتخابات بكل عيوبها تظل مصلحة جماعية وضرورية لقيادة البلاد إلى مستقبل أفضل تسوده روح التفاوض والحوار الوطني والعيش المشترك وليس الصراع وما لم تستوعب قواه السياسية هذه المعادلة فإن نُذر أزمة عاصفة تلوح في الأفق, كما أن نزوع بعض أطيافه إلى الكمال على افتراض حسن النية, نزوع مشروع, لكن أين هو الكمال في تجارب العالم الديمقراطية على مدى التاريخ العريض, إذن فما يشهده السودان اليوم تجربة متقدمة وخطوة للأمام تبدو ضرورية لأهميتها في تكريس المصالحات وتعزيز الوحدة الوطنية ووضع الأمور على سكة الحلول وإعادة بناء الثقة.
Al-mahbashi@maktoob.com
مدونة شخصية تهتم بنشر بعضاً من كتابات ودراسات وخواطر وأبحاث واقتباسات الباحث والكاتب زيد يحيى حسن المحبشي
Translate
الأربعاء، 7 أبريل 2010
السبت، 6 مارس 2010
الانتخابات العراقية
بقلم// زيد يحيى المحبشي
الاربعاء 3 مارس 2010م
بعد سبعة أعوام من الاحتلال الأميركي تدخل العملية السياسية في العراق مرحلة نوعية ومفصلية قد تقوده إلى التخلص من أغلال الاحتلال وإرساء الدولة الوطنية المستقلة والمستقرة بعد أن كانت قد انتقلت بفضل التطور الأمني النسبي في العامين الأخيرين من مرحلة الدولة الفاشلة إلى مرحلة الدولة الهشة وهذا بدوره يتوقف على مدى قوة الإرادة السياسية للعبور من نفق الطائفية والمحاصصة إلى شاطئ المواطنة المتساوية والوطنية ألحقه هذا من جهة, ومن جهة ثانية قد تقوده إلى فراغ سياسي ودستوري وأمني ليعود مجدداً إلى نقطة البداية وكأن شيئاً لم يحدث وبالتالي الدخول في نفق مظلم ومشحون بالحروب الأهلية والطائفية والإرباك والفوضى.
يأتي هذا في وقت بلغ فيه الصراع الأميركي الإيراني ذروته في معركة مصيرية حشد لها الفريقين كل طاقتهما في سباق مع الزمن لحسم هوية العراق الجديد وتقرير مساره ومصيره خلال المرحلة المقبلة حيث يسعى كل منهما إلى الانفراد باللعبة السياسية العراقية وضمان بقاء هذا البلاد تحت نفوذه وضمان الوجود والمصالح وهو ما يتقرر في السابع من مارس الجاري والذي سيقول فيه الشعب العراقي كلمة الفصل بين الانتصار للإدارة الوطنية أو الارتماء في أحضان أحد المعسكرين الأميركي أو الإيراني خصوصاً وأنه على مقربة من الانسحابات الأميركية الجزئية في آب /أغسطس المقبل والكلية في نهاية 2011 ما يجعل من الانتخابات التشريعية كثالث وآخر انتخابات تجري تحت الاحتلال نقطه فاصلة كونها ستحدد هوية الحكومة الخامسة التي ستكون معنية بتحديد شكل عراق ما بعد الاحتلال.
مفاعيل الحراك السياسي المستبق الانتخابات بما صاحبه من تأزمات وتشظيات وتقلبات وتبدلات في تحالفات العملية السياسية لم تكن بعيدة عن الصراع الإقليمي الدولي ما يشي بأن المرحلة المقبلة حُبلى بصراعات سياسية و أمنية لا تقل خطورة عن إيقاعات السنوات السبع العجاف الماضية في بلد لا يزال متعثراً بالدم والنار ولا تزال مؤسساته الناشئة ذات قابلية كبيرة للاختراق الخارجي ولا تزال المصالحة الوطنية غائبة ولا تزال خمس من محافظاته تحت سيطرة قوات الاحتلال الكاملة وثلاث تحت الحكم الكردي الذاتي المستقل والبقية تحت السيطرة الإيرانية والأميركية غير المباشرة ولا تزال تجارة الموت والعنف مستمرة ولا تزال عمليته السياسية تدار بطريقة عشائرية وفطرية مشوهة وغير مفهومة في عالم السياسة والأخطر من هذا وذاك استمرار تركيز قادته الجدد على صراع الثروة والسلطة والتلهف لربط إرادتهم السياسية بإرادة الدول المحيطة والقوى الكبرى والخضوع لإستراتيجياتها والتماس تدخلها ورضاها ودعمها.
كل ذلك يجعل من محاولة القوى الوطنية العابرة للطائفية للولوج إلى العملية السياسية لفرض التغيير والإصلاح محرجاً للغاية وسط تزايد المخاوف من تصعيد الانتخابات عناصر غير نظيفة إلى السلطة لتقود العراق من محنته الحالية وتدخله قسراً إلى الظلام الأبدي لاسيما وأن المعطيات المصاحبة للانتخابات تشي بأن العملية السياسية ومشاريع تقسيم العراق وجهان لعملة واحدة وهو ما يجعل من الانتخابات الحالية مجرد مسرحية هزلية متقنه لتلميع المشهد السياسي الهش ما نجد حقيقته في ارتفاع أسهم بازار الأكاذيب والوعود الانتخابية المغلفة بجلباب الوطنية والمشاريع السياسية الوهمية فيما هي في واقع الأمر مجرد زعانف تُحرك من خارج الحدود وهو ما يؤكد صحة رؤية الكثير من الخبراء والباحثين العراقيين حول عدم جدوى العمل السياسي في ظل الاحتلال.
المشهد الانتخابي
تعتمد انتخابات 2010 على اعتبار المحافظة دائرة انتخابية واحدة على أن تتوزع مقاعد البرلمان الـ 325 بواقع مقعد واحد لكل مائة ألف نسمة وفقاً لأخر إحصاء تقدمه وزارة التجارة - البطاقة التموينية - نظرًا لعدم وجود إحصاء سكاني في هذا البلد منذ العام 1957, على أن يكون الترشيح بموجب القائمة المفتوحة في كل دائرة سواء لصالح القائمة الانتخابية أو أحد مرشحيها بحيث يجري بعدها جمع الأصوات الصحيحة لكل قائمة وتقسيمها على القاسم الانتخابي لتحديد عدد المقاعد المخصصة لكل قائمة تبعاً لنسبة الأصوات التي حصلت عليها أي أنها ستكون أكثر من نصف مغلقة وأقل من نصف مفتوحة.
هذا النوع من الانتخابات من شأنه تعزيز مراكز القوى الكبيرة على حساب القوى الصغيرة والقوى الراغبة في التغير وتغليب قاعدة المحاصصة وما ينشأ عنها من صفقات سياسية وبالتالي عدم ارتقاء الانتخابات إلى الحد الأدنى من النزاهة والتنافس الشفاف في ظل غياب قانون أحزاب يضبط العملية السياسية في بلد لا تزال تكتلاته الداخلية مرتبطة بمدى عمق الصفقات الإقليمية والدولية التي يعقدها هذا الطرف أو ذاك وبمدى حيازة المال السياسي.
بلغة الأرقام, هناك أكثر من 276 كيان سياسي تخوض الانتخابات منها 148 كيان يشارك لأول مرة و128 كيان سبق له المشاركة و44 كيان بأسماء فردية و 232 كيان موزعة بين قائمة وائتلاف وحركة وتيار تمثلها 6 تحالفات رئيسية تتنافس على 310 مقاعد موزعة طائفياً بواقع 190 للشيعة و70 للسنة و50 للأكراد إلى جانب 15 مقعداً تعويضياً 8 منها تعود للأقليات و7 على الفريق الذي يحصد أكثر الأصوات.
عدد الناخبين نحو 14 مليون و780 ناخب موزعين على 6088 قلم انتخابي لاختيار أعضاء البرلمان من بين 6172 مرشحاً, في حين تشير المعطيات إلى أن الصراع الأميركي الإيراني سيتحكم في 70 بالمائة من نتائج مقابل تحكم الناخب العراقي في 30 بالمائة فقط فيما يذهب 43 بالمائة من الشارع العراقي إلى أن اعتبار المحافظة دائرة انتخابية واحدة سيعزز القوائم الكبيرة مقابل 35 بالمائة يرون أنها ستقود إلى تركيز قوى محدودة في البرلمان وتعزيز دور الحزب و القيادات الحزبية على حساب المرشحين الأفراد.
المشهد السياسي:
في انتخابات 2005 حكمت المشهد العراقي ثلاثة أضلاع طائفية هي الائتلاف العراقي الموحد عن الشيعة وجبهة التوافق عن السنة والتحالف الكردستاني عن الأكراد بالتوازي مع وقوف أميركا وإيران إلى جانب الأول وضد الثاني و ضمان حقوق الثالث, بينما دفعت التقلبات والتعقيدات الإقليمية والدولية في السنوات الخمس الأخيرة إلى تبدل المعادلة الداخلية بفارق بسيط هو تحول السنة من دور المشاركة الفاعلة إلى دور الرديف والحظوة بدعم أميركا هذه المرة على خلفية تشظيها وانصهارها في التحالفات الأخرى, والعكس في المشهد الشيعي فهو رغم انقسامه إلى تيارين أحدهما موالي لإيران والأخر لأميركا إلا أن الشيعة لا تزال محتمية بقوتها العددية الكبيرة المحافظة على حدود مقبولة من التماسك الطائفي والمنسحب بدوره على الأكراد المحتمين بقضيتهم المركزية حول الحكم الذاتي والحظوة كالعادة بضمانات أميركية لا محدودة.
وبين ما يريده الداخل وما يريده الخارج خيط رفيع سيقرر هوية الحكومة المقبلة وتحالفات ما بعد الانتخابات وهوية عراق ما بعد الاحتلال في حال تم إنفاذ الاتفاقية الأمنية مع أميركا.
خارجياً: تُعد واشنطن وطهران اللاعب الأساسي وكلاهما لديه أزمات داخلية حادة وحسابات خارجية دقيقة ما يجعل من العراق الساحة المناسبة لتنفيس الاحتقانات الداخلية وتصفية الحسابات الخارجية بفارق بسيط هو تحرك واشنطن داخل إطار اللعب السياسية العراقية فيما تفضل طهران التحرك داخل وخارج اللعبة العراقية ولكل منهما أوراقة فواشنطن تتحكم في الخيارات القانونية الأممية والتي لا يزال العراق بموجبها واقعاً تحت مقصلة الفصل الأممي السابع المتيح لها حق الإشراف التام - طبقاً للقرار 1546 - على مقدرات العراق في حال فشل القوى الموالية في إحراز الفوز الساحق ما لم تحدث صفقة إقليمية للتسوية تشمل إيران لتقاسم النفوذ ولذا فواشنطن تدعم وبمباركة بقوة غربية وعربية, تحالف العراقية وائتلاف وحدة العراق وهما تغلبهما السمة السنية الفاعلة رغم أن قيادتهما شيعية ومرشحها القادم لرئاسة حكومة العراق الخامسة إياد علاوي وهو توجه يحظى بدعم دول عربية عدة تريد إدارة صراعها مع إيران في العراق بالنيابة من خلال البوابة الأميركية فيما تريد أميركا العكس تماماً فهي تريد أن يلعب العرب دور ايجابي في العراق وتريد كبح جماح النفوذ الإيراني وقصقصة أذرعه العراقية وترك حكومة موالية تضمن تأمين الانسحاب الأميركي والمصالح الأميركية في العراق والمنطقة كما أن أي خلل حالياً لا يخدم العملية السياسية والمصالحة الوطنية العراقية كون الاهتمام الأميركي متركز على حل مشكلة كركوك وتسوية المشاكل العالقة مع الشمال الكردي.
إيران بدورها ترى في الورقة العراقية فرصة ذهبية لتخفيف الاحتقان الإيراني الداخلي وتحسين موقفها التفاوضي بشأن الملف النووي ناهيك عن رغبتها في سد فراغ الانسحاب الأميركي من العراق لترسيخ وجودها ونفوذها ولذا فهي تقود معركتها بالوكالة عبر ائتلاف دولة القانون والائتلاف الوطني العراقي ذي الغالبية الشيعية مع بعض التطعيمات الكارتونية السنية والكردية ورئيس وزرائها للمرحلة المقبلة عادل عبدالمهدي أو إبراهيم الجعفري أو المالكي على أن الورقة الإيرانية الرابحة هي اجتثاث البعث وآلية التنفيذ هيئة المساءلة والتي قامت باجتثاث مئات من مرشحي السنة الفاعلين المحسوبين على أميركا.
الصراع في إطاره العام مرتبط إلى حد بعيد بصراع المحاور في المنطقة وبدرجة الشعور بالقلق والتهديد إزاء الطموحات الإيرانية وهو ما يجعلنا أمام خيارين لعراق ما بعد الانتخابات العراقية إما حدوث صفقة إقليمية دولية في حال عدم إحراز أي من المعسكرين الرئيسين الفوز الساحق أو حدوث العكس وحينها سيكون العراق أمام كارثة محققة.
داخلياً: تشير المعطيات إلى استحالة إحراز أي من التكتلات الستة الرئيسية الغالبية التي تؤهله لتشكيل الحكومة وترجيح إحدى الكفتين الأميركية أو الإيرانية.
1- الائتلاف الوطني العراقي : ديني طائفي, يتشكل من المجلس الأعلى/ عمار الحكيم , والتيار الصدري ومنظمة بدر وحزب الفضيلة والمؤتمر الوطني/ أحمد الجلبي , وتيار الإصلاح/ إبراهيم الجعفري وكلها شيعية إلى جانب قوى سنية وكردية شيعية هامشية, ومن المرجح أن الائتلاف لن يكون له تأثير كبير في المرحلة المقبلة .
2- ائتلاف دولة القانون: ديني طائفي متغلف بالوطنية, يقوده المالكي يضم حزب الدعوة الشيعي وعدد من القوى السنية والشيعية الكردية الهامشية, التحالف غير متوازن وبالتالي توقف فرص نجاحه على عامل الزعامة المحلية والإقليمية وسلطة المالكي تحديداً في حين تذهب التقديرات إلى احتمال إحرازه مع الائتلاف الوطني العراقي 90 مقعداً محسومة ما يحول دون انفراد أي منهما بتشكيل الحكومة المقبلة وبالتالي حاجتهما لإعادة تحالفهما وهو المرجح إلى جانب تحالف ثالث قد يشمل التحالف الكردستاني.
3- ائتلاف وحدة العراق: تحالف علماني ليبرالي عابر للطائفية شكله وزير الداخلية الشيعي ورئيس حزب الدستور جواد البولاني إلى جانب عدد من الأحزاب والشخصيات السنية الفاعلة وعدد من الأكراد المستقلين وابرز شخصياته رئيس البرلمان الحالي عبدالغفور السامرائي ومن المرجح أن يشكل الائتلاف عامل المفاجئة في الانتخابات وحصوله على مقاعد مقاربة للمقاعد التي يحصل عليها أحد الائتلافين السابقين.
4- تحالف العراقية: يضم 21 حزباً بقيادة أياد علاوي وهو تحالف علماني ليبرالي عابر للطائفية تغلبه السمة السنية الفاعلة وابرز قياداته صالح المطلق وطارق الهاشمي وأسامة النجيفي وظافر العاني ويعتمد حظه على جاذبية الشركاء السنة والحسابات الانتخابية ومن المرجح حصوله على 70-80 مقعداً وبالتالي تحالفه مع ائتلاف وحدة العراق مع احتمال انضمام قائمة التوافق لتشكيل الحكومة.
5- قائمة التوافق: حصلت في 2005م على 44 مقعداً فيما يتوقع اليوم حصولها على 30 مقعداً ويقودها الحزب الإسلامي وهي ذات غالبية سنية ومن ابرز شخصياتها عدنان الدليمي .
6- التحالف الكردستاني: طائفي قومي, مكون من 10 أحزاب صغيرة إلى جانب حزبي برزاني وطالباني الرئيسيين في الساحة الكردية إذ يرجح حصوله على 30 مقعداً في المناطق الكردية والتنافس على العشرة المقاعد الكردية في المناطق المختلطة مقابل حصاد المعارضة الكردية 15 مقعداً والممثلة في قائمة التغيير الممثلة في البرلمان الكردستاني بـ 25 مقعداً وقائمتا الاتحاد الإسلامي والجماعة الإسلامية واللافت في المشهد الكردي تفضيل لعب دور المراقب الممسك بالعصا من الوسط في الملفات الشائكة خارج كردستان لتطلب مصلحته بقاء التوازن بين الشيعة و السنة بين الجذب و الشد وعدم السماح لأي طرف منها بحسم الأمر لصالحه لان ذلك سيشكل حينها تهديداً لمصالح وطموحات الأكراد المستقبلية.
الاربعاء 3 مارس 2010م
بعد سبعة أعوام من الاحتلال الأميركي تدخل العملية السياسية في العراق مرحلة نوعية ومفصلية قد تقوده إلى التخلص من أغلال الاحتلال وإرساء الدولة الوطنية المستقلة والمستقرة بعد أن كانت قد انتقلت بفضل التطور الأمني النسبي في العامين الأخيرين من مرحلة الدولة الفاشلة إلى مرحلة الدولة الهشة وهذا بدوره يتوقف على مدى قوة الإرادة السياسية للعبور من نفق الطائفية والمحاصصة إلى شاطئ المواطنة المتساوية والوطنية ألحقه هذا من جهة, ومن جهة ثانية قد تقوده إلى فراغ سياسي ودستوري وأمني ليعود مجدداً إلى نقطة البداية وكأن شيئاً لم يحدث وبالتالي الدخول في نفق مظلم ومشحون بالحروب الأهلية والطائفية والإرباك والفوضى.
يأتي هذا في وقت بلغ فيه الصراع الأميركي الإيراني ذروته في معركة مصيرية حشد لها الفريقين كل طاقتهما في سباق مع الزمن لحسم هوية العراق الجديد وتقرير مساره ومصيره خلال المرحلة المقبلة حيث يسعى كل منهما إلى الانفراد باللعبة السياسية العراقية وضمان بقاء هذا البلاد تحت نفوذه وضمان الوجود والمصالح وهو ما يتقرر في السابع من مارس الجاري والذي سيقول فيه الشعب العراقي كلمة الفصل بين الانتصار للإدارة الوطنية أو الارتماء في أحضان أحد المعسكرين الأميركي أو الإيراني خصوصاً وأنه على مقربة من الانسحابات الأميركية الجزئية في آب /أغسطس المقبل والكلية في نهاية 2011 ما يجعل من الانتخابات التشريعية كثالث وآخر انتخابات تجري تحت الاحتلال نقطه فاصلة كونها ستحدد هوية الحكومة الخامسة التي ستكون معنية بتحديد شكل عراق ما بعد الاحتلال.
مفاعيل الحراك السياسي المستبق الانتخابات بما صاحبه من تأزمات وتشظيات وتقلبات وتبدلات في تحالفات العملية السياسية لم تكن بعيدة عن الصراع الإقليمي الدولي ما يشي بأن المرحلة المقبلة حُبلى بصراعات سياسية و أمنية لا تقل خطورة عن إيقاعات السنوات السبع العجاف الماضية في بلد لا يزال متعثراً بالدم والنار ولا تزال مؤسساته الناشئة ذات قابلية كبيرة للاختراق الخارجي ولا تزال المصالحة الوطنية غائبة ولا تزال خمس من محافظاته تحت سيطرة قوات الاحتلال الكاملة وثلاث تحت الحكم الكردي الذاتي المستقل والبقية تحت السيطرة الإيرانية والأميركية غير المباشرة ولا تزال تجارة الموت والعنف مستمرة ولا تزال عمليته السياسية تدار بطريقة عشائرية وفطرية مشوهة وغير مفهومة في عالم السياسة والأخطر من هذا وذاك استمرار تركيز قادته الجدد على صراع الثروة والسلطة والتلهف لربط إرادتهم السياسية بإرادة الدول المحيطة والقوى الكبرى والخضوع لإستراتيجياتها والتماس تدخلها ورضاها ودعمها.
كل ذلك يجعل من محاولة القوى الوطنية العابرة للطائفية للولوج إلى العملية السياسية لفرض التغيير والإصلاح محرجاً للغاية وسط تزايد المخاوف من تصعيد الانتخابات عناصر غير نظيفة إلى السلطة لتقود العراق من محنته الحالية وتدخله قسراً إلى الظلام الأبدي لاسيما وأن المعطيات المصاحبة للانتخابات تشي بأن العملية السياسية ومشاريع تقسيم العراق وجهان لعملة واحدة وهو ما يجعل من الانتخابات الحالية مجرد مسرحية هزلية متقنه لتلميع المشهد السياسي الهش ما نجد حقيقته في ارتفاع أسهم بازار الأكاذيب والوعود الانتخابية المغلفة بجلباب الوطنية والمشاريع السياسية الوهمية فيما هي في واقع الأمر مجرد زعانف تُحرك من خارج الحدود وهو ما يؤكد صحة رؤية الكثير من الخبراء والباحثين العراقيين حول عدم جدوى العمل السياسي في ظل الاحتلال.
المشهد الانتخابي
تعتمد انتخابات 2010 على اعتبار المحافظة دائرة انتخابية واحدة على أن تتوزع مقاعد البرلمان الـ 325 بواقع مقعد واحد لكل مائة ألف نسمة وفقاً لأخر إحصاء تقدمه وزارة التجارة - البطاقة التموينية - نظرًا لعدم وجود إحصاء سكاني في هذا البلد منذ العام 1957, على أن يكون الترشيح بموجب القائمة المفتوحة في كل دائرة سواء لصالح القائمة الانتخابية أو أحد مرشحيها بحيث يجري بعدها جمع الأصوات الصحيحة لكل قائمة وتقسيمها على القاسم الانتخابي لتحديد عدد المقاعد المخصصة لكل قائمة تبعاً لنسبة الأصوات التي حصلت عليها أي أنها ستكون أكثر من نصف مغلقة وأقل من نصف مفتوحة.
هذا النوع من الانتخابات من شأنه تعزيز مراكز القوى الكبيرة على حساب القوى الصغيرة والقوى الراغبة في التغير وتغليب قاعدة المحاصصة وما ينشأ عنها من صفقات سياسية وبالتالي عدم ارتقاء الانتخابات إلى الحد الأدنى من النزاهة والتنافس الشفاف في ظل غياب قانون أحزاب يضبط العملية السياسية في بلد لا تزال تكتلاته الداخلية مرتبطة بمدى عمق الصفقات الإقليمية والدولية التي يعقدها هذا الطرف أو ذاك وبمدى حيازة المال السياسي.
بلغة الأرقام, هناك أكثر من 276 كيان سياسي تخوض الانتخابات منها 148 كيان يشارك لأول مرة و128 كيان سبق له المشاركة و44 كيان بأسماء فردية و 232 كيان موزعة بين قائمة وائتلاف وحركة وتيار تمثلها 6 تحالفات رئيسية تتنافس على 310 مقاعد موزعة طائفياً بواقع 190 للشيعة و70 للسنة و50 للأكراد إلى جانب 15 مقعداً تعويضياً 8 منها تعود للأقليات و7 على الفريق الذي يحصد أكثر الأصوات.
عدد الناخبين نحو 14 مليون و780 ناخب موزعين على 6088 قلم انتخابي لاختيار أعضاء البرلمان من بين 6172 مرشحاً, في حين تشير المعطيات إلى أن الصراع الأميركي الإيراني سيتحكم في 70 بالمائة من نتائج مقابل تحكم الناخب العراقي في 30 بالمائة فقط فيما يذهب 43 بالمائة من الشارع العراقي إلى أن اعتبار المحافظة دائرة انتخابية واحدة سيعزز القوائم الكبيرة مقابل 35 بالمائة يرون أنها ستقود إلى تركيز قوى محدودة في البرلمان وتعزيز دور الحزب و القيادات الحزبية على حساب المرشحين الأفراد.
المشهد السياسي:
في انتخابات 2005 حكمت المشهد العراقي ثلاثة أضلاع طائفية هي الائتلاف العراقي الموحد عن الشيعة وجبهة التوافق عن السنة والتحالف الكردستاني عن الأكراد بالتوازي مع وقوف أميركا وإيران إلى جانب الأول وضد الثاني و ضمان حقوق الثالث, بينما دفعت التقلبات والتعقيدات الإقليمية والدولية في السنوات الخمس الأخيرة إلى تبدل المعادلة الداخلية بفارق بسيط هو تحول السنة من دور المشاركة الفاعلة إلى دور الرديف والحظوة بدعم أميركا هذه المرة على خلفية تشظيها وانصهارها في التحالفات الأخرى, والعكس في المشهد الشيعي فهو رغم انقسامه إلى تيارين أحدهما موالي لإيران والأخر لأميركا إلا أن الشيعة لا تزال محتمية بقوتها العددية الكبيرة المحافظة على حدود مقبولة من التماسك الطائفي والمنسحب بدوره على الأكراد المحتمين بقضيتهم المركزية حول الحكم الذاتي والحظوة كالعادة بضمانات أميركية لا محدودة.
وبين ما يريده الداخل وما يريده الخارج خيط رفيع سيقرر هوية الحكومة المقبلة وتحالفات ما بعد الانتخابات وهوية عراق ما بعد الاحتلال في حال تم إنفاذ الاتفاقية الأمنية مع أميركا.
خارجياً: تُعد واشنطن وطهران اللاعب الأساسي وكلاهما لديه أزمات داخلية حادة وحسابات خارجية دقيقة ما يجعل من العراق الساحة المناسبة لتنفيس الاحتقانات الداخلية وتصفية الحسابات الخارجية بفارق بسيط هو تحرك واشنطن داخل إطار اللعب السياسية العراقية فيما تفضل طهران التحرك داخل وخارج اللعبة العراقية ولكل منهما أوراقة فواشنطن تتحكم في الخيارات القانونية الأممية والتي لا يزال العراق بموجبها واقعاً تحت مقصلة الفصل الأممي السابع المتيح لها حق الإشراف التام - طبقاً للقرار 1546 - على مقدرات العراق في حال فشل القوى الموالية في إحراز الفوز الساحق ما لم تحدث صفقة إقليمية للتسوية تشمل إيران لتقاسم النفوذ ولذا فواشنطن تدعم وبمباركة بقوة غربية وعربية, تحالف العراقية وائتلاف وحدة العراق وهما تغلبهما السمة السنية الفاعلة رغم أن قيادتهما شيعية ومرشحها القادم لرئاسة حكومة العراق الخامسة إياد علاوي وهو توجه يحظى بدعم دول عربية عدة تريد إدارة صراعها مع إيران في العراق بالنيابة من خلال البوابة الأميركية فيما تريد أميركا العكس تماماً فهي تريد أن يلعب العرب دور ايجابي في العراق وتريد كبح جماح النفوذ الإيراني وقصقصة أذرعه العراقية وترك حكومة موالية تضمن تأمين الانسحاب الأميركي والمصالح الأميركية في العراق والمنطقة كما أن أي خلل حالياً لا يخدم العملية السياسية والمصالحة الوطنية العراقية كون الاهتمام الأميركي متركز على حل مشكلة كركوك وتسوية المشاكل العالقة مع الشمال الكردي.
إيران بدورها ترى في الورقة العراقية فرصة ذهبية لتخفيف الاحتقان الإيراني الداخلي وتحسين موقفها التفاوضي بشأن الملف النووي ناهيك عن رغبتها في سد فراغ الانسحاب الأميركي من العراق لترسيخ وجودها ونفوذها ولذا فهي تقود معركتها بالوكالة عبر ائتلاف دولة القانون والائتلاف الوطني العراقي ذي الغالبية الشيعية مع بعض التطعيمات الكارتونية السنية والكردية ورئيس وزرائها للمرحلة المقبلة عادل عبدالمهدي أو إبراهيم الجعفري أو المالكي على أن الورقة الإيرانية الرابحة هي اجتثاث البعث وآلية التنفيذ هيئة المساءلة والتي قامت باجتثاث مئات من مرشحي السنة الفاعلين المحسوبين على أميركا.
الصراع في إطاره العام مرتبط إلى حد بعيد بصراع المحاور في المنطقة وبدرجة الشعور بالقلق والتهديد إزاء الطموحات الإيرانية وهو ما يجعلنا أمام خيارين لعراق ما بعد الانتخابات العراقية إما حدوث صفقة إقليمية دولية في حال عدم إحراز أي من المعسكرين الرئيسين الفوز الساحق أو حدوث العكس وحينها سيكون العراق أمام كارثة محققة.
داخلياً: تشير المعطيات إلى استحالة إحراز أي من التكتلات الستة الرئيسية الغالبية التي تؤهله لتشكيل الحكومة وترجيح إحدى الكفتين الأميركية أو الإيرانية.
1- الائتلاف الوطني العراقي : ديني طائفي, يتشكل من المجلس الأعلى/ عمار الحكيم , والتيار الصدري ومنظمة بدر وحزب الفضيلة والمؤتمر الوطني/ أحمد الجلبي , وتيار الإصلاح/ إبراهيم الجعفري وكلها شيعية إلى جانب قوى سنية وكردية شيعية هامشية, ومن المرجح أن الائتلاف لن يكون له تأثير كبير في المرحلة المقبلة .
2- ائتلاف دولة القانون: ديني طائفي متغلف بالوطنية, يقوده المالكي يضم حزب الدعوة الشيعي وعدد من القوى السنية والشيعية الكردية الهامشية, التحالف غير متوازن وبالتالي توقف فرص نجاحه على عامل الزعامة المحلية والإقليمية وسلطة المالكي تحديداً في حين تذهب التقديرات إلى احتمال إحرازه مع الائتلاف الوطني العراقي 90 مقعداً محسومة ما يحول دون انفراد أي منهما بتشكيل الحكومة المقبلة وبالتالي حاجتهما لإعادة تحالفهما وهو المرجح إلى جانب تحالف ثالث قد يشمل التحالف الكردستاني.
3- ائتلاف وحدة العراق: تحالف علماني ليبرالي عابر للطائفية شكله وزير الداخلية الشيعي ورئيس حزب الدستور جواد البولاني إلى جانب عدد من الأحزاب والشخصيات السنية الفاعلة وعدد من الأكراد المستقلين وابرز شخصياته رئيس البرلمان الحالي عبدالغفور السامرائي ومن المرجح أن يشكل الائتلاف عامل المفاجئة في الانتخابات وحصوله على مقاعد مقاربة للمقاعد التي يحصل عليها أحد الائتلافين السابقين.
4- تحالف العراقية: يضم 21 حزباً بقيادة أياد علاوي وهو تحالف علماني ليبرالي عابر للطائفية تغلبه السمة السنية الفاعلة وابرز قياداته صالح المطلق وطارق الهاشمي وأسامة النجيفي وظافر العاني ويعتمد حظه على جاذبية الشركاء السنة والحسابات الانتخابية ومن المرجح حصوله على 70-80 مقعداً وبالتالي تحالفه مع ائتلاف وحدة العراق مع احتمال انضمام قائمة التوافق لتشكيل الحكومة.
5- قائمة التوافق: حصلت في 2005م على 44 مقعداً فيما يتوقع اليوم حصولها على 30 مقعداً ويقودها الحزب الإسلامي وهي ذات غالبية سنية ومن ابرز شخصياتها عدنان الدليمي .
