زيد يحيى المحبشي
"الأزمات العربية لم تعد عربية خالصة، فهناك دائماً يد خارجية يختلف حجم تدخلها وتورطها بحسب الحالة، كما يختلف الاتجاه بحسب مستوى -كل أزمة على حِدة- وإطلالاتها على الإقليم أو العالم، وهو أمر لم يعد سيئاً في حد ذاته -على الأقل تلك رؤية المستفيدين من التدخل الخارجي كل بحسب موقفه ومصالحه من هذا التدخل أو ذاك- وهو أمر لم يعد محجوباً بل صار حديثاً صاخباً, وأمراً واقعياً يجب التعامل معه وتهذيبه إن كان شراً مستطيراً، والتمسك به إن كان خيراً".
قراءة واقعية للوضع غير الطبيعي الذي شهدته الساحة العربية خلال العشرية الأخيرة وما صاحبها من أزمات. يعتقد الدكتور حسن أبو طالب أن للتدخلات الخارجية الدور الرئيسي في استفحالها واستعصائها على العطارين الجدد من حملة مباخر الأجندة والتغيير وسط ما يعانيه النظام العربي من ضعف وتباعد وعدم استقرار وفوضى عارمة هيئت مجتمعة الأرضية العربية لترعرع وتنامي قوى الجريمة والإرهاب وفتحت المجال واسعاً أمام القوى الإقليمية والدولية الطامعة والطامحة إلى تصفية حساباتها وفرض أجندتها وإرادتها على حساب حاضر ومستقبل العرب.
الصومال تظل نموذجاً فاقعاً للأزمات العربية المتناسلة من رحم التدخلات الخارجية والتي حولَّته أثراً بعد عين مما أدى إلى تلاشي الدولة حتى يئس الصوماليين في ظل الغياب العربي والصمت الدولي من عودة الأمن والاستقرار لتبقى ثقافة العنف وصناعة الموت الحقيقة الوحيدة الثابتة في هذا البلد المنكوب بلعنة الجغرافيا وجفاء الأشقاء وتربص الجيران.
المدخلات
منذ استقلال الصومال في 1960 بدأت الدولة الجديدة بالمناداة بالصومال الكبرى وسط رغبة جامحة للم شمل الصوماليين المشتتين بين إثيوبيا المحتلة لإقليم أوجادين الصومالي 1964 وكينيا المحتلة لإقليم أنفدي 1963 والمجاميع الأخرى المشتتة بين غينيا ورواندي, الأمر الذي فتح على الصومال أبواب جهنم وتحديداً بعد استيلاء الجنرال محمد سياد بري على السلطة في 1964 وانتهاجه النهج الشمولي والقبضة الحديدية في الداخل مضيفاً بذلك بُعداً جديداً تمثل في تغذية دول الجوار للكبت الداخلي في حين كانت الحرب مع إثيوبيا على أوجادين في 1977 الشعرة القاصمة لظهر البعير والذي كانت نتيجته سقوط نظام بري في 1991 ومن حينها دخلت البلاد في أتون حرب أهلية طاحنة لم تشهد بعدها سوى أشهر قليلة من الأمن والاستقرار خلال فترة حكم المحاكم الإسلامية قبل أن تتمكن القوات الإثيوبية وبغطاء أميركي من إسقاطها في 2007 على خلفية بروز عامل ثالث للأزمة تمثل في الربط بين الإرهاب والتيارات الإسلامية إلا أن ذلك لم يحل دون معاودة القوى الإسلامية الظهور وبأقوى من السابق بدلالة تمكنها في فترة قصيرة – بداية النصف الثاني من عام 2009 - جداً من بسط سيطرتها على مناطق الجنوب وأجزاء واسعة من مقديشو بقيادة حركة شباب المجاهدين والحزب الإسلامي رغم خروج القوات الإثيوبية وتنصيب رئيس المحاكم الإسلامية شيخ شريف شيخ أحمد رئاسة الدولة,بالتوازي مع اتهام المعارضة له ببيع القضية,غير أن هذا لم يحول دون الاشتباك المسلح بين حركة الشباب والحزب الإسلامي مؤخراً, وهو ما يشي بمدى ديناميكية الخريطة السياسية في هذا البلد وقابليتها للتحرك في كافة الاتجاهات تبعاً لتوازنات المصالح والمعارك العسكرية والتغيرات السياسية وبوصلة التحالفات المتقلبة.
المشكلة الصومالية بصورة عامة تدور حول الصراع على السلطة والذي بدوره يظل خاضعاً لحسابات دول الجوار والقوى الكبرى العاجزة حتى الآن عن فرض أجندتها في هذا البلد بالقوة العسكرية والتدخل المباشر على خلفية الفشل الأميركي الذريع (1992- 1995) وفشل الحرب بالوكالة عبر وكلائها في المنطقة والمتحكمين بدورهم في توجهات القوى الموالية لهم داخل الصومال وهو ما أدى أيضاً إلى فشل كل مبادرات التسوية وآخرها المبادرة الجيبوتية في 26 أكتوبر 2008 المنبثق عنها رحيل القوات الإثيوبية وتشكيل حكومة انتقالية بقيادة شيخ شريف لم تتعدّ سلطتها أعتاب القصر الجمهوري.
