Translate

الخميس، 27 يوليو 2023

ما الذي أبقاه النظام السعودي للمسلمين من فريضة الحج؟


مركز البحوث والمعلومات: زيد المحبشي

27 يونيو 2023

لم يعد "الحج" فريضة تعبدية سياسية صحوية تخلُقُ زخماً جديد في ضمير الأمة كل عام، ولم يعد فُرصة لإعادة التقييم في كافة البرامج والمناحي والمناشط الحياتية، ولم يعد مُؤتمراً يُقرر مصير الخليفة الثالث "عثمان بن عفان" ويُنحِّيه من الحكم، كما قرر مصير مُشركي قريش ونحّاهم من جزيرة العرب بقراءة سورة "براءة".

ولم يعد مُؤتمراً إسلامياً عالمياً يُناقش هموم المسلمين والمؤامرات الرامية القضاء على الإسلام وتشويه صورة نبي الإسلام في الذهنية والوعي الجمعي العالمي.

ولم تعد "عرفات" تحتل مركز مجلس الأمن الإسلامي، أو الأمم المتحدة الإسلامية.

ولم تعد "منى" تُمثل الكومنولث الإسلامي أو السوق الإسلامية المشتركة.

ولم يعد "الطواف" يهدف لبيان معنى القُربان والتضحية والفداء.

ولم يعد "السعي" يهدف لتكريس معنى السعي والعمل من أجل الله.

ولم يعد "الإحرام" يرمز لمعنى التقوى عن كل المحرمات وفق حكم الله.

ولم تعد "التلبية" تعني إعادة البيعة مع الله لتطبيق شرائعه.

ولم يعد "رمي الجمرات" يعني رفض شياطين الإنس والبراءة منهم بنفس درجة رفض شياطين الجن والتبرؤ منهم ومن كل الطغاة والمستبدين والمتكبرين والظالمين.

ولم .. ولم ..


إفراغ الحج من محتواه:


تعمل الوهابية والنظام السعودي على إفراغ هذه الفريضة المُقدسة من محتواها ومقاصدها التي أرادها الله في محكم التنزيل، لأن المسلمين إذا قاموا بها كما أراد الله فلن يبقَ لبقر الأميركان وقرودهم في المشرق العربي ولاية على المسلمين، ولن يبقَ لبني سعود ولاية على البيت الحرام، وبما أن هذه الفريضة تُشكِّل خطراً وجودياً على حُكام الدرعية وأولياء نعمتهم في واشنطن وربائبهم في تل أبيب، فمن الطبيعي أن يكون لهم سجل أسود في التعامل مع البقاع الطاهرة وضيوف الرحمن منذ تأسس دولتهم الأولى في نجد والحجاز في القرن السابع عشر الميلادي وحتى يوم الناس، ولم يدخروا طوال القرون الثلاثة الأخيرة وسيلة لتفريغ الحج من محتواه، وتحويله إلى مجرد طقوس جامدة وميتة ومفصولة عن واقع وحياة المسلمين.

وللأسف المتبقي الوحيد من هذه الفريضة المقدسة اليوم هو مجموعة من المُمارسات والقراءات تتخللُها أعمالٌ غريبة يجب التعبُد بها، دون التفّهُم لها، ولمعانيها، ومقاصدها، بعيدة ومفصولة عن كل الممارسات في حياتنا اليومية، هكذا تريده وهابية بني سعود تحت ذريعة الحفاظ على نهج السلف من بني أمية وبني قينقاع.

لذا لا عجب أن نجد الحاج حين يعود إلى منزله، لم يحمل معه من زاد الدنيا شيئاً، كما لم يُفلح في الحصول على زاد التقوى، وكل ما حمله معه إلى دياره اسم "الحاج"، ولا يحق له أكثر من الإسم، لأنه مارس مجموعة من أسماء، وكان نصيبه منها اسماً لا أكثر، ولأنه لم يعد في عُرف الجماهير، ذلك الذي يحمل معه سلوكية جديدة تُعطيه المزيد من الثقة بعلمه وعدالته، بل أصبح عند الناس ذلك الرجل الذي عرف كيف يُحوِّر معاني الدين ويستخدمها في مصالحه الخاصة، عندما قبل بفصل فريضة الحج عن واقع وحياة أمته، واكتفى بالقشور من تعبُّداته، وارتضى بالصمت على ما يُحاك ضد دينه وأمته.

إذن فالحج الذي أراده الله ليس رحلة سياحية أو زيارة طقوسية جامدة بل فريضةً عباديةً وسياسيةً وصحوية مُقدسة، ومؤتمر إسلامي عالمي، يجتمع فيه المسلمون من كل حدبٍ وصوب، لباسهم واحد، ومناسكهم واحدة، وصلاتهم واحدة، وقرآنهم واحد، وقبلتهم واحدة.

وهو مناسبة سنوية عظيمة لمناقشة قضايا وهموم المسلمين، وما يُحاك ضدهم وضد دينهم من مؤامرات، ناهيك عن أهميته في توثيق العلاقات الإسلامية البينية، وإظهار قوة المسلمين، ووحدتهم، واجتماع كلمتهم، وإرسال رسائل متعددة لأعداء الإسلام والمسلمين، مُفادها أن المسلمين يقظون وحاضرون لبذل كل غالٍ ونفيسٍ من أجل دينهم وكرامتهم.

ونظراً لما لهذه الشعيرة المقدسة من أهمية يعمل النظام السعودي جاهداً على منع وقمع أي حراك أو صحوة في مواسم الحج، تُحاول تجسيد الغاية التي أرادها الله من هذه الفريضة العظيمة، وإعادة العظمة والهيبة إليها، لأن في ذلك تنغيصٌ وتكديرٌ لحياة الطغاة والمستكبرين والظلمة والمستبدين.

ويتهم العلامة "حمود عبدالله الأهنومي" النظام السعودي بتحويل فريضة الحج "من مؤتمر لوحدة المسلمين إلى مؤتمر للتفريق بينهم، وتكفيرهم، وتضليلهم وتبديعهم، وقتلهم، وإضفاء المشروعية لجرائمهم التي يخزى حتى الخزي أن ينسبَها لنفسه، تفريقٌ وتمزيق من قبل شيوخ الدين الوهابيين الذين أصاخوا سمع العالم بنعيقهم العالي بخطورة بعض المسلمين، ولكنهم صمٌ بكمٌ عن خطورة المعتدين في فلسطين والعراق وغيرها من بلدان المسلمين"، حقيقة مرة لكن ذلك واقعهم.