6- التحالف الكردستاني: طائفي قومي, مكون من 10 أحزاب صغيرة إلى جانب حزبي برزاني وطالباني الرئيسيين في الساحة الكردية إذ يرجح حصوله على 30 مقعداً في المناطق الكردية والتنافس على العشرة المقاعد الكردية في المناطق المختلطة مقابل حصاد المعارضة الكردية 15 مقعداً والممثلة في قائمة التغيير الممثلة في البرلمان الكردستاني بـ 25 مقعداً وقائمتا الاتحاد الإسلامي والجماعة الإسلامية واللافت في المشهد الكردي تفضيل لعب دور المراقب الممسك بالعصا من الوسط في الملفات الشائكة خارج كردستان لتطلب مصلحته بقاء التوازن بين الشيعة و السنة بين الجذب و الشد وعدم السماح لأي طرف منها بحسم الأمر لصالحه لان ذلك سيشكل حينها تهديداً لمصالح وطموحات الأكراد المستقبلية.
الاثنين، 4 يناير 2010
الصومال ضحية التدخلات الخارجية
زيد يحيى المحبشي
"الأزمات العربية لم تعد عربية خالصة، فهناك دائماً يد خارجية يختلف حجم تدخلها وتورطها بحسب الحالة، كما يختلف الاتجاه بحسب مستوى -كل أزمة على حِدة- وإطلالاتها على الإقليم أو العالم، وهو أمر لم يعد سيئاً في حد ذاته -على الأقل تلك رؤية المستفيدين من التدخل الخارجي كل بحسب موقفه ومصالحه من هذا التدخل أو ذاك- وهو أمر لم يعد محجوباً بل صار حديثاً صاخباً, وأمراً واقعياً يجب التعامل معه وتهذيبه إن كان شراً مستطيراً، والتمسك به إن كان خيراً".
قراءة واقعية للوضع غير الطبيعي الذي شهدته الساحة العربية خلال العشرية الأخيرة وما صاحبها من أزمات. يعتقد الدكتور حسن أبو طالب أن للتدخلات الخارجية الدور الرئيسي في استفحالها واستعصائها على العطارين الجدد من حملة مباخر الأجندة والتغيير وسط ما يعانيه النظام العربي من ضعف وتباعد وعدم استقرار وفوضى عارمة هيئت مجتمعة الأرضية العربية لترعرع وتنامي قوى الجريمة والإرهاب وفتحت المجال واسعاً أمام القوى الإقليمية والدولية الطامعة والطامحة إلى تصفية حساباتها وفرض أجندتها وإرادتها على حساب حاضر ومستقبل العرب.
الصومال تظل نموذجاً فاقعاً للأزمات العربية المتناسلة من رحم التدخلات الخارجية والتي حولَّته أثراً بعد عين مما أدى إلى تلاشي الدولة حتى يئس الصوماليين في ظل الغياب العربي والصمت الدولي من عودة الأمن والاستقرار لتبقى ثقافة العنف وصناعة الموت الحقيقة الوحيدة الثابتة في هذا البلد المنكوب بلعنة الجغرافيا وجفاء الأشقاء وتربص الجيران.
المدخلات
منذ استقلال الصومال في 1960 بدأت الدولة الجديدة بالمناداة بالصومال الكبرى وسط رغبة جامحة للم شمل الصوماليين المشتتين بين إثيوبيا المحتلة لإقليم أوجادين الصومالي 1964 وكينيا المحتلة لإقليم أنفدي 1963 والمجاميع الأخرى المشتتة بين غينيا ورواندي, الأمر الذي فتح على الصومال أبواب جهنم وتحديداً بعد استيلاء الجنرال محمد سياد بري على السلطة في 1964 وانتهاجه النهج الشمولي والقبضة الحديدية في الداخل مضيفاً بذلك بُعداً جديداً تمثل في تغذية دول الجوار للكبت الداخلي في حين كانت الحرب مع إثيوبيا على أوجادين في 1977 الشعرة القاصمة لظهر البعير والذي كانت نتيجته سقوط نظام بري في 1991 ومن حينها دخلت البلاد في أتون حرب أهلية طاحنة لم تشهد بعدها سوى أشهر قليلة من الأمن والاستقرار خلال فترة حكم المحاكم الإسلامية قبل أن تتمكن القوات الإثيوبية وبغطاء أميركي من إسقاطها في 2007 على خلفية بروز عامل ثالث للأزمة تمثل في الربط بين الإرهاب والتيارات الإسلامية إلا أن ذلك لم يحل دون معاودة القوى الإسلامية الظهور وبأقوى من السابق بدلالة تمكنها في فترة قصيرة – بداية النصف الثاني من عام 2009 - جداً من بسط سيطرتها على مناطق الجنوب وأجزاء واسعة من مقديشو بقيادة حركة شباب المجاهدين والحزب الإسلامي رغم خروج القوات الإثيوبية وتنصيب رئيس المحاكم الإسلامية شيخ شريف شيخ أحمد رئاسة الدولة,بالتوازي مع اتهام المعارضة له ببيع القضية,غير أن هذا لم يحول دون الاشتباك المسلح بين حركة الشباب والحزب الإسلامي مؤخراً, وهو ما يشي بمدى ديناميكية الخريطة السياسية في هذا البلد وقابليتها للتحرك في كافة الاتجاهات تبعاً لتوازنات المصالح والمعارك العسكرية والتغيرات السياسية وبوصلة التحالفات المتقلبة.
المشكلة الصومالية بصورة عامة تدور حول الصراع على السلطة والذي بدوره يظل خاضعاً لحسابات دول الجوار والقوى الكبرى العاجزة حتى الآن عن فرض أجندتها في هذا البلد بالقوة العسكرية والتدخل المباشر على خلفية الفشل الأميركي الذريع (1992- 1995) وفشل الحرب بالوكالة عبر وكلائها في المنطقة والمتحكمين بدورهم في توجهات القوى الموالية لهم داخل الصومال وهو ما أدى أيضاً إلى فشل كل مبادرات التسوية وآخرها المبادرة الجيبوتية في 26 أكتوبر 2008 المنبثق عنها رحيل القوات الإثيوبية وتشكيل حكومة انتقالية بقيادة شيخ شريف لم تتعدّ سلطتها أعتاب القصر الجمهوري.
الصراع السياسي والعسكري المتواصلة حلقاته, أفرز في طريقه مشاكل عديدة زادت من حدة المأساة الصومالية بعد تجاوز الهاربين من جحيم الداخل الـ1.5 مليون إنسان وتشريد مليون إنسان داخل الصومال وخضوع مئات الآلاف لظروف معيشية بائسة وتفاقم مشكلات الأمن الغذائي والفقر والجهل والأمراض المستوطنة وانتشار المخدرات والسلاح وخاتمة الأثافي القرصنة.
الصورة بمفرداتها تشكل نموذجاً لما يمكن أن يحدث في أي مكان يجتمع فيه التدخل الخارجي والتطرف الديني والاستبداد السياسي والتسيُّد العرقي والقبلي والتخلف الاقتصادي والاستعماري وفي التفاصيل يمكن تصنيف نوعين الأول يتعلق بالعوامل الحائلة دون وضع حد للمأساة الصومالية ولعل أهمها العداوة التاريخية مع إثيوبيا وكينيا والأخطار السياسية المتمثلة في القوميات العرقية المتداخلة مع إثيوبيا وإريتريا وأوغندا والتي حملت في طياتها على الدوام بذور التفتيت والتشظي إلى جانب الأزمات الاقتصادية والتدخلات الخارجية والصراع الدولي الإقليمي على سواحل الصومال وإريتريا ومنطقة القرن الأفريقي عموماً.
النوع الثاني يتعلق بالأسباب والتي يمكن تلخيصها في الضعف الإداري وضعف العلاقة مع الغير والاعتماد الكلي على المساعدات الخارجية، إلى جانب مفاعيل القبيلة والعشيرة والدين ودورها في توجيه بوصلة الصراع على السلطة واتجاهات التحالفات الحاكمة والمعارضة ليضاف إليها مؤخراً الربط بين الإرهاب والتيارات الإسلامية وهو ربط مشكوك فيه لسبب بسيط هو اتسام حقبة حكم المحاكم الإسلامية بالأمن والاستقرار وغياب ظاهرة القرصنة وذهاب العديد من الدراسات الغربية التي أجريت في منطقة القرن الأفريقي إلى أن ارتفاع ظاهرة العنف والإرهاب في الأوساط المسيحية بمنطقة القرن الإفريقي في السنوات الأخيرة كان بمعدلات تفوق حدوثها في الأوساط الإسلامية بكثير وبالمقابل وجود علاقة قوية ووثيقة بين ظاهرة القرصنة المزدهرة بصورة لافتة في المناطق المقابلة لتواجد القاعدة الإستراتيجية الأميركية- الفرنسية وبين التوتر داخل الصومال وبين مصالح الجيران والأطماع الدولية ما يعني أن حل ظاهرة القرصنة متوقف على تشكيل حكومة قوية ومستقرة في الصومال.
الفصائل المتناحرة في هذا لم تشهد يوماً خلافاً على دستور سنه الحاكم أو على قاعدة ديمقراطية تجاهلتها الحكومات المتعاقبة أو دفاعاً عن فكر أو إيديولوجيا تتبناها هذه الجماعة أو تلك وإنما كانت الغاية الصراع على السلطة والسيطرة على المدن كل فصيل حسب رؤيته للمدينة الأنسب له وهو ما جعل كل جولات المصالحة الخارجية منصبة على التوترات الأمنية فقط دون السياسية والتنموية ودون مراعاة التوازنات الداخلية الحساسة الأمر الذي أدى إلى فشل اتفاقيات المصالحة وعودة الأمور أسوأ مما كانت عليه وسط انعدام كامل للثقة بين الفصائل.
المخرجات
في تقييمه للمشهد الصومالي يرى الدكتور حسن أبو طالب أن هذا البلد أضحى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية بين إثيوبيا وجيبوتي من جهة وإريتريا من جهة أخرى ومن وراء هذه القوى الثلاث تدخل وتخرج الحركات الجهادية والقتالية راغبة في أن تحول الصومال إلى موطئ رئيسي لاسيما وأن التنظيمات الإرهابية والجهادية والقتالية العابرة للحدود صارت عنصراً مهماً ورئيسياً في أشكال التدخل في الأزمات العربية, وهي نتيجة طبيعية سببها حسب نيل كامبل أن "الاتحاد الأوربي كان ينظر في السابق إلى الصومال بوصفها دولة فاشلة لا تجدي معها المساعدات والنظرة نفسها كانت لأفغانستان التي صارت بعد ذلك دولة مصدرة للإرهاب ولذا فالحل في التنمية".
المشهد الصومالي المتشظي خضع خلال الـ18 عاماً الماضية للعديد من العوامل الحائلة دون إعادة الأمن والاستقرار سواء كانت داخلية أو خارجية.
داخلياً: كان هناك صراع واضح على السلطة، ولذا لم تكن الفوضى في حد ذاتها هدفاً وإنما وسيلة للوصول إلى السلطة في بلد تحكمه توازنات قبلية وعرقية وأيديولوجية في غاية الحساسية في حين أدى سقوط الدولة في 1991 إلى إعمال الدور الخارجي مفعوله في خلخلة تلك التوازنات وتكريس مبدأ التنازع على السلطة بين القبائل والعشائر والتيارات الساعي كل منها إلى تحقيق مكاسب مادية وتكتيكية تضمن الانفراد بالسلطة على حساب باقي المكونات وسط غياب شبه كامل لدولة مركزية قوية وعدم وجود قوات نظامية قادرة على حفظ الأمن والاستقرار فيما كانت الأيديولوجيا مجرد عامل إضافي وشماعة خارجية لتبرير العبث بالخارطة السياسية والاجتماعية الداخلية.
خارجياً: كان هناك تحولاً واضحاً في استغلال التوازنات الداخلية لتمرير مصالح دول الجوار والمنعكس بدوره على جهود المصالحة ورؤية كل طرف لما يجب أن تكون عليه الخارطة السياسية الصومالية بعد النجاح في نقل جولات المصالحة إلى خارج حدود الدولة الصومالية وكل طرف طبعاً له حساباته الخاصة وامتداداته الضاربة في العمق الصومالي ومخاوفه من تصدير الأزمة الصومالية إليه.
إثيوبيا على سبيل المثال تظل المحور الرئيسي في الأزمة الصومالية فهي تعاني من حساسية مفرطة تجاه الإسلاميين وترفض أي تسوية تسمح لهم بالوصول إلى الحكم وترفض مشاركتهم في جولات التسوية وعلى النقيض من ذلك تقف إريتريا المتخوفة من النفوذ الإثيوبي المتعاظم في القرن الإفريقي وبالتالي تحولها إلى ملاذ آمن وداعم رئيسي للقوى الإسلامية المتشددة والمناهضة لإثيوبيا بما فيها حركة شباب المجاهدين والحزب الإسلامي وتحالف تحرير الصومال إلى جانب احتضانها المعارضة الإثيوبية وما بينهما تقف جيبوتي في منتصف الطريق فهي تريد حكومة صومالية وطنية يشارك فيها الإسلاميين المعتدلين وهي أيضاً عنصر مقبول لدى الفرقاء الصوماليين لكنها تظل في أحسن الأحوال مصطدمة بالضغوط الأميركية والفرنسية.
هذه العوامل مجتمعة فرضت نفسها على جولات المصالحة والتي كانت في أغلبها ناقصة سواء فيما يتعلق باستثناء بعض القوى الإسلامية أو القبلية أو العشائرية المؤثرة الأمر الذي حال دون نجاحها والأهم من ذلك ظهور أطراف جديدة منشقة على الساحة الصومالية لتدور الأزمة من جديد في حلقة مفرغة وتستمر الصراعات على أشدها.
صحيح أن الأزمة بعد دخول عامل القرصنة والقاعدة بدأت تأخذ منحى أكثر خطورة ودموية في ظل تقلص نفوذ الحكومة الحالية، إلى أجزاء من مقديشو وانهيار مرافق الدولة الأساسية وتزايد التعقيدات الداخلية أكثر من ذي قبل وبالتالي انقطاع خط الرجعة لحل الأزمة سلمياً وسط تزايد الحضور القاعدي وتنامي قوة التيارات الإسلامية المتطرفة ومن ثم ربط الحل بعامل المفاجآت والغلبة العسكرية لكن غير صحيح أن العامل الخارجي لم يكن له حصة الأسد في الوصول إلى هذا الوضع الكارثي.
إذن فالحل الوحيد يظل مرهوناً بمنع التدخلات الخارجية وتحييد دول الجوار من هذا الصراع العبثي خاصة إثيوبيا وإريتريا وتقوية الحكومة الحالية والحيلولة دون سقوطها من خلال تقديم الدعم التنموي والعسكري والسياسي وتقوية دور قوات حفظ السلام الإفريقية ودعم وتشجيع توسيع قاعدة المشاركة في الحكم من خلال قيام المنابر العربية والإسلامية بتعزيز مساعيها في الوساطة لإقناع الإسلاميين بالانخراط في برنامج وطني لإنقاذ الصومال وصولاً إلى تهيئة الأرضية الصومالية لإعادة بناء الثقة بين فرقائها وتشجيعهم على دمج الميليشيات المختلفة وتشكيل دولة النظام والقانون والمواطنة المتساوية وهو أمر باعتقادي يحتاج إلى معجزة سماوية وصحوة ضمير عربية وإسلامية ورشد سياسي صومالي يضبط الإيقاعات الداخلية ويحوِّل لعنة الجغرافيا إلى جنة للمنطقة بأسرها.
"الأزمات العربية لم تعد عربية خالصة، فهناك دائماً يد خارجية يختلف حجم تدخلها وتورطها بحسب الحالة، كما يختلف الاتجاه بحسب مستوى -كل أزمة على حِدة- وإطلالاتها على الإقليم أو العالم، وهو أمر لم يعد سيئاً في حد ذاته -على الأقل تلك رؤية المستفيدين من التدخل الخارجي كل بحسب موقفه ومصالحه من هذا التدخل أو ذاك- وهو أمر لم يعد محجوباً بل صار حديثاً صاخباً, وأمراً واقعياً يجب التعامل معه وتهذيبه إن كان شراً مستطيراً، والتمسك به إن كان خيراً".
قراءة واقعية للوضع غير الطبيعي الذي شهدته الساحة العربية خلال العشرية الأخيرة وما صاحبها من أزمات. يعتقد الدكتور حسن أبو طالب أن للتدخلات الخارجية الدور الرئيسي في استفحالها واستعصائها على العطارين الجدد من حملة مباخر الأجندة والتغيير وسط ما يعانيه النظام العربي من ضعف وتباعد وعدم استقرار وفوضى عارمة هيئت مجتمعة الأرضية العربية لترعرع وتنامي قوى الجريمة والإرهاب وفتحت المجال واسعاً أمام القوى الإقليمية والدولية الطامعة والطامحة إلى تصفية حساباتها وفرض أجندتها وإرادتها على حساب حاضر ومستقبل العرب.
الصومال تظل نموذجاً فاقعاً للأزمات العربية المتناسلة من رحم التدخلات الخارجية والتي حولَّته أثراً بعد عين مما أدى إلى تلاشي الدولة حتى يئس الصوماليين في ظل الغياب العربي والصمت الدولي من عودة الأمن والاستقرار لتبقى ثقافة العنف وصناعة الموت الحقيقة الوحيدة الثابتة في هذا البلد المنكوب بلعنة الجغرافيا وجفاء الأشقاء وتربص الجيران.
المدخلات
منذ استقلال الصومال في 1960 بدأت الدولة الجديدة بالمناداة بالصومال الكبرى وسط رغبة جامحة للم شمل الصوماليين المشتتين بين إثيوبيا المحتلة لإقليم أوجادين الصومالي 1964 وكينيا المحتلة لإقليم أنفدي 1963 والمجاميع الأخرى المشتتة بين غينيا ورواندي, الأمر الذي فتح على الصومال أبواب جهنم وتحديداً بعد استيلاء الجنرال محمد سياد بري على السلطة في 1964 وانتهاجه النهج الشمولي والقبضة الحديدية في الداخل مضيفاً بذلك بُعداً جديداً تمثل في تغذية دول الجوار للكبت الداخلي في حين كانت الحرب مع إثيوبيا على أوجادين في 1977 الشعرة القاصمة لظهر البعير والذي كانت نتيجته سقوط نظام بري في 1991 ومن حينها دخلت البلاد في أتون حرب أهلية طاحنة لم تشهد بعدها سوى أشهر قليلة من الأمن والاستقرار خلال فترة حكم المحاكم الإسلامية قبل أن تتمكن القوات الإثيوبية وبغطاء أميركي من إسقاطها في 2007 على خلفية بروز عامل ثالث للأزمة تمثل في الربط بين الإرهاب والتيارات الإسلامية إلا أن ذلك لم يحل دون معاودة القوى الإسلامية الظهور وبأقوى من السابق بدلالة تمكنها في فترة قصيرة – بداية النصف الثاني من عام 2009 - جداً من بسط سيطرتها على مناطق الجنوب وأجزاء واسعة من مقديشو بقيادة حركة شباب المجاهدين والحزب الإسلامي رغم خروج القوات الإثيوبية وتنصيب رئيس المحاكم الإسلامية شيخ شريف شيخ أحمد رئاسة الدولة,بالتوازي مع اتهام المعارضة له ببيع القضية,غير أن هذا لم يحول دون الاشتباك المسلح بين حركة الشباب والحزب الإسلامي مؤخراً, وهو ما يشي بمدى ديناميكية الخريطة السياسية في هذا البلد وقابليتها للتحرك في كافة الاتجاهات تبعاً لتوازنات المصالح والمعارك العسكرية والتغيرات السياسية وبوصلة التحالفات المتقلبة.
المشكلة الصومالية بصورة عامة تدور حول الصراع على السلطة والذي بدوره يظل خاضعاً لحسابات دول الجوار والقوى الكبرى العاجزة حتى الآن عن فرض أجندتها في هذا البلد بالقوة العسكرية والتدخل المباشر على خلفية الفشل الأميركي الذريع (1992- 1995) وفشل الحرب بالوكالة عبر وكلائها في المنطقة والمتحكمين بدورهم في توجهات القوى الموالية لهم داخل الصومال وهو ما أدى أيضاً إلى فشل كل مبادرات التسوية وآخرها المبادرة الجيبوتية في 26 أكتوبر 2008 المنبثق عنها رحيل القوات الإثيوبية وتشكيل حكومة انتقالية بقيادة شيخ شريف لم تتعدّ سلطتها أعتاب القصر الجمهوري.
الصراع السياسي والعسكري المتواصلة حلقاته, أفرز في طريقه مشاكل عديدة زادت من حدة المأساة الصومالية بعد تجاوز الهاربين من جحيم الداخل الـ1.5 مليون إنسان وتشريد مليون إنسان داخل الصومال وخضوع مئات الآلاف لظروف معيشية بائسة وتفاقم مشكلات الأمن الغذائي والفقر والجهل والأمراض المستوطنة وانتشار المخدرات والسلاح وخاتمة الأثافي القرصنة.
الصورة بمفرداتها تشكل نموذجاً لما يمكن أن يحدث في أي مكان يجتمع فيه التدخل الخارجي والتطرف الديني والاستبداد السياسي والتسيُّد العرقي والقبلي والتخلف الاقتصادي والاستعماري وفي التفاصيل يمكن تصنيف نوعين الأول يتعلق بالعوامل الحائلة دون وضع حد للمأساة الصومالية ولعل أهمها العداوة التاريخية مع إثيوبيا وكينيا والأخطار السياسية المتمثلة في القوميات العرقية المتداخلة مع إثيوبيا وإريتريا وأوغندا والتي حملت في طياتها على الدوام بذور التفتيت والتشظي إلى جانب الأزمات الاقتصادية والتدخلات الخارجية والصراع الدولي الإقليمي على سواحل الصومال وإريتريا ومنطقة القرن الأفريقي عموماً.
النوع الثاني يتعلق بالأسباب والتي يمكن تلخيصها في الضعف الإداري وضعف العلاقة مع الغير والاعتماد الكلي على المساعدات الخارجية، إلى جانب مفاعيل القبيلة والعشيرة والدين ودورها في توجيه بوصلة الصراع على السلطة واتجاهات التحالفات الحاكمة والمعارضة ليضاف إليها مؤخراً الربط بين الإرهاب والتيارات الإسلامية وهو ربط مشكوك فيه لسبب بسيط هو اتسام حقبة حكم المحاكم الإسلامية بالأمن والاستقرار وغياب ظاهرة القرصنة وذهاب العديد من الدراسات الغربية التي أجريت في منطقة القرن الأفريقي إلى أن ارتفاع ظاهرة العنف والإرهاب في الأوساط المسيحية بمنطقة القرن الإفريقي في السنوات الأخيرة كان بمعدلات تفوق حدوثها في الأوساط الإسلامية بكثير وبالمقابل وجود علاقة قوية ووثيقة بين ظاهرة القرصنة المزدهرة بصورة لافتة في المناطق المقابلة لتواجد القاعدة الإستراتيجية الأميركية- الفرنسية وبين التوتر داخل الصومال وبين مصالح الجيران والأطماع الدولية ما يعني أن حل ظاهرة القرصنة متوقف على تشكيل حكومة قوية ومستقرة في الصومال.
الفصائل المتناحرة في هذا لم تشهد يوماً خلافاً على دستور سنه الحاكم أو على قاعدة ديمقراطية تجاهلتها الحكومات المتعاقبة أو دفاعاً عن فكر أو إيديولوجيا تتبناها هذه الجماعة أو تلك وإنما كانت الغاية الصراع على السلطة والسيطرة على المدن كل فصيل حسب رؤيته للمدينة الأنسب له وهو ما جعل كل جولات المصالحة الخارجية منصبة على التوترات الأمنية فقط دون السياسية والتنموية ودون مراعاة التوازنات الداخلية الحساسة الأمر الذي أدى إلى فشل اتفاقيات المصالحة وعودة الأمور أسوأ مما كانت عليه وسط انعدام كامل للثقة بين الفصائل.
المخرجات
في تقييمه للمشهد الصومالي يرى الدكتور حسن أبو طالب أن هذا البلد أضحى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية بين إثيوبيا وجيبوتي من جهة وإريتريا من جهة أخرى ومن وراء هذه القوى الثلاث تدخل وتخرج الحركات الجهادية والقتالية راغبة في أن تحول الصومال إلى موطئ رئيسي لاسيما وأن التنظيمات الإرهابية والجهادية والقتالية العابرة للحدود صارت عنصراً مهماً ورئيسياً في أشكال التدخل في الأزمات العربية, وهي نتيجة طبيعية سببها حسب نيل كامبل أن "الاتحاد الأوربي كان ينظر في السابق إلى الصومال بوصفها دولة فاشلة لا تجدي معها المساعدات والنظرة نفسها كانت لأفغانستان التي صارت بعد ذلك دولة مصدرة للإرهاب ولذا فالحل في التنمية".
المشهد الصومالي المتشظي خضع خلال الـ18 عاماً الماضية للعديد من العوامل الحائلة دون إعادة الأمن والاستقرار سواء كانت داخلية أو خارجية.
داخلياً: كان هناك صراع واضح على السلطة، ولذا لم تكن الفوضى في حد ذاتها هدفاً وإنما وسيلة للوصول إلى السلطة في بلد تحكمه توازنات قبلية وعرقية وأيديولوجية في غاية الحساسية في حين أدى سقوط الدولة في 1991 إلى إعمال الدور الخارجي مفعوله في خلخلة تلك التوازنات وتكريس مبدأ التنازع على السلطة بين القبائل والعشائر والتيارات الساعي كل منها إلى تحقيق مكاسب مادية وتكتيكية تضمن الانفراد بالسلطة على حساب باقي المكونات وسط غياب شبه كامل لدولة مركزية قوية وعدم وجود قوات نظامية قادرة على حفظ الأمن والاستقرار فيما كانت الأيديولوجيا مجرد عامل إضافي وشماعة خارجية لتبرير العبث بالخارطة السياسية والاجتماعية الداخلية.
خارجياً: كان هناك تحولاً واضحاً في استغلال التوازنات الداخلية لتمرير مصالح دول الجوار والمنعكس بدوره على جهود المصالحة ورؤية كل طرف لما يجب أن تكون عليه الخارطة السياسية الصومالية بعد النجاح في نقل جولات المصالحة إلى خارج حدود الدولة الصومالية وكل طرف طبعاً له حساباته الخاصة وامتداداته الضاربة في العمق الصومالي ومخاوفه من تصدير الأزمة الصومالية إليه.
إثيوبيا على سبيل المثال تظل المحور الرئيسي في الأزمة الصومالية فهي تعاني من حساسية مفرطة تجاه الإسلاميين وترفض أي تسوية تسمح لهم بالوصول إلى الحكم وترفض مشاركتهم في جولات التسوية وعلى النقيض من ذلك تقف إريتريا المتخوفة من النفوذ الإثيوبي المتعاظم في القرن الإفريقي وبالتالي تحولها إلى ملاذ آمن وداعم رئيسي للقوى الإسلامية المتشددة والمناهضة لإثيوبيا بما فيها حركة شباب المجاهدين والحزب الإسلامي وتحالف تحرير الصومال إلى جانب احتضانها المعارضة الإثيوبية وما بينهما تقف جيبوتي في منتصف الطريق فهي تريد حكومة صومالية وطنية يشارك فيها الإسلاميين المعتدلين وهي أيضاً عنصر مقبول لدى الفرقاء الصوماليين لكنها تظل في أحسن الأحوال مصطدمة بالضغوط الأميركية والفرنسية.
هذه العوامل مجتمعة فرضت نفسها على جولات المصالحة والتي كانت في أغلبها ناقصة سواء فيما يتعلق باستثناء بعض القوى الإسلامية أو القبلية أو العشائرية المؤثرة الأمر الذي حال دون نجاحها والأهم من ذلك ظهور أطراف جديدة منشقة على الساحة الصومالية لتدور الأزمة من جديد في حلقة مفرغة وتستمر الصراعات على أشدها.
صحيح أن الأزمة بعد دخول عامل القرصنة والقاعدة بدأت تأخذ منحى أكثر خطورة ودموية في ظل تقلص نفوذ الحكومة الحالية، إلى أجزاء من مقديشو وانهيار مرافق الدولة الأساسية وتزايد التعقيدات الداخلية أكثر من ذي قبل وبالتالي انقطاع خط الرجعة لحل الأزمة سلمياً وسط تزايد الحضور القاعدي وتنامي قوة التيارات الإسلامية المتطرفة ومن ثم ربط الحل بعامل المفاجآت والغلبة العسكرية لكن غير صحيح أن العامل الخارجي لم يكن له حصة الأسد في الوصول إلى هذا الوضع الكارثي.
إذن فالحل الوحيد يظل مرهوناً بمنع التدخلات الخارجية وتحييد دول الجوار من هذا الصراع العبثي خاصة إثيوبيا وإريتريا وتقوية الحكومة الحالية والحيلولة دون سقوطها من خلال تقديم الدعم التنموي والعسكري والسياسي وتقوية دور قوات حفظ السلام الإفريقية ودعم وتشجيع توسيع قاعدة المشاركة في الحكم من خلال قيام المنابر العربية والإسلامية بتعزيز مساعيها في الوساطة لإقناع الإسلاميين بالانخراط في برنامج وطني لإنقاذ الصومال وصولاً إلى تهيئة الأرضية الصومالية لإعادة بناء الثقة بين فرقائها وتشجيعهم على دمج الميليشيات المختلفة وتشكيل دولة النظام والقانون والمواطنة المتساوية وهو أمر باعتقادي يحتاج إلى معجزة سماوية وصحوة ضمير عربية وإسلامية ورشد سياسي صومالي يضبط الإيقاعات الداخلية ويحوِّل لعنة الجغرافيا إلى جنة للمنطقة بأسرها.
اليمن وإيران .. حاضر مثقل بالتاريخ
اليمن وإيران .. حاضر مثقل بالتاريخ
زيد يحيى المحبشي
منذ الوهلة الأولى لظهور حركة التمرد "الحوثية" بصعدة في حزيران/ يونيو 2004, تكشّفت العديد من الحقائق حول مصادر التمويل والتسليح والأهداف والمطالب المؤدلجة والمتناقضة في ذات الوقت, مثيرة في طريقها تساؤلات لم يعد بالإمكان تجاهلها, لاسيما فيما يتعلق بالأسباب الدافعة بهذه الجماعة إلى الواجهة, بالصورة التي أضحت معها واحدة من أكثر التحديات الداخلية تعقيداً وخطورة على حاضر ومستقبل اليمن.
إن قراءة سريعة لخلفية الصراعات المحلية التي شهدتها اليمن في مراحلها التاريخية المختلفة, توحي بأنها في غالبها كانت تتخذ طابع الصراع الديني والظلم الاجتماعي, فيما كانت محركاتها خارجية بامتياز,لأهداف لا تمت للدين والظلم الاجتماعي بصلة, ما يشي بأن التمرد الحوثي اليوم مجرد أداة, تم اختيارها بعناية فائقة للقيام, بدور محدد ضمن سيناريو قديم متجدد, غايته تقسيم اليمن وتفكيكه وإبقائه في متوالية التجزئة ومحرقة الصراعات الداخلية, وتحويل مثيري الفتن الداخلية إلى بيادق وأداة سياسية بيد المخططات الكبيرة, الرامية في طابعها العام إلى إعادة إنتاج واقع إقليمي جديد, انطلاقاً من اليمن هذه المرة, بعد أن تسنى لهم ذلك في العراق,على أن هؤلاء والجهات الواقفة ورائهم قد غفلوا حقيقة في غاية الأهمية, هي أن التدخل في شؤون الأخرين لا يجلب سوى الخيبة والفشل.
لم يعد سراً، إن إيران تحاول أن توجد لها موطئ قدم في المنطقة، وهو أمرٌ لا يخفيه المسؤولون الإيرانيون الذين يعتقدون بدور أكبر لبلادهم في قضايا المنطقة، غير أن المشكلة أن هذه الطموحات الإيرانية في بعض الاحيان تصطدم بمصالح شعوب المنطقة، ولعل الشعب اليمني أحد المتضررين من هذه السياسة الإيرانية فيما له صلة بدعم متمردين يساهمون في زيادة معاناته.
حاضر مثقل بالتاريخ
تاريخياً كان موقع اليمن الجيوإستراتيجي أحد الاسباب التي أدت إلى أن تكون البلاد ساحة للصراعات الدولية وحلبة لتصفية الحسابات الإقليمية, وتعد هذه السمة هي الغالبة في التاريخ اليمني منذ مطلع القرن الأول قبل الميلاد عندما شرع الفرس والروم في اللعب بالورقة الدينية عبر دعم إيران لليهود والرومان للنصارى, كجسر عبور لتحقيق الأغراض التجارية المتمثلة في تجارة البحر الأحمر, والذي كانت نتيجته استيلاء فارس في القرن السادس الميلادي على اليمن.
على أن ظهور الإسلام لم يحد من الأطماع الخارجية بما فيها الطموحات والأطماع الفارسية وبذات اللعبة القديمة المتمثلة في تغذية الصراعات السياسية والدينية- المذهبية والطائفية- إذ شهد العام 816 م ظهور إبراهيم بن موسى الكاظم الملقب بالجزار في المسرح السياسي اليمني, والمتمكن بالتعاون مع بقايا الفرس- الأبناء- من قتل أعيان قبائل خمر وحرف سفيان وصعدة, بتهمة الولاء للدولة العباسية, فسِّير المأمون العباسي للقضاء عليه رجلاً من فارس يدعى محمد بن عبدالحميد الرازي.
وتكمن أهمية حركة الجزار في التمهيد لانخراط الطبريين الزيدية الآتين من فارس في دعوة الهادي يحيى بن الحسين المؤطرة لبروز الدولة الزيدية الأولى باليمن عام 900 م, بالتوازي مع نجاح الناصر الأطروش في إقامة دولة زيدية ثانية بالجيل والديلم من فارس, في حين شهد عهد عبدالله بن حمزة (1187 – 1217م ) قيام فتنة مذهبية بجبال الشرف ترأس حربتها إمامي إثنى عشري فارسي, ما استدع رد ابن حمزة عليه في رسالة مفصلة" في الرد على الإمامي صاحب الشرف" وقيام حرب ضروس.
وفي ظل الدولة الصفوية _ والمنسوب إليها الفضل في الاستقلال بفارس بعد أن كانت دولة تابعة ومفككة , وإعادة إحياء الدور الذي كانت تمارسه قبل الإسلام, وجعل الإثنى عشرية المذهب الرسمي للدولة, لأول مرة منذ انهيار الدولة العباسية - كانت هناك علاقات وثيقة مع الدولة القاسمية باليمن بدأت فصولها بالود وانتهت بالمصادمات العسكرية، وتحديداً في حقبة المتوكل إسماعيل ابن القاسم 1644- 1676م وعباس الثاني الصفوي 1642- 1667م, على خلفية طلب عباس الثاني من المتوكل في العام 1665 مؤازرته في الهجوم على الدولة اليعربية بعمان, المنافسة للتجارة الفارسية, إلا أن المتوكل اعتذر عن ذلك, خوفاً من تغذية اليعاربة لطموحات الانفصال بحضرموت, ما أدى إلى إرسال حملة عسكرية صفوية في 1668م للاستيلاء على المخا انتهت بالفشل.
واللافت هنا قيام الدولة الصفوية في بدايات اشتداد عودها بتصفية زيدية إيران, وكانت الغالبة وقتها, وطمس معالمها بصورة وحشية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً, بالتوازي مع استمرار الصفويين في تغذية التطرف والمغالاة واصطناع الفتن المذهبية في اليمن, ففي عهد المنصور الحسين بن القاسم بن الحسين بن أحمد بن الحسن ( 1726 – 1748م ) ظهر رجلٌ يدعى يوسف العجي الفارسي بصنعاء, مثيراً فتنة كبيرة أدت إلى طرده خلال حكم المهدي عباس بن الحسين (1748 – 1775م).
بعد استقلال شمال اليمن عن الدولة العثمانية قام الإمام يحيى بإرسال ولده الحسين إلى طهران عام 1938 للتشاور حول إقامة علاقات معها, توجت بتبادل التمثيل الدبلوماسي في أواخر عهد الإمام أحمد, في الوقت الذي كانت فيه إيران تسعى إلى ممارسة دور الشرطي على الخليج بالتعاون مع الغرب, ودون إغفال اليمن من حساباتها, بدلالة محاولتها إحباط ثورة 26 سبتمبر, عندما سارعت إلى تقديم الدعم لقوى الرجعية 1963- 1968 ممثلة بمحمد بن الحسين, ومدِّها بالمال والسلاح, وإرسالها عدداً من المرتزقة بقيادة الميجور محمود إلى جبال سفيان وصعدة, وبعد فشل الرجعيين اعترف الشاه محمد رضا بهلوي بالنظام الجمهوري في 9 سبتمبر 1970, لكن علاقات صنعاء وطهران سرعان ما عادت إلى التوتر على خلفية علاقات الشاه بإسرائيل ورفض صنعاء الهيمنة الإيرانية على المنطقة وبالتالي تأييدها الثورة الخمينية.
قيام الثورة الإسلامية في 1979م لم يغير من الصورة شيئا, باستثناء استبدال إستراتيجية الشرطي الإقليمي بإستراتيجية تصدير الثورة, ما أدى إلى طرد السفير الإيراني من صنعاء في ديسمبر 1981 لقيامه بممارسات معادية, وبالتالي إعلان صنعاء وقوفها إلى جانب العراق في حربها مع إيران, لتشهد العلاقات بعد قيام الوحدة تحسناً ملحوظاً قبل أن تعود إلى دائرة التوتر, إثر ظهور حركة التمرد "الحوثية" بصعدة في العام 2004, بالتوازي مع موقف اليمن الرافض للحرب الأميركية على العراق, والذي أثار استياء العديد من القوى الشيعية العراقية ما دفعها إلى دعم ومساندة "الحوثي" .
ما يهمنا من العرض السابق أن لإيران بغض النظر عن هوية وشكل النظام الحاكم, سياسات إقليمية ثابتة, محركاتها المصالح القومية والأوهام التاريخية, الدافعة بها على الدوام إلى توسيع النفوذ في الجوار الجغرافي والهيمنة, وعوامل تغذيتها الأهداف والمصالح الأيديولوجية, المتمثلة في استغلال الحركات الإسلامية والتي كانت ولا زالت تشكل عائقاً كبيراً أمام وجود علاقات إيرانية عربية سلسة.
الورقة "الحوثية" باليمن تظل نموذجاً فاقعاً للدور الإيراني, سواء في مراحل التكوين أو التثوير أو التحفيز والدعم بأشكاله, في خطوة مكشوفة لتسييس وترويض زيدية اليمن, واستغلالهم ضد مؤسسات الدولة, ليسهل على إيران التغلغل وتمرير مشروعها التوسعي في المنطقة, على حساب اليمن وأمنه واستقراره.
لكن ما لا يعرفه الكثير عن الحميمية المفاجئة تجاه زيدية اليمن, هو أن دافعه عائدٌ إلى العداء التاريخي بين الإثنى عشرية والزيدية والاختلافات الفاقعة في الكثير من القضايا الدينية الأصولية والفقهية , والتي دفعت بالكثير من علماء الزيدية إلى نسف وتعرية الكثير من المعتقدات الخرافية للجعفرية, بصورة جعلت من صهر جليد التباينان المذهبية بينهما أمراً مستحيلاً, ولذا تم التوجه إلى استغلال السذاجة الحوثية, أملاً في تحويل مستحيل الأمس إلى ممكن اليوم.
يأتي هذا في سياق مساعي إيران لتوحيد شيعة العالم تحت قيادتها بطوائفهم المختلفة حسب نص المادة 15 من دستورها, والذي بدأته عملياً في العراق, بالتوازي مع غياب أي مشروع عربي مناهض للأسف الشديد, وهذه النقطة تحديداً إحدى مقومات دعائم المشروع التوسعي الإيراني.
شواهد على الطريق
في محاضرة له بمنتدى الأحمر 12 تشرين أول/ اكتوبر 2009 خلُص الدكتور أحمد الدغشي إلى وجود عدة عوامل تداخلت في "الحوثية" تترابط في بعضها وتتناقض في أخرى منها التناقض بين الأيديولوجيا والمنافع المتنافرة وبين البعد السياسي ومذهبية التسييس وبين إعلان الاستقلال والتحرر من ربقة الهيمنة الفكرية والفقهية الوافدة مع الإرتباط ببعض القوى والمؤثرات الإقليمية والخارجية.
وفي حين ينفي الدغشي عن المؤسس الأول لحركة التمرد تهمة التحول إلى مذهب الإثنى عشرية، وبالتالي تصنيفه في خانة الجارودية المتشددة والمتلاقية مع الإثنى عشرية في العديد من النقاط، لكنه لا ينفي تأثره بالأفكار الثورية الخمينية في بعدها العالمي, بدلالة موقفه المعارض لمساندة صنعاء للعراق في حربها مع إيران ومشاركة بعض الرموز الفكرية "الحوثية" في مؤتمر توحيد الشيعة بطهران في 1986، وتقاربها مع الكثير من الأفكار المذهبية الإيرانية، وصولاً إلى مساندة ودعم إيران لمؤسس التمرد الأول في 1997 وما بعدها مقابل التغاضي عن نشر الإثنى عشرية باليمن سواء عبر الوافدين العراقيين أو الإيرانيين خلال عقد التسعينيات من القرن العشرين، والتي مهدت بصورة لافتة لتحول التيار "الحوثي" من حركة فكرية سياسية إلى حركة مسلحة حنينية إلى الماضوية, الأمر الذي جعل من المذهب الزيدي المعروف بتسامحه وانفتاحه وآفاقه العالمية الواسعة الضحية الأولى لصالح أهداف وأجندة خارجية مشبوهة.
ورغم نفي السلطات الإيرانية المتكرر خلال حروب صعدة السابقة أي علاقة لها بحركة التمرد ومساندتها ودعمها، فقد أبرزت الحرب السادسة العديد من الشواهد المؤكدة عكس ذلك تماماً على الأقل فيما يتعلق بتعامل الإعلام الإيراني الرسمي ليس مع أحداث صعدة فحسب، بل ومع الشأن اليمني بملفاته المتعددة والمعقدة بصورة لا تمت للحيادية والموضوعية بصلة بما في ذلك محاولة توظيف أزمة اليمن لتصفية الحسابات الإيرانية مع أميركا ودول الخليج العربي على خلفية الفهم الإيراني المغلوط وغير المبرر لعلاقات اليمن الخارجية ومواقفها القومية.
كل هذا يثير التساؤل عن الخلفية الحقيقية لدخول إيران في اللعبة اليمنية بكل قواها ومعاودتها ممارسة دور الشرطي الإقليمي وإعطاء نفسها حق تقرير ما يجب عمله وما لا يجب عمله على الآخرين.
بالعودة إلى ديناميكية محركات ومنطلقات النظرية التوسعية الإيرانية منذ ما قبل الإسلام وحتى يومنا, يمكننا الوقوف على الدافع الحقيقي لاختيار اليمن كمحطة ثانية بعد العراق لاختبار الأجندة الإيرانية , وهو قيام تلك النظرية على قاعدة أن السيطرة والهيمنة والنفوذ على المنطقة العربية عامة والخليج خاصة, لن يتأتى إلا بالسيطرة وفرض النفوذ على اليمن.
ومعلومٌ أن لإيران طموح قديم متجدد في الوصول إلى البحر الأحمر وخلق تمدد شيعي يجد له مكاناً في تقسيم اليمن، ثم ينتقل إلى توسع أكبر ليشمل السيطرة على جنوب وشرق الجزيرة العربية متعانقاً مع الهيمنة الشيعية بالعراق, بما يضمن في خاتمة المطاف سهولة التغلغل الإيراني داخل البؤر المتوترة بالشرق الأوسط والتحكم في أوراقها, في سباق مع الزمن للتأكيد على أنها أصبحت رقماً شيعياً وقوة إقليميةً لم يعد بالإمكان تجاوزها.
وفي هذا السياق نشر موقع المحرر العربي بتاريخ 24 كانون الأول/ ديسمبر 2006 عدة وثائق صادرة عن الدائرة السياسية لمنظمة بدر التابعة لتيار عبدالعزيز الحكيم بالعراق, وسنكتفي هنا بالوقوف على وثيقتين منها ممهورة بتوقيع الحكيم بتاريخ 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 2006, تضمنت الأولى الحديث عن إنجازات شيعة العراق والتحالفات التي عقدتها دول عربية عدة مع أميركا لتغيير معالم الخارطة السياسية للعراق والمنطقة بهدف تهديد وجود الشيعة وكيانهم ومستقبلهم في الشرق الأوسط والقضاء على مخططاتهم وأهدافهم المصيرية خالصة إلى ضرورة التوجه للترويج إعلامياً لمظالم الشيعة، وهو ما تم تفصيله في الوثيقة الثانية الصادرة بناءاً على توجيه خامنئي على خلفية إنعقاد مؤتمر شيعي موسع بـ"قم" تم فيه الدعوة لإنشاء منظمة المؤتمر الشيعي العالمية مقرها إيران وفروعها في كافة أنحاء العالم ومهمتها دراسة وتحليل الوضع الإقليمي الراهن والاستفادة من التجربة الشيعية العراقية وتعميمها على السعودية واليمن والأردن ومصر والكويت والإمارات والبحرين والهند وباكستان وأفغانستان وبناء قوات عسكرية غير نظامية لكافة الأحزاب والمنظمات الشيعية بالعالم، وتخصيص ميزانية خاصة لتجهيزها وتسليحها وتهيئتها لدعم وإسناد الشيعة في السعودية واليمن والأردن , ودعم متطلبات المؤتمر الإدارية والإعلامية والعسكرية, من خلال إنشاء صندوق مالي عالمي مرتبط برئاسة المؤتمر وتفتح له فروع في أنحاء العالم, تكون موارده من الأموال التي تجمعها الحكومات العرفية وتبرعات التجار وزكاة الخمس, وتشكيل لجنة متابعة مركزية لتنسيق الجهود في كافة الدول وتقويم أعمالها ومتابعة الدول والسلطات والأحزاب وشن حرب شاملة ضدها في كافة المجالات!!.
لذا لم يكن من قبيل المصادفة أن يشكل هذا التوجه الخطير واحدة من أهم القضايا الخلافية التي طفت على السطح بين الإصلاحيين والمحافظين في الإنتخابات الرئاسية الإيرانية الأخيرة؛ من ذلك اعتبار محمد خاتمي تصدير الثورة من خلال إرسال السلاح والفوضى إلى الدول الأخرى مخالفاً لمبادئ الثورة ولا يخدم المصالح الإيرانية وتوجيه كروبي وموسوي خلال حملتهما الانتخابية انتقادات لاذعة لإدارة نجاد بسبب دعمها للحركات الدينية خارج إيران.
إذن فما تواجهه اليمن اليوم ليس سوى خديعة كبرى واجهتها مذهبية وخلفياتها سياسية تآمرية ترمي إلى استنساخ السيناريو العراقي بصورة تضمن عدم بقاء اليمن موحداً وقوياً وناهضاً وداعماً لقضايا أمته، وفاعلاً في محيطه العربي والإقليمي وصولاً إلى إدخاله في آتون لعبة لا ناقة له فيها ولا جمل وساحة مجابهه إقليمية - دولية لتصفية حسابات الآخرين.
وفي هذا مدعاةٌ لوجوب الاصطفاف الوطني أكثر من أي وقت مضى وتراص الصفوف لوأد الفتنة المذهبية والجهوية والقاعدية، ومنع التدخلات الخارجية تحت أي مسمى كان كون المستهدف ليس شخص رئيس الدولة ولا الحزب الحاكم بل اليمن ككل.
Developed by www.ssc4it.com
زيد يحيى المحبشي
منذ الوهلة الأولى لظهور حركة التمرد "الحوثية" بصعدة في حزيران/ يونيو 2004, تكشّفت العديد من الحقائق حول مصادر التمويل والتسليح والأهداف والمطالب المؤدلجة والمتناقضة في ذات الوقت, مثيرة في طريقها تساؤلات لم يعد بالإمكان تجاهلها, لاسيما فيما يتعلق بالأسباب الدافعة بهذه الجماعة إلى الواجهة, بالصورة التي أضحت معها واحدة من أكثر التحديات الداخلية تعقيداً وخطورة على حاضر ومستقبل اليمن.
إن قراءة سريعة لخلفية الصراعات المحلية التي شهدتها اليمن في مراحلها التاريخية المختلفة, توحي بأنها في غالبها كانت تتخذ طابع الصراع الديني والظلم الاجتماعي, فيما كانت محركاتها خارجية بامتياز,لأهداف لا تمت للدين والظلم الاجتماعي بصلة, ما يشي بأن التمرد الحوثي اليوم مجرد أداة, تم اختيارها بعناية فائقة للقيام, بدور محدد ضمن سيناريو قديم متجدد, غايته تقسيم اليمن وتفكيكه وإبقائه في متوالية التجزئة ومحرقة الصراعات الداخلية, وتحويل مثيري الفتن الداخلية إلى بيادق وأداة سياسية بيد المخططات الكبيرة, الرامية في طابعها العام إلى إعادة إنتاج واقع إقليمي جديد, انطلاقاً من اليمن هذه المرة, بعد أن تسنى لهم ذلك في العراق,على أن هؤلاء والجهات الواقفة ورائهم قد غفلوا حقيقة في غاية الأهمية, هي أن التدخل في شؤون الأخرين لا يجلب سوى الخيبة والفشل.
لم يعد سراً، إن إيران تحاول أن توجد لها موطئ قدم في المنطقة، وهو أمرٌ لا يخفيه المسؤولون الإيرانيون الذين يعتقدون بدور أكبر لبلادهم في قضايا المنطقة، غير أن المشكلة أن هذه الطموحات الإيرانية في بعض الاحيان تصطدم بمصالح شعوب المنطقة، ولعل الشعب اليمني أحد المتضررين من هذه السياسة الإيرانية فيما له صلة بدعم متمردين يساهمون في زيادة معاناته.
حاضر مثقل بالتاريخ
تاريخياً كان موقع اليمن الجيوإستراتيجي أحد الاسباب التي أدت إلى أن تكون البلاد ساحة للصراعات الدولية وحلبة لتصفية الحسابات الإقليمية, وتعد هذه السمة هي الغالبة في التاريخ اليمني منذ مطلع القرن الأول قبل الميلاد عندما شرع الفرس والروم في اللعب بالورقة الدينية عبر دعم إيران لليهود والرومان للنصارى, كجسر عبور لتحقيق الأغراض التجارية المتمثلة في تجارة البحر الأحمر, والذي كانت نتيجته استيلاء فارس في القرن السادس الميلادي على اليمن.
على أن ظهور الإسلام لم يحد من الأطماع الخارجية بما فيها الطموحات والأطماع الفارسية وبذات اللعبة القديمة المتمثلة في تغذية الصراعات السياسية والدينية- المذهبية والطائفية- إذ شهد العام 816 م ظهور إبراهيم بن موسى الكاظم الملقب بالجزار في المسرح السياسي اليمني, والمتمكن بالتعاون مع بقايا الفرس- الأبناء- من قتل أعيان قبائل خمر وحرف سفيان وصعدة, بتهمة الولاء للدولة العباسية, فسِّير المأمون العباسي للقضاء عليه رجلاً من فارس يدعى محمد بن عبدالحميد الرازي.
وتكمن أهمية حركة الجزار في التمهيد لانخراط الطبريين الزيدية الآتين من فارس في دعوة الهادي يحيى بن الحسين المؤطرة لبروز الدولة الزيدية الأولى باليمن عام 900 م, بالتوازي مع نجاح الناصر الأطروش في إقامة دولة زيدية ثانية بالجيل والديلم من فارس, في حين شهد عهد عبدالله بن حمزة (1187 – 1217م ) قيام فتنة مذهبية بجبال الشرف ترأس حربتها إمامي إثنى عشري فارسي, ما استدع رد ابن حمزة عليه في رسالة مفصلة" في الرد على الإمامي صاحب الشرف" وقيام حرب ضروس.
وفي ظل الدولة الصفوية _ والمنسوب إليها الفضل في الاستقلال بفارس بعد أن كانت دولة تابعة ومفككة , وإعادة إحياء الدور الذي كانت تمارسه قبل الإسلام, وجعل الإثنى عشرية المذهب الرسمي للدولة, لأول مرة منذ انهيار الدولة العباسية - كانت هناك علاقات وثيقة مع الدولة القاسمية باليمن بدأت فصولها بالود وانتهت بالمصادمات العسكرية، وتحديداً في حقبة المتوكل إسماعيل ابن القاسم 1644- 1676م وعباس الثاني الصفوي 1642- 1667م, على خلفية طلب عباس الثاني من المتوكل في العام 1665 مؤازرته في الهجوم على الدولة اليعربية بعمان, المنافسة للتجارة الفارسية, إلا أن المتوكل اعتذر عن ذلك, خوفاً من تغذية اليعاربة لطموحات الانفصال بحضرموت, ما أدى إلى إرسال حملة عسكرية صفوية في 1668م للاستيلاء على المخا انتهت بالفشل.
واللافت هنا قيام الدولة الصفوية في بدايات اشتداد عودها بتصفية زيدية إيران, وكانت الغالبة وقتها, وطمس معالمها بصورة وحشية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً, بالتوازي مع استمرار الصفويين في تغذية التطرف والمغالاة واصطناع الفتن المذهبية في اليمن, ففي عهد المنصور الحسين بن القاسم بن الحسين بن أحمد بن الحسن ( 1726 – 1748م ) ظهر رجلٌ يدعى يوسف العجي الفارسي بصنعاء, مثيراً فتنة كبيرة أدت إلى طرده خلال حكم المهدي عباس بن الحسين (1748 – 1775م).
بعد استقلال شمال اليمن عن الدولة العثمانية قام الإمام يحيى بإرسال ولده الحسين إلى طهران عام 1938 للتشاور حول إقامة علاقات معها, توجت بتبادل التمثيل الدبلوماسي في أواخر عهد الإمام أحمد, في الوقت الذي كانت فيه إيران تسعى إلى ممارسة دور الشرطي على الخليج بالتعاون مع الغرب, ودون إغفال اليمن من حساباتها, بدلالة محاولتها إحباط ثورة 26 سبتمبر, عندما سارعت إلى تقديم الدعم لقوى الرجعية 1963- 1968 ممثلة بمحمد بن الحسين, ومدِّها بالمال والسلاح, وإرسالها عدداً من المرتزقة بقيادة الميجور محمود إلى جبال سفيان وصعدة, وبعد فشل الرجعيين اعترف الشاه محمد رضا بهلوي بالنظام الجمهوري في 9 سبتمبر 1970, لكن علاقات صنعاء وطهران سرعان ما عادت إلى التوتر على خلفية علاقات الشاه بإسرائيل ورفض صنعاء الهيمنة الإيرانية على المنطقة وبالتالي تأييدها الثورة الخمينية.
قيام الثورة الإسلامية في 1979م لم يغير من الصورة شيئا, باستثناء استبدال إستراتيجية الشرطي الإقليمي بإستراتيجية تصدير الثورة, ما أدى إلى طرد السفير الإيراني من صنعاء في ديسمبر 1981 لقيامه بممارسات معادية, وبالتالي إعلان صنعاء وقوفها إلى جانب العراق في حربها مع إيران, لتشهد العلاقات بعد قيام الوحدة تحسناً ملحوظاً قبل أن تعود إلى دائرة التوتر, إثر ظهور حركة التمرد "الحوثية" بصعدة في العام 2004, بالتوازي مع موقف اليمن الرافض للحرب الأميركية على العراق, والذي أثار استياء العديد من القوى الشيعية العراقية ما دفعها إلى دعم ومساندة "الحوثي" .
ما يهمنا من العرض السابق أن لإيران بغض النظر عن هوية وشكل النظام الحاكم, سياسات إقليمية ثابتة, محركاتها المصالح القومية والأوهام التاريخية, الدافعة بها على الدوام إلى توسيع النفوذ في الجوار الجغرافي والهيمنة, وعوامل تغذيتها الأهداف والمصالح الأيديولوجية, المتمثلة في استغلال الحركات الإسلامية والتي كانت ولا زالت تشكل عائقاً كبيراً أمام وجود علاقات إيرانية عربية سلسة.
الورقة "الحوثية" باليمن تظل نموذجاً فاقعاً للدور الإيراني, سواء في مراحل التكوين أو التثوير أو التحفيز والدعم بأشكاله, في خطوة مكشوفة لتسييس وترويض زيدية اليمن, واستغلالهم ضد مؤسسات الدولة, ليسهل على إيران التغلغل وتمرير مشروعها التوسعي في المنطقة, على حساب اليمن وأمنه واستقراره.
لكن ما لا يعرفه الكثير عن الحميمية المفاجئة تجاه زيدية اليمن, هو أن دافعه عائدٌ إلى العداء التاريخي بين الإثنى عشرية والزيدية والاختلافات الفاقعة في الكثير من القضايا الدينية الأصولية والفقهية , والتي دفعت بالكثير من علماء الزيدية إلى نسف وتعرية الكثير من المعتقدات الخرافية للجعفرية, بصورة جعلت من صهر جليد التباينان المذهبية بينهما أمراً مستحيلاً, ولذا تم التوجه إلى استغلال السذاجة الحوثية, أملاً في تحويل مستحيل الأمس إلى ممكن اليوم.
يأتي هذا في سياق مساعي إيران لتوحيد شيعة العالم تحت قيادتها بطوائفهم المختلفة حسب نص المادة 15 من دستورها, والذي بدأته عملياً في العراق, بالتوازي مع غياب أي مشروع عربي مناهض للأسف الشديد, وهذه النقطة تحديداً إحدى مقومات دعائم المشروع التوسعي الإيراني.
شواهد على الطريق
في محاضرة له بمنتدى الأحمر 12 تشرين أول/ اكتوبر 2009 خلُص الدكتور أحمد الدغشي إلى وجود عدة عوامل تداخلت في "الحوثية" تترابط في بعضها وتتناقض في أخرى منها التناقض بين الأيديولوجيا والمنافع المتنافرة وبين البعد السياسي ومذهبية التسييس وبين إعلان الاستقلال والتحرر من ربقة الهيمنة الفكرية والفقهية الوافدة مع الإرتباط ببعض القوى والمؤثرات الإقليمية والخارجية.
وفي حين ينفي الدغشي عن المؤسس الأول لحركة التمرد تهمة التحول إلى مذهب الإثنى عشرية، وبالتالي تصنيفه في خانة الجارودية المتشددة والمتلاقية مع الإثنى عشرية في العديد من النقاط، لكنه لا ينفي تأثره بالأفكار الثورية الخمينية في بعدها العالمي, بدلالة موقفه المعارض لمساندة صنعاء للعراق في حربها مع إيران ومشاركة بعض الرموز الفكرية "الحوثية" في مؤتمر توحيد الشيعة بطهران في 1986، وتقاربها مع الكثير من الأفكار المذهبية الإيرانية، وصولاً إلى مساندة ودعم إيران لمؤسس التمرد الأول في 1997 وما بعدها مقابل التغاضي عن نشر الإثنى عشرية باليمن سواء عبر الوافدين العراقيين أو الإيرانيين خلال عقد التسعينيات من القرن العشرين، والتي مهدت بصورة لافتة لتحول التيار "الحوثي" من حركة فكرية سياسية إلى حركة مسلحة حنينية إلى الماضوية, الأمر الذي جعل من المذهب الزيدي المعروف بتسامحه وانفتاحه وآفاقه العالمية الواسعة الضحية الأولى لصالح أهداف وأجندة خارجية مشبوهة.
ورغم نفي السلطات الإيرانية المتكرر خلال حروب صعدة السابقة أي علاقة لها بحركة التمرد ومساندتها ودعمها، فقد أبرزت الحرب السادسة العديد من الشواهد المؤكدة عكس ذلك تماماً على الأقل فيما يتعلق بتعامل الإعلام الإيراني الرسمي ليس مع أحداث صعدة فحسب، بل ومع الشأن اليمني بملفاته المتعددة والمعقدة بصورة لا تمت للحيادية والموضوعية بصلة بما في ذلك محاولة توظيف أزمة اليمن لتصفية الحسابات الإيرانية مع أميركا ودول الخليج العربي على خلفية الفهم الإيراني المغلوط وغير المبرر لعلاقات اليمن الخارجية ومواقفها القومية.
كل هذا يثير التساؤل عن الخلفية الحقيقية لدخول إيران في اللعبة اليمنية بكل قواها ومعاودتها ممارسة دور الشرطي الإقليمي وإعطاء نفسها حق تقرير ما يجب عمله وما لا يجب عمله على الآخرين.
بالعودة إلى ديناميكية محركات ومنطلقات النظرية التوسعية الإيرانية منذ ما قبل الإسلام وحتى يومنا, يمكننا الوقوف على الدافع الحقيقي لاختيار اليمن كمحطة ثانية بعد العراق لاختبار الأجندة الإيرانية , وهو قيام تلك النظرية على قاعدة أن السيطرة والهيمنة والنفوذ على المنطقة العربية عامة والخليج خاصة, لن يتأتى إلا بالسيطرة وفرض النفوذ على اليمن.
ومعلومٌ أن لإيران طموح قديم متجدد في الوصول إلى البحر الأحمر وخلق تمدد شيعي يجد له مكاناً في تقسيم اليمن، ثم ينتقل إلى توسع أكبر ليشمل السيطرة على جنوب وشرق الجزيرة العربية متعانقاً مع الهيمنة الشيعية بالعراق, بما يضمن في خاتمة المطاف سهولة التغلغل الإيراني داخل البؤر المتوترة بالشرق الأوسط والتحكم في أوراقها, في سباق مع الزمن للتأكيد على أنها أصبحت رقماً شيعياً وقوة إقليميةً لم يعد بالإمكان تجاوزها.
وفي هذا السياق نشر موقع المحرر العربي بتاريخ 24 كانون الأول/ ديسمبر 2006 عدة وثائق صادرة عن الدائرة السياسية لمنظمة بدر التابعة لتيار عبدالعزيز الحكيم بالعراق, وسنكتفي هنا بالوقوف على وثيقتين منها ممهورة بتوقيع الحكيم بتاريخ 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 2006, تضمنت الأولى الحديث عن إنجازات شيعة العراق والتحالفات التي عقدتها دول عربية عدة مع أميركا لتغيير معالم الخارطة السياسية للعراق والمنطقة بهدف تهديد وجود الشيعة وكيانهم ومستقبلهم في الشرق الأوسط والقضاء على مخططاتهم وأهدافهم المصيرية خالصة إلى ضرورة التوجه للترويج إعلامياً لمظالم الشيعة، وهو ما تم تفصيله في الوثيقة الثانية الصادرة بناءاً على توجيه خامنئي على خلفية إنعقاد مؤتمر شيعي موسع بـ"قم" تم فيه الدعوة لإنشاء منظمة المؤتمر الشيعي العالمية مقرها إيران وفروعها في كافة أنحاء العالم ومهمتها دراسة وتحليل الوضع الإقليمي الراهن والاستفادة من التجربة الشيعية العراقية وتعميمها على السعودية واليمن والأردن ومصر والكويت والإمارات والبحرين والهند وباكستان وأفغانستان وبناء قوات عسكرية غير نظامية لكافة الأحزاب والمنظمات الشيعية بالعالم، وتخصيص ميزانية خاصة لتجهيزها وتسليحها وتهيئتها لدعم وإسناد الشيعة في السعودية واليمن والأردن , ودعم متطلبات المؤتمر الإدارية والإعلامية والعسكرية, من خلال إنشاء صندوق مالي عالمي مرتبط برئاسة المؤتمر وتفتح له فروع في أنحاء العالم, تكون موارده من الأموال التي تجمعها الحكومات العرفية وتبرعات التجار وزكاة الخمس, وتشكيل لجنة متابعة مركزية لتنسيق الجهود في كافة الدول وتقويم أعمالها ومتابعة الدول والسلطات والأحزاب وشن حرب شاملة ضدها في كافة المجالات!!.
لذا لم يكن من قبيل المصادفة أن يشكل هذا التوجه الخطير واحدة من أهم القضايا الخلافية التي طفت على السطح بين الإصلاحيين والمحافظين في الإنتخابات الرئاسية الإيرانية الأخيرة؛ من ذلك اعتبار محمد خاتمي تصدير الثورة من خلال إرسال السلاح والفوضى إلى الدول الأخرى مخالفاً لمبادئ الثورة ولا يخدم المصالح الإيرانية وتوجيه كروبي وموسوي خلال حملتهما الانتخابية انتقادات لاذعة لإدارة نجاد بسبب دعمها للحركات الدينية خارج إيران.
إذن فما تواجهه اليمن اليوم ليس سوى خديعة كبرى واجهتها مذهبية وخلفياتها سياسية تآمرية ترمي إلى استنساخ السيناريو العراقي بصورة تضمن عدم بقاء اليمن موحداً وقوياً وناهضاً وداعماً لقضايا أمته، وفاعلاً في محيطه العربي والإقليمي وصولاً إلى إدخاله في آتون لعبة لا ناقة له فيها ولا جمل وساحة مجابهه إقليمية - دولية لتصفية حسابات الآخرين.
وفي هذا مدعاةٌ لوجوب الاصطفاف الوطني أكثر من أي وقت مضى وتراص الصفوف لوأد الفتنة المذهبية والجهوية والقاعدية، ومنع التدخلات الخارجية تحت أي مسمى كان كون المستهدف ليس شخص رئيس الدولة ولا الحزب الحاكم بل اليمن ككل.
Developed by www.ssc4it.com
الثلاثاء، 29 ديسمبر 2009
الأجندة المتصارعة في القرن الإفريقي
زيد يحيى المحبشي
منذ قديم الزمان ومنطقة القرن الإفريقي حاضرة بقوة في أجندة الأطماع الدولية الاستعمارية, ولذا كانت ولازالت واحدة من أكثر المناطق سخونة على ظهر البسيطة وسط غياب التوازنات وتسيُّد الفوضى الإقليمية وهي الضريبة الطبيعية لاستحقاقات لعنة الجغرافيا الجاعلة من هذه المنطقة بمثابة مجمع الأمن الإقليمي وبوابة العبور الوحيدة نحو عمق القارة السمراء والعالم باعتبارها تطل على البحر الأحمر وخليج عدن والمحيط الهندي وتتحكم في طريق الملاحة البحرية بين الشرق والغرب بشقيها العسكري والاقتصادي ، حيث بوابة الدموع- مضيق باب المندب- في حين مثّل اكتشاف النفط في الخليج العربي والنفط الإفريقي الواعد عاملاً إضافياً ومبرراً كافياً لدخول لاعبين جدد على الخط لمزاحمة أوربا في مناطق نفوذها التقليدي ولكل واحد منهم أسبابه وممارساته وسياساته وطموحاته لتمكين نفوذه وفرض أجندته .
هذا التسابق المحموم على المنطقة وصل ذروته في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة وبروز ما بات يعرف باللعبة الكبرى فيما يتعلق بإقامة مشروعي الشرق الأوسط الكبير والقرن الإفريقي الكبير وكلاهما مكملان لبعضهما البعض كون القاسم المشترك بينهما الرغبة الجامحة في إعادة تشكيل وترتيب خارطة التوازنات والتحالفات الإقليمية على ضوء المعطيات والتحولات الميدانية التي شهدتها منطقتي الشرق الأوسط وشرق إفريقيا خلال العقدين الأخيرين حيث قضايا الصراع مازالت في معظم دولهما ساخنة ومرشحة للمزيد من التعقيد والتناسل والتفريخ خصوصاً دول شرق إفريقيا بما تموج به من أزمات داخلية وصراعات حدودية وعرقية وطائفية وتدفق مخيف للسلاح وتزايد حالات الانفصال والأعمال الإرهابية ناهيك عن الصراعات الخفية الناشبة على أطراف ونقاط التماس العربي الإفريقي بين الإسلام والمسيحية ما بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 وما صاحبها من تنامي لدور القوى الإسلامية المتطرفة وتزايد العمليات الإرهابية للقاعدة وبروز إيران كلاعب رئيسي في القرن الإفريقي بالتوازي مع تراجع النفوذ الأوربي لصالح تعاظم الوجود الأميركي والإسرائيلي .
الصورة بمفرداتها المتنافرة والمتصادمة شكلت بيئة مناسبة لتبلور المشاريع الدولية والإقليمية بما لها من تفاعلات وتأثيرات بدت بصماتها واضحة فيما تشهده المنطقة من تحولات إستراتيجية عميقة قد ترسم ملامحها للعقد القادم، ولاشك بأن اهتمام وسائل الإعلام والمراكز البحثية الغربية المتزايد خلال السنوات الأخيرة بالمنطقة لم يأتي من فراغ بل هو إيحاء مباشر للتأكيد على أن ما يجري ليس سوى مقدمات لتحولات وترتيبات ما تخدم واضعيها ولا تخدم المنطقة وشعوبها بما لذلك من آثار كارثية على منظومة الأمن القومي الإفريقي والعربي على حد سواء.
يأتي هذا التحول في وقت لم يعد التأثير الإسرائيلي فيه على السياسة الأميركية مقتصراً على القضية الفلسطينية ومنطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بل تعداها منذ زمن مبكر إلى البحر الأحمر والقرن الإفريقي لتكتمل بذلك دائرة التدويل للممرات المائية ومنابع نهر النيل والفاشية الإسلامية والأزمات المتناسلة من رحم التدخلات الخارجية وتنور مشاريع التغيير وأجندة الصراعات في ظل ما نشهده من تحولات وتقاطعات للمصالح الإقليمية والدولية وغياب فاقع لأي معيار ناظم لوجود أية قوة إقليمية قادرة على إعادة التوازن والأمن والاستقرار .
في هذه الوقفة السريعة سنحاول مقاربة السيناريوهات المحتملة لطبيعة هذا الصراع واحتمالات المواجهة أو التوافق وتحديداً فيما يتعلق بالمشاريع ذات التأثير المباشر على المنطقة كالأميركي والإسرائيلي والإيراني على هناك مشاريع منافسة كالصيني والأوربي والروسي لكنها تظل فرعية وذات تأثير منخفض كما أنها بشكل أو بأخر مشاريع تابعة في قوة التأثير على ديناميكية تفاعل المشاريع الرئيسية .
تجدر الإشارة أيضا إلى أن هناك توافق عجيب فيما يتعلق بتنامي ظاهرة القرصنة والإبقاء على حالة الفوضى والصراع ولكن في حدود تحول دون خروج الأمور عن السيطرة وكذا فيما يتعلق بحدود النفوذ والوجود ومساعي السيطرة على القرن الإفريقي والبحر الأحمر وباب المندب والمياه الإقليمية للمنطقة والاستفراد بثرواتها الطبيعية لكن ذلك يبد على النقيض تماما فيما يتعلق بالإرهاب والجماعات الإسلامية والقاعدة والتوازنات والتحالفات التي يجب أن تكون عليها المنطقة .
الأجندة الأميركية
لم تشغل المنطقة لسنوات طويلة حيزاً كبيراً في دائرة اهتمامات السياسة الأميركية الخارجية رغم وجودها القديم بهذه المنطقة حيث لم تكن تجد في النفوذ الفرنسي أو البريطاني تهديداً مباشراً لمصالحها لاسيما وأن النفوذ البريطاني ظل منساقاً ومتناغماً على طول الخط مع التوجهات الأميركية, غير أن انتهاء الحرب الباردة وسقوط القطبية الثنائية وبروز القطب الواحد فعودة تعدد الأقطاب مؤخراً وما صاحب ذلك من فشل ذريع للتدخل الأميركي المباشر على أكثر من صعيد دولي وانحسار نفوذه الكوني وظهور فاعلين دوليين وإقليميين لم يعد ممكنا تجاوزهم أو تجاهلهم وبروز مفاعيل جديدة لازمات لم تكن متوقعة بما فيها القاعدة والقرصنة وتنامي العداء واتساع رقعة الرأي العام المناهض للسياسات الأميركية، بما خلفته من مآسي وكوارث لم يعد بالإمكان حلحلتها ناهيك عن تداعياتها السلبية على المصالح الأميركية كل هذا كان مبرراً كافياً لتغيير بوصلة وأدوات التعاطي الأميركي ولكن بما يتلاءم وانجاز مشاريعه الكونية التي عجز عن تحقيقها بالتدخل العسكري المباشر أملاً في إعادة الوهج إلى القطبية الأحادية .
عوامل عديدة أدت إلى هذا التحول الطارئ أهمها: ازدياد أهمية المرتكزات الإستراتيجية التي تقوم عليها العلاقات الأميركية الإفريقية في عصر العولمة بما يتناغم مع محددات القرن الإفريقي الثابتة كالموقع والثروة وخطوط التجارة بما لها من أهمية في منظومة السياسة الكونية الأميركية، ناهيك عن تغير الرؤية الأميركية حيال الأزمات والصراعات التي تعاني منها المنطقة وإدراكها أهمية التركيز على المدخل السياسي والعسكري بما يخدم مصالحها الحيوية في منطقة القرن والبحيرات العظمى مستفيدة من فشل وإخفاق التركيز الأوربي على المدخل الاقتصادي والتنموي.
المشروع الأميركي في طابعه العام يطمح إلى حماية خطوط التجارة البحرية عبر المحيط الهندي والبحر الأحمر والوصول إلى مناطق الثروة ومصادر الطاقة ومحاصرة النظم غير الموالية واحتوائها ومحاربة التطرف والأصولية والحد من انتشار الأسلحة ودعم الأنظمة المتبنية للتصور الأميركي حيال الإرهاب خصوصاً وأن هذه المنطقة من المناطق التي تتكاثر فيها التهديدات لمصالح أميركا وحلفائها بصورة جعلتها ضمن الإستراتيجية الخاصة بالاحتواء خلال المرحلة المقبلة(2009 – 2015) .
آلية التنفيذ
مثلت عملية تفجير سفارتي أميركا في نيروبي ودار السلام في آب/ أغسطس 1998 وما صاحبها من ضربات عسكرية أميركية لمصنع الشفاء السوداني بدعوى استخدامه في صناعة أسلحة كيميائية لصالح ابن لادن نقلة نوعية على صعيد تزايد الاهتمام الأميركي بهذه المنطقة والمتعاظم بصورة لافتة ما بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 وما تمخض عنها من توجه نحو محاربة ما يسمى بالإرهاب ووضع السودان والصومال واليمن على قمة المرحلة الثانية لهذه الحرب بدعوى أنها توفر ملاذات آمنة للقاعدة وعناصرها الفارين من أفغانستان وبالتالي إنشاء قاعدة عسكرية أميركية في جيبوتي في حزيران/ يونيو 2003 وطرح مبادرة مكافحة الإرهاب في شرق إفريقيا وتأكيد مركزيتها في محاربة الإرهاب.
كل ذلك لم يكن سوى مقدمة لما هو اكبر من القاعدة والإرهاب وهو ما بدا واضحاً مع نهاية العام 2004م عندما أطلق البيت الأبيض مشروع القرن الإفريقي الكبير بالتزامن مع إعلان مشروع الشرق الأوسط الكبير والكشف عن التوجه لإنشاء القيادة العسكرية المركزية "آفريكوم" في شباط/ فبراير 2007م لتولي مهام على مستوى القارة الإفريقية باستثناء مصر, تمهيداً للانفراد الأميركي برقعة الشطرنج للشرق الأوسط والقرن الإفريقي والبحر الأحمر والبحيرات العظمى وهو طموح قائم ومستمر بغض النظر عن هوية حكام البيت الأبيض .
القرن الإفريقي الكبير في خضم الأحداث العاصفة بالمنطقة والسعي الأميركي المتواصل لاستغلالها لصالح أهدافه الإستراتيجية يبدو أنه سيكون من أكثر الساحات الكونية سخونة في العقد المقبل إذ من المتوقع حسب المصادر الأميركية أن يضم دول القرن الإفريقي التقليدية: جيبوتي والصومال وإثيوبيا وإريتريا وجنوب السودان بعد فصله المتوقع في استفتاء العام 2011 إلى جانب دول البحيرات العظمى: كينيا وأوغندا وتنزانيا والكونغو الديمقراطية وراوندا وبورندي .
القرن الإفريقي الكبير
في طابعه العام يحمل أبعاداً تتعدى توفير قاعدة إمدادات خلفية لمشاريع أميركا في الشرق الأوسط إلى إعادة ترتيب المنطقة بما ينسجم مع المصالح الأميركية الإستراتيجية في إفريقيا والشرق الأوسط وبما يكمِّل صورة الشرق الأوسط الكبير فيما يتعلق بخارطة النفط والغاز والإرهاب التي هي واحدة في مبانيها ومعانيها سواء في الشرق الأوسط أو أوراسيا أو شرق إفريقيا في حين نجد أن الإرهاب مجرد عامل تابع فيما النفط وهو الأساس في قائمة الاستثمارات الأميركية المستقبلية عامل مستقل والرهان هنا على النفط الإفريقي باعتباره المخزون الأكبر عالميا لاسيما في المنطقة الممتدة من السودان إلى سواحل كينيا وهو المحركة الأساسي لهذا المشروع.
في التفاصيل يطمح المشروع إلى الربط بين المناطق الحيوية ذات البعد الجيواستراتيجي كشرق إفريقيا والبحيرات العظمى بما يضمن الهيمنة على التفاعلات المستقبلية في هذا الجزء الهام من العالم على خلفية النجاح الأميركي النسبي في التركيز على المدخل السياسي والعسكري على حساب الفشل الاقتصادي والتنموي الأوربي بالتوازي مع توحد المخاوف الأميركية والأوربية من تنامي العلاقات الصينية الإفريقية ودخول إيران كلاعب أساسي وما ترتب على ذلك من تخفيف لحدة التنافس الأميركي- الأوربي في السنوات الأخيرة لصالح أميركا وتدعيم مواقفها في صراع الكبار وتحقيق رغبتها في الانفراد بالنفط الإفريقي ومحاصرة الإرهاب والدول المارقة كإيران وإريتريا ما بعد 2007 والرغبة في إقامة منطقة تحوي مجموعة المصالح الإستراتيجية الأميركية وتؤمنها .
المشروع الأميركي في بدايات ظهوره سعى إلى تحقيق هدفين هما: زيادة قدرات المنطقة في مجال إدارة الأزمات وحل الصراعات وتحسين الأمن الغذائي وهو ذات الطموح للمشروع الأوربي حيال شرق إفريقيا في 2006م لكنهما أصيبا بالفشل الذريع, ما دفع واشنطن إلى ابتكار آليات جديدة لتحقيق طموحاتها وأهدافها والتي صارت تستهدف إنشاء بنية تحتية لمصلحة شركات التعدين والنفط والصناعات العسكرية الأميركية والإسرائيلية وضمان الانفراد بالنفط باعتباره البديل المستقبلي لنفط الخليج العربي وبحر قزوين المهدد بالنضوب ومحاصرة نمو النفوذ الصيني والإيراني وخلق مناطق نفوذ تحقق المصالح الأميركية لاسيما وأن القرن والبحيرات لا يمكن فصلهما عن مجمل المصالح الأميركية في المنطقة برمتها .
الخطوط العريضة لمشروع القرن الإفريقي الكبير صحيح أنها متمحورة حول المصالح السياسية والعسكرية والاقتصادية بدرجة أساسية وقد حصلت واشنطن على الكثير من الامتيازات في هذا المجال لكن غير صحيح أن المشروع سيصيب في صالح شعوب المنطقة بدلالة عدم مغايرة محركاته الخفية لذلك الذي شاهدناه في الشرق الأوسط الكبير ما يعني أن الغاية من المشروعين تكميل عملية التقسيم الكانتوي للمنطقتين وإعادة رسم التوازنات الإقليمية وفقاً للمحددات الطائفية والعرقية في إطار إعادة النظر في تقسيمات اتفاقية سايكس بيكو وهو ما يكشف سر النزاعات العرقية والدينية التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الأخيرة والتي كان لأميركا وإسرائيل الدور الرئيسي في تأجيجها لاسيما تلك الناشبة بين المسيحية والإسلام .
ومعلومٌ أن دول منطقة القرن والبحيرات إما ذات أغلبية مسلمة كجيبوتي والصومال أو أغلبية مسيحية كأوغندا وكينيا أو مختلطة كأثيوبيا وتنزانيا وإريتريا كما تشكل قبائل التوتسي المسيحية امتداداً تداخلياً في معظم دول البحيرات ولها مساعي حثيثة لتحجيم قبائل الهوتو المسلمة التي بدأت تتراجع بصورة كبيرة أمام التوتسي بفعل الدعم الأميركي والإسرائيلي في وقت تشير فيه الإحصاءات إلى أن غالبية الصراعات المحلية ذات بعد ديني .
إذن فهناك مساعي واضحة لتغليب الكفة المسيحية على الكفة الإسلامية في منطقة القرن الإفريقي الكبير بدلالة ما نلاحظه من تحيز أميركي وغربي إلى جانب المسيحيين ورفع ممنهج لوتيرة الربط بين الإرهاب والإسلام رغم ذهاب الدراسات الغربية إلى أن المسيحيين كانوا أكثر تنفيذاً للعمليات الإرهابية وليس المسلمين كما هو الحال جيش الرب في أوغندا وهذا بدوره منسحب على أعمال القرصنة التي تم ربطها عن قصد مؤخراً بالإسلام وسط بروز المخاوف من توجه القوى الإسلامية الصومالية في حال استتب لها الأمر وتمكنت من إعادة توحيد الصومال تحت رايتها نحو تشكيل محور إسلامي ضاغط مع القوى الإسلامية السودانية على إثيوبيا الحليف الاستراتيجي لأميركا وإسرائيل والقائم عليها مزاد الرهان في إشراع الأبواب المؤصدة أمام المشروع الأميركي إلى جانب كينيا كما الرهان أيضا في قيادة الحرب بالوكالة على الإرهاب الإسلامي في شرق إفريقيا والحرب على الدول المارقة وتسهيل أي تحرك أميركي محتمل في حال تهديد المصالح الأميركية بالمنطقة والأهم ضمان أمن إسرائيل في مواجهة أي احتمالات مستقبلية لفرض قيود على مضايق البحر الأحمر والملاحة فيه .
قاعدة آفريكوم
عوامل عديدة أدت إلى التوجه لإنشائها وجعل إحدى دول القرن الإفريقي المقر الرئيسي لها أهمها: فشل التدخل العسكري في الصومال وفشل التدخل بالوكالة أيضا عبر إثيوبيا وتمكن إيران من تحويل نقاط الإخفاق الأميركية إلى مكاسب سواء فيما يتعلق بنسج علاقات وطيدة مع السودان أو متنامية مع اريتريا وعدد من الفصائل الإسلامية الصومالية بالتوازي مع تنامي أعمال القرصنة وظاهرة الإرهاب الدولي في الصحراء الإفريقية ومخاوف تحول الصومال إلى قاعدة إستراتيجية للقاعدة بعد محاصرتها في باكستان في الوقت الذي انصب فيه اهتمام إدارة أوباما على أفغانستان ومحور باكستان- الهند- إيران باعتباره المدخل الرئيسي لإحكام القبضة على شرق وجنوب آسيا وقاعدة الانطلاق لمحاصرة القاعدة والقوى الإسلامية المتطرفة مع بروز العديد من العوائق الحائلة دون ذلك والمنتجة بصورة أو بأخرى تداعيات كارثية بدت علاماتها واضحة في تزايد عنف القاعدة وأخواتها ونجاحها في نقل عناصرها إلى منطقة القرن والبحيرات العظمى وبناء قواعد هناك وسط رغبة جامحة لتحويل موريتانيا إلى قاعدة إنطلاق والسودان والصومال مع احتمال ضم اليمن إلى قاعدة مواجهة قادمة استعدادا لعرقلة المشروع الأميركي الإفريقي .
المبررات الأميركية السابقة تظل في حقيقتها ثانوية لسبب بسيط هو تزايد الاعتماد الأميركي على مصادر الطاقة الإفريقية وزيادة الضغوط على قوات كينتكوم واريوكوم نتيجة الحرب الدائرة في العراق وأفغانستان ولذا لم يكن أمام البيت الأبيض من خيار لتخفيف الضغط على قواته العاملة في أفغانستان والعراق سوى التوجه إلى إنشاء قيادة آفريكوم المركزية مستفيداً من وجود قاعدة له في جيبوتي لاسيما وان قوانينها لا تعارض الوجود الأجنبي على أراضيها كما لأميركا تواجد عسكري بحري وجوي قُبالة السواحل الصومالية ناهيك عن النجاح في استغلال أزمات المنطقة لصالح الحصول على امتيازات خاصة شملت الموافقات الصريحة بشأن إنشاء قواعد عسكرية أو تكثيف التواجد العسكري وكله سيصب في النهاية لصالح وضع اللبنة الأولى لمشروع القرن الإفريقي الكبير .
إنشاء القيادة من ناحية أخرى يشكل انعطافة مهمة على صعيد الاهتمام الأميركي بإفريقيا عموما والقرن الإفريقي خاصة ومنحه وزن اكبر بسبب تنامي حاجة أميركا للنفط الإفريقي وهي أيضا خطوة ضرورية في سياق الحرب الوقائية ضد القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي والحيلولة دون حصول القاعدة على ملآذات آمنة في القرن الإفريقي والبحيرات العظمى حيث تشعر واشنطن أن هذه المنطقة تشكل قاعدة خلفية للقاعدة والمصدر الرئيسي للتهديدات المحتملة مستقبلاً للمصالح الأميركية .
اللافت هنا انسجام هذا التوجه مع مساعي بناء قاعدة النفوذ الجديدة لتكتمل بذلك الصورة مع ما يجري في الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا ولذا لم يكن من قبيل المصادفة أن يتزامن هذا التوجه مع إعلان واشنطن إلغاء منظومة الدفاع الصاروخي من شرق أوربا في حين أن التحركات الأميركية في السنوات الأخيرة لم تكن سوى مقدمة لتأسيس وضع جديد وإحداث جنية من التوازنات داخل إفريقيا بالتوازي مع تكثيف الوجود العسكري وتشكيل قيادة فرعية ضمن القيادة الوسطى الممتدة من آسيا الوسطى إلى القرن الإفريقي بغرض تنسيق العمليات ضد الإرهاب كما هو حال القوات المشتركة في القرن الإفريقي تمهيداً لإخراج قيادة آفريكوم إلى حيز الوجود وبذلك تكون أميركا قد ضمنت تدويل الأزمات والبحار وخصوصاً البحر الأحمر وخليج عدن وقناة السويس وباب المندب إلى جانب ضمان تدويل منابع مياه نهر النيل وتهيئة البيئة لتمرير أجندتها وتهيئة المناخ السياسي العام لأي مواجهة محتملة مع إيران سواء كانت مباشرة أو بالوكالة عبر إسرائيل وضمان الاستجابة الفورية والتدخل السريع في أوقات الأزمات والاهم من هذا وذاك ضمان الانفراد بتدوير لعبة التنافس القائمة بما يحقق مصالحها الإستراتيجية الآنية والمستقبلية .
الأجندة الإسرائيلية
الاهتمام الإسرائيلي بمنطقة القرن الإفريقي والبحيرات العظمى منسجم كليةً مع الاهتمام الأميركي كون هذه المنطقة تشكل أهم موقع استراتيجي من الناحية الأمنية منذ ولادة الدولة العبرية ونقطة الارتكاز لتحقيق الاتصال بوسط وجنوب إفريقيا وتحقيق مصالح إسرائيل الاقتصادية والأمنية ولذا نجدها شديدة الحرص على إيجاد عمق لها في البحر الأحمر والقرن الإفريقي بما في ذلك إنشاء قواعد عسكرية في بعض دوله كإريتريا بما يتيح لها رصد أي نشاط عسكري عربي ضدها واستخدام التفوق الإسرائيلي لكسر أي حصار عربي مستقبلاً ضد إسرائيل وسفنها في البحر الأحمر ومدخله الجنوبي وكسر دائرة العزلة العربية على إسرائيل وبالتالي ضمان الاتصال والأمن للخطوط البحرية العسكرية والتجارية من المحيط الهندي إلى البحر الأبيض المتوسط والحيلولة دون أن يكون البحر الأحمر بحراً عربياً خالصاً.
استخدمت إسرائيل العديد من الأساليب لتمرير أجندتها مستغلة وجود أقليات يهودية في منطقة القرن الإفريقي بما لها من دور في تغذية الصراعات العرقية والطائفية والحدودية وتوظيفها لصالح السياسات الإسرائيلية واللعب على المتناقضات الفجة واستغلال كل الثغرات حتى يبقى قادة الأقليات الحاكمة في المنطقة مرتبطين بتل أبيب وسياساتها كما استغلت علاقاتها مع إثيوبيا وإريتريا على سبيل المثال ضد السودان واليمن إلى جانب دعمها طموحات الانفصال كما في بونت لاند الصومالية ومحاولة استغلالها الحرب الدائرة هناك للفوز بتأجير ميناء بربرة أو على الأقل الفوز بتعهد إقليم صوماليا لاند بتقديم تسهيلات وامتيازات لاستخدام الميناء ناهيك عن مساعيها الدءوبة للحيلولة دون وجود حكومات قوية خاصة ذات التوجه العربي أو الإسلامي والترويج لوجود علاقات وثيقة بين الإسلاميين والقاعدة والقراصنة وتشكيل ورقة ضغط على السودان ومصر من خلال مساعي تدويل منابع نهر النيل وضرب القوى الإسلامية واستكمال مخطط نقل يهود الفلاشا من المنطقة وسط رغبة جامحة في السيطرة والتغلغل الكامل في شؤون دول شرق إفريقيا والبحر الأحمر وتأمين نطاق الأمن الحيوي الجنوبي لإسرائيل حيث المدخل الجنوبي للبحر الأحمر واكتساب وسيلة ضغط جديدة على الدول العربية لدفعها نحو التطبيع المجاني والسلام الاقتصادي والانخراط في المواجهة المحتملة مع إيران.
الأجندة الإيرانية
لإيران طموح قديم في الوصول إلى البحر الأحمر والقرن الإفريقي ولذا لم يكن غريباً أن يحتل هذا الطموح مكانة خاصة في قائمة اهتمامات السياسة الإيرانية الخارجية في السنوات الأخيرة وتحديداً ما بعد وصول محمود أحمدي نجاد إلى الحكم في 2005م وما صاحب ذلك من توجه ممنهج لنقل الحرب من مضيق هرمز والخليج العربي إلى خليج عدن وباب المندب بدلالة خروج التدخل الإيراني في الشؤون الداخلية للمنطقة من دائرة السرية والمراوغة إلى دائرة العلن والتدخل المباشر بما ينسجم وتوسيع نطاق ما أسمته طهران "الجهاد البحري" باعتباره يشكل المدخل الرئيسي لإستراتيجية السيطرة على الممرات المائية تحسباً لأي انفجار محتمل مع الغرب حول ملفها النووي ناهيك عن طموحات فتح ممرات بحرية وبرية تسهل الوصول إلى مناطق الأزمات في الشرق الأوسط عبر تأمين وجود إيراني قريب من هذه المناطق وتوفير أوراق ضغط جديدة للمساومة في الشرق الأوسط .
أسباب عديدة أدت إلى تسليط الضوء على المشروع الإيراني في المنطقة المتغول على خلفية مفاعيل التدخل الأميركي المباشر ما بعد حربي الخليج الثانية والثالثة بما لهما من إفرازات على صعيد الجدل العربي الرسمي حول المشروع الإيراني وخطورته على المنطقة والتحولات السياسية الخارجية لإيران القائمة على التدخل المباشر وسط غياب فاقع لأي مشروع أفرو - عربي متفق عليه- مؤثر ومكافئ- والاكتفاء في كثير من الأحيان بدور المتأثر في حين أتاحت الإخفاقات الأميركية في منطقة القرن الإفريقي والبحيرات العظمى على خلفية عدم وفاء واشنطن بالتزاماتها تجاه حلفائها هناك لطهران فرصة طالما حلُمت بها لنسج علاقات اقتصادية وسياسية وأمنية خصوصاً مع السودان واريتريا وبعض الفصائل الصومالية الإسلامية وغيرها و تعزيز وجودها العسكري البحري في البحر الأحمر وخليج عدن وقُبالة السواحل الصومالية تحت ذريعة محاربة القرصنة إلى جانب وجود قاعدة عسكرية إيرانية في ميناء عصب الاريتري والقيام بتهريب الأسلحة إلى الحركات المتمردة في اليمن والصومال وتسهيل نقل عناصر القاعدة من أفغانستان إلى جنوب اليمن وكذا تدريب عناصر التمرد الحوثي بمعسكر دنقللو الاريتري وإلحاحها المتكرر على صنعاء لتدوير وتنشيط ميناء ميدي..الخ .
كل هذا إن دل على شيء فهو يدل على أن إيران بدأت من الناحية العملية بنقل معركتها إلى منطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر ما دفع العديد من المراقبين للنشاط الإيراني غير الطبيعي مؤخراً في المنطقة إلى الجزم بأن البحر الأحمر مرشح في المرحلة المقبلة ليكون حلبة جديدة لمواجهات مسلحة إقليمية دولية بما لذلك من تداعيات كارثية على الصومال والسودان واليمن وربما دول افريقية أخرى على خلفية الحراك الإيراني غير المسبوق لفتح جبهات جديدة في القرن الإفريقي خصوصاً وأن الاتفاقية الأمنية الإسرائيلية الأميركية المبرمة قبل مغادرة بوش الابن البيت الأبيض بستة أشهر – منتصف 2008 - قد بدأت سريانها من خلال إستراتيجية جديدة يتم رسمها في البحر الأحمر والمحيط الهندي حيث الصراع الدولي المحتمل لسبب بسيط هو قيام تلك الاتفاقية على منهجية تجزئة الأمن الاستراتيجي لمنطقة البحر الأحمر وهو ما تتحسب له إيران جيداً كما تدرك بأن هذا ليس سوى مقدمة لحصارها بحرياً في وقت باتت فيه تعاني شبه عزلة عربية وإسلامية ودولية، بدلالة إقدامها في منتصف نوفمبر الماضي على تعزيز قواتها البحرية المتواجدة في البحر الأحمر وخليج عدن بالأسطول الرابع .
الأجندة الإيرانية في إطارها العام ترمي إلى تعقيد حياة الأميركيين في الجزيرة العربية والقرن الإفريقي وإحباط المخطط الغربي لتشديد الحصار البحري عليها في مياه الشرق الأوسط وإيجاد قاعدة انطلاق نحو شرق إفريقيا حيث تدور حروب مكملة لما يجري في العراق وأفغانستان وصولا إلى خلق إستراتيجية أمنية إقليمية تضطلع فيها إيران بدور المهيمن الطارد لأي وجود قوي من قبل أية قوة اقليمية أخرى وبالتالي جر أميركا إلى طاولة مفاوضات جديدة.
غير أن الصورة مختلفة تماما في إطارها الخفي كون إيران مدركة تماماً بأن المنطقة بأسرها مقدمة على تغييرات شاملة بما فيها إعادة تشكيل التحالفات والتوازنات ومحاولات الدفع بمشروعي الشرق الأوسط الكبير والقرن الإفريقي الكبير إلى الأمام ولذا فهي أمام خيارات لم يعد بالإمكان استبعادها من قائمة التعاطي الدبلوماسي والسياسي مع قضايا المنطقة بما فيها التدخل المباشر في سباق مع الزمن لإثبات كينونتها وحضورها وأنها صارت فاعلاً إقليمياً ودولياً لم يعد ممكنا تجاوزه في التوازنات المتوحرة في رحم المرحلة المقبلة ولو كان ذلك على حساب علاقاتها مع دول المنطقة وشعوبها وأمنها واستقرارها مادام وأنه في خاتمة المطاف سيضمن لها فرض أجندتها على طاولة لعبة الكبار.
التحرك الإيراني لفرض أجندته يأتي في سياق إستراتيجية واسعة يتداخل فيها الإقليمي بالدولي ولذا لا تأخذنا الدهشة أمام ما نشاهده من توافق غريب وعجيب بين الأجندة الأميركية والإسرائيلية والإيرانية وشراكة إستراتيجية واضحة على تفكيك واقع المنطقة في شكل تغيير في الخرائط السياسية من جهة وعن طريق الدمج الكتلوي المعتمد أساساً على التناقضات المذهبية والطائفية والعرقية وصولاً إلى حافة التصادم الذي ينتهي بالتقسيم والتفتيت والاحتراب والتشرذم وهو الدافع الحقيقي طبعاً للتدخل الإيراني في شؤون المنطقة المستمد قوته ليس من القدرة على فعل التدخل في المحيط الخارجي وإنما من صلب الشراكة القائمة بين الأجندات الثلاثة .
المصادر
- أحمد إبراهيم, الدور الإسرائيلي في إشعال حرب الصومال , الجزيرة نت , 7 كانون الثاني/يناير 2007.
- رداد السلامي, الصراع العالمي على القرن الإفريقي واليمن, موقع التغييرنت , 13 تشرين الأول /اكتوبر2009.
- سامي السيد أحمد محمد, القرن الإفريقي..صراع دولي على النفط والجغرافيا ,معهد البحوث والدراسات الإفريقية.
- د.عبدالكريم العجمي الزياني, القرن الإفريقي , موقع اللواء الأخضر – ليبيا .
- فؤاد معمر, القرن الإفريقي الكبير .. مشروع أميركي لحرب جديدة في إفريقيا, مركز الناطور للدراسات , 11 تشرين الثاني/نوفمبر2009.
- نجيب اليافعي, الإستراتيجية الدائمة لإيران في النفوذ باتجاه الممرات المائية والنفط , صحيفة الأهالي اليمنية , 27 تشرين الأول/أكتوبر 2009.
- د.أبا الحكم, التصعيد في صعدة .. بداية تفكيك المنطقة , موقع شبكة البصرة , 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2009 .
- الوجود الأميركي في القرن الإفريقي , ندوة علمية, مركز الراصد للدراسات السياسية والإستراتيجية , 31 أيار/ مايو 2009.
- الصراع في القرن الإفريقي, ملف خاص, موقع موسوعة مقاتل من الصحراء.
منذ قديم الزمان ومنطقة القرن الإفريقي حاضرة بقوة في أجندة الأطماع الدولية الاستعمارية, ولذا كانت ولازالت واحدة من أكثر المناطق سخونة على ظهر البسيطة وسط غياب التوازنات وتسيُّد الفوضى الإقليمية وهي الضريبة الطبيعية لاستحقاقات لعنة الجغرافيا الجاعلة من هذه المنطقة بمثابة مجمع الأمن الإقليمي وبوابة العبور الوحيدة نحو عمق القارة السمراء والعالم باعتبارها تطل على البحر الأحمر وخليج عدن والمحيط الهندي وتتحكم في طريق الملاحة البحرية بين الشرق والغرب بشقيها العسكري والاقتصادي ، حيث بوابة الدموع- مضيق باب المندب- في حين مثّل اكتشاف النفط في الخليج العربي والنفط الإفريقي الواعد عاملاً إضافياً ومبرراً كافياً لدخول لاعبين جدد على الخط لمزاحمة أوربا في مناطق نفوذها التقليدي ولكل واحد منهم أسبابه وممارساته وسياساته وطموحاته لتمكين نفوذه وفرض أجندته .
هذا التسابق المحموم على المنطقة وصل ذروته في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة وبروز ما بات يعرف باللعبة الكبرى فيما يتعلق بإقامة مشروعي الشرق الأوسط الكبير والقرن الإفريقي الكبير وكلاهما مكملان لبعضهما البعض كون القاسم المشترك بينهما الرغبة الجامحة في إعادة تشكيل وترتيب خارطة التوازنات والتحالفات الإقليمية على ضوء المعطيات والتحولات الميدانية التي شهدتها منطقتي الشرق الأوسط وشرق إفريقيا خلال العقدين الأخيرين حيث قضايا الصراع مازالت في معظم دولهما ساخنة ومرشحة للمزيد من التعقيد والتناسل والتفريخ خصوصاً دول شرق إفريقيا بما تموج به من أزمات داخلية وصراعات حدودية وعرقية وطائفية وتدفق مخيف للسلاح وتزايد حالات الانفصال والأعمال الإرهابية ناهيك عن الصراعات الخفية الناشبة على أطراف ونقاط التماس العربي الإفريقي بين الإسلام والمسيحية ما بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 وما صاحبها من تنامي لدور القوى الإسلامية المتطرفة وتزايد العمليات الإرهابية للقاعدة وبروز إيران كلاعب رئيسي في القرن الإفريقي بالتوازي مع تراجع النفوذ الأوربي لصالح تعاظم الوجود الأميركي والإسرائيلي .
الصورة بمفرداتها المتنافرة والمتصادمة شكلت بيئة مناسبة لتبلور المشاريع الدولية والإقليمية بما لها من تفاعلات وتأثيرات بدت بصماتها واضحة فيما تشهده المنطقة من تحولات إستراتيجية عميقة قد ترسم ملامحها للعقد القادم، ولاشك بأن اهتمام وسائل الإعلام والمراكز البحثية الغربية المتزايد خلال السنوات الأخيرة بالمنطقة لم يأتي من فراغ بل هو إيحاء مباشر للتأكيد على أن ما يجري ليس سوى مقدمات لتحولات وترتيبات ما تخدم واضعيها ولا تخدم المنطقة وشعوبها بما لذلك من آثار كارثية على منظومة الأمن القومي الإفريقي والعربي على حد سواء.
يأتي هذا التحول في وقت لم يعد التأثير الإسرائيلي فيه على السياسة الأميركية مقتصراً على القضية الفلسطينية ومنطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بل تعداها منذ زمن مبكر إلى البحر الأحمر والقرن الإفريقي لتكتمل بذلك دائرة التدويل للممرات المائية ومنابع نهر النيل والفاشية الإسلامية والأزمات المتناسلة من رحم التدخلات الخارجية وتنور مشاريع التغيير وأجندة الصراعات في ظل ما نشهده من تحولات وتقاطعات للمصالح الإقليمية والدولية وغياب فاقع لأي معيار ناظم لوجود أية قوة إقليمية قادرة على إعادة التوازن والأمن والاستقرار .
في هذه الوقفة السريعة سنحاول مقاربة السيناريوهات المحتملة لطبيعة هذا الصراع واحتمالات المواجهة أو التوافق وتحديداً فيما يتعلق بالمشاريع ذات التأثير المباشر على المنطقة كالأميركي والإسرائيلي والإيراني على هناك مشاريع منافسة كالصيني والأوربي والروسي لكنها تظل فرعية وذات تأثير منخفض كما أنها بشكل أو بأخر مشاريع تابعة في قوة التأثير على ديناميكية تفاعل المشاريع الرئيسية .
تجدر الإشارة أيضا إلى أن هناك توافق عجيب فيما يتعلق بتنامي ظاهرة القرصنة والإبقاء على حالة الفوضى والصراع ولكن في حدود تحول دون خروج الأمور عن السيطرة وكذا فيما يتعلق بحدود النفوذ والوجود ومساعي السيطرة على القرن الإفريقي والبحر الأحمر وباب المندب والمياه الإقليمية للمنطقة والاستفراد بثرواتها الطبيعية لكن ذلك يبد على النقيض تماما فيما يتعلق بالإرهاب والجماعات الإسلامية والقاعدة والتوازنات والتحالفات التي يجب أن تكون عليها المنطقة .
الأجندة الأميركية
لم تشغل المنطقة لسنوات طويلة حيزاً كبيراً في دائرة اهتمامات السياسة الأميركية الخارجية رغم وجودها القديم بهذه المنطقة حيث لم تكن تجد في النفوذ الفرنسي أو البريطاني تهديداً مباشراً لمصالحها لاسيما وأن النفوذ البريطاني ظل منساقاً ومتناغماً على طول الخط مع التوجهات الأميركية, غير أن انتهاء الحرب الباردة وسقوط القطبية الثنائية وبروز القطب الواحد فعودة تعدد الأقطاب مؤخراً وما صاحب ذلك من فشل ذريع للتدخل الأميركي المباشر على أكثر من صعيد دولي وانحسار نفوذه الكوني وظهور فاعلين دوليين وإقليميين لم يعد ممكنا تجاوزهم أو تجاهلهم وبروز مفاعيل جديدة لازمات لم تكن متوقعة بما فيها القاعدة والقرصنة وتنامي العداء واتساع رقعة الرأي العام المناهض للسياسات الأميركية، بما خلفته من مآسي وكوارث لم يعد بالإمكان حلحلتها ناهيك عن تداعياتها السلبية على المصالح الأميركية كل هذا كان مبرراً كافياً لتغيير بوصلة وأدوات التعاطي الأميركي ولكن بما يتلاءم وانجاز مشاريعه الكونية التي عجز عن تحقيقها بالتدخل العسكري المباشر أملاً في إعادة الوهج إلى القطبية الأحادية .
عوامل عديدة أدت إلى هذا التحول الطارئ أهمها: ازدياد أهمية المرتكزات الإستراتيجية التي تقوم عليها العلاقات الأميركية الإفريقية في عصر العولمة بما يتناغم مع محددات القرن الإفريقي الثابتة كالموقع والثروة وخطوط التجارة بما لها من أهمية في منظومة السياسة الكونية الأميركية، ناهيك عن تغير الرؤية الأميركية حيال الأزمات والصراعات التي تعاني منها المنطقة وإدراكها أهمية التركيز على المدخل السياسي والعسكري بما يخدم مصالحها الحيوية في منطقة القرن والبحيرات العظمى مستفيدة من فشل وإخفاق التركيز الأوربي على المدخل الاقتصادي والتنموي.
المشروع الأميركي في طابعه العام يطمح إلى حماية خطوط التجارة البحرية عبر المحيط الهندي والبحر الأحمر والوصول إلى مناطق الثروة ومصادر الطاقة ومحاصرة النظم غير الموالية واحتوائها ومحاربة التطرف والأصولية والحد من انتشار الأسلحة ودعم الأنظمة المتبنية للتصور الأميركي حيال الإرهاب خصوصاً وأن هذه المنطقة من المناطق التي تتكاثر فيها التهديدات لمصالح أميركا وحلفائها بصورة جعلتها ضمن الإستراتيجية الخاصة بالاحتواء خلال المرحلة المقبلة(2009 – 2015) .
آلية التنفيذ
مثلت عملية تفجير سفارتي أميركا في نيروبي ودار السلام في آب/ أغسطس 1998 وما صاحبها من ضربات عسكرية أميركية لمصنع الشفاء السوداني بدعوى استخدامه في صناعة أسلحة كيميائية لصالح ابن لادن نقلة نوعية على صعيد تزايد الاهتمام الأميركي بهذه المنطقة والمتعاظم بصورة لافتة ما بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 وما تمخض عنها من توجه نحو محاربة ما يسمى بالإرهاب ووضع السودان والصومال واليمن على قمة المرحلة الثانية لهذه الحرب بدعوى أنها توفر ملاذات آمنة للقاعدة وعناصرها الفارين من أفغانستان وبالتالي إنشاء قاعدة عسكرية أميركية في جيبوتي في حزيران/ يونيو 2003 وطرح مبادرة مكافحة الإرهاب في شرق إفريقيا وتأكيد مركزيتها في محاربة الإرهاب.
كل ذلك لم يكن سوى مقدمة لما هو اكبر من القاعدة والإرهاب وهو ما بدا واضحاً مع نهاية العام 2004م عندما أطلق البيت الأبيض مشروع القرن الإفريقي الكبير بالتزامن مع إعلان مشروع الشرق الأوسط الكبير والكشف عن التوجه لإنشاء القيادة العسكرية المركزية "آفريكوم" في شباط/ فبراير 2007م لتولي مهام على مستوى القارة الإفريقية باستثناء مصر, تمهيداً للانفراد الأميركي برقعة الشطرنج للشرق الأوسط والقرن الإفريقي والبحر الأحمر والبحيرات العظمى وهو طموح قائم ومستمر بغض النظر عن هوية حكام البيت الأبيض .
القرن الإفريقي الكبير في خضم الأحداث العاصفة بالمنطقة والسعي الأميركي المتواصل لاستغلالها لصالح أهدافه الإستراتيجية يبدو أنه سيكون من أكثر الساحات الكونية سخونة في العقد المقبل إذ من المتوقع حسب المصادر الأميركية أن يضم دول القرن الإفريقي التقليدية: جيبوتي والصومال وإثيوبيا وإريتريا وجنوب السودان بعد فصله المتوقع في استفتاء العام 2011 إلى جانب دول البحيرات العظمى: كينيا وأوغندا وتنزانيا والكونغو الديمقراطية وراوندا وبورندي .
القرن الإفريقي الكبير
في طابعه العام يحمل أبعاداً تتعدى توفير قاعدة إمدادات خلفية لمشاريع أميركا في الشرق الأوسط إلى إعادة ترتيب المنطقة بما ينسجم مع المصالح الأميركية الإستراتيجية في إفريقيا والشرق الأوسط وبما يكمِّل صورة الشرق الأوسط الكبير فيما يتعلق بخارطة النفط والغاز والإرهاب التي هي واحدة في مبانيها ومعانيها سواء في الشرق الأوسط أو أوراسيا أو شرق إفريقيا في حين نجد أن الإرهاب مجرد عامل تابع فيما النفط وهو الأساس في قائمة الاستثمارات الأميركية المستقبلية عامل مستقل والرهان هنا على النفط الإفريقي باعتباره المخزون الأكبر عالميا لاسيما في المنطقة الممتدة من السودان إلى سواحل كينيا وهو المحركة الأساسي لهذا المشروع.
في التفاصيل يطمح المشروع إلى الربط بين المناطق الحيوية ذات البعد الجيواستراتيجي كشرق إفريقيا والبحيرات العظمى بما يضمن الهيمنة على التفاعلات المستقبلية في هذا الجزء الهام من العالم على خلفية النجاح الأميركي النسبي في التركيز على المدخل السياسي والعسكري على حساب الفشل الاقتصادي والتنموي الأوربي بالتوازي مع توحد المخاوف الأميركية والأوربية من تنامي العلاقات الصينية الإفريقية ودخول إيران كلاعب أساسي وما ترتب على ذلك من تخفيف لحدة التنافس الأميركي- الأوربي في السنوات الأخيرة لصالح أميركا وتدعيم مواقفها في صراع الكبار وتحقيق رغبتها في الانفراد بالنفط الإفريقي ومحاصرة الإرهاب والدول المارقة كإيران وإريتريا ما بعد 2007 والرغبة في إقامة منطقة تحوي مجموعة المصالح الإستراتيجية الأميركية وتؤمنها .
المشروع الأميركي في بدايات ظهوره سعى إلى تحقيق هدفين هما: زيادة قدرات المنطقة في مجال إدارة الأزمات وحل الصراعات وتحسين الأمن الغذائي وهو ذات الطموح للمشروع الأوربي حيال شرق إفريقيا في 2006م لكنهما أصيبا بالفشل الذريع, ما دفع واشنطن إلى ابتكار آليات جديدة لتحقيق طموحاتها وأهدافها والتي صارت تستهدف إنشاء بنية تحتية لمصلحة شركات التعدين والنفط والصناعات العسكرية الأميركية والإسرائيلية وضمان الانفراد بالنفط باعتباره البديل المستقبلي لنفط الخليج العربي وبحر قزوين المهدد بالنضوب ومحاصرة نمو النفوذ الصيني والإيراني وخلق مناطق نفوذ تحقق المصالح الأميركية لاسيما وأن القرن والبحيرات لا يمكن فصلهما عن مجمل المصالح الأميركية في المنطقة برمتها .
الخطوط العريضة لمشروع القرن الإفريقي الكبير صحيح أنها متمحورة حول المصالح السياسية والعسكرية والاقتصادية بدرجة أساسية وقد حصلت واشنطن على الكثير من الامتيازات في هذا المجال لكن غير صحيح أن المشروع سيصيب في صالح شعوب المنطقة بدلالة عدم مغايرة محركاته الخفية لذلك الذي شاهدناه في الشرق الأوسط الكبير ما يعني أن الغاية من المشروعين تكميل عملية التقسيم الكانتوي للمنطقتين وإعادة رسم التوازنات الإقليمية وفقاً للمحددات الطائفية والعرقية في إطار إعادة النظر في تقسيمات اتفاقية سايكس بيكو وهو ما يكشف سر النزاعات العرقية والدينية التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الأخيرة والتي كان لأميركا وإسرائيل الدور الرئيسي في تأجيجها لاسيما تلك الناشبة بين المسيحية والإسلام .
ومعلومٌ أن دول منطقة القرن والبحيرات إما ذات أغلبية مسلمة كجيبوتي والصومال أو أغلبية مسيحية كأوغندا وكينيا أو مختلطة كأثيوبيا وتنزانيا وإريتريا كما تشكل قبائل التوتسي المسيحية امتداداً تداخلياً في معظم دول البحيرات ولها مساعي حثيثة لتحجيم قبائل الهوتو المسلمة التي بدأت تتراجع بصورة كبيرة أمام التوتسي بفعل الدعم الأميركي والإسرائيلي في وقت تشير فيه الإحصاءات إلى أن غالبية الصراعات المحلية ذات بعد ديني .
إذن فهناك مساعي واضحة لتغليب الكفة المسيحية على الكفة الإسلامية في منطقة القرن الإفريقي الكبير بدلالة ما نلاحظه من تحيز أميركي وغربي إلى جانب المسيحيين ورفع ممنهج لوتيرة الربط بين الإرهاب والإسلام رغم ذهاب الدراسات الغربية إلى أن المسيحيين كانوا أكثر تنفيذاً للعمليات الإرهابية وليس المسلمين كما هو الحال جيش الرب في أوغندا وهذا بدوره منسحب على أعمال القرصنة التي تم ربطها عن قصد مؤخراً بالإسلام وسط بروز المخاوف من توجه القوى الإسلامية الصومالية في حال استتب لها الأمر وتمكنت من إعادة توحيد الصومال تحت رايتها نحو تشكيل محور إسلامي ضاغط مع القوى الإسلامية السودانية على إثيوبيا الحليف الاستراتيجي لأميركا وإسرائيل والقائم عليها مزاد الرهان في إشراع الأبواب المؤصدة أمام المشروع الأميركي إلى جانب كينيا كما الرهان أيضا في قيادة الحرب بالوكالة على الإرهاب الإسلامي في شرق إفريقيا والحرب على الدول المارقة وتسهيل أي تحرك أميركي محتمل في حال تهديد المصالح الأميركية بالمنطقة والأهم ضمان أمن إسرائيل في مواجهة أي احتمالات مستقبلية لفرض قيود على مضايق البحر الأحمر والملاحة فيه .
قاعدة آفريكوم
عوامل عديدة أدت إلى التوجه لإنشائها وجعل إحدى دول القرن الإفريقي المقر الرئيسي لها أهمها: فشل التدخل العسكري في الصومال وفشل التدخل بالوكالة أيضا عبر إثيوبيا وتمكن إيران من تحويل نقاط الإخفاق الأميركية إلى مكاسب سواء فيما يتعلق بنسج علاقات وطيدة مع السودان أو متنامية مع اريتريا وعدد من الفصائل الإسلامية الصومالية بالتوازي مع تنامي أعمال القرصنة وظاهرة الإرهاب الدولي في الصحراء الإفريقية ومخاوف تحول الصومال إلى قاعدة إستراتيجية للقاعدة بعد محاصرتها في باكستان في الوقت الذي انصب فيه اهتمام إدارة أوباما على أفغانستان ومحور باكستان- الهند- إيران باعتباره المدخل الرئيسي لإحكام القبضة على شرق وجنوب آسيا وقاعدة الانطلاق لمحاصرة القاعدة والقوى الإسلامية المتطرفة مع بروز العديد من العوائق الحائلة دون ذلك والمنتجة بصورة أو بأخرى تداعيات كارثية بدت علاماتها واضحة في تزايد عنف القاعدة وأخواتها ونجاحها في نقل عناصرها إلى منطقة القرن والبحيرات العظمى وبناء قواعد هناك وسط رغبة جامحة لتحويل موريتانيا إلى قاعدة إنطلاق والسودان والصومال مع احتمال ضم اليمن إلى قاعدة مواجهة قادمة استعدادا لعرقلة المشروع الأميركي الإفريقي .
المبررات الأميركية السابقة تظل في حقيقتها ثانوية لسبب بسيط هو تزايد الاعتماد الأميركي على مصادر الطاقة الإفريقية وزيادة الضغوط على قوات كينتكوم واريوكوم نتيجة الحرب الدائرة في العراق وأفغانستان ولذا لم يكن أمام البيت الأبيض من خيار لتخفيف الضغط على قواته العاملة في أفغانستان والعراق سوى التوجه إلى إنشاء قيادة آفريكوم المركزية مستفيداً من وجود قاعدة له في جيبوتي لاسيما وان قوانينها لا تعارض الوجود الأجنبي على أراضيها كما لأميركا تواجد عسكري بحري وجوي قُبالة السواحل الصومالية ناهيك عن النجاح في استغلال أزمات المنطقة لصالح الحصول على امتيازات خاصة شملت الموافقات الصريحة بشأن إنشاء قواعد عسكرية أو تكثيف التواجد العسكري وكله سيصب في النهاية لصالح وضع اللبنة الأولى لمشروع القرن الإفريقي الكبير .
إنشاء القيادة من ناحية أخرى يشكل انعطافة مهمة على صعيد الاهتمام الأميركي بإفريقيا عموما والقرن الإفريقي خاصة ومنحه وزن اكبر بسبب تنامي حاجة أميركا للنفط الإفريقي وهي أيضا خطوة ضرورية في سياق الحرب الوقائية ضد القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي والحيلولة دون حصول القاعدة على ملآذات آمنة في القرن الإفريقي والبحيرات العظمى حيث تشعر واشنطن أن هذه المنطقة تشكل قاعدة خلفية للقاعدة والمصدر الرئيسي للتهديدات المحتملة مستقبلاً للمصالح الأميركية .
اللافت هنا انسجام هذا التوجه مع مساعي بناء قاعدة النفوذ الجديدة لتكتمل بذلك الصورة مع ما يجري في الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا ولذا لم يكن من قبيل المصادفة أن يتزامن هذا التوجه مع إعلان واشنطن إلغاء منظومة الدفاع الصاروخي من شرق أوربا في حين أن التحركات الأميركية في السنوات الأخيرة لم تكن سوى مقدمة لتأسيس وضع جديد وإحداث جنية من التوازنات داخل إفريقيا بالتوازي مع تكثيف الوجود العسكري وتشكيل قيادة فرعية ضمن القيادة الوسطى الممتدة من آسيا الوسطى إلى القرن الإفريقي بغرض تنسيق العمليات ضد الإرهاب كما هو حال القوات المشتركة في القرن الإفريقي تمهيداً لإخراج قيادة آفريكوم إلى حيز الوجود وبذلك تكون أميركا قد ضمنت تدويل الأزمات والبحار وخصوصاً البحر الأحمر وخليج عدن وقناة السويس وباب المندب إلى جانب ضمان تدويل منابع مياه نهر النيل وتهيئة البيئة لتمرير أجندتها وتهيئة المناخ السياسي العام لأي مواجهة محتملة مع إيران سواء كانت مباشرة أو بالوكالة عبر إسرائيل وضمان الاستجابة الفورية والتدخل السريع في أوقات الأزمات والاهم من هذا وذاك ضمان الانفراد بتدوير لعبة التنافس القائمة بما يحقق مصالحها الإستراتيجية الآنية والمستقبلية .
الأجندة الإسرائيلية
الاهتمام الإسرائيلي بمنطقة القرن الإفريقي والبحيرات العظمى منسجم كليةً مع الاهتمام الأميركي كون هذه المنطقة تشكل أهم موقع استراتيجي من الناحية الأمنية منذ ولادة الدولة العبرية ونقطة الارتكاز لتحقيق الاتصال بوسط وجنوب إفريقيا وتحقيق مصالح إسرائيل الاقتصادية والأمنية ولذا نجدها شديدة الحرص على إيجاد عمق لها في البحر الأحمر والقرن الإفريقي بما في ذلك إنشاء قواعد عسكرية في بعض دوله كإريتريا بما يتيح لها رصد أي نشاط عسكري عربي ضدها واستخدام التفوق الإسرائيلي لكسر أي حصار عربي مستقبلاً ضد إسرائيل وسفنها في البحر الأحمر ومدخله الجنوبي وكسر دائرة العزلة العربية على إسرائيل وبالتالي ضمان الاتصال والأمن للخطوط البحرية العسكرية والتجارية من المحيط الهندي إلى البحر الأبيض المتوسط والحيلولة دون أن يكون البحر الأحمر بحراً عربياً خالصاً.
استخدمت إسرائيل العديد من الأساليب لتمرير أجندتها مستغلة وجود أقليات يهودية في منطقة القرن الإفريقي بما لها من دور في تغذية الصراعات العرقية والطائفية والحدودية وتوظيفها لصالح السياسات الإسرائيلية واللعب على المتناقضات الفجة واستغلال كل الثغرات حتى يبقى قادة الأقليات الحاكمة في المنطقة مرتبطين بتل أبيب وسياساتها كما استغلت علاقاتها مع إثيوبيا وإريتريا على سبيل المثال ضد السودان واليمن إلى جانب دعمها طموحات الانفصال كما في بونت لاند الصومالية ومحاولة استغلالها الحرب الدائرة هناك للفوز بتأجير ميناء بربرة أو على الأقل الفوز بتعهد إقليم صوماليا لاند بتقديم تسهيلات وامتيازات لاستخدام الميناء ناهيك عن مساعيها الدءوبة للحيلولة دون وجود حكومات قوية خاصة ذات التوجه العربي أو الإسلامي والترويج لوجود علاقات وثيقة بين الإسلاميين والقاعدة والقراصنة وتشكيل ورقة ضغط على السودان ومصر من خلال مساعي تدويل منابع نهر النيل وضرب القوى الإسلامية واستكمال مخطط نقل يهود الفلاشا من المنطقة وسط رغبة جامحة في السيطرة والتغلغل الكامل في شؤون دول شرق إفريقيا والبحر الأحمر وتأمين نطاق الأمن الحيوي الجنوبي لإسرائيل حيث المدخل الجنوبي للبحر الأحمر واكتساب وسيلة ضغط جديدة على الدول العربية لدفعها نحو التطبيع المجاني والسلام الاقتصادي والانخراط في المواجهة المحتملة مع إيران.
الأجندة الإيرانية
لإيران طموح قديم في الوصول إلى البحر الأحمر والقرن الإفريقي ولذا لم يكن غريباً أن يحتل هذا الطموح مكانة خاصة في قائمة اهتمامات السياسة الإيرانية الخارجية في السنوات الأخيرة وتحديداً ما بعد وصول محمود أحمدي نجاد إلى الحكم في 2005م وما صاحب ذلك من توجه ممنهج لنقل الحرب من مضيق هرمز والخليج العربي إلى خليج عدن وباب المندب بدلالة خروج التدخل الإيراني في الشؤون الداخلية للمنطقة من دائرة السرية والمراوغة إلى دائرة العلن والتدخل المباشر بما ينسجم وتوسيع نطاق ما أسمته طهران "الجهاد البحري" باعتباره يشكل المدخل الرئيسي لإستراتيجية السيطرة على الممرات المائية تحسباً لأي انفجار محتمل مع الغرب حول ملفها النووي ناهيك عن طموحات فتح ممرات بحرية وبرية تسهل الوصول إلى مناطق الأزمات في الشرق الأوسط عبر تأمين وجود إيراني قريب من هذه المناطق وتوفير أوراق ضغط جديدة للمساومة في الشرق الأوسط .
أسباب عديدة أدت إلى تسليط الضوء على المشروع الإيراني في المنطقة المتغول على خلفية مفاعيل التدخل الأميركي المباشر ما بعد حربي الخليج الثانية والثالثة بما لهما من إفرازات على صعيد الجدل العربي الرسمي حول المشروع الإيراني وخطورته على المنطقة والتحولات السياسية الخارجية لإيران القائمة على التدخل المباشر وسط غياب فاقع لأي مشروع أفرو - عربي متفق عليه- مؤثر ومكافئ- والاكتفاء في كثير من الأحيان بدور المتأثر في حين أتاحت الإخفاقات الأميركية في منطقة القرن الإفريقي والبحيرات العظمى على خلفية عدم وفاء واشنطن بالتزاماتها تجاه حلفائها هناك لطهران فرصة طالما حلُمت بها لنسج علاقات اقتصادية وسياسية وأمنية خصوصاً مع السودان واريتريا وبعض الفصائل الصومالية الإسلامية وغيرها و تعزيز وجودها العسكري البحري في البحر الأحمر وخليج عدن وقُبالة السواحل الصومالية تحت ذريعة محاربة القرصنة إلى جانب وجود قاعدة عسكرية إيرانية في ميناء عصب الاريتري والقيام بتهريب الأسلحة إلى الحركات المتمردة في اليمن والصومال وتسهيل نقل عناصر القاعدة من أفغانستان إلى جنوب اليمن وكذا تدريب عناصر التمرد الحوثي بمعسكر دنقللو الاريتري وإلحاحها المتكرر على صنعاء لتدوير وتنشيط ميناء ميدي..الخ .
كل هذا إن دل على شيء فهو يدل على أن إيران بدأت من الناحية العملية بنقل معركتها إلى منطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر ما دفع العديد من المراقبين للنشاط الإيراني غير الطبيعي مؤخراً في المنطقة إلى الجزم بأن البحر الأحمر مرشح في المرحلة المقبلة ليكون حلبة جديدة لمواجهات مسلحة إقليمية دولية بما لذلك من تداعيات كارثية على الصومال والسودان واليمن وربما دول افريقية أخرى على خلفية الحراك الإيراني غير المسبوق لفتح جبهات جديدة في القرن الإفريقي خصوصاً وأن الاتفاقية الأمنية الإسرائيلية الأميركية المبرمة قبل مغادرة بوش الابن البيت الأبيض بستة أشهر – منتصف 2008 - قد بدأت سريانها من خلال إستراتيجية جديدة يتم رسمها في البحر الأحمر والمحيط الهندي حيث الصراع الدولي المحتمل لسبب بسيط هو قيام تلك الاتفاقية على منهجية تجزئة الأمن الاستراتيجي لمنطقة البحر الأحمر وهو ما تتحسب له إيران جيداً كما تدرك بأن هذا ليس سوى مقدمة لحصارها بحرياً في وقت باتت فيه تعاني شبه عزلة عربية وإسلامية ودولية، بدلالة إقدامها في منتصف نوفمبر الماضي على تعزيز قواتها البحرية المتواجدة في البحر الأحمر وخليج عدن بالأسطول الرابع .
الأجندة الإيرانية في إطارها العام ترمي إلى تعقيد حياة الأميركيين في الجزيرة العربية والقرن الإفريقي وإحباط المخطط الغربي لتشديد الحصار البحري عليها في مياه الشرق الأوسط وإيجاد قاعدة انطلاق نحو شرق إفريقيا حيث تدور حروب مكملة لما يجري في العراق وأفغانستان وصولا إلى خلق إستراتيجية أمنية إقليمية تضطلع فيها إيران بدور المهيمن الطارد لأي وجود قوي من قبل أية قوة اقليمية أخرى وبالتالي جر أميركا إلى طاولة مفاوضات جديدة.
غير أن الصورة مختلفة تماما في إطارها الخفي كون إيران مدركة تماماً بأن المنطقة بأسرها مقدمة على تغييرات شاملة بما فيها إعادة تشكيل التحالفات والتوازنات ومحاولات الدفع بمشروعي الشرق الأوسط الكبير والقرن الإفريقي الكبير إلى الأمام ولذا فهي أمام خيارات لم يعد بالإمكان استبعادها من قائمة التعاطي الدبلوماسي والسياسي مع قضايا المنطقة بما فيها التدخل المباشر في سباق مع الزمن لإثبات كينونتها وحضورها وأنها صارت فاعلاً إقليمياً ودولياً لم يعد ممكنا تجاوزه في التوازنات المتوحرة في رحم المرحلة المقبلة ولو كان ذلك على حساب علاقاتها مع دول المنطقة وشعوبها وأمنها واستقرارها مادام وأنه في خاتمة المطاف سيضمن لها فرض أجندتها على طاولة لعبة الكبار.
التحرك الإيراني لفرض أجندته يأتي في سياق إستراتيجية واسعة يتداخل فيها الإقليمي بالدولي ولذا لا تأخذنا الدهشة أمام ما نشاهده من توافق غريب وعجيب بين الأجندة الأميركية والإسرائيلية والإيرانية وشراكة إستراتيجية واضحة على تفكيك واقع المنطقة في شكل تغيير في الخرائط السياسية من جهة وعن طريق الدمج الكتلوي المعتمد أساساً على التناقضات المذهبية والطائفية والعرقية وصولاً إلى حافة التصادم الذي ينتهي بالتقسيم والتفتيت والاحتراب والتشرذم وهو الدافع الحقيقي طبعاً للتدخل الإيراني في شؤون المنطقة المستمد قوته ليس من القدرة على فعل التدخل في المحيط الخارجي وإنما من صلب الشراكة القائمة بين الأجندات الثلاثة .
المصادر
- أحمد إبراهيم, الدور الإسرائيلي في إشعال حرب الصومال , الجزيرة نت , 7 كانون الثاني/يناير 2007.
- رداد السلامي, الصراع العالمي على القرن الإفريقي واليمن, موقع التغييرنت , 13 تشرين الأول /اكتوبر2009.
- سامي السيد أحمد محمد, القرن الإفريقي..صراع دولي على النفط والجغرافيا ,معهد البحوث والدراسات الإفريقية.
- د.عبدالكريم العجمي الزياني, القرن الإفريقي , موقع اللواء الأخضر – ليبيا .
- فؤاد معمر, القرن الإفريقي الكبير .. مشروع أميركي لحرب جديدة في إفريقيا, مركز الناطور للدراسات , 11 تشرين الثاني/نوفمبر2009.
- نجيب اليافعي, الإستراتيجية الدائمة لإيران في النفوذ باتجاه الممرات المائية والنفط , صحيفة الأهالي اليمنية , 27 تشرين الأول/أكتوبر 2009.
- د.أبا الحكم, التصعيد في صعدة .. بداية تفكيك المنطقة , موقع شبكة البصرة , 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2009 .
- الوجود الأميركي في القرن الإفريقي , ندوة علمية, مركز الراصد للدراسات السياسية والإستراتيجية , 31 أيار/ مايو 2009.
- الصراع في القرن الإفريقي, ملف خاص, موقع موسوعة مقاتل من الصحراء.
الأربعاء، 19 أغسطس 2009
هل كان اليمن موحد تاريخياً
بقلم// زيد يحيى المحبشي
وحدة اليمن أرضاً وإنساناً من المسلمات الثابتة ثبوت وجود الشعب اليمني والأرض اليمنية منذ أن تمكن يعرب بن قحطان الجد الجامع لهذا الشعب من إقامة أول وحدة يعربية يمانية في الألف الخامسة قبل الميلاد، ومن حينها شكلت الوحدة الهدف الجامع لكافة ملوك وأمراء اليمن سواء في التاريخ القديم أو الوسيط أو الحديث والسمة الغالبة على تاريخ هذا الشعب والقاعدة العاكسة جوهر الإرادة اليمنية الطامحة دوماً إلى التوحد والاتحاد باعتبار ذلك من عوامل القوة في مواجهة أخطار الطبيعة وتطويعها لصالح الإنسان اليمني ومواجهة الأطماع الخارجية بعناوينها المختلفة.
وفي الاتجاه الأخرى شكلت حالة التجزئة والانشطار التي شابت اليمن في بعض المراحل التاريخية على مر العصور ظاهرة استثنائية وعابرة فرضتها ظروف استثنائية وصنعتها إرادة غير يمنية أي أنها لم تكن في يوم من الأيام أمراً طبيعياً بل ظاهرة غريبة ودخيلة على اليمن وشعبه وتاريخه الوحدوي المشرق.
ورغم ما صاحب ذلك من جدل عقيم حول ما إذا كانت الوحدة القاعدة والتجزئة الاستثناء أم العكس؟ فما نجده من خلال قراءتنا السريعة لتاريخ اليمن الوحدوي منذ الألف الخامسة قبل الميلادي وحتى استعادة اليمن عافيته والتئام جسده الواحد في 22 أيار/ مايو 1990 هو تأكيد حقيقة أن فترات التوحد كانت على الدوام الأطول زمنياً وكانت على الدوام عامل أمان واستقرار وانتعاش اقتصادي وفكري وحضاري ليس لليمن فحسب بل ولمحيطها الإقليمي في حين كانت فترات التجزئة قصيرة جداً, كما أن ما شهدته اليمن من ممالك ودول متعددة سواء قبل الإسلام أو بعد استقلال اليمن عن الدولة العباسية وصولاً إلى العام 1914 إنما كان تعدد وتنوع يثير قاعدة التوحد ويعززها لسببين هما: استمرار بقاء التواصل والاتصال الثقافي والمعيشي, ناهيك عن حرية تنقل الناس, فيما بينها وعدم تجاوز سقف الاختلاف المستوى السياسي دون أن يتعداه إلى المستويات الأخرى سواء كانت اقتصادية أو ثقافية أو اجتماعية, وهو ما حافظ على وحدة الشعب ووحدة خصائصه ,كما لم تشهد تلك الفترة وجود حدود سياسية مرسومة بالمعنى المتعارف عليه بين الدول.
منذ العام 1914 بدأت مرحلة جديدة في التاريخ اليمني عندما شرع الانجليز والعثمانيين في تقسيم مناطق نفوذهما وترسيم الحدود بينهما وهو ما مثل سابقة خطيرة على صعيد التجزئة السياسية لأول مرة في تاريخ هذا الشعب والمتعمقة بصورة أكبر عقب رفض الإمام يحيى استلام المناطق الجنوبية التي كانت تحت نفوذ الأتراك إثر انسحابهم من شمال اليمن في العام 1919 وصولاً إلى الاعتراف بالتجزئة كسياسة أمر واقع عندما وقع الإمام في 1934 معاهدة اعتراف وصداقة مع الإنجليز تضمنت الإبقاء على الوضع القائم بالمناطق الجنوبية والشرقية كما هو لأربعة عقود قادمة من تاريخه ومن حينها بدأ الجدل وبدأت مفاهيم الجنوب والشمال تشق طريقها إلى المشهد السياسي.
إن ما تمر به اليمن اليوم هو في حقيقته اجترار شائه واستنساخ مشوهه غايته نسف الصفحة المشرقة لتاريخ اليمن الواحد في أرضه وإنسانه وخواصه الثقافية والحضارية والنفسية والسلوكية الواحدة الموحدة منذ سبعة آلاف سنة.
كل هذا يضعنا أمام سؤال محوري ومصيري هو: هل كانت اليمن فعلاً مجزأة تاريخياً؟, بدلاً من: هل كانت اليمن موحدة تاريخياً؟ ورغم أن الصيغة الأخيرة غير قابلة للشك والتشكيك عكس الصيغة الأولى إلا أن ما شهدته من رواج وجدل ترفي في أوساط الحالمين بعودة عهود السلاطين وعهود الرجعية والتخلف دفعنا إلى هذه القراءة السريعة لتاريخ اليمن الموحد بغية إزالة اللبس والتشكيك وتأكيداً لحقيقة انتصار الصوت الوحدوي في كافة مراحل التاريخ اليمني على الأصوات النشّازة لدعاة الفتنة والتجزئة.
الوحدة اليمنية قبل الإسلام
ذكرت اليمن في الكثير من الكتب القديمة كالتوراة وكتب مؤرخي الإغريق واليونان ووصفت باليمن السعيد ولم يوصف أي بلد غيرها بهذا، ووصفها القرآن الكريم بالجنة والبلدة الطيبة، ولم يصف أي بلد سواها بهذا, وخصها بسورتي سبأ والأحقاف ولم تكن سبأ سوى مملكة اليمن القديمة وهو تعبير لغوي مجازي المقصود منه السلطة اليمنية والشعب اليمني وحضارته الضاربة التي قامت بسبأ مأرب وأحقاف حضرموت.
وسبأ والأحقاف أسماء لمناطق يمانية وفي القصص القرآني نال اليمن ورجاله نصيباً كبيراً منها كأصحاب الجنة وقصص الأخدود والفيل وأبرهة وإرم ذات العماد وذو القرنين السيار وملكة سبأ والسيل العرم وقوم تبع.
وعندما أسلم أهل اليمن طواعية خصهم الله بسورة النصر فيما قال الرسول وهو يستقبل وفودهم [جاءكم أهل اليمن ....]. هكذا تحدث القرآن والرسول الخاتم عن أهل اليمن ومملكة سبأ في إطار منطق الوحدة وليس منطق التجزئة وعن مكانة هذا البلد ودوره الحضاري قبل مجيء الرسول الخاتم على أن هذا الدور وتلك المكانة لم تأتي من فراغ بل كان هناك شعب عظيم وقادة كبار استطاعوا توحيد أيادي سبأ منذ فجر التاريخ في كيان حضاري موحد توفرت له كل أسباب القوة والازدهار بما جعله يصل إلى مستوى تنظيم نفسه في نظم سياسية قوية فرضت نفسها على قبائل الجزيرة العربية وما وراءها من الأمم وما كان لها أن تصل إلى هذا المستوى لو لم تكن موحدة أرضاً وإنساناً في وقت تعاقبت على حكم اليمن العديد من الممالك هي معين وسبأ وحمير وفي فلكها أوسان وقتبان وحضرموت.. إلخ.
وهذه الممالك هي التي تم العثور على آثار تدل عليها والبالغة نحو 5 آلاف نقش أثري كلها تخلص إلى حقيقة واحدة هي اشتراك القادة الكبار لهذه الدول في مساعي تحقيق الوحدة اليمنية والحفاظ عليها، وان بين كل وحدة وأخرى فترات من الضعف والتفكك العابرة, كما تم تحقيق نوعين من الوحدة في تلك العهود, الأول: وحدة شاملة ضمت اليمن والجزيرة العربية وما وراءها من الأمم وأبرز قادتها يعرب وسبأ والحارث الرائش وذو القرنين وكرب آل وتر وغيرهم والثانية وحدة وطنية اقتصرت على اليمن أو الجزء الأكبر منه كما هو حال دولة حضرموت وأوسان وحبان وسمعي حاشد قبل الإسلام , والرسوليين والصليحيين في التاريخ الوسيط.... وفي كليهما فقد كان لتوحد اليمن أهمية كبيرة في استقرار وأمن الجزيرة العربية والعكس في حالة التفرق والتشرذم وهذه الحقيقة لا تزال السمة الغالبة إلى يومنا كون اليمن المركز الرئيسي للأمن والاستقرار الإقليمي نظراً لأهميتها الموقعية والجيوسياسية.
وإجمالاً فقد مرَّ اليمن قبل ظهور الإسلام بمرحلتين هما المرحلة المشرقة واستمرت من القرن 15 قبل الميلاد وحتى العام 115 ق. م وهي مرحلة الدولة السبئية والمرحلة المظلمة واستمرت من 50 ق. م وحتى القرن السادس الميلادي وهي مرحلة الدولة الحميرية وذلك بسبب وقوعها تحت تأثير الأطماع الخارجية كالبطالسة اليونان والرومان والأحباش والفرس..
الممالك القديمة الكبرى
- معين: وهو اللقب الثاني لعبد شمس بن يشجب بن يعرب إلى جانب لقب الشهرة سبأ الأكبر ومعين وسبأ من أعظم دول العهد القديم وبينهما تداخل كبير، ظهرت معين من الجوف في نحو 4000- 900 ق. م وقد عثر على نصب تذكاري بابلي ذُكرت فيه معين وصِلاتها بمملكة بابل يعود تاريخه إلى 3750 ق. م وما يهمنا هنا أن هذه الدولة كانت دولة تجارة وفتح اقتصادي وسلام وفي عهدها تحققت وحدة اليمن والجزيرة ووصل نفوذها الاقتصادي إلى حوض البحر الأبيض المتوسط وإليها يعود فضل اكتشاف فنون الملاحة البحرية وكان نظام الحكم فيها ملكي وراثي معتدل واستشاري على أن تدخل الملك فيها اقتصر على المسائل العليا المتعلقة بحقوق الملك والشعب فقط.
- سبأ: مؤسسها سبأ الأكبر بن يشجب بن يعرب ومرت بمرحلتين هما: سبأ الأولى وكانت معاصرة للحضارة السومرية في بلاد الرافدين وقد عثر على وثائق سومرية تعود إلى الفترة 5000- 3500 ق. م تكلمت عن وجود علاقات ربطتها بمملكة سبأ الأولى السابقة لظهور معين, وسبأ الثانية قامت خلال الفترة 950- 115 ق. م واستطاعت القضاء على معين والحلول مكانها وكانت دولة حروب وفتح وكانت لها صلات مع ملوك آشور وأكثر ملوك سبأ كانوا من موحدي اليمن والجزيرة العربية و ينقسم عهد سبأ إلى مرحلتين هما: مرحلة المكارب 850- 620 ق. م وفي عهدهم تم الجمع بين الحكم والكهانة والرياسة الدينية, فمرحلة الملوك 610- 115 ق. م وإجمالاً فقد لاقت سبأ مقاومة عنيفة من ملوك وأمراء الإقطاع الذين اصطدمت سياسة توسع سبأ بمصالحهم واستقلالهم, على أن النظام فيها كان ديني أكثر منه سياسي.
- حمير: تعود نسبتها إلى حمير بن سبأ, قامت خلال الفترة 115 ق. م- 525 م ويسمى عهدها بعهد التبابعة وفي عهدها تطورت الألقاب الرسمية للملوك تبعاً لتوسع نفوذ الدولة وشهدت بعض فتراتها توحد اليمن والجزيرة وإجمالاً فقد كانت سبأ المملكة وحمير الملوك والدولة وكان بينها وبين ملوك سبأ وكهلان تنافس وتداخل ,لا صراع وتنافر وكل منهما كان يسعى لتوحيد اليمن تحت نفوذه بشتى الوسائل من تحالفات ومعاهدات واندماجات وحروب.
صانعو الوحدة قبل الإسلام
زخرت مرحلة ما قبل ظهور الإسلام بالعديد من عمالقة التوحيد منهم على سبيل المثال:
- يعرب بن قحطان في نحو 5700- 5000 ق. م: وهو الجد الجامع لكل اليمنيين والعرب وأول الملوك في التاريخ القديم وأول من أقام دولة يمانية موحدة وعاصمتها صنعاء دامت من بعده قرابة 500 سنة.
وإسمه يمان أو يمن أو يامن حسب الهمداني وبه سميت اليمن وكونه أول من اشتق وحذف واختصر وأوجز وأعرب في كلامه لقب بيعرب ومن حينها ظهر اسم العرب وفي هذا يقول بن أبي الحديد في الجزء الثاني من شرح نهج البلاغة ص 495 "إن يعرب أول من أقام دولة يمانية عربية في التاريخ القديم، أي وحدّ القبائل القحطانية وكانت قد تكاثرت وانتشرت وانتقلت إلى أطوار الحضارة بما جعلهم يقيمون دولتهم".
- عبد شمس - سبأ الأكبر- بن يشجب بن يعرب نحو 3750- 3500 ق. م: وهو أول من أعاد وحدة اليمن الطبيعية مع الجزيرة العربية واهتم بالزراعة والري والتجارة وأكثر من الغزو وأسس الإمبراطورية السبئية بعهديها المعيني والسبئي وكان يمارس السلطة بواسطة ممثلين عن الشعب من ثلاث طبقات هي المزود والأقيال والأذواء.
- عبد شمس وايل – سبأ الثاني- بن وائل بن الغوث نحو 2750 ق. م: وهو ثالث الموحدين وإليه يعود فضل إنشاء سد مأرب ومن بعده ظلت اليمن موحدة في عهد خلفائه.
- تبع ذي مرائد- الرائد تبع الأكبر- نحو 2150 ق. م: وهو الموحد الرابع وبقيت اليمن موحدة في عهد ابنه شمر ذو الجناحين الأول والملك الصعب ذو القرنين السيار وهو تبع بن تبع الأقرن بن شمر يرعش بن إفريقيس وبقيت اليمن موحدة إلى أن وصل إلى الحكم الملك شدد بن قيس بن صيفي في نحو 1500 ق. م .. وصولاً إلى أخر الموحدين قبل الإسلام وهو سيف بن ذي يزن 575-596م.
وفي المحصلة فما يهمنا هنا هو إشتهار هذا العهد بالكثير من العمالقة الذين استطاعوا أن يوحدوا اليمن والجزيرة وأن يفرضوا أنفسهم على غيرهم من الأمم وبين كل وحدة وأخرى فترة ضعف ووهن وتشرذم لكنها ظلت في الحدود السياسية دون أن تطال الجوانب الأخرى كما كان هناك تنافس بين ملوك اليمن في تلك الحقبة ترك بصماته على المنطقة ولذا كان من الطبيعي أن يجتمع باجتماع ملوك اليمن وتوحدهم العرب ويفترقون لتفرقهم.
مظاهر الوحدة
- وحدة الأرض والإنسان: بإجماع المؤرخين ظلت اليمن في مساحتها الطبيعية وحدة لا تتجزأ منذ أن سكنها نبي الله نوح وحتى منتصف العقد الثالث من القرن العشرين مع عدم ورود أي ذكر لشمال أو جنوب وعليه يحدد المؤرخون مساحتها الطبيعية بالقسم الجنوبي من شبه الجزيرة العربية والذي يشمل اليوم الجمهورية اليمنية وسلطنة عمان والجزء الأعظم من جنوب العربية السعودية وهي الأرض التي أخذت مسماها من الملك يمن بن قحطان الملقب بيعرب - وقحطان ليس الأب المباشر ليعرب بل بينهما نحو ثلاثة آلاف سنة- وسمي شعبها باليمنيين ودولتها باليمن ومن ذرية هذا الملك تناسلت قبائل العرب قاطبة يقول ابن هشام "ان يعرب بن قحطان سمي يمناً وبه سميت اليمن" ويضيف ابن منظور "وهو أبو اليمن كلهم".
ولا زالت القبائل اليمنية عبر العصور تحتفظ بأنسابها وأصولها وفروعها المكونة فيما بينها نسيجاً اجتماعياً واحداً ناهيك عن التجانس في العادات والتقاليد والقيم والأهداف والهموم والطموحات والتطلعات.
- الوحدة الاقتصادية والحضارية: من الأمور اللافتة إدراك الممالك اليمنية المبكر لمساوئ تعدد الكيانات القبلية ذات النفوذ المحلي والكيانات الإقطاعية لما لها من ضرر على وحدة اليمن فحاولت تلافي ذلك عبر إقامة روابط اجتماعية على أسس اقتصادية قُسمت بموجبها قبائل اليمن إلى وحدات مجمعة زراعية وصناعية ومهنية... وربطت بينها بروابط العمل والإنتاج بدلاً من أواصل القرابة والدم أي أن تلك الممالك فضلت ربط القبائل بالروابط الدينية والاجتماعية والاقتصادية لا رابطة الدم والنسب وعلى أساسه برز ما يسمى بالعمل الجماعي التعاوني, هذا وقد تعددت صور الحضارات القديمة ما نجد دلالته في آثارها ونقوشها وفي وضع أسس السدود وإنشاء المحافد والمدن والقصور والمدرجات الزراعية والمعابد وشبكات الري والصهاريج والحاميات التجارية والمنارات, كما أقامت مستوطنات حضارية في مختلف المناطق وسنت ما يستلزمها من التشريعات والتنظيمات... على أن الطابع العام للنظام السائد قبل الإسلام هو النظام الإقطاعي, لكنه كان أقرب إلى التعاونيات الجماعية, فيما كانت الحياة الاجتماعية تتسم بالطابع القبلي مع هيمنة واضحة للسلطة الدينية.
كما شهدت تلك الفترة حضارة إنسانية رفيعة من أبرز مظاهرها اللغة السبئية القديمة والخط المسند, كما أظهرت الآثار والنقوش المنتشرة في أنحاء اليمن تشابهاً وتجانساً كبيراً بين أسماء الأوائل في السكن ومحال الإقامة.
- الوحدة السياسية: ضم اليمن عدداً من مراكز القوى الساعي كل منها إلى مد النفوذ والاستقطاب على سائر المجال الحيوي لليمن، في وقت كانت الوحدة فيه تمثل قوة وسلاح في وجوه الأعداء وغضب الطبيعة وغالباً ما كان يصحبها نظم سياسية شوروية تعطي للشعب حق المشاركة الفعلية في صناعة القرار سواء عبر اتحادات مجالس القبائل أو المجالس الاستشارية (المسود).
ومن مظاهر الوحدة السياسية أيضاً الأسماء والمسميات التي أطلقت على الأماكن والتعاريف الفنية منها المحفد والمخلاف حيث أطلق الأول على القصور والقلاع المحصنة والثاني على الأقاليم وهي تسميات إدارية, ويعد يعرب أول من قسم جزيرة العرب إلى ولايات وجعل على كل منها والي فيما كان سبأ بن حمير أول من وضع التقسيمات الإدارية فجعل المحفد مسمى للناحية أو المديرية عليها أمير والمخلاف مسمى للإقليم عليه قيل, وحسب الهمداني فإن عدد المخاليف وصلت إلى 30 مخلاف يمني سُمي كلٌ منها بمن سكنه من ملوك حمير وكهلان المتغلبين في عصورهم وهو ما جعل أسماء أماكن سُكنة الممالك اليمنية القديمة وأسماء أعلامها ومشاهيرها متشابهة ومتجانسة.
العوامل المؤثرة على وحدة اليمن
يأتي في مقدمتها نزعات التسيد والاستئثار بالسلطة إلى جانب العوائق الطبيعية والنزعات السياسية وجماعات المصالح والضغط خصوصاً أمراء الإقطاع مع دخول العامل الخارجي منذ النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد وتحديداً في 24 ق. م عندما حاول الرومان احتلال اليمن ومن بعدهم الأحباش والبطالسة اليونان والفرس وما أوجده هذا التنافس الحاد على اليمن من صراع وتعصب أيديولوجي وفكري لازالت اليمن تكتوي بناره إلى يومنا..ناهيك عن ضعف بعض ملوك تلك الحقبة وخلودهم إلى الترف والاسترخاء وتخليهم عن القيم السياسية لبناء الأسرة والمجتمع والفرد وهو ما جعل القرون السبعة المستبقة ظهور الإسلام نقطة مظلمة في تاريخ اليمن القديم باستثناء فترات متقطعة منها.
الوحدة اليمنية في عهد الإسلام
أتى الإسلام واليمن في ذروة الانقسام والتشرذم والتمزق والحروب ما جعل أبنائه يسارعون إلى اعتناق هذا الدين طواعية لأنهم وجدوا فيه الطريقة المثلى لاستعادة وحدتهم وبالفعل تمكن الرسول الخاتم من توحيد أبناء اليمن والقضاء على الطبقات وحكومات الأقاليم والأقيال فأرسل إلها رجالاً كثيرين ليسوا جميعاً حُكاماً أو ولاة بقدر ما كانوا يحققون التوعية بالإسلام وتحقيق سيادة الدولة المركزية وبالتالي التعامل مع اليمن كوحدة إدارية وسياسية متكاملة وهكذا ظل التعامل بعهد الرسول والخلفاء الراشدين والعهد الأموي وشطراً من العهد العباسي إلى أن شهدت اليمن قيام أول إمارة مستقلة في عهد المأمون العباسي.
واللافت هنا أنه رغم نجاح الرسول في معالجة الصراع والتعصب الأيديولوجي والفكري الذي ساد اليمن قبل ظهور الإسلام, لكن ذلك سرعان ما عاد إلى الواجهة تحت مسميات آخر مع نهاية عهد الخلفاء الراشدين وما صاحبه من صراع وتعصب أيديولوجي وفكري بين العلويين والأمويين وبين الأمويين والعباسيين والعلوية والإسماعيلية وغيرها, فكان اليمن وشعبه الأكثر تأثراً وإكتواءاً بمياسيمها إلى يومنا وهو ما حال دون توحد اليمن بعدها باستثناء فترات متقطعة ولعقود, كما أتاح ذلك فسحة وفرصة ذهبية للأطماع الخارجية في اليمن كالعثمانيين والفرس والجراكسة والأيوبيين،والفاطميين والمماليك والاستعمار الغربي وما بينهما شهدت اليمن العديد من الإمارات والممالك والدول كانت تتوسع وتنكمش حسب الظروف الداخلية والخارجية وشخصية الحكام.
صانعو الوحدة في العصر الوسيط
- محمد بن عبدالله بن زياد: وهو أول الموحدين في العصر الوسيط لمعظم أجزاء اليمن وأول من أقام إمارة يمنية مستقلة عن العباسيين في عام 819م /207هـ واستمرت نحو 200 عام وتوحدت اليمن في عهده لمدة ثلاثة عقود ومما ساعده على ذلك تحقيقه لبعض الإصلاحات العمرانية والثقافية ومن بعده تمكن حسين سلامه مولى بني زياد من توحيد اليمن لفترة قصيرة وامتد سلطانه من الشحر إلى مكة المكرمة.
- علي بن مهدي الحميري: تمكن في 1159 م من القضاء على الدولة النجاحية في تهامة وإخضاع معظم أجزاء اليمن وإقامة نظام قريب من الاشتراكية وهو ما أثار القوى الإقطاعية ضده وبالتالي التحالف مع الأيوبيين لإسقاط دولته في 1173م.
وبالفعل استطاع الأيوبيين بالتعاون مع أمراء الإقطاع المحليين من السيطرة على اليمن وتوحيده تحت حكمهم باستثناء القسم الأعلى الواقع تحت نفوذ الأئمة.
- علي بن الفضل الخنفري 889- 914م: كان هدفه توحيد اليمن وقد اشتملت دولته على أغلب أجزاء اليمن لكن ذلك لم يدم سوى 17 عاماً ومما ساعده على ذلك نجاحه في إسقاط إمارات الإقطاعيين.
- عمر بن علي بن رسول 1230- 1455م: أحد أشهر موحدي اليمن بعد الإسلام واستمرت في عهد خلفائه قرابة 93 سنة ووصل نفوذه الأدبي إلى عمان شرقاً والحجاز غرباً.
- علي محمد الصليحي 1048- 1150م: ثاني الموحدين لليمن بكاملها بعد بني رسول واستمرت كذلك إلى آخر عهد الملكة سيدة بنت أحمد الصليحي ومما ساعده على توحيد اليمن حينها أخذه أمراء الإقطاع وإسكانهم العاصمة صنعاء ليكونوا تحت رقابته المباشرة هذا وقد أمتد نفوذه الأدبي إلى الحجاز.
- المتوكل إسماعيل بن القاسم 1654- 1686: وهو آخر الموحدين في العصر الوسيط.
مما سبق نجد أن تعدد الدول وتداخلها واستعانة بعضها بالقوى الخارجية قد أدى في خاتمة المطاف إلى إنهاكها وضعفها وكون العامل الاقتصادي في طبيعته من العوامل القابلة للتفجير في أية لحظة فإننا نلحظ جلياً أهمية تعامل الدول اليمنية المتعاقبة والمتداخلة مع أمراء الإقطاع باعتباره من العوامل الحاسمة في توحيد اليمن وأمنه واستقراره في حال نجح ملوك تلك الدول في تحجيم الإقطاعيين وتقليص نفوذهم والعكس في حالة الفشل وهو ما نجد دلالته في السمات العامة لفترات التوحد والتي حملت معها الأمان والاستقرار والانتعاش الاقتصادي النسبي والرضا الجماهيري كما هو حال الدولة الصليحية والدولة الرسولية.
على أن هذا التعدد والتباين بين تلك الدول ظل محصوراً في الجانب السياسي من منطلق التسابق إلى توسيع النفوذ والسيطرة على كامل الأرض اليمنية أو معظم أجزائها لكن تحوله إلى صراع أسري داخل الدولة ذاتها كما هو حال الأئمة والنجاحيين والعبيديين وغيرهم وأحياناً فكري وأيديولوجي أوجد ظروفاً سيئة أتاحت للخارج فرصة ذهبية للتدخل وفرض الأجندة المعادية لليمن ووحدته, وصولاً إلى فرض الإنجليز والعثمانيين في 1914 م التجزئة السياسية على اليمنيين كأمر واقع لأول مرة في تاريخ اليمن ومن حينها برزت مسميات الشمال والجنوب.
عوامل كثيرة ساهمت في تكريس ظاهرة التجزئة في الثقافة اليمنية في مقدمتها سياسة الاستعمار البريطاني والحكم الإمامي والتي مثلت العقبة الكبرى أمام استعادة اليمن وحدته وهو ما أدى إلى توحد هدفي ثورتي سبتمبر وأكتوبر للتخلص من الاستعمار والإمامة تمهيداً لإعادة التحام الجسد اليمني وبغض النظر عن العوامل التي حالت دون التوحد بعد الثورة فقد مثل انتخاب علي عبدالله صالح في 17 يوليو 1978 لرئاسة ما كان يسمى بالجمهورية العربية اليمنية نقطة فارقة في تاريخ اليمن الوحدوي ومن حينها أضحت ثقافة الوحدة الثقافة المقروءة ولغة التفاهم والحوار الوحيدة والأقوى من الأيديولوجيات الدخيلة ومن الطائفية والمناطقية وبالتالي سيرورة حلم الأمس القريب حقيقة اليوم في 22 مايو 1990.
ا لمصادر:
- محمد ناصر ناصر حسن هادي, عمالقة الوحدة اليمنية في التاريخ القديم والحديث , مركز عبادي,ط1 , 2001.
- محمد سالم شجاب, الوحدة والثورات اليمنية عبر العصور , ط1 , 2007.
- القاضي عبدالله الشماحي, اليمن الإنسان والحضارة , منشورات المدينة- بيروت,ط3 ,1985.
- محمد يحيى الحداد,التاريخ العام لليمن, ج1-4, منشورات المدينة-بيروت, ط1, 1986م.
- سلطان أحمد عمر, نظرة في تطور المجتمع اليمني, دار الطليعة , ط1 , شباط1970.
- حسن قاضي, متى تجزأت اليمن؟ بدلاً من: متى توحدت اليمن؟,مجلة الحكمة,إتحاد الأدباء والكتاب-صنعاء, العدد149,سبتمبر1987.
- د.أحمد الأصبحي ,قراءة في تاريخ اليمن الوحدوي,ورقة عمل – ندوة الوحدة اليمنية في عامها ألـ 17 , معهد الميثاق 20 أيار/مايو2007.
- د. عبدالعزيز الشعيبي, الخلفية التاريخية للوحدة اليمنية,ندوة الوحدة اليمنية,المرجع السابق.
وحدة اليمن أرضاً وإنساناً من المسلمات الثابتة ثبوت وجود الشعب اليمني والأرض اليمنية منذ أن تمكن يعرب بن قحطان الجد الجامع لهذا الشعب من إقامة أول وحدة يعربية يمانية في الألف الخامسة قبل الميلاد، ومن حينها شكلت الوحدة الهدف الجامع لكافة ملوك وأمراء اليمن سواء في التاريخ القديم أو الوسيط أو الحديث والسمة الغالبة على تاريخ هذا الشعب والقاعدة العاكسة جوهر الإرادة اليمنية الطامحة دوماً إلى التوحد والاتحاد باعتبار ذلك من عوامل القوة في مواجهة أخطار الطبيعة وتطويعها لصالح الإنسان اليمني ومواجهة الأطماع الخارجية بعناوينها المختلفة.
وفي الاتجاه الأخرى شكلت حالة التجزئة والانشطار التي شابت اليمن في بعض المراحل التاريخية على مر العصور ظاهرة استثنائية وعابرة فرضتها ظروف استثنائية وصنعتها إرادة غير يمنية أي أنها لم تكن في يوم من الأيام أمراً طبيعياً بل ظاهرة غريبة ودخيلة على اليمن وشعبه وتاريخه الوحدوي المشرق.
ورغم ما صاحب ذلك من جدل عقيم حول ما إذا كانت الوحدة القاعدة والتجزئة الاستثناء أم العكس؟ فما نجده من خلال قراءتنا السريعة لتاريخ اليمن الوحدوي منذ الألف الخامسة قبل الميلادي وحتى استعادة اليمن عافيته والتئام جسده الواحد في 22 أيار/ مايو 1990 هو تأكيد حقيقة أن فترات التوحد كانت على الدوام الأطول زمنياً وكانت على الدوام عامل أمان واستقرار وانتعاش اقتصادي وفكري وحضاري ليس لليمن فحسب بل ولمحيطها الإقليمي في حين كانت فترات التجزئة قصيرة جداً, كما أن ما شهدته اليمن من ممالك ودول متعددة سواء قبل الإسلام أو بعد استقلال اليمن عن الدولة العباسية وصولاً إلى العام 1914 إنما كان تعدد وتنوع يثير قاعدة التوحد ويعززها لسببين هما: استمرار بقاء التواصل والاتصال الثقافي والمعيشي, ناهيك عن حرية تنقل الناس, فيما بينها وعدم تجاوز سقف الاختلاف المستوى السياسي دون أن يتعداه إلى المستويات الأخرى سواء كانت اقتصادية أو ثقافية أو اجتماعية, وهو ما حافظ على وحدة الشعب ووحدة خصائصه ,كما لم تشهد تلك الفترة وجود حدود سياسية مرسومة بالمعنى المتعارف عليه بين الدول.
منذ العام 1914 بدأت مرحلة جديدة في التاريخ اليمني عندما شرع الانجليز والعثمانيين في تقسيم مناطق نفوذهما وترسيم الحدود بينهما وهو ما مثل سابقة خطيرة على صعيد التجزئة السياسية لأول مرة في تاريخ هذا الشعب والمتعمقة بصورة أكبر عقب رفض الإمام يحيى استلام المناطق الجنوبية التي كانت تحت نفوذ الأتراك إثر انسحابهم من شمال اليمن في العام 1919 وصولاً إلى الاعتراف بالتجزئة كسياسة أمر واقع عندما وقع الإمام في 1934 معاهدة اعتراف وصداقة مع الإنجليز تضمنت الإبقاء على الوضع القائم بالمناطق الجنوبية والشرقية كما هو لأربعة عقود قادمة من تاريخه ومن حينها بدأ الجدل وبدأت مفاهيم الجنوب والشمال تشق طريقها إلى المشهد السياسي.
إن ما تمر به اليمن اليوم هو في حقيقته اجترار شائه واستنساخ مشوهه غايته نسف الصفحة المشرقة لتاريخ اليمن الواحد في أرضه وإنسانه وخواصه الثقافية والحضارية والنفسية والسلوكية الواحدة الموحدة منذ سبعة آلاف سنة.
كل هذا يضعنا أمام سؤال محوري ومصيري هو: هل كانت اليمن فعلاً مجزأة تاريخياً؟, بدلاً من: هل كانت اليمن موحدة تاريخياً؟ ورغم أن الصيغة الأخيرة غير قابلة للشك والتشكيك عكس الصيغة الأولى إلا أن ما شهدته من رواج وجدل ترفي في أوساط الحالمين بعودة عهود السلاطين وعهود الرجعية والتخلف دفعنا إلى هذه القراءة السريعة لتاريخ اليمن الموحد بغية إزالة اللبس والتشكيك وتأكيداً لحقيقة انتصار الصوت الوحدوي في كافة مراحل التاريخ اليمني على الأصوات النشّازة لدعاة الفتنة والتجزئة.
الوحدة اليمنية قبل الإسلام
ذكرت اليمن في الكثير من الكتب القديمة كالتوراة وكتب مؤرخي الإغريق واليونان ووصفت باليمن السعيد ولم يوصف أي بلد غيرها بهذا، ووصفها القرآن الكريم بالجنة والبلدة الطيبة، ولم يصف أي بلد سواها بهذا, وخصها بسورتي سبأ والأحقاف ولم تكن سبأ سوى مملكة اليمن القديمة وهو تعبير لغوي مجازي المقصود منه السلطة اليمنية والشعب اليمني وحضارته الضاربة التي قامت بسبأ مأرب وأحقاف حضرموت.
وسبأ والأحقاف أسماء لمناطق يمانية وفي القصص القرآني نال اليمن ورجاله نصيباً كبيراً منها كأصحاب الجنة وقصص الأخدود والفيل وأبرهة وإرم ذات العماد وذو القرنين السيار وملكة سبأ والسيل العرم وقوم تبع.
وعندما أسلم أهل اليمن طواعية خصهم الله بسورة النصر فيما قال الرسول وهو يستقبل وفودهم [جاءكم أهل اليمن ....]. هكذا تحدث القرآن والرسول الخاتم عن أهل اليمن ومملكة سبأ في إطار منطق الوحدة وليس منطق التجزئة وعن مكانة هذا البلد ودوره الحضاري قبل مجيء الرسول الخاتم على أن هذا الدور وتلك المكانة لم تأتي من فراغ بل كان هناك شعب عظيم وقادة كبار استطاعوا توحيد أيادي سبأ منذ فجر التاريخ في كيان حضاري موحد توفرت له كل أسباب القوة والازدهار بما جعله يصل إلى مستوى تنظيم نفسه في نظم سياسية قوية فرضت نفسها على قبائل الجزيرة العربية وما وراءها من الأمم وما كان لها أن تصل إلى هذا المستوى لو لم تكن موحدة أرضاً وإنساناً في وقت تعاقبت على حكم اليمن العديد من الممالك هي معين وسبأ وحمير وفي فلكها أوسان وقتبان وحضرموت.. إلخ.
وهذه الممالك هي التي تم العثور على آثار تدل عليها والبالغة نحو 5 آلاف نقش أثري كلها تخلص إلى حقيقة واحدة هي اشتراك القادة الكبار لهذه الدول في مساعي تحقيق الوحدة اليمنية والحفاظ عليها، وان بين كل وحدة وأخرى فترات من الضعف والتفكك العابرة, كما تم تحقيق نوعين من الوحدة في تلك العهود, الأول: وحدة شاملة ضمت اليمن والجزيرة العربية وما وراءها من الأمم وأبرز قادتها يعرب وسبأ والحارث الرائش وذو القرنين وكرب آل وتر وغيرهم والثانية وحدة وطنية اقتصرت على اليمن أو الجزء الأكبر منه كما هو حال دولة حضرموت وأوسان وحبان وسمعي حاشد قبل الإسلام , والرسوليين والصليحيين في التاريخ الوسيط.... وفي كليهما فقد كان لتوحد اليمن أهمية كبيرة في استقرار وأمن الجزيرة العربية والعكس في حالة التفرق والتشرذم وهذه الحقيقة لا تزال السمة الغالبة إلى يومنا كون اليمن المركز الرئيسي للأمن والاستقرار الإقليمي نظراً لأهميتها الموقعية والجيوسياسية.
وإجمالاً فقد مرَّ اليمن قبل ظهور الإسلام بمرحلتين هما المرحلة المشرقة واستمرت من القرن 15 قبل الميلاد وحتى العام 115 ق. م وهي مرحلة الدولة السبئية والمرحلة المظلمة واستمرت من 50 ق. م وحتى القرن السادس الميلادي وهي مرحلة الدولة الحميرية وذلك بسبب وقوعها تحت تأثير الأطماع الخارجية كالبطالسة اليونان والرومان والأحباش والفرس..
الممالك القديمة الكبرى
- معين: وهو اللقب الثاني لعبد شمس بن يشجب بن يعرب إلى جانب لقب الشهرة سبأ الأكبر ومعين وسبأ من أعظم دول العهد القديم وبينهما تداخل كبير، ظهرت معين من الجوف في نحو 4000- 900 ق. م وقد عثر على نصب تذكاري بابلي ذُكرت فيه معين وصِلاتها بمملكة بابل يعود تاريخه إلى 3750 ق. م وما يهمنا هنا أن هذه الدولة كانت دولة تجارة وفتح اقتصادي وسلام وفي عهدها تحققت وحدة اليمن والجزيرة ووصل نفوذها الاقتصادي إلى حوض البحر الأبيض المتوسط وإليها يعود فضل اكتشاف فنون الملاحة البحرية وكان نظام الحكم فيها ملكي وراثي معتدل واستشاري على أن تدخل الملك فيها اقتصر على المسائل العليا المتعلقة بحقوق الملك والشعب فقط.
- سبأ: مؤسسها سبأ الأكبر بن يشجب بن يعرب ومرت بمرحلتين هما: سبأ الأولى وكانت معاصرة للحضارة السومرية في بلاد الرافدين وقد عثر على وثائق سومرية تعود إلى الفترة 5000- 3500 ق. م تكلمت عن وجود علاقات ربطتها بمملكة سبأ الأولى السابقة لظهور معين, وسبأ الثانية قامت خلال الفترة 950- 115 ق. م واستطاعت القضاء على معين والحلول مكانها وكانت دولة حروب وفتح وكانت لها صلات مع ملوك آشور وأكثر ملوك سبأ كانوا من موحدي اليمن والجزيرة العربية و ينقسم عهد سبأ إلى مرحلتين هما: مرحلة المكارب 850- 620 ق. م وفي عهدهم تم الجمع بين الحكم والكهانة والرياسة الدينية, فمرحلة الملوك 610- 115 ق. م وإجمالاً فقد لاقت سبأ مقاومة عنيفة من ملوك وأمراء الإقطاع الذين اصطدمت سياسة توسع سبأ بمصالحهم واستقلالهم, على أن النظام فيها كان ديني أكثر منه سياسي.
- حمير: تعود نسبتها إلى حمير بن سبأ, قامت خلال الفترة 115 ق. م- 525 م ويسمى عهدها بعهد التبابعة وفي عهدها تطورت الألقاب الرسمية للملوك تبعاً لتوسع نفوذ الدولة وشهدت بعض فتراتها توحد اليمن والجزيرة وإجمالاً فقد كانت سبأ المملكة وحمير الملوك والدولة وكان بينها وبين ملوك سبأ وكهلان تنافس وتداخل ,لا صراع وتنافر وكل منهما كان يسعى لتوحيد اليمن تحت نفوذه بشتى الوسائل من تحالفات ومعاهدات واندماجات وحروب.
صانعو الوحدة قبل الإسلام
زخرت مرحلة ما قبل ظهور الإسلام بالعديد من عمالقة التوحيد منهم على سبيل المثال:
- يعرب بن قحطان في نحو 5700- 5000 ق. م: وهو الجد الجامع لكل اليمنيين والعرب وأول الملوك في التاريخ القديم وأول من أقام دولة يمانية موحدة وعاصمتها صنعاء دامت من بعده قرابة 500 سنة.
وإسمه يمان أو يمن أو يامن حسب الهمداني وبه سميت اليمن وكونه أول من اشتق وحذف واختصر وأوجز وأعرب في كلامه لقب بيعرب ومن حينها ظهر اسم العرب وفي هذا يقول بن أبي الحديد في الجزء الثاني من شرح نهج البلاغة ص 495 "إن يعرب أول من أقام دولة يمانية عربية في التاريخ القديم، أي وحدّ القبائل القحطانية وكانت قد تكاثرت وانتشرت وانتقلت إلى أطوار الحضارة بما جعلهم يقيمون دولتهم".
- عبد شمس - سبأ الأكبر- بن يشجب بن يعرب نحو 3750- 3500 ق. م: وهو أول من أعاد وحدة اليمن الطبيعية مع الجزيرة العربية واهتم بالزراعة والري والتجارة وأكثر من الغزو وأسس الإمبراطورية السبئية بعهديها المعيني والسبئي وكان يمارس السلطة بواسطة ممثلين عن الشعب من ثلاث طبقات هي المزود والأقيال والأذواء.
- عبد شمس وايل – سبأ الثاني- بن وائل بن الغوث نحو 2750 ق. م: وهو ثالث الموحدين وإليه يعود فضل إنشاء سد مأرب ومن بعده ظلت اليمن موحدة في عهد خلفائه.
- تبع ذي مرائد- الرائد تبع الأكبر- نحو 2150 ق. م: وهو الموحد الرابع وبقيت اليمن موحدة في عهد ابنه شمر ذو الجناحين الأول والملك الصعب ذو القرنين السيار وهو تبع بن تبع الأقرن بن شمر يرعش بن إفريقيس وبقيت اليمن موحدة إلى أن وصل إلى الحكم الملك شدد بن قيس بن صيفي في نحو 1500 ق. م .. وصولاً إلى أخر الموحدين قبل الإسلام وهو سيف بن ذي يزن 575-596م.
وفي المحصلة فما يهمنا هنا هو إشتهار هذا العهد بالكثير من العمالقة الذين استطاعوا أن يوحدوا اليمن والجزيرة وأن يفرضوا أنفسهم على غيرهم من الأمم وبين كل وحدة وأخرى فترة ضعف ووهن وتشرذم لكنها ظلت في الحدود السياسية دون أن تطال الجوانب الأخرى كما كان هناك تنافس بين ملوك اليمن في تلك الحقبة ترك بصماته على المنطقة ولذا كان من الطبيعي أن يجتمع باجتماع ملوك اليمن وتوحدهم العرب ويفترقون لتفرقهم.
مظاهر الوحدة
- وحدة الأرض والإنسان: بإجماع المؤرخين ظلت اليمن في مساحتها الطبيعية وحدة لا تتجزأ منذ أن سكنها نبي الله نوح وحتى منتصف العقد الثالث من القرن العشرين مع عدم ورود أي ذكر لشمال أو جنوب وعليه يحدد المؤرخون مساحتها الطبيعية بالقسم الجنوبي من شبه الجزيرة العربية والذي يشمل اليوم الجمهورية اليمنية وسلطنة عمان والجزء الأعظم من جنوب العربية السعودية وهي الأرض التي أخذت مسماها من الملك يمن بن قحطان الملقب بيعرب - وقحطان ليس الأب المباشر ليعرب بل بينهما نحو ثلاثة آلاف سنة- وسمي شعبها باليمنيين ودولتها باليمن ومن ذرية هذا الملك تناسلت قبائل العرب قاطبة يقول ابن هشام "ان يعرب بن قحطان سمي يمناً وبه سميت اليمن" ويضيف ابن منظور "وهو أبو اليمن كلهم".
ولا زالت القبائل اليمنية عبر العصور تحتفظ بأنسابها وأصولها وفروعها المكونة فيما بينها نسيجاً اجتماعياً واحداً ناهيك عن التجانس في العادات والتقاليد والقيم والأهداف والهموم والطموحات والتطلعات.
- الوحدة الاقتصادية والحضارية: من الأمور اللافتة إدراك الممالك اليمنية المبكر لمساوئ تعدد الكيانات القبلية ذات النفوذ المحلي والكيانات الإقطاعية لما لها من ضرر على وحدة اليمن فحاولت تلافي ذلك عبر إقامة روابط اجتماعية على أسس اقتصادية قُسمت بموجبها قبائل اليمن إلى وحدات مجمعة زراعية وصناعية ومهنية... وربطت بينها بروابط العمل والإنتاج بدلاً من أواصل القرابة والدم أي أن تلك الممالك فضلت ربط القبائل بالروابط الدينية والاجتماعية والاقتصادية لا رابطة الدم والنسب وعلى أساسه برز ما يسمى بالعمل الجماعي التعاوني, هذا وقد تعددت صور الحضارات القديمة ما نجد دلالته في آثارها ونقوشها وفي وضع أسس السدود وإنشاء المحافد والمدن والقصور والمدرجات الزراعية والمعابد وشبكات الري والصهاريج والحاميات التجارية والمنارات, كما أقامت مستوطنات حضارية في مختلف المناطق وسنت ما يستلزمها من التشريعات والتنظيمات... على أن الطابع العام للنظام السائد قبل الإسلام هو النظام الإقطاعي, لكنه كان أقرب إلى التعاونيات الجماعية, فيما كانت الحياة الاجتماعية تتسم بالطابع القبلي مع هيمنة واضحة للسلطة الدينية.
كما شهدت تلك الفترة حضارة إنسانية رفيعة من أبرز مظاهرها اللغة السبئية القديمة والخط المسند, كما أظهرت الآثار والنقوش المنتشرة في أنحاء اليمن تشابهاً وتجانساً كبيراً بين أسماء الأوائل في السكن ومحال الإقامة.
- الوحدة السياسية: ضم اليمن عدداً من مراكز القوى الساعي كل منها إلى مد النفوذ والاستقطاب على سائر المجال الحيوي لليمن، في وقت كانت الوحدة فيه تمثل قوة وسلاح في وجوه الأعداء وغضب الطبيعة وغالباً ما كان يصحبها نظم سياسية شوروية تعطي للشعب حق المشاركة الفعلية في صناعة القرار سواء عبر اتحادات مجالس القبائل أو المجالس الاستشارية (المسود).
ومن مظاهر الوحدة السياسية أيضاً الأسماء والمسميات التي أطلقت على الأماكن والتعاريف الفنية منها المحفد والمخلاف حيث أطلق الأول على القصور والقلاع المحصنة والثاني على الأقاليم وهي تسميات إدارية, ويعد يعرب أول من قسم جزيرة العرب إلى ولايات وجعل على كل منها والي فيما كان سبأ بن حمير أول من وضع التقسيمات الإدارية فجعل المحفد مسمى للناحية أو المديرية عليها أمير والمخلاف مسمى للإقليم عليه قيل, وحسب الهمداني فإن عدد المخاليف وصلت إلى 30 مخلاف يمني سُمي كلٌ منها بمن سكنه من ملوك حمير وكهلان المتغلبين في عصورهم وهو ما جعل أسماء أماكن سُكنة الممالك اليمنية القديمة وأسماء أعلامها ومشاهيرها متشابهة ومتجانسة.
العوامل المؤثرة على وحدة اليمن
يأتي في مقدمتها نزعات التسيد والاستئثار بالسلطة إلى جانب العوائق الطبيعية والنزعات السياسية وجماعات المصالح والضغط خصوصاً أمراء الإقطاع مع دخول العامل الخارجي منذ النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد وتحديداً في 24 ق. م عندما حاول الرومان احتلال اليمن ومن بعدهم الأحباش والبطالسة اليونان والفرس وما أوجده هذا التنافس الحاد على اليمن من صراع وتعصب أيديولوجي وفكري لازالت اليمن تكتوي بناره إلى يومنا..ناهيك عن ضعف بعض ملوك تلك الحقبة وخلودهم إلى الترف والاسترخاء وتخليهم عن القيم السياسية لبناء الأسرة والمجتمع والفرد وهو ما جعل القرون السبعة المستبقة ظهور الإسلام نقطة مظلمة في تاريخ اليمن القديم باستثناء فترات متقطعة منها.
الوحدة اليمنية في عهد الإسلام
أتى الإسلام واليمن في ذروة الانقسام والتشرذم والتمزق والحروب ما جعل أبنائه يسارعون إلى اعتناق هذا الدين طواعية لأنهم وجدوا فيه الطريقة المثلى لاستعادة وحدتهم وبالفعل تمكن الرسول الخاتم من توحيد أبناء اليمن والقضاء على الطبقات وحكومات الأقاليم والأقيال فأرسل إلها رجالاً كثيرين ليسوا جميعاً حُكاماً أو ولاة بقدر ما كانوا يحققون التوعية بالإسلام وتحقيق سيادة الدولة المركزية وبالتالي التعامل مع اليمن كوحدة إدارية وسياسية متكاملة وهكذا ظل التعامل بعهد الرسول والخلفاء الراشدين والعهد الأموي وشطراً من العهد العباسي إلى أن شهدت اليمن قيام أول إمارة مستقلة في عهد المأمون العباسي.
واللافت هنا أنه رغم نجاح الرسول في معالجة الصراع والتعصب الأيديولوجي والفكري الذي ساد اليمن قبل ظهور الإسلام, لكن ذلك سرعان ما عاد إلى الواجهة تحت مسميات آخر مع نهاية عهد الخلفاء الراشدين وما صاحبه من صراع وتعصب أيديولوجي وفكري بين العلويين والأمويين وبين الأمويين والعباسيين والعلوية والإسماعيلية وغيرها, فكان اليمن وشعبه الأكثر تأثراً وإكتواءاً بمياسيمها إلى يومنا وهو ما حال دون توحد اليمن بعدها باستثناء فترات متقطعة ولعقود, كما أتاح ذلك فسحة وفرصة ذهبية للأطماع الخارجية في اليمن كالعثمانيين والفرس والجراكسة والأيوبيين،والفاطميين والمماليك والاستعمار الغربي وما بينهما شهدت اليمن العديد من الإمارات والممالك والدول كانت تتوسع وتنكمش حسب الظروف الداخلية والخارجية وشخصية الحكام.
صانعو الوحدة في العصر الوسيط
- محمد بن عبدالله بن زياد: وهو أول الموحدين في العصر الوسيط لمعظم أجزاء اليمن وأول من أقام إمارة يمنية مستقلة عن العباسيين في عام 819م /207هـ واستمرت نحو 200 عام وتوحدت اليمن في عهده لمدة ثلاثة عقود ومما ساعده على ذلك تحقيقه لبعض الإصلاحات العمرانية والثقافية ومن بعده تمكن حسين سلامه مولى بني زياد من توحيد اليمن لفترة قصيرة وامتد سلطانه من الشحر إلى مكة المكرمة.
- علي بن مهدي الحميري: تمكن في 1159 م من القضاء على الدولة النجاحية في تهامة وإخضاع معظم أجزاء اليمن وإقامة نظام قريب من الاشتراكية وهو ما أثار القوى الإقطاعية ضده وبالتالي التحالف مع الأيوبيين لإسقاط دولته في 1173م.
وبالفعل استطاع الأيوبيين بالتعاون مع أمراء الإقطاع المحليين من السيطرة على اليمن وتوحيده تحت حكمهم باستثناء القسم الأعلى الواقع تحت نفوذ الأئمة.
- علي بن الفضل الخنفري 889- 914م: كان هدفه توحيد اليمن وقد اشتملت دولته على أغلب أجزاء اليمن لكن ذلك لم يدم سوى 17 عاماً ومما ساعده على ذلك نجاحه في إسقاط إمارات الإقطاعيين.
- عمر بن علي بن رسول 1230- 1455م: أحد أشهر موحدي اليمن بعد الإسلام واستمرت في عهد خلفائه قرابة 93 سنة ووصل نفوذه الأدبي إلى عمان شرقاً والحجاز غرباً.
- علي محمد الصليحي 1048- 1150م: ثاني الموحدين لليمن بكاملها بعد بني رسول واستمرت كذلك إلى آخر عهد الملكة سيدة بنت أحمد الصليحي ومما ساعده على توحيد اليمن حينها أخذه أمراء الإقطاع وإسكانهم العاصمة صنعاء ليكونوا تحت رقابته المباشرة هذا وقد أمتد نفوذه الأدبي إلى الحجاز.
- المتوكل إسماعيل بن القاسم 1654- 1686: وهو آخر الموحدين في العصر الوسيط.
مما سبق نجد أن تعدد الدول وتداخلها واستعانة بعضها بالقوى الخارجية قد أدى في خاتمة المطاف إلى إنهاكها وضعفها وكون العامل الاقتصادي في طبيعته من العوامل القابلة للتفجير في أية لحظة فإننا نلحظ جلياً أهمية تعامل الدول اليمنية المتعاقبة والمتداخلة مع أمراء الإقطاع باعتباره من العوامل الحاسمة في توحيد اليمن وأمنه واستقراره في حال نجح ملوك تلك الدول في تحجيم الإقطاعيين وتقليص نفوذهم والعكس في حالة الفشل وهو ما نجد دلالته في السمات العامة لفترات التوحد والتي حملت معها الأمان والاستقرار والانتعاش الاقتصادي النسبي والرضا الجماهيري كما هو حال الدولة الصليحية والدولة الرسولية.
على أن هذا التعدد والتباين بين تلك الدول ظل محصوراً في الجانب السياسي من منطلق التسابق إلى توسيع النفوذ والسيطرة على كامل الأرض اليمنية أو معظم أجزائها لكن تحوله إلى صراع أسري داخل الدولة ذاتها كما هو حال الأئمة والنجاحيين والعبيديين وغيرهم وأحياناً فكري وأيديولوجي أوجد ظروفاً سيئة أتاحت للخارج فرصة ذهبية للتدخل وفرض الأجندة المعادية لليمن ووحدته, وصولاً إلى فرض الإنجليز والعثمانيين في 1914 م التجزئة السياسية على اليمنيين كأمر واقع لأول مرة في تاريخ اليمن ومن حينها برزت مسميات الشمال والجنوب.
عوامل كثيرة ساهمت في تكريس ظاهرة التجزئة في الثقافة اليمنية في مقدمتها سياسة الاستعمار البريطاني والحكم الإمامي والتي مثلت العقبة الكبرى أمام استعادة اليمن وحدته وهو ما أدى إلى توحد هدفي ثورتي سبتمبر وأكتوبر للتخلص من الاستعمار والإمامة تمهيداً لإعادة التحام الجسد اليمني وبغض النظر عن العوامل التي حالت دون التوحد بعد الثورة فقد مثل انتخاب علي عبدالله صالح في 17 يوليو 1978 لرئاسة ما كان يسمى بالجمهورية العربية اليمنية نقطة فارقة في تاريخ اليمن الوحدوي ومن حينها أضحت ثقافة الوحدة الثقافة المقروءة ولغة التفاهم والحوار الوحيدة والأقوى من الأيديولوجيات الدخيلة ومن الطائفية والمناطقية وبالتالي سيرورة حلم الأمس القريب حقيقة اليوم في 22 مايو 1990.
ا لمصادر:
- محمد ناصر ناصر حسن هادي, عمالقة الوحدة اليمنية في التاريخ القديم والحديث , مركز عبادي,ط1 , 2001.
- محمد سالم شجاب, الوحدة والثورات اليمنية عبر العصور , ط1 , 2007.
- القاضي عبدالله الشماحي, اليمن الإنسان والحضارة , منشورات المدينة- بيروت,ط3 ,1985.
- محمد يحيى الحداد,التاريخ العام لليمن, ج1-4, منشورات المدينة-بيروت, ط1, 1986م.
- سلطان أحمد عمر, نظرة في تطور المجتمع اليمني, دار الطليعة , ط1 , شباط1970.
- حسن قاضي, متى تجزأت اليمن؟ بدلاً من: متى توحدت اليمن؟,مجلة الحكمة,إتحاد الأدباء والكتاب-صنعاء, العدد149,سبتمبر1987.
- د.أحمد الأصبحي ,قراءة في تاريخ اليمن الوحدوي,ورقة عمل – ندوة الوحدة اليمنية في عامها ألـ 17 , معهد الميثاق 20 أيار/مايو2007.
- د. عبدالعزيز الشعيبي, الخلفية التاريخية للوحدة اليمنية,ندوة الوحدة اليمنية,المرجع السابق.
السبت، 11 يوليو 2009
لاءات نتنياهو ورهانات العرب
زيد يحيى المحبشي 10 يوليو, 2009
بعد مرور 75 يوماً على توليه رئاسة حكومة الاحتلال الإسرائيلي في31 آذار/ مارس الماضي و10 أيام من توجيه أوباما رسالته التصالحية إلى العرب والمسلمين من على منبر جامعة القاهرة في 4 حزيران/ يونيو الماضي, قرر نتنياهو في 14 حزيران/ يونيو الماضي الإفصاح عن رؤيته التي طال انتظارها عربياً ودولياً, إزاء عملية السلام بالمنطقة عموماً وفلسطين المحتلة على وجه التحديد, بالتزامن طبعاً مع الذكرى الثانية للانقلاب في غزة ومن على منبر جامعة مئير بار إيلان اللاهوتية التي تخرج منها إيجال عامير قاتل إسحاق رابين وباروخ جولدشتاين مهندس مجزرة الحرم الإبراهيمي , وفي وقت تمر فيه المنطقة بحالة من الركود السياسي عنوانها تقطيع الوقت انتظاراً لما قد تفرزه عجلة الحوار الأميركي الإيراني حول الملف النووي والتي سيتم بموجبها تحديد المفاصل التي ستحكم ضوابط الواقع القائم فيما يتعلق بما يجب عمله تجاه عملية السلام تبعاً لمؤشرات واتجاهات البوصلة الإقليمية والدولية على حدٍ سواء.
خطاب نتنياهو في إطاره العام اقتصر على العموميات مفسحاً المجال للمناورات السياسية حول التفاصيل والتي ستخضع للمزيد من اللعب على الخطوط الداخلية- إسرائيل وفلسطين- والخارجية -إقليمياً ودولياً- طبعاً فيما عدا الخطوط الحمراء لأن الموقف فيها نهائي وحتمي وغير قابل للمساومة والمناورة.
نتنياهو بدا أكثر وضوحاً وهو يستحضر المخاوف الإسرائيلية المتراكمة على عكس أوباما الذي بدا أكثر ضبابية ولذا نجده وهو يرسم رؤية ائتلافه الحاكم حريصاً كل الحرص على عدم التصادم مع أوباما ولكن دون الموافقة أو الرفض النهائي لأطروحات واشنطن حول عملية السلام وحل الدولتين وتجميد المستوطنات وهي خطوة ذكية وغمزة خفيفة وشقية جعلت أوباما في مقدمة المرحبين بها.
صحيح أن هذه الخطوة لم تأتِ بجديد باستثناء فتحها المجال لإمكانية استئناف المفاوضات خصوصاً وأنها لم تتعدى حدود عالم الخُدع في مجال العلاقات العامة لكنها رغم ذلك أتاحت لنتنياهو اصطياد 3 عصافير بطلقة واحدة هي ثناء أميركا وإجماع إسرائيلي نادر من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وإقناع كتلة الليكود بأن شيئاً لم يحدث بل مجرد تقليد للمحافظين الجدد في حين بدا المشهد الفلسطيني والعربي رغم مسارعته لرفض أجندة نتنياهو في أسوأ حالات الانقسام والتشتت.
نتنياهو نجح أيضاً في إعادة خلط كل الأوراق عندما طرح مقاربة توازي بين الضغط الدولي لجهة القبول بحل الدولتين وتجميد المستوطنات وبين حاجة كيانه للاعتراف بشرعيته كوطن يهودي، وبين مطالبة المجتمع الدولي بالضغط على الفلسطينيين والعرب للقبول بذلك بصورة توازي ضغطه الحالي على إسرائيل، في محاولة منه لإقناع الجميع بأهمية الربط السلس بين المصالح الإسرائيلية والخطر الإيراني الماثل أمام إسرائيل والمنطقة وبين المستوطنات وضرورة قيام المجتمع الدولي بدور بناء وإيجابي تجاه الخطر الإيراني وعملية السلام بالشرق الأوسط يؤكد التزامه بأمن إسرائيل والضغط على العرب للدخول الفوري في التطبيع وتدشين مرحلة السلام الاقتصادي دون قيد أو شرط كخطوة أولى لتخفيف العزلة عن الفلسطينيين والسير الجدي في عملية السلام.
قراءة في المضامين
إسرائيل وجود استعماري مصطنع وهجين بدأ بالبرج والسور وترسخ بهما وينتهي بهما, نصف الحقيقة، نعم للدولة الفلسطينية تعني لا للدولة اليهودية والعكس صحيح نعم للدولة اليهودية تعني لا للدولة الفلسطينية، كل الحقيقة، إذن ليس من قبيل المفارقة أن نجد نتنياهو وهو يستحضر مواقف كيانه المتراكمة والمتناثرة وإبرازها في قالب جديد ظاهره الرغبة في السلام والاستقرار وباطنه التأكيد على طلائعية وقيمية المشروع الاستيطاني والحق التاريخي والامتداد التراثي اليهودي دون الاكتفاء بمجرد الوجود والاعتراف به كما كان يطالب بذلك حزب العمل بل والتطلع إلى إقرار كوني بحق يهودي تاريخي مزيف في أرض فلسطين التاريخية يحفظ المستقبل عبر التطبيع مع الحاضر ويُشرع الأبواب أمام الإقرار بحق اليهود في أن تكون لهم دولتهم اليهودية الخالصة النقية على أرضهم التاريخية (أرض 48)، ولكن مع إضافة يهودا و السامرة (الضفة الغربية في إطار ما يسمى بالحل الإقليمي).
نتنياهو واليمين الصهيوني وجد نفسه اليوم مضطراً لقبول مستحيل الأمس أملاً في احتواء ما يمر به الكيان من مشاكل أيديولوجية تهدده بالعودة إلى حياة الشتات والتيه ثانية ولكن هذه المرة بشروط تدخل في باب المساومات واللعب على الخطوط الداخلية والخارجية بما يضمن ليس تقريب الحل بل التمييع والابتذال للقضية الفلسطينية برمتها من خلال إيجاد منافذ تخدم الأساطير الخرافية للدولة اليهودية وتفيد من أي تغيير إقليمي ودولي لتحويلها إلى حقائق تاريخية.
إذن فإشارته إلى حل الدولتين والدولة الفلسطينية أمر لا يستحق الوقوف أمامه طالما وأن الهدف تحويل التاريخ الخرافي اليهودي إلى حقائق ومسلمات وجودية تاريخية وهو ما أتاح لنتنياهو نقل ائتلافه المأزوم إلى ائتلاف يمثل روح الجمهور اليهودي برمته وما لم يرتكب حماقات تهدم ما بناه خلال المرحلة المقبلة فإنه سيعيش مرحلة ازدهار ذهبية وفي اعتقاده فهذه هي السياسة السليمة المطلوبة راهنا ليبقى ارتكاب الحماقات حق حصري على العرب.
واللافت هنا توقف نتنياهو خلال الـ75 يوماً الأولى من حكومته عند تقرير العميد أودي ديكل رئيس قسم التخطيط الاستراتيجي في إدارة أولمرت والذي كان له دور كبير في حسم تردده لما تضمنه من خلاصة مهمة لمسارات التفاوض في المراحل السابقة أكدت له عدة حقائق منها:
1- غياب الشريك الفلسطيني القادر على توقيع اتفاق الحل النهائي: إذ كلما تم الاقتراب من أفق الحسم النهائي بدأ هذا الأفق في التباعد أي كلما كانت هناك محاولة للوصول إلى نقطة الحسم تنتهي بالضرورة في غياب الشريك الفلسطيني القادر على توقيع الحل النهائي ولذا فهو قلق لاعتقاده بأن الجانب الفلسطيني بعد كل جولة يحرز حقوقاً مستقبلية وكل تنازل إسرائيلي يسجل ويتحول إلى نقطة البداية في الجولة التالية، ومطمئن أيضاً لأن الفلسطينيين غير قادرين على توقيع اتفاق لإنهاء الصراع لذا فهم يعفونه من الحاجة لمواجهة القرارات الصعبة والأزمات الداخلية أي أن السماء لن تسقط والدولة الفلسطينية لن تقوم.
2- مرور قضية نزع سلاح الدولة الفلسطينية بعملية تآكل: حيث سبق لعرفات الموافقة على نزعه بالكامل في العام 1995 كما وافق عباس على عدم توقيع معاهدات عسكرية خارجية وعدم تخزين السلاح وتقييد الأجهزة الأمنية ووقف المقاومة المسلحة لكن الخلاف حول الغلاف الجوي والبري والبحري لتناقضه مع السيادة وهو ما ركز عليه نتنياهو كونه لم يبحث في خارطة الطريق بل ورد في تحفظات كيانه المرسلة لواشنطن في حين تتضمن الفقرة (ب) من الخارطة تشكيل الدولة الفلسطينية ضمن حدود مؤقتة بما يقتضيه ذلك من حقوق سيادية في الحماية والدفاع والتعامل الدولي معها على هذا الأساس.
ما يعني أن ذلك سيكون حينها لغماً مؤرقاً لاسيما وأن الاحتلال ليس في وارد الانسحاب إلى حدود 4 حزيران/ يونيو 67 كما دعت القرارات الدولية بدلالة عدم تطرق نتنياهو للحدود المستقبلية للدولة الموعودة.
في التفاصيل ما يريده نتنياهو واضح إلى حد بعيد، صحيح أنه أثار الانطباع بإمكانية القيام بكل شيء لكنه لن يفعل أي شيء، وعد لكنه لم يعد بالتنفيذ.
الدولة الموعودة ستكون نتاج مفاوضات شاقة ومعقدة لكن بعد تحقيق شروطه المنظور إليها فلسطينياً على أنها تعجيزية وتحتاج إلى ألف عام قبل أن تجد فلسطينياً واحداً يوافق عليها فأي دولة تلك التي يريدها نتنياهو إذن؟.
- أرض فلسطين أرض يهودية وعلى الفلسطينيين أولاً الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية للشعب اليهودي, طبعاً منظمة التحرير الفلسطينية سبق لها الاعتراف بيهودية الكيان عام 1993 لكن هذا غير كاف خصوصاً بعد إضافة نتنياهو يهودا و السامرة - الضفة الغربية - إلى أراضي 48 باعتبارها أرض أجداده وهو بذلك يريد تأكيد حقيقة أن الفلسطينيين الذين لا زالوا في 48 مجرد ضيوف على أرض يهودية وعلى السلطة الفلسطينية إعطاء الضوء الأخضر لإجلائهم لأن ذلك يهدد أمن إسرائيل كما يريد الاحتفاظ بـ40 بالمائة من أراضي الضفة لأنها أرض يهودية مع طرح أميركا إمكانية تبادل الأراضي لأسباب ديمغرافية وأمنية بنفس الحجم وربما النوعية فيما يتعلق بالضفة.
- لا توقف عن الاستيطان بل مجرد حديث عن مستوطنات عشوائية يمكن التنازل عنها حالياً أو في الحل النهائي فيما يتعلق بتلك التي تم بنائها بعد أوسلو 1993 كما لا حديث عن القدس لأنها ستبقى عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل ولا حديث عن عودة اللاجئين إلى أراضي 1948 لأن عودتهم يناقض استمرار إسرائيل كدولة يهودية مع وضع ثلاثة خيارات هي عودتهم إلى أراضي الدولة المقترحة ومن لم يعد منهم يتم توطينه في الدول المضيفة -والمقصود هنا الأردن ولبنان وغيرها من الدول العربية- ومن تبقى منهم يُوطن في أميركا وكندا واستراليا ودول أخرى مستعدة لاستقبالهم ولا حديث عن حدود إسرائيل لاسيما وأنها لم تحدد في أي وثيقة منذ 1967 بحيث يتأسس الحل على انسحاب من مساحة محدودة فقط من الضفة.
مواصفات الدولة الفلسطينية:
منزوعة السلاح باستثناء قوات أمنية محدودة تعمل تحت الرقابة وليس لها أي حق في إبرام المعاهدات العسكرية، واحتفاظ الاحتلال بغلافها الجوي والبري والبحري للرد على أي تهديدات أمنية من إيران وحزب الله، ناهيك عن الارتباط المباشر وغير المباشر لاقتصادها بإسرائيل, أي أننا سنكون أمام مجرد منطقة صناعية ومحمية مقطعة الأوصال على أرخبيل منزوع السيادة والإدارة والقرار والإرادة وليس أمام دولة بالمعنى المتعارف عليه دولياً وبالمفهوم الأميركي مجرد حكم ذاتي مسلوب الصلاحيات.
ولذا نجد الاحتلال حريصاً كل الحرص في الحديث عن ضمانات عربية – اقتصادية - ودولية – أمنية- بأن هذه الدولة الموعودة ستكون منزوعة السلاح ولن تشكل خطراً مستقبلياً أكثر من حديثه عن حقوق فلسطينية لا أحد يأبه لها.
- استئناف المفاوضات دون شروط مسبقة وبدء العرب بالتطبيع الفوري في كافة المجالات لإثبات حسن النية تجاه الاحتلال تحت إطار السلام الاقتصادي وهو المصيدة القديمة المتجددة لاستجلاب أموال النفط العربي بغية توظيفها في عمليات التوطين وإنعاش الاقتصاد الإسرائيلي وبالتالي جعلها نقطة عبور لتحويل مشروع السلام العربي إلى مبادلة التطبيع بالانسحاب من أجزاء من أراضي 67 وإقامة الدولة الفلسطينية على ما تبقى منها, وهي الضمانات التي قصدها نتنياهو عربياً إلى جانب المطالبة بضمانات أمنية دولية وتحديداً من أميركا فيما يتعلق بإرسال قوات أميركية أو من الأمم المتحدة لتحل محل القوات الإسرائيلية في الإشراف على المعابر وداخل الدولة الفلسطينية مع احتفاظ الاحتلال بوادي الأردن وإعطاء القوات المتواجدة فيه حق الدخول والخروج إلى الدولة الموعودة.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم لمواجهة خطاب نتنياهو الصريح والحتمي والنهائي بما له من رافعات وأثقال وعوامل قوة وضغط تجعل الموازين تصب لصالح كيانه وتحول دون الدخول في مساومات خاسرة,وسؤالنا هو: ماذا لدى العرب والفلسطينيين من أثقال وعوامل قوة وضغط لجعل الموازين في صالحهم خصوصاً بعد ارتضائهم بتجزئة مسارات التفاوض و الحلول وتخليهم عن سلاح المقاومة؟, أم أنهم سيكتفون بالتعويل والرهان على الوسيط الأميركي الذي لم يكن في يوم من الأيام نزيهاً أو محايداً؟.
في حين يقتضي المنطق الاتجاه – وذلك أضعف الإيمان - نحو شد أزر الفلسطينيين ومساعدتهم على إعادة توحيد صفوهم وتوحيد كلمتهم وتشجيعهم على تقديم رؤيتهم الخاصة بهم حول عملية السلام إلى المجتمع الدولي قبل أن تتحول رؤية نتنياهو إلى رافعة أساسية ووحيدة للحل في المرحلة المقبلة.
ومعلوم أن رؤية أوباما تجاه عملية السلام لم تنضج بعد, وما يهمه حالياً هو محاولة تسهيل عقد مؤتمر دولي يكرس التسوية الشاملة على الجبهات المحيطة بالاحتلال و ترك الملف الفلسطيني للمفاوضات الثنائية بعدما تكون كل الدول العربية معنية بالعلاقة والتطبيع مع إسرائيل حصيلة توقيع معاهدات جديدة مع سورية ولبنان تحديداً.
وكل ما تريده واشنطن خلال فترة المؤتمر وما بعده هو تجميد المستوطنات وتسهيل تنقلات الفلسطينيين بالضفة والقطاع في سياق زمني تكون فيه نتائج المفاوضات الثنائية حول القضايا الرئيسية متوقفة على الوقائع الميدانية وعلى مدى قوة الموقع التفاوضي لكل طرف, لسبب بسيط هو طرح أوباما فكرة الدولة الفلسطينية كحلم وهدف دون أن يحدد ملامح هذا الحلم ولا كيفية الوصول إلى ذلك الهدف.. فعلى ما الرهان إذن؟
رابط هذا المقال:http://www.arabvoice.com/modules.php?op=modload&name=News&file=article&sid=1562
بعد مرور 75 يوماً على توليه رئاسة حكومة الاحتلال الإسرائيلي في31 آذار/ مارس الماضي و10 أيام من توجيه أوباما رسالته التصالحية إلى العرب والمسلمين من على منبر جامعة القاهرة في 4 حزيران/ يونيو الماضي, قرر نتنياهو في 14 حزيران/ يونيو الماضي الإفصاح عن رؤيته التي طال انتظارها عربياً ودولياً, إزاء عملية السلام بالمنطقة عموماً وفلسطين المحتلة على وجه التحديد, بالتزامن طبعاً مع الذكرى الثانية للانقلاب في غزة ومن على منبر جامعة مئير بار إيلان اللاهوتية التي تخرج منها إيجال عامير قاتل إسحاق رابين وباروخ جولدشتاين مهندس مجزرة الحرم الإبراهيمي , وفي وقت تمر فيه المنطقة بحالة من الركود السياسي عنوانها تقطيع الوقت انتظاراً لما قد تفرزه عجلة الحوار الأميركي الإيراني حول الملف النووي والتي سيتم بموجبها تحديد المفاصل التي ستحكم ضوابط الواقع القائم فيما يتعلق بما يجب عمله تجاه عملية السلام تبعاً لمؤشرات واتجاهات البوصلة الإقليمية والدولية على حدٍ سواء.
خطاب نتنياهو في إطاره العام اقتصر على العموميات مفسحاً المجال للمناورات السياسية حول التفاصيل والتي ستخضع للمزيد من اللعب على الخطوط الداخلية- إسرائيل وفلسطين- والخارجية -إقليمياً ودولياً- طبعاً فيما عدا الخطوط الحمراء لأن الموقف فيها نهائي وحتمي وغير قابل للمساومة والمناورة.
نتنياهو بدا أكثر وضوحاً وهو يستحضر المخاوف الإسرائيلية المتراكمة على عكس أوباما الذي بدا أكثر ضبابية ولذا نجده وهو يرسم رؤية ائتلافه الحاكم حريصاً كل الحرص على عدم التصادم مع أوباما ولكن دون الموافقة أو الرفض النهائي لأطروحات واشنطن حول عملية السلام وحل الدولتين وتجميد المستوطنات وهي خطوة ذكية وغمزة خفيفة وشقية جعلت أوباما في مقدمة المرحبين بها.
صحيح أن هذه الخطوة لم تأتِ بجديد باستثناء فتحها المجال لإمكانية استئناف المفاوضات خصوصاً وأنها لم تتعدى حدود عالم الخُدع في مجال العلاقات العامة لكنها رغم ذلك أتاحت لنتنياهو اصطياد 3 عصافير بطلقة واحدة هي ثناء أميركا وإجماع إسرائيلي نادر من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وإقناع كتلة الليكود بأن شيئاً لم يحدث بل مجرد تقليد للمحافظين الجدد في حين بدا المشهد الفلسطيني والعربي رغم مسارعته لرفض أجندة نتنياهو في أسوأ حالات الانقسام والتشتت.
نتنياهو نجح أيضاً في إعادة خلط كل الأوراق عندما طرح مقاربة توازي بين الضغط الدولي لجهة القبول بحل الدولتين وتجميد المستوطنات وبين حاجة كيانه للاعتراف بشرعيته كوطن يهودي، وبين مطالبة المجتمع الدولي بالضغط على الفلسطينيين والعرب للقبول بذلك بصورة توازي ضغطه الحالي على إسرائيل، في محاولة منه لإقناع الجميع بأهمية الربط السلس بين المصالح الإسرائيلية والخطر الإيراني الماثل أمام إسرائيل والمنطقة وبين المستوطنات وضرورة قيام المجتمع الدولي بدور بناء وإيجابي تجاه الخطر الإيراني وعملية السلام بالشرق الأوسط يؤكد التزامه بأمن إسرائيل والضغط على العرب للدخول الفوري في التطبيع وتدشين مرحلة السلام الاقتصادي دون قيد أو شرط كخطوة أولى لتخفيف العزلة عن الفلسطينيين والسير الجدي في عملية السلام.
قراءة في المضامين
إسرائيل وجود استعماري مصطنع وهجين بدأ بالبرج والسور وترسخ بهما وينتهي بهما, نصف الحقيقة، نعم للدولة الفلسطينية تعني لا للدولة اليهودية والعكس صحيح نعم للدولة اليهودية تعني لا للدولة الفلسطينية، كل الحقيقة، إذن ليس من قبيل المفارقة أن نجد نتنياهو وهو يستحضر مواقف كيانه المتراكمة والمتناثرة وإبرازها في قالب جديد ظاهره الرغبة في السلام والاستقرار وباطنه التأكيد على طلائعية وقيمية المشروع الاستيطاني والحق التاريخي والامتداد التراثي اليهودي دون الاكتفاء بمجرد الوجود والاعتراف به كما كان يطالب بذلك حزب العمل بل والتطلع إلى إقرار كوني بحق يهودي تاريخي مزيف في أرض فلسطين التاريخية يحفظ المستقبل عبر التطبيع مع الحاضر ويُشرع الأبواب أمام الإقرار بحق اليهود في أن تكون لهم دولتهم اليهودية الخالصة النقية على أرضهم التاريخية (أرض 48)، ولكن مع إضافة يهودا و السامرة (الضفة الغربية في إطار ما يسمى بالحل الإقليمي).
نتنياهو واليمين الصهيوني وجد نفسه اليوم مضطراً لقبول مستحيل الأمس أملاً في احتواء ما يمر به الكيان من مشاكل أيديولوجية تهدده بالعودة إلى حياة الشتات والتيه ثانية ولكن هذه المرة بشروط تدخل في باب المساومات واللعب على الخطوط الداخلية والخارجية بما يضمن ليس تقريب الحل بل التمييع والابتذال للقضية الفلسطينية برمتها من خلال إيجاد منافذ تخدم الأساطير الخرافية للدولة اليهودية وتفيد من أي تغيير إقليمي ودولي لتحويلها إلى حقائق تاريخية.
إذن فإشارته إلى حل الدولتين والدولة الفلسطينية أمر لا يستحق الوقوف أمامه طالما وأن الهدف تحويل التاريخ الخرافي اليهودي إلى حقائق ومسلمات وجودية تاريخية وهو ما أتاح لنتنياهو نقل ائتلافه المأزوم إلى ائتلاف يمثل روح الجمهور اليهودي برمته وما لم يرتكب حماقات تهدم ما بناه خلال المرحلة المقبلة فإنه سيعيش مرحلة ازدهار ذهبية وفي اعتقاده فهذه هي السياسة السليمة المطلوبة راهنا ليبقى ارتكاب الحماقات حق حصري على العرب.
واللافت هنا توقف نتنياهو خلال الـ75 يوماً الأولى من حكومته عند تقرير العميد أودي ديكل رئيس قسم التخطيط الاستراتيجي في إدارة أولمرت والذي كان له دور كبير في حسم تردده لما تضمنه من خلاصة مهمة لمسارات التفاوض في المراحل السابقة أكدت له عدة حقائق منها:
1- غياب الشريك الفلسطيني القادر على توقيع اتفاق الحل النهائي: إذ كلما تم الاقتراب من أفق الحسم النهائي بدأ هذا الأفق في التباعد أي كلما كانت هناك محاولة للوصول إلى نقطة الحسم تنتهي بالضرورة في غياب الشريك الفلسطيني القادر على توقيع الحل النهائي ولذا فهو قلق لاعتقاده بأن الجانب الفلسطيني بعد كل جولة يحرز حقوقاً مستقبلية وكل تنازل إسرائيلي يسجل ويتحول إلى نقطة البداية في الجولة التالية، ومطمئن أيضاً لأن الفلسطينيين غير قادرين على توقيع اتفاق لإنهاء الصراع لذا فهم يعفونه من الحاجة لمواجهة القرارات الصعبة والأزمات الداخلية أي أن السماء لن تسقط والدولة الفلسطينية لن تقوم.
2- مرور قضية نزع سلاح الدولة الفلسطينية بعملية تآكل: حيث سبق لعرفات الموافقة على نزعه بالكامل في العام 1995 كما وافق عباس على عدم توقيع معاهدات عسكرية خارجية وعدم تخزين السلاح وتقييد الأجهزة الأمنية ووقف المقاومة المسلحة لكن الخلاف حول الغلاف الجوي والبري والبحري لتناقضه مع السيادة وهو ما ركز عليه نتنياهو كونه لم يبحث في خارطة الطريق بل ورد في تحفظات كيانه المرسلة لواشنطن في حين تتضمن الفقرة (ب) من الخارطة تشكيل الدولة الفلسطينية ضمن حدود مؤقتة بما يقتضيه ذلك من حقوق سيادية في الحماية والدفاع والتعامل الدولي معها على هذا الأساس.
ما يعني أن ذلك سيكون حينها لغماً مؤرقاً لاسيما وأن الاحتلال ليس في وارد الانسحاب إلى حدود 4 حزيران/ يونيو 67 كما دعت القرارات الدولية بدلالة عدم تطرق نتنياهو للحدود المستقبلية للدولة الموعودة.
في التفاصيل ما يريده نتنياهو واضح إلى حد بعيد، صحيح أنه أثار الانطباع بإمكانية القيام بكل شيء لكنه لن يفعل أي شيء، وعد لكنه لم يعد بالتنفيذ.
الدولة الموعودة ستكون نتاج مفاوضات شاقة ومعقدة لكن بعد تحقيق شروطه المنظور إليها فلسطينياً على أنها تعجيزية وتحتاج إلى ألف عام قبل أن تجد فلسطينياً واحداً يوافق عليها فأي دولة تلك التي يريدها نتنياهو إذن؟.
- أرض فلسطين أرض يهودية وعلى الفلسطينيين أولاً الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية للشعب اليهودي, طبعاً منظمة التحرير الفلسطينية سبق لها الاعتراف بيهودية الكيان عام 1993 لكن هذا غير كاف خصوصاً بعد إضافة نتنياهو يهودا و السامرة - الضفة الغربية - إلى أراضي 48 باعتبارها أرض أجداده وهو بذلك يريد تأكيد حقيقة أن الفلسطينيين الذين لا زالوا في 48 مجرد ضيوف على أرض يهودية وعلى السلطة الفلسطينية إعطاء الضوء الأخضر لإجلائهم لأن ذلك يهدد أمن إسرائيل كما يريد الاحتفاظ بـ40 بالمائة من أراضي الضفة لأنها أرض يهودية مع طرح أميركا إمكانية تبادل الأراضي لأسباب ديمغرافية وأمنية بنفس الحجم وربما النوعية فيما يتعلق بالضفة.
- لا توقف عن الاستيطان بل مجرد حديث عن مستوطنات عشوائية يمكن التنازل عنها حالياً أو في الحل النهائي فيما يتعلق بتلك التي تم بنائها بعد أوسلو 1993 كما لا حديث عن القدس لأنها ستبقى عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل ولا حديث عن عودة اللاجئين إلى أراضي 1948 لأن عودتهم يناقض استمرار إسرائيل كدولة يهودية مع وضع ثلاثة خيارات هي عودتهم إلى أراضي الدولة المقترحة ومن لم يعد منهم يتم توطينه في الدول المضيفة -والمقصود هنا الأردن ولبنان وغيرها من الدول العربية- ومن تبقى منهم يُوطن في أميركا وكندا واستراليا ودول أخرى مستعدة لاستقبالهم ولا حديث عن حدود إسرائيل لاسيما وأنها لم تحدد في أي وثيقة منذ 1967 بحيث يتأسس الحل على انسحاب من مساحة محدودة فقط من الضفة.
مواصفات الدولة الفلسطينية:
منزوعة السلاح باستثناء قوات أمنية محدودة تعمل تحت الرقابة وليس لها أي حق في إبرام المعاهدات العسكرية، واحتفاظ الاحتلال بغلافها الجوي والبري والبحري للرد على أي تهديدات أمنية من إيران وحزب الله، ناهيك عن الارتباط المباشر وغير المباشر لاقتصادها بإسرائيل, أي أننا سنكون أمام مجرد منطقة صناعية ومحمية مقطعة الأوصال على أرخبيل منزوع السيادة والإدارة والقرار والإرادة وليس أمام دولة بالمعنى المتعارف عليه دولياً وبالمفهوم الأميركي مجرد حكم ذاتي مسلوب الصلاحيات.
ولذا نجد الاحتلال حريصاً كل الحرص في الحديث عن ضمانات عربية – اقتصادية - ودولية – أمنية- بأن هذه الدولة الموعودة ستكون منزوعة السلاح ولن تشكل خطراً مستقبلياً أكثر من حديثه عن حقوق فلسطينية لا أحد يأبه لها.
- استئناف المفاوضات دون شروط مسبقة وبدء العرب بالتطبيع الفوري في كافة المجالات لإثبات حسن النية تجاه الاحتلال تحت إطار السلام الاقتصادي وهو المصيدة القديمة المتجددة لاستجلاب أموال النفط العربي بغية توظيفها في عمليات التوطين وإنعاش الاقتصاد الإسرائيلي وبالتالي جعلها نقطة عبور لتحويل مشروع السلام العربي إلى مبادلة التطبيع بالانسحاب من أجزاء من أراضي 67 وإقامة الدولة الفلسطينية على ما تبقى منها, وهي الضمانات التي قصدها نتنياهو عربياً إلى جانب المطالبة بضمانات أمنية دولية وتحديداً من أميركا فيما يتعلق بإرسال قوات أميركية أو من الأمم المتحدة لتحل محل القوات الإسرائيلية في الإشراف على المعابر وداخل الدولة الفلسطينية مع احتفاظ الاحتلال بوادي الأردن وإعطاء القوات المتواجدة فيه حق الدخول والخروج إلى الدولة الموعودة.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم لمواجهة خطاب نتنياهو الصريح والحتمي والنهائي بما له من رافعات وأثقال وعوامل قوة وضغط تجعل الموازين تصب لصالح كيانه وتحول دون الدخول في مساومات خاسرة,وسؤالنا هو: ماذا لدى العرب والفلسطينيين من أثقال وعوامل قوة وضغط لجعل الموازين في صالحهم خصوصاً بعد ارتضائهم بتجزئة مسارات التفاوض و الحلول وتخليهم عن سلاح المقاومة؟, أم أنهم سيكتفون بالتعويل والرهان على الوسيط الأميركي الذي لم يكن في يوم من الأيام نزيهاً أو محايداً؟.
في حين يقتضي المنطق الاتجاه – وذلك أضعف الإيمان - نحو شد أزر الفلسطينيين ومساعدتهم على إعادة توحيد صفوهم وتوحيد كلمتهم وتشجيعهم على تقديم رؤيتهم الخاصة بهم حول عملية السلام إلى المجتمع الدولي قبل أن تتحول رؤية نتنياهو إلى رافعة أساسية ووحيدة للحل في المرحلة المقبلة.
ومعلوم أن رؤية أوباما تجاه عملية السلام لم تنضج بعد, وما يهمه حالياً هو محاولة تسهيل عقد مؤتمر دولي يكرس التسوية الشاملة على الجبهات المحيطة بالاحتلال و ترك الملف الفلسطيني للمفاوضات الثنائية بعدما تكون كل الدول العربية معنية بالعلاقة والتطبيع مع إسرائيل حصيلة توقيع معاهدات جديدة مع سورية ولبنان تحديداً.
وكل ما تريده واشنطن خلال فترة المؤتمر وما بعده هو تجميد المستوطنات وتسهيل تنقلات الفلسطينيين بالضفة والقطاع في سياق زمني تكون فيه نتائج المفاوضات الثنائية حول القضايا الرئيسية متوقفة على الوقائع الميدانية وعلى مدى قوة الموقع التفاوضي لكل طرف, لسبب بسيط هو طرح أوباما فكرة الدولة الفلسطينية كحلم وهدف دون أن يحدد ملامح هذا الحلم ولا كيفية الوصول إلى ذلك الهدف.. فعلى ما الرهان إذن؟
رابط هذا المقال:http://www.arabvoice.com/modules.php?op=modload&name=News&file=article&sid=1562
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)