الصراع السياسي والعسكري المتواصلة حلقاته, أفرز في طريقه مشاكل عديدة زادت من حدة المأساة الصومالية بعد تجاوز الهاربين من جحيم الداخل الـ1.5 مليون إنسان وتشريد مليون إنسان داخل الصومال وخضوع مئات الآلاف لظروف معيشية بائسة وتفاقم مشكلات الأمن الغذائي والفقر والجهل والأمراض المستوطنة وانتشار المخدرات والسلاح وخاتمة الأثافي القرصنة.
الصورة بمفرداتها تشكل نموذجاً لما يمكن أن يحدث في أي مكان يجتمع فيه التدخل الخارجي والتطرف الديني والاستبداد السياسي والتسيُّد العرقي والقبلي والتخلف الاقتصادي والاستعماري وفي التفاصيل يمكن تصنيف نوعين الأول يتعلق بالعوامل الحائلة دون وضع حد للمأساة الصومالية ولعل أهمها العداوة التاريخية مع إثيوبيا وكينيا والأخطار السياسية المتمثلة في القوميات العرقية المتداخلة مع إثيوبيا وإريتريا وأوغندا والتي حملت في طياتها على الدوام بذور التفتيت والتشظي إلى جانب الأزمات الاقتصادية والتدخلات الخارجية والصراع الدولي الإقليمي على سواحل الصومال وإريتريا ومنطقة القرن الأفريقي عموماً.
النوع الثاني يتعلق بالأسباب والتي يمكن تلخيصها في الضعف الإداري وضعف العلاقة مع الغير والاعتماد الكلي على المساعدات الخارجية، إلى جانب مفاعيل القبيلة والعشيرة والدين ودورها في توجيه بوصلة الصراع على السلطة واتجاهات التحالفات الحاكمة والمعارضة ليضاف إليها مؤخراً الربط بين الإرهاب والتيارات الإسلامية وهو ربط مشكوك فيه لسبب بسيط هو اتسام حقبة حكم المحاكم الإسلامية بالأمن والاستقرار وغياب ظاهرة القرصنة وذهاب العديد من الدراسات الغربية التي أجريت في منطقة القرن الأفريقي إلى أن ارتفاع ظاهرة العنف والإرهاب في الأوساط المسيحية بمنطقة القرن الإفريقي في السنوات الأخيرة كان بمعدلات تفوق حدوثها في الأوساط الإسلامية بكثير وبالمقابل وجود علاقة قوية ووثيقة بين ظاهرة القرصنة المزدهرة بصورة لافتة في المناطق المقابلة لتواجد القاعدة الإستراتيجية الأميركية- الفرنسية وبين التوتر داخل الصومال وبين مصالح الجيران والأطماع الدولية ما يعني أن حل ظاهرة القرصنة متوقف على تشكيل حكومة قوية ومستقرة في الصومال.
الفصائل المتناحرة في هذا لم تشهد يوماً خلافاً على دستور سنه الحاكم أو على قاعدة ديمقراطية تجاهلتها الحكومات المتعاقبة أو دفاعاً عن فكر أو إيديولوجيا تتبناها هذه الجماعة أو تلك وإنما كانت الغاية الصراع على السلطة والسيطرة على المدن كل فصيل حسب رؤيته للمدينة الأنسب له وهو ما جعل كل جولات المصالحة الخارجية منصبة على التوترات الأمنية فقط دون السياسية والتنموية ودون مراعاة التوازنات الداخلية الحساسة الأمر الذي أدى إلى فشل اتفاقيات المصالحة وعودة الأمور أسوأ مما كانت عليه وسط انعدام كامل للثقة بين الفصائل.
المخرجات
في تقييمه للمشهد الصومالي يرى الدكتور حسن أبو طالب أن هذا البلد أضحى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية بين إثيوبيا وجيبوتي من جهة وإريتريا من جهة أخرى ومن وراء هذه القوى الثلاث تدخل وتخرج الحركات الجهادية والقتالية راغبة في أن تحول الصومال إلى موطئ رئيسي لاسيما وأن التنظيمات الإرهابية والجهادية والقتالية العابرة للحدود صارت عنصراً مهماً ورئيسياً في أشكال التدخل في الأزمات العربية, وهي نتيجة طبيعية سببها حسب نيل كامبل أن "الاتحاد الأوربي كان ينظر في السابق إلى الصومال بوصفها دولة فاشلة لا تجدي معها المساعدات والنظرة نفسها كانت لأفغانستان التي صارت بعد ذلك دولة مصدرة للإرهاب ولذا فالحل في التنمية".
المشهد الصومالي المتشظي خضع خلال الـ18 عاماً الماضية للعديد من العوامل الحائلة دون إعادة الأمن والاستقرار سواء كانت داخلية أو خارجية.