والحج في مفهوم قائد الثورة الإسلامية الإيرانية السيد "علي الخامنئي": 

"فُرصةٌ لإعلان البراءة من المشركين والظالمين والطُغاة، وفُرصةً لإجتماع الكلمة ووحدة الصف بين المسلمين، وكل محاولةٍ لتغيير حقيقة هذه الفريضة وحرفها، ما هي إلا محاولات شيطانية، يسعى الشياطين الصغار لتحقيقها كسباً لرضا الشياطين الكبار"، وهو أيضاً "قضية عالمية وحضارية، أي أنه ليس فرضاً فردياً، بل موضوع سياسي، ..، الهدف منه هو الرقي للأمة الإسلامية ووحدتها أمام الكفر والظلم والاستكبار والأصنام البشرية وغير البشرية".

الشهيد القائد السيد "حسين بدرالدين الحوثي" حرص هو الآخر على التأكيد في عدة مواضع من ملازمه على أهمية هذه الفريضة في وحدة المسلمين، وكشف المؤامرات اليهودية لتعطيلها وإفراغها من محتواها:

"اليهود يفهمون قيمة الحج أكثر مما نفهمه، اليهود يعرفون خطورة الحج وأهمية الحج أكثر مما نفهمها نحن، ما أكثر من يحجون ولا يفهمون قيمة الحج.

الحج له أثره المهم، والكبير في خدمة وحدة الأمة الإسلامية، ألم يجزئوا البلاد الإسلامية إلى دويلات إلى خمسين دولة أو أكثر؟ وجزأوا البلاد العربية إلى عدة دويلات، لكن بقي الحج مشكلة، ففيه يلتقي المسلمون من كل منطقة، إذاً ما زال الحج رمزاً لوحدة المسلمين ويلتقي حوله المسلمون ويحمل معاني كثيرة جداً لو جاء من يُذكِّر المسلمين بها ستشكل خُطورة بالغة عليهم، على الغربيين، على اليهود والنصارى.

ولهم نصوص نحن نقرأها نصوص من وزراء منهم ومفكرين منهم يتحدثون عن خطورة الحج وأنه يجب أن يستولوا على الحج، وأنهم يجب أن يهيمنوا على هذه البقعة".

والهيمنة في طابعها العام لن تكون مباشرة بل عبر وكيلهم الحصري في جزيرة العرب "النظام السعودي"، كل الشواهد والوقائع تؤكد ذلك.

وألمح الشهيد القائد إلى جزئية مهمة يعملون عليها من أجل الوصول إلى غايتهم الشيطانية هي تقليل عدد الحُجاج بالتدرج ورفع تكاليف الحج وافتعال المشاكل في مواسم الحج:

"الحج إذا ما خُفِّض العدد يكون مقبولاً جداً؛ لأنه روضنا أنفسنا، وروضتنا حكوماتنا المباركة الجاهلة التي لا تعرف عن اليهود شيئاً، التي لا يهمها أمر الدين ولا أمر الأمة، ..، يكونون قد عودونا قليلاً، ثم أحيانا يقولون: السنة هذه اتركوها للمصريين، والشعب الفلاني والشعب الفلاني السنة هذه يُؤجل، أو السنة هذه احتمال يكون هناك وباء ينتشر يُؤجل .. وهكذا حتى يموت الحج في أنفسنا، حتى يضيع من ذاكرتنا…".

"لو نقول لكم الآن بأن إسرائيل بأن اليهود والنصارى يُخططون للاستيلاء على الحج فقد تقولون: مستحيل، ألسنا نعرف جميعاً بأن السعودية هي دولة صديقة لأميركا؟ أليس كل الناس يعرفون هذا؟ السعودية دولة صديقة لأميركا".

"تقليل عدد الحُجاج وكل بلد لا يحج منه إلا عدد مُعين ثم رفع تكاليف الحج هذه خطة يبدو أميركية، كل سنة يُخفِّضون أكثر، وكل سنة يفتعلون شيئاً فيما يتعلق بالكعبة، يقولون: قد حصل وباء أو حصل كذا من كثرة الازدحام، إذاً قللوا العدد قللوا العدد حتى يُصبح الحج قضية لا تُعد محط اهتمام عند المسلمين أو في الأخير يوقفوه".


ابتزاز سياسي رخيص:


يحرص النظام السعودي على إخضاع نِسب الحج لأهوائه ومصالحه السياسية، والتحكم بتحديد من يحق له الحج ومن لا يحق له، وتحويل الحصص والتأشيرات إلى ورقة للابتزاز والاستثمار السياسي.

وتؤكد العديد من التقارير الإخبارية قيامه برفع حصّة الحُجاج للعديد من الدول التي لها مواقف سياسية مُساندة له على الساحة الإقليمية والعالمية، وتقليص حصص الدول المُنتقدة له ولممارساته في محيطه العربي والإسلامي، والمُخالفة لهواه السياسي والمذهبي. 

وبالتالي خضوع منح التأشيرات أو حجبها، والتلاعب في حصص الدول لنوع العلاقات البينية، ومدى الاستجابة للابتزاز، أو التدخّل في الجهات التي تملك اختيار من يحصلون على التأشيرة في داخل تلك الدول، والتمييز بين الحجاج على أساس الولاء السياسي، ومن ذلك منع حُجاج دول كاملة السيادة، وتتمتع بالشرعية الدولية من أداء فريضة الحج، والسماح لحُجاج مناطق تقع تحت سيطرة داعش الإرهابية بأداء الفريضة، من ذلك السماح لحُجاج من مدينة الموصل العراقية ومناطق شمال سورية الواقعة خارج سيطرة الدولة السورية خلال فترة خضوعها لتنظيم داعش. 

وأحياناً يتم منع حُجاج بلدٍ ما استجابة لرغبة بلد أخر، من ذلك منع الحجاج الليبيين من أداء فريضة الحج بعد حادثة "لوكربي" الشهيرة نهاية العام 1988 بضغط من واشنطن ولندن وباريس، فقرر القذافي توجيههم الى القدس لأداء الحج بدل مكة المكرمة.

ومن النماذج حصر منح تأشيرات الحج للسوريين فيما يُسمى "الائتلاف السوري المعارض"، رغم أنه لا علاقة له بالداخل السوري، ولا يتعامل معه المواطنون المقيمون داخل سورية، وليس جهة يمكن التعامل معها دولياً، وبالمثل في لبنان في سنوات سابقة على جماعة قوات الحاخام "سمير جعجع" رغم أنه لا علاقة له بالإسلام.

ومن الشواهد رفضه زيادة عدد من الحجّاج الماليزيين على خلفية سحب "ماليزيا" قوّاتها من تحالف العدوان على اليمن عام 2018

ناهيك عن مُمارسة قائمة طويلة من الضغوط والشروط التعجيزية من أجل منع مئات الآلاف من أداء فريضة الحج، أملاً في الوصول لمرحلة تعطيل فريضة الحج نهائياً، وهذا مُخططٌ له سلفاً.


تجارة رابحة وتكاليف باهظة:


نشرت وكالة "أ ف ب" في 14 ذو الحجة 1438 هـ، الموافق 4 سبتمبر 2017 أرقاماً فلكية عن الأرباح التي جنتها السعودية خلال موسم الحج للعام 1438 هـ، نقلاً عن رئيس الغرفة التجارية والصناعية في مكة المكرمة "ماهر جمال"، حيث بلغت نفقات الحُجاج من داخل السعودية وخارجها "20 - 26" مليار ريال سعودي، ما يعادل "5.33 - 6.67" مليارات دولار بحسب أسعار تلك الفترة، بينما كانت في العام 1437 هـ، نحو 14 مليار ريال، ما يعادل 3.73 مليارات دولار، بزيادة 10 مليار ريال سعودي، ووصلت إيرادات المناسك والعمرة والزيارات الدينية الأخرى على مدار العام نحو 12 مليار دولار سنوياً، بحسب تقديرات "الفرنس برس" في يوليو 2022.

وبلغ عدد الحجاج لذلك العام 2.350 مليون حاج، بينهم مليون و750 ألف حاج من 168 دولة، والبقية من داخل السعودية، ولنا اليوم أن نتخيل عائدات المهلكة من موسم الحج لهذا العام بما رافقه من انتهاء جائحة "كورونا"، وتخفيف القيود عن الدول التي كانت ممنوعة من زيارة بيت الله الحرام لرفضها السياسة العوجاء لإبن سلمان في المنطقة.

وتعتمد خطة إبن سلمان2030 بدرجة أساسية على زيادة الحجاج، لما تُمثلُه من مصدر دخل ثابت للخزينة السعودية، ويؤكد الخبير الاقتصادي "عبدالمنعم بخاري" أن معدلات إنفاق حُجاج الخارج أكثر من حُجاج الداخل في الغالب.

ويصل مُتوسط نفقات الحاج من خارج السعودية خلال 12 يوماً، وهي الفترة المُقدّرة لأداء فريضة الحج نحو 2000 - 7000 دولار، ومتوسط إنفاق حُجاج الداخل 3 آلاف دولار بحسب تقديرات العام 2017.

حجاج اليمن كنموذج وصلت نفقات الحاج إلى 2300 دولار بحسب تقديرات العام 2017، وتتفاوت تقديرات الإنفاق من دولة إلى أخرى، مع الأخذ بالحسبان الرسوم الكبيرة التي يفرضها النظام السعودي بمسميات مُختلفة على ضيوف الرحمن دون وجه حق.

ارتفاع جنوني في تكاليف الحج إلى حدود جعلته حكراً على الأغنياء والمقتدرين، بسبب رفع السعودية أسعار الخدمات الإلزامية مثل خدمات المشاعر والطواف والنقل، وإضافة خدمات إلزامية جديدة مثل حالات الطوارئ والتأمين الصحّي ورسوم التأشيرة، وزيادة الضريبة على القيمة المضافة من 5% إلى 15%، ورفع خدمات الإيواء والغذاء وأسعار تذاكر الطيران تحت مبرر التضخّم العالمي.


اصطياد المخالفين والمعارضين:


شهدت السنوات الأخيرة الكثير من حالات الاعتقال في أوساط الحجاج خلال أدائهم مراسم الحج والعمرة، إما بسب معارضتهم لسياسات النظام السعودي في المنطقة كما حدث للكاتبة والمجاهدة المصرية الحرة "رانيا العسال" أثناء أداء فريضة العمرة قبل قرابة الشهرين، أو من أجل تسليمهم لدولهم من ذلك اعتقال حُجّاج ليبيون وتسليمهم إلى قوات "خليفة حفتر" قبل سنوات، وآخرون أردنيون وفلسطينيون ومصريون وعراقيون وحتى خليجيون وخصوصاً الناشطين من شيعة البحرين أخرهم الشيخ  "جميل الباقري" أثناء السعي بن الصفا والمروى قبل أيام ، وطالت الاعتقالات حُجاجاً من الأقلّية الأويغورية الصينية المسلمة وتسليمهم لنظام بلادهم من أجل التودد إليه.

هذه الإجراءات اللا إنسانية واللا أخلاقية استفزت العديد من المنظمات والشخصيات الحرة، من ذلك تدشين عدة مؤسسات حقوقية وسياسية وعلماء ودعاة وشخصيات بارزة، في 16 يونيو 2022 حملة لمواجهة "تسييس الحج"، وأصدروا بياناً بعنوان "الحج ليس آمناً"، اتهموا فيه النظام السعودي بتعمد "تسييس الحرمين، وجعل الحج والعمـرة أداة للقمع ووسيلة لتصفية الخصوم، وطريقاً لدعـم الأنظمـة القمعية، واعتقال عدداً من حجاج بعض الدول الذين يعيشون في المنفى، وتسليمهم لدولهم وأنظمتهم المشهورة بقمعها وانتهاكها للحقوق والحريات، واستخدام منبر الحرمين الشريفين أداة لتلميع سياسات نظام محمد بن سلمان، ولوحة دعائية له"، وأكدوا رفضهم وإدانتهم للاستغلال السياسي السعودي الرخيص لفريضة الحج والعمرة، وتحويلها إلى وسيلة للبطش واستدراج الآمنين ومصيدة لاعتقالهم، وتسليم ضيوف الرحمن قُرباناً للأنظمة القمعية، وناشدوا كل الأحرار في العالم الإسلامي من منظمات حقوقية وجمعيات ومجامع عُلمائية القيام بواجبهم لدفع الضرر عن بيت الله الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإدراج حقوق الحُجاج والمُعتمرين ضمن قوائم الحقوق والمعايير.

وفي يوليو 2018 أكدت "الهيئة الدولية لمراقبة إدارة السعودية للحرمين"، ومقرها العاصمة الإندونيسية جاكرتا، استغلال النظام السعودي مكرُمات الحج والعمرة لتعزيز مواقفه السياسية في المنطقة.

وكان النظام السعودي قد حذّر "إندونيسيا"، بوضع عقبات أمام سفر حُجّاجها إلى مكة ما لم تُصوّت لصالحه عند الحاجة في مجلس الأمن.

هذه التصرفات المنافية لأخلاقيات الإسلام دفعت الكاتب اللبناني "حسين إبراهيم" للتحذير مما هو قادم:

لقد "صار الحجُ مكاناً للخوف وانعدام الأمان، ومِصيدة للاعتقال التعسّفي والترحيل القسري لمعارضين أجانب إلى بلدانهم، وبؤرة للتجسّس على آخرين، ولم يَعُد ملايين المسلمين، نتيجة ذلك، قادرين على الوصول إلى مكة لزيارة مُقدّساتهم".


غياب الأمن وفوضوية التنظيم:


شهدت العقود العشرة الأخيرة فوضوية وعبثية غير معهودة في البقاع الطاهرة راح ضحيتها الآلاف من ضيوف الرحمن، بسبب سوء الإدارة والتنظيم والتخطيط والتأمين لمناسك الحج، والتعامل الفوقي والعبثي معها.

ناهيك عن طمس المعالم الإسلامية التاريخية، وللقيادة "السعودية - الوهابية" سجل حافل بالاعتداء على ضيوف الرحمن والتفنن في التنكيل بهم وقتلهم منذ اليوم الأول لتوقيع التحالف المشؤم بين "محمد بن سعود" و"محمد بن عبدالوهاب" عام 1744، وصارت أكثر توحُشاً ودموية بعد احتلال مكة والمدينة في العام 1220 هـ، الموافق 1806م، وما تلاه من حصار لمكة والمدينة لمرات عديدة، وقتل الآلاف من ضيوف الرحمن وسكان مكة المكرمة والمدينة المنورة، وتدنيس البقاع الطاهرة والعبث بمقدساتها، من أبرز الشواهد:


1 - هدم القبور والقباب بعد الاستيلاء على مكة المكرمة في العام 1218 هـ، الموافق 1804، وكانوا يرتجزون ويطبلون ويغنون ويشتمون القبور ومن بداخلها من الصحابة، وبعد أشهرٍ من العبث في بيت الله الحرام تمكن الشريف "غالب" من استعادة مكة، وفي العام 1219 هـ، 1805م فرض السعوديون والوهابيون حصار خانق على مكة استمر من ذي الحجة 1219 إلى ذي القعدة 1220، وفي المحرم من عام 1220 شنوا سلسلة غارات على أطرافها دون مراعاة لحُرمة شهر محرم الحرام وحُرمة وقُدسية تلك البقاع الطاهرة.

2 - هدم قباب المدينة المنورة بما فيها قباب البقيع، في العام 1221 هـ، الموافق 1807، ونهب ذخائر الحُجرة النبوية من أموال وجواهر، وطرد قاضي المدينة ومكة وبعض عُلمائها، وتعيين قُضاة من الوهابية، ومنع الناس من زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

3 - هدم القباب والمزارات بمكة والمدينة وجدة والطائف، في العام 1343هـ، الموافق 1924، وصب الرصاص على قُبة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ويتحدث المستر "هامفر" في مذكراته وهو ضابط في وزارة المستعمرات البريطانية وأحد مُعاصري ومُدربي "محمد بن عبدالوهاب"، عن تقديم مشروع لإبن عبدالوهاب لهدم الكعبة المشرفة، لكن الأخير اعتذر خوفاً من غضب سُلطات الاحتلال العثماني، فصرف النظر عن المشروع، ولكن الوهابية لم يألوا جُهداً عن صد عباد الله عن بيت الله الحرام كلما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، أملاً في إيقاف فريضة الحج نهائياً، وهو مشروع جاري العمل له على قدمٍ وساق بالتنسيق مع تل أبيب والبيت الأبيض.

هذه الحقائق الصادمة تُؤكد عدم أهلية النظام السعودي لإدارة المقدسات الإسلامية في الحجاز.

4 - مجزرة الحُجاج اليمنيين في "تنومة" عسير، عام 1341 هـ، الموافق 1921، وهي من الجرائم الأكثر فضاعة في تاريخ الوهابية السعودية، استشهد فيها أكثر من 3000 حاج يمني، امتنع اليمنيون بعدها عن أداء فريضة الحج لأكثر من 13 عاماً، ليعاودوا أداء الحج بعد توقيع اتفاقية الطائف بين الملك السعودي والإمام يحيى في العام 1934.

5 - تدمير النظام السعودي في الفترة 1344 – 1346 هـ، الموافق 1925 - 1927، كل ما في المدينة ومكة من آثار ثورية مرتبطة بانتصارات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على اليهود من بني قينقاع وبني النضير والملوك الخونة، وهدم مساجدها ومآثرها وقبور الشهداء والصحابة، بما في ذلك قباب وأضرحة البقيع، وقتل ونهب ونفي الآمنين من علماء وعامة، وتشويه جمالية المدينة المنورة، والتقليل من أهميتها، وقتل الجزار السعودي "عبدالعزيز بن إبراهيم"، أكثر من 7 آلاف مسلم غالبيتهم من الأطفال والنساء، منهم محمل بعثة الحج المصرية في منى عام 1926.

وتحدث تقرير للوزير البريطاني المفوض في جدةNORMAN MAYERS  عن قيام الوهابيين في موسم الحج للعام 1926 بقتل 4 من الحجاج الأفغان، وجرح اثنين، لأنهم كانوا يُؤدون الصلاة في جبل ثور، حيث اختبأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

6 - انفجار قناني الغاز في 8 ذو الحجة 1395 هـ، الموافق 10 ديسمبر 1975، بمخيمات الحجاج، واحتراق أكثر من 200 حاج.

7 - حدوث اضطرابات في المسجد الحرام في 1 محرم 1400 هـ، الموافق 20 نوفمبر 1979، واحتلاله من قبل جماعة سلفية مُحتسبة يقودها "جهيمان العتيبي"، واحتجاز عشرات الحجاج رهائن، ما تسبب في حدوث مواجهات داخل الحرم دون احترام لحرمته، راح ضحيتها أكثر من 150 قتيل و560 جريح.

8 - هجوم قوى الأمن السعودي في 6 ذو الحجة 1407 هـ، الموافق 31 يوليو 1987، على حجاج إيرانيين أرادوا إعلان براءتهم من المشركين، والإفراط في استخدام العنف والرصاص الحي ضدهم ما تسبب في استشهاد 402 حاج، منهم 275 حاجّاً إيرانيّاً، وإصابة 649 شخص، بينهم 303 من الإيرانيين.

واستغل النظام السعودي ذلك لتقليل العدد المسموح به من الحجاج الإيرانيين من 150 ألف حاج إلى45 ألفا، وفي العام 1991 شهدت العلاقات "الإيرانية - السعودية" تحسُناّ نسبياً، من أهم مخرجاته وضع حدٍّ أقصى للحجاج الإيرانيين يبلغ 115 ألف حاج فقط، بنقص 35 ألف حاج عما كان عليه في العام 1987. 

9 - شن قوى الأمن السعودية في 8 ذو الحجة 1409 هـ، 10 يوليو 1989، هجومين قرب المسجد الحرام، ما تسبب في قتل حاج وجرح 16، واعتقال 20 حاجاً كويتياً، وإعدامهم بعد أسابيع.

10 - وفاة 1426 حاجاً في 10 ذو الحجة 1410 هـ، الموافق 2 يوليو 1990، اختناقاً وسحقاً بالأقدام بسبب انعدام نظام التهوية في نفق "معيصم" الشهير بمكة المكرمة.

11 - سحق 270 حاجاً تحت الأقدام في 14 ذو الحجة 1414 هـ، الموافق 24 مايو 1994، بسب فوضى عارمة سادت رمي الجمرات.

12 - وفاة 3 حُجاج في 8 ذو الحجة 1415 هـ، الموافق 7 مايو 1995، بسبب حريق اندلع في خيمتهم وسقوط 99 جريحاً.

13 - اندلاع حريق في مخيمات الحُجاج في 8 ذو الحجة 1417 هـ، الموافق 15 أبريل 1997، أسفر عن احتراق 340 حاجاً وجرح 1500.

14 - وفاة 118 حاجاً وإصابة 180 بجروح بليغة في 13 ذو الحجة 1418 هـ، الموافق 9 أبريل 1998، بسبب التدافع.

15 - سحق 35 حاجاً تحت الأقدام بينهم 23 امرأة في 10 ذو الحجة 1421 هـ، الموافق 5 مارس 2001، خلال رمي الجمرات.

16 - استشهاد 87 حاجاً وجرح 14 بينهم 6 نساء بمنى، في 10 ذو الحجة 1423 هـ، الموافق 11 فبراير 2003.

17 - وفاة 251 حاجاً وسقوط مئات الجرحى في 10 ذو الحجة 1424 هـ، الموافق 1 فبراير 2004، خلال رمي الجمرات.

18 - استشهاد 3 حُجاج في 12 ذو الحجة 1425 هـ، الموافق 22 يناير 2005، خلال رمي الجمرات.

19 - انهيار فندق بمكة، في 6 ذو الحجة 1426 هـ، الموافق 6 يناير 2006، ما تسبب في وفاة 76 حاجاً.

20 - استشهاد 260 حاجاً في 12 ذو الحجة 1426 هـ، الموافق 12 يناير 2006، خلال رمي الجمرات.

21 - سقوط رافعة على رؤوس الحُجاج في 10 ذو القعدة 1436 هـ، الموافق 11 سبتمبر 2015، ما تسبب في وفاة 110 حاجاً وجرح 400.

وتسبّب ولي العهد السعودي باستشهاد 5000 حاج وجرح الآلاف، بسبب توجيه سيول بشرية منهم في اتجاهات متعاكسة، أدى إلى تدافعهم ودعس بعضهم بعضاً في "منى"، لكي يمر سربٌ طويل من السيارات الفارهة يمتطيها أمير مهفوف، لا يبالِ بحياة الناس ولا كرامتهم.

22 - اعتداء الأمن السعودي في ذو الحجة 1440 هـ، الموافق أغسطس 2019 على الحجاج الفلسطينيين بعد احتجازهم على الحدود ليومٍ كامل، ومنعهم من الدخول، رغم حصولهم على تأشيرات حج، ومتفق على دخولهم بالتنسيق بين وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية ووزارة الحج السعودية.


وما خفي أعظم، فأي حُرمة باقية للبقاع المقدسة، وفريضة الحج؟؟.


المراجع:


1 - أحمد ناصر، الثقافة الرسالية، دار التوجيه الإسلامي، بيروت - الكويت، ص 48 - 49.

2 - أحمد عبدالرازق، هل ترون أن السعودية تسيس الحج فعلاً؟، موقع بي بي سي عربي، 1 أغسطس 2017.

3 - الدكتور حمود عبدالله الأهنومي، سياسة السعودية الاستراتيجية، تقوم على إفراغ الحجّ عن محتواه، وأَهدَافه، وغاياته، صدى المسيرة، 10 سبتمبر 2016.

4 - حسين إبراهيم، هندسة "تجارية – سياسية" للحجّ، ابن سلمان للمسلمين: الكعبة للأكثر مالاً، الأخبار اللبنانية، 5 يوليو 2022.

5 - زيد يحيى المحبشي، الحج في زمن دولة بني سعود الوهابية، مركز البحوث والمعلومات، 25 يوليو 2020.

وكذا: الحج .. أبعاد ودلالات، صحيفة الأمة، العدد 268، 6 فبراير 2003.

6 - سعيد عكاشة، تسييس الحج عبر التاريخ... ملاحظات أولية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.

7 - العربي الجديد، هذه نفقات الحج في 10 دول عربية، 21 اغسطس 2017.

8 - الموقع الرسمي للسيد علي الخامنئي، بين تسييس الحج ومحاربة الشياطين، 13 سبتمبر 2016.

9 - سبوتنيك عربي، كم ربحت السعودية من الحج هذا العام، 4 سبتمبر 2017.

10 - صحيفة الثورة اليمنية، المؤامرة على الحج كما يراها الشهيد القائد برؤية القرآن الكريم، 14 يونيو 2021.

11 - فرانس برس، تُجار وفنادق مكة متفائلون بتعويض الخسائر خلال موسم الحج، 5 يوليو 2022.

12 - موقع قطر عاجل، تسييس الحج مقابل الوحدة والمساواة بين المسلمين، 23 يونيو 2022.

13 - موقع سعودي ليكس، ملاحقات أمنية وخُطب سياسية واستغلال مادي في موسم الحج، 11 يوليو 2021.

14 - وكالة تسنيم الدولية للأنباء من يسيس الحج .. السعودية أم إيران؟، 22 مايو 2016.

من الذي قتل الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء؟


مركز البحوث والمعلومات: زيد المحبشي

 منذ الوهلة الأولى لاستخلاف الله عز وجل الإنسان في الأرض، توضّحت الإرادة الإلهية من هذا الاستخلاف، وتحددت الأهداف المطلوبة من البشرية للقيام بهذا الإسناد الوظيفي المقدس، وهو إعمار الأرض بالخير والصلاح والعدل والفضيلة.

وفي الاتجاه الأخر كانت هناك مخلوقات رافضة للاستخلاف والتكريم الإلهي للإنسان بما يُمكن تسميته اليوم بالمعارضة، يقودها الشيطان الرجيم، المُعلن منذ الوهلة الأولى للاستخلاف البشري "تمرده"، رافضاً طلب العناية الإلهية السجود لأدم عليه السلام، وما كان السجود لذات المخلوق الآدمي، وإنما لمعرفة امتثال الطاعة لله، ومُعلناً سياسة التمرد على الأوامر الإلهية، ومُتعهداً بإغواء الإنسان وأحفاده، وحرفهم عن جادة الحق والصواب.

من هنا انقسمت البشرية إلى فريقين، الأولى استفاد من العقل المُفكر المستنير، فوظّف حياته للقيام بما أُنيط به من هدفية الإعمار وإشاعة الخير والفضيلة، والثاني انخدع بأحابيل الشيطان وأعوانه، وقرر السباحة في بركته الأسنة النتنة، والنتيجة الحتمية لهكذا انقسام، تولُّد الصراع بين الإنسان وذاته والإنسان وبني جلدته.

انبثق عن هذا الصراع الفساد في الأرض، وانتشار التظالم بين بني الإنسان، والغاية من وراء ذلك كله التكالب على طُعم "التسقيط الإبليسي" المُتمثل في بريق الدنيا الخادع وحُطامها الفاني، والإلتهاء عما أعده الله للصابرين والمصابرين في الآخرة.

إذن فالدنيا دار اختبار وبلاء والآخرة دار جزاء وسعادة، لذا أرسل الله الرسل والأنبياء لإصلاح أحوال البشرية وتقويم مسارها وتوجيهها نحو طريق الهدى والحق والعدل والحرية، والنأي بها عن مُنزلقات المهاوي المُضلة الهالكة، لا سيما وأن البشرية لم تعد محدودة العدد بل صارت من الكثرة ما يستوجب تنظيم علاقاتها البينية، وعلاقاتها مع الكون المحيط بها، والأهم من ذلك علاقتها مع خالقها، في حين تغاضى الله عما هو له، شريطة ألا يصل ذلك إلى نُكران الوجودية، ونُكران الوحدانية، لكنه لم يتساهل في حقوق البشر لبعضهم، وحقوق الإنسان مع ذاته.

لهذا أتت رسالة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم من أجل وضع الحق في نصابه، فكان انبلاج نورها المُضيء الكون بأسره في مرحلة وصل الظلم مداه، وكانت هدفيتها الحرب على التنزيل، بينما أُنيطت بأحفاد النبوة مهمة الحرب على التأويل، من أجل إبلاغ الناس أن المسار واحد، والهدف واحد، وهو الخروج من عبودية الإنسان لأخيه الإنسان إلى تفريد العبودية لله وحده وبلا ندية.

ثورة الطف التي قادها السبط الثاني لرسول الله أبي عبدالله الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، تجلّت هدفيتها منذ الوهلة الأولى، بعد أن رأى الإمام الحسين سلام الله عليه أن الوضع قد بدء بالانحدار إلى ما كانت عليه الجاهلية الأولى، إذ بدت معالم السياسة العامة لقادة الدولة الأموية بقيادة المؤسس الأول واضحة في مُضيّها المتعجرف والمتغطرس والمتعالي في معاكسة تعاليم الإسلام والنزوع نحو بهرجة المُلك العضوض بما في ذلك من ظلم وعربدة وتجبُّر ومجون وإسفاف وانسلاخ عن قيم وأخلاقيات ومبادى وتعاليم الإسلام.

لم يكن أمام الإمام الحسين عليه السلام والقلة المؤمن من أهله وذويه وأنصاره، من خيار، سوى وجوب الخروج:

"أيها الناس إني سمعت جدي رسول الله يقول: من رأى منكُم سُلطاناً جائِراً مُستحلاً لحُرم الله، ناكثاً بعَهدِه، وفي رواية بيعته، مُخالِفاً لسنّةِ رسولِ الله، يَعملُ في عبادِه بالإثمِ والعدوانِ، فلم يُغِرْ، وفي رواية فلم يُغيّر ما عليهِ بقولٍ ولا بفعلٍ، كان حَقّاً على الله أن يُدخِله مَدخلَه.

 وقد عَلمتُم أنَّ هؤلاء القومَ - مُشيراً إلى بني أميّة وأتباعِهم - قد لَزِموا طاعةَ الشيطانِ وتَولَوا عن طاعةِ الرحمنِ، وأظهرُوا الفسادَ وعطلّوا الحدودَ واستأثَروا بالفيء، وأحَلّوا حرامَ اللَّهِ وحَرَّموا حلالَهُ، واتخذوا مال الله دِولاً، وعباده خِولاً، وإنّي أحقُّ بهذا الأمر، وفي رواية وأنا أحق من غيّر".

فكان خروجه سلام الله عليه طلباً للإصلاح في أمة جده، لا لهثاً وراء مناصب زائلة، وتقويم الاعوجاج الذي أحدثه ملوك الفئة الضالة المُضلة في حياة المسلمين وشريعتهم، وإسقاط إرهاب الدولة الفوقية المُتعالية والمُتسلطة.

ورغم التضييقات التي مارسها عبيد بني أمية على الإمام الحسين عليه السلام في المدينة ومكة وقتل رسوله إلى الكوفة، من أجل منعه من الخروج ضد ظلم وجبروت "يزيد"، لم يهتم لذلك بل واصل مسيره إلى العراق، رغم تحذيرات الأقارب والمُحبين من نكث المباعين.

وكان ديوانه سلام الله عليه قد أحصى 12 ألف كتاب، وفي الروضة: عن أبي العباس الحسني، زُهاء 800 كتاب من أهل العراق، ببيعة 24 ألفاً، لكن لم يثبت ساعة المنازلة سوى "32 - 45" فارساً و"40 – 100" راجل، بينهم "22 - 27" طالبياً، في مواجهة جيش جرار من أهل الباطل بلغ قوامه 30 ألفاً، وقيل 100 ألف.

وفي العاشر من محرم الحرام 61 هجري قمري كانت المنازلة الفاصلة بن الحق والباطل في أرض كربلاء القاحلة، انتهت باستشهاد أبي عبدالله الحسين عليه السلام ونحو "70 – 87" من أصحابه وأهل بيته، ووثق الرواة نحو 52 إسماً ممن استشهدوا معه، منهم 34 شهيداً من اليمن، بواقع 10 شهداء من همدان، و10 من مذحج، و5 من الأنصار، و3 من الأزد، واثنان من حمير، وواحد من قبائل كندة بجيلة وكلب وطيّء وخزاعة والحضرمي وخثعم، وهم يمثلون ما نسبته 47 %.

لم يكن استشهاده سلام الله عليه هزيمة كما يروج أعداء الحق بل نصراً وفتحاً مُبيناً، فقد أحدث خُروجه سلام الله عليه أزمة حادة لمشروعية حكم المُفسدين، حيث كان خروجه في العام 61هـ، وبعد استشهاده مباشرة عصفت بالحكم الأموي عدة ثورات، استمدت وهجها من كربلاء الطف كحركة التوابين وثورة حليف القرآن الإمام زيد بن علي عليه السلام والثورة الإعلامية الزينبية وغيرها، أفضت مُجتمعة إلى تقويض بنيان الحكم الأموي في العام 132هـ، أي بعد 61 عاماً، وفي هذا سرٌ عظيم، بينما كان مصير الطاغية "يزيد بن معاوية" شر قتلة، وكل من شارك في قتل الحسين وأهله وصحبه انتقم الله منهم شر إنتقام، وشرب كل واحد منهم من نفس كأس عمله الشيطاني، وتلك عدالة الله في الكون.

ثورة الإمام الحسين عليه السلام أسست لحق المعذبين والمستضعفين في الأرض، في إسقاط شرعية الأنظمة المتسلطة، وهز كيانها، وكشف زيف أوراق المتآمرين على الحق والحرية والعدالة، من طابور خامس عريض، كان وما يزال أحد أهم العوامل الهدامة والمؤرقة للأمة الإسلامية منذ بزوغ شمس الرسالة المهداة، وحتى يوم الناس، فكانت بحق مصباح الهدى وسفينة النجاة ومعراج السعادة الإنسانية وفق مشروطة العدالة الدينية، وها هي بعد 15 قرناً من السنين لا تزال تتوهج، غامرة الكون بسناها، بينما إرهاب الدولة الأموية المُرِّسخ لسُلطة التمييز العنصري الفوقي، سرعان ما تلاشت وذابت في مزبلة التاريخ، وإندرس أقطابها، ولحقت أعمالهم اللا إنسانية لعنة الله والتاريخ والإنسانية.

 الحسين بطل توّسد في الطف ليروي شجرة الحرية المتنامية إلى نهاية الحياة الإنسانية، وفي المقابل لا تخلوا الحياة من يزيدية مُتجددة في كل زمانٍ ومكان، كما سيستمر الصراع بين الحق والباطل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والأهم من كل هذا لمن ستميل الكفة، إنها لأصحاب الحق المشروع في ظل يزيدية متهافتة شرعيتها، مأزومة مواقفها، وما يشهده الكون اليوم من تململ حُسيني ضد يزيدية القرصنة الكونية الجديدة خير مثال.

الإمام الحسين ومخاضات السقيفة

من حقنا أن نسأل من الذي قتل الإمام الحسين عليه السلام، هل هو يزيد وجيشه، أم الأخطاء المتراكمة التي رافقت دولة الإسلام بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبمعنى أخر والتساؤل هنا للشهيد القائد "حسين الحوثي" رحمة الله عليه:

"هل كانت فاجعة كربلاء، وليدة يومها، ومجرد صُدفة، أم أنها نتاج طبيعي لانحرافٍ حدث في مسيرة هذه الأمة، انحرافٍ في ثقافة هذه الأمة، انحرافٍ في تقديم الدين الإسلامي لهذه الأمة، من اليوم الأول الذي فارق فيه الرسول صلوات الله عليه وعلى آله وسلم هذه الأمة للقاء ربه؟؟".

" إذا فهمنا أن حادثة كربلاء هي نَتاج لذلك الانحراف، حينئذٍ يمكننا أن نفهم أن تلك القضية هي محط دروس وعبر كثيرة لنا نحن، من نعيش في هذا العصر المليء بالعشرات من أمثال يزيد وأسوء من يزيد".

تحديد ماهية القاتل، وبلغة أخرى المُتسبب في قتل الحسين، والأسباب التي أدت إلى قتل الحسين، في غاية الأهمية إذا ما أردنا بالفعل الاستفادة العملية من ثورة وتضحيات الإمام الحسين وقافلة طويلة من قرابين العشق الإلهي من أهل البيت عليهم السلام ممن نذروا أنفسهم وأروحهم من أجل أن تظل منارة الإسلام عالية شامخة مُضيئة الكون بأنوار الرحمة المُهداة إلى يوم الدين، وعملوا بكل إخلاص وتفاني من أجل تطهير المجتمع من الفساد والظلم والعبث والإرهاب السلطوي، وكلهم استشعروا واجب النهوض والخروج بعد موت ووأد السنة المحمدية، وإطفاء الأنوار الربانية، وإحياء البدع الجبروتية والطاغوتية.

في دراسة الأسباب التي أدت إلى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام على يد من يدعون الإسلام، ويرفعون رايته، ويحكمون المسلمين باسمه، يؤكد الشهيد القائد أن منبعها الأساسي هو "الانحرافات الأولى" التي عصفت بالأمة الإسلامية بعد رحيل خاتم الأنبياء والمرسلين، بما في ذلك تمكُن العديد من الطلقاء من الوصول إلى مراكز متقدمة في صنع القرار والتحكم في رقاب العباد في عهد الخلفاء الثلاثة الذين حكموا الأمة بعد رسول صلى الله عليه وآله وسلم، ما دفع الإمام علي عليه السلام بعد أن جرت له البيعة بالولاية في العام 35 هجري قمري إلى تصحيح الإعوجاجات التي لحقت بدولة الإسلام، فكان أول قرارٍ له عزل أول ملوك الملك العضوض "معاوية بن أبي سفيان"، رافضاً أن يحكم رجل كهذا "منطقة كالشام باسم علي، وباسم الإسلام، البعض نصح الإمام عليه السلام بأن الوقت ليس مُناسباً لاتخاذ مثل هذا القرار، فمعاوية قد تمكن في الشام"، وطلبوا منه الانتظار حتى يتمكن من الخلافة، ثم بعدها يُصدر قرار العزل.

ويرى الشهيد القائد أن تلك الفئة المطالبة بالتريث في عزل "معاوية"، هي ممن "يفهمون سطحية السياسة، وعند من لا يصل فهمهم إلى الدرجة المطلوبة بالنسبة للآثار السيئة والعواقب الوخيمة لأن يتولى مثل ذلك الرجل على منطقة كَبُرَت أو صَغُرَت، على رقاب المسلمين، كمعاوية".

لكن منطق عقيم كهذا لا مكان له عند خاتم الوصيين، فقد كان رده سلام الله عليه: "لا يمكن.. "، واستشهد بقول الله تعالى: "وما كنتُ مُتخذ المضلينَ عَضُداً"، أي عوناً ومُساعداً، "لأن من تُعيِّنه والياً على منطقة، أو تُقرُّه والياً على منطقة ما، يعني ذلك أنك اتخذته ساعداً وعضُداً، يقوم بتنفيذ المهام التي هي من مسئوليتك أمام تلك المنطقة".

"عندما نعود إلى الحديث من هنا هو من أجل أن نعرف ما الذي جعل الأمور تصل إلى هذه الدرجة، فنرى الحسين صريعاً في كربلاء، إنها الانحرافات الأولى؟؟!!".

فـ "الإمام علي لم يُقرّ أبداً معاوية والياً على الشام، وعندما استشهد بقول الله تعالى: {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً}، الكهف: 51، لأن معاوية رجلٌ مُضِل، ..، وقد بقي فترة طويلة على بُعدٍ من عاصمة الدولة الإسلامية، أضل أمة بأسرها، أقام لنفسه دولة في ظل الخلافة الإسلامية، وعندما حصل الصراع بين الإمام علي عليه السلام وبينه، وجاءت معركة صفين، استطاع معاوية أن يحشد جيشاً كثير العدد والعُدّة، أكثر من جيش الخليفة نفسه، ..، من تلك الأمة التي أضلها، لمّا أضلها انطلقت تلك الأمة لتقف في صف الباطل، لتقف في وجه الحق، لتقف في وجه النور، لتقف في وجه العدالة، في وجه الخير، تقف مع ابن آكلة الأكباد، مع ابن أبي سفيان ضد وصي رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله وسلم".

وما أشبه تلك الأمة من الأنعام بأولئك الذين اصطفوا مع معاوية تحالف العاصفة وباطله المتوارث في مواجهة أحفاد أنصار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقيادة حفيده حسين العصر في اليمن، لم يتغير شيء في معادلة الصراع الازلي بين الحق والباطل، لكن أين صار رموز الباطل وأين أصبح رموز الحق؟.

لم يكن علياً عليه السلام من عُشاق السلطة والكراسي الزائلة وهو القائل: "إن خلافتكم هذه لا تساوي عندي شِراك نعلي هذا إلا أن أُقيم حقاً أو أُميت باطلاً"، لذا لم يهتم سلام الله عليه عندما قرر إزاحة معاوية من حكم الشام، إن كان الثمن حياته:

"علياً لم يكن من أولئك الذين يحرصون على مناصبهم، وليكن الثمن هو الدين، وليكن الثمن هو الأمة.. ، ومصالح الأمة، ومستقبل الأمة، وعزة الأمة وكرامتها، ..، الإمام علي يعرف أن من يعشق السلطة، أن من يعشق المنصب هو نفسه من يُمكن أن يُبقي مثل معاوية على الشام، هو نفسه من يمكن أن يبيع الدين الإسلامي، هو نفسه من يمكن أن يبيع الأمة بأكملها مقابل أن تسلم له ولايته، وأن يسلم له كُرسيه ومنصبه".

ومن يومها والأمة الإسلامية تعاني من هذه النوعية من الحُكام "هذه النوعية التي نراها ماثلة أمامنا على طول وعرض البلاد الإسلامية، لما كانوا من هذا النوع الذي لم يَتَلَقَّ درساً من علي عليه السلام الذي كان قدوة، يُمكن أن يحتذي به من يصل إلى السلطة، قدوة للآباء في التربية، قدوة للسلاطين في الحكم، قدوة للدعاة في الدعوة، قدوة للمعلمين في التعليم، قدوة للمجاهدين في ميادين القتال، قدوة لكل ما يمكن أن يستلهمهُ الإنسان من خير ومجد وعز، أولئك الذين لم يعيشوا هذه الروحية التي عاشها الإمام علي عليه السلام في اليوم الأول من خلافته، فأرى الجميع أن خلافته عنده لا تُساوي شِرَاكَ نعله إذا لم يُقِم حقاً ويُمت باطلاً".

ويعيد الشهيد القائد سلام الله عليه التساؤل: "ما قيمة دولة تُحكم باسم الإسلام، ويتربع زعيمها على رقاب المسلمين، ثم لا يكون همه أن يُحيي الحق ويُميت الباطل؟".

الجواب: "لا قيمة لها، ليس فقط لا قيمة لها، بل ستتحول قيمتها إلى شيء آخر، ستتحول الأمور إلى أن يكون قيمتها هو الدين، إلى أن يكون قيمتها هو الأمة، عندما نسمع زُعماء العرب، زُعماء المسلمين كلهم يُسرعون إلى الموافقة على أن تكون أميركا حليفة، وأن تكون هي من يَتَزَعَّم الحلف لمحاربة ما يُسمى بالإرهاب، وعندما نراهم جميعاً يُعلنون وقوفهم مع أميركا في مكافحة ما يسمونه بالإرهاب؛ لأنهم جميعاً يعشقون السلطة، لأنهم جميعاً يحرصون على البقاء في مناصبهم مهما كان الثمن، لكنهم لا يمكن أن يُصرحوا بهذا، هم يقولون: من أجل الحفاظ على الأمن والاستقرار، من أجل الحفاظ على مصلحة الوطن!، أو يقولون: خوفاً من العصا الغليظة، العبارة الجديدة التي سمعناها من البعض: الخوف من العصا الغليظة!، وأي عصا أغلظ من عصا الله، من جهنم، ومن الخزي في الدنيا؟".

لهذا أراد الإمام علي عليه السلام "أن يُعَلِّم كل من يُمكن أن يصل إلى موقع السلطة في هذه الأمة أنه لا يجوز بحالٍ أن تكون ممن يعشق المنصب؛ لأنك إذا عشقت المنصب ستُضحي بكل شيء في سبيله، وألا تخاف من شيء أبداً، فإذا ما خفت من غير الله، فسترى كل شيء مهما كان صغيراً أو كبيراً يبدو عصاً غليظة أمامك".

إذن فمن قتل الحسين عليه السلام هو من سمح لمعاوية ويزيد وأمثالهم من عُشاق السلطة بالتحكم في رقاب المسلمين باسم الإسلام، إنها "الانحرافات الأولى"، بدءاً بـ "السقيفة" وما تلاها، والتي لازالت الأمة تُعاني من ويلاتها إلى اليوم، نقولها بصراحة رغم مرارتها.

ذلك هو واقع حال المسلمين، وما شهدته الامة الإسلامية من مجازر وصراعات وضعف وتقزم وشتات هو نتاج طبيعي لتلك "الانحرافات"، وما عداها فكلام مردود وممجوج وأحاجي واهية ومتهافتة، وأمة لا تستفيد من أخطاء ماضيها، وتعمل على تلافيها، وتُعيد الحق إلى نصابه، لن تُشفَ من عثرتها، ولن ترى نور الهداية والحق والعزة والكرامة.

السلام على الحسين وأولاد الحسين وأصحاب الحسين، السلام عليك يا أبا عبدالله يوم وُلدت فكان ميلادك بذرة لصدق العقيدة، ويوم استشهدت فكان استشهادك بعثاً لتلك النفوس الميتة، لتحلق في سماء العز والفضيلة، ويوم تُبعثُ حياً ليجزيك ربك جزاء تضحيتك العظيمة، والتي جحدتها الأمة، ولم تعرف حقها، فجئتها غريباً، وعشت معها غريباً، ورحلت عنها غريباً، فطوبى للغرباء.