داخلياً: كان هناك صراع واضح على السلطة، ولذا لم تكن الفوضى في حد ذاتها هدفاً وإنما وسيلة للوصول إلى السلطة في بلد تحكمه توازنات قبلية وعرقية وأيديولوجية في غاية الحساسية في حين أدى سقوط الدولة في 1991 إلى إعمال الدور الخارجي مفعوله في خلخلة تلك التوازنات وتكريس مبدأ التنازع على السلطة بين القبائل والعشائر والتيارات الساعي كل منها إلى تحقيق مكاسب مادية وتكتيكية تضمن الانفراد بالسلطة على حساب باقي المكونات وسط غياب شبه كامل لدولة مركزية قوية وعدم وجود قوات نظامية قادرة على حفظ الأمن والاستقرار فيما كانت الأيديولوجيا مجرد عامل إضافي وشماعة خارجية لتبرير العبث بالخارطة السياسية والاجتماعية الداخلية.
خارجياً: كان هناك تحولاً واضحاً في استغلال التوازنات الداخلية لتمرير مصالح دول الجوار والمنعكس بدوره على جهود المصالحة ورؤية كل طرف لما يجب أن تكون عليه الخارطة السياسية الصومالية بعد النجاح في نقل جولات المصالحة إلى خارج حدود الدولة الصومالية وكل طرف طبعاً له حساباته الخاصة وامتداداته الضاربة في العمق الصومالي ومخاوفه من تصدير الأزمة الصومالية إليه.
إثيوبيا على سبيل المثال تظل المحور الرئيسي في الأزمة الصومالية فهي تعاني من حساسية مفرطة تجاه الإسلاميين وترفض أي تسوية تسمح لهم بالوصول إلى الحكم وترفض مشاركتهم في جولات التسوية وعلى النقيض من ذلك تقف إريتريا المتخوفة من النفوذ الإثيوبي المتعاظم في القرن الإفريقي وبالتالي تحولها إلى ملاذ آمن وداعم رئيسي للقوى الإسلامية المتشددة والمناهضة لإثيوبيا بما فيها حركة شباب المجاهدين والحزب الإسلامي وتحالف تحرير الصومال إلى جانب احتضانها المعارضة الإثيوبية وما بينهما تقف جيبوتي في منتصف الطريق فهي تريد حكومة صومالية وطنية يشارك فيها الإسلاميين المعتدلين وهي أيضاً عنصر مقبول لدى الفرقاء الصوماليين لكنها تظل في أحسن الأحوال مصطدمة بالضغوط الأميركية والفرنسية.
هذه العوامل مجتمعة فرضت نفسها على جولات المصالحة والتي كانت في أغلبها ناقصة سواء فيما يتعلق باستثناء بعض القوى الإسلامية أو القبلية أو العشائرية المؤثرة الأمر الذي حال دون نجاحها والأهم من ذلك ظهور أطراف جديدة منشقة على الساحة الصومالية لتدور الأزمة من جديد في حلقة مفرغة وتستمر الصراعات على أشدها.
صحيح أن الأزمة بعد دخول عامل القرصنة والقاعدة بدأت تأخذ منحى أكثر خطورة ودموية في ظل تقلص نفوذ الحكومة الحالية، إلى أجزاء من مقديشو وانهيار مرافق الدولة الأساسية وتزايد التعقيدات الداخلية أكثر من ذي قبل وبالتالي انقطاع خط الرجعة لحل الأزمة سلمياً وسط تزايد الحضور القاعدي وتنامي قوة التيارات الإسلامية المتطرفة ومن ثم ربط الحل بعامل المفاجآت والغلبة العسكرية لكن غير صحيح أن العامل الخارجي لم يكن له حصة الأسد في الوصول إلى هذا الوضع الكارثي.
إذن فالحل الوحيد يظل مرهوناً بمنع التدخلات الخارجية وتحييد دول الجوار من هذا الصراع العبثي خاصة إثيوبيا وإريتريا وتقوية الحكومة الحالية والحيلولة دون سقوطها من خلال تقديم الدعم التنموي والعسكري والسياسي وتقوية دور قوات حفظ السلام الإفريقية ودعم وتشجيع توسيع قاعدة المشاركة في الحكم من خلال قيام المنابر العربية والإسلامية بتعزيز مساعيها في الوساطة لإقناع الإسلاميين بالانخراط في برنامج وطني لإنقاذ الصومال وصولاً إلى تهيئة الأرضية الصومالية لإعادة بناء الثقة بين فرقائها وتشجيعهم على دمج الميليشيات المختلفة وتشكيل دولة النظام والقانون والمواطنة المتساوية وهو أمر باعتقادي يحتاج إلى معجزة سماوية وصحوة ضمير عربية وإسلامية ورشد سياسي صومالي يضبط الإيقاعات الداخلية ويحوِّل لعنة الجغرافيا إلى جنة للمنطقة بأسرها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق