مركز البحوث والمعلومات: زيد يحيى المحبشي
المُوالاة والمُعاداة من المفاهيم الأكثر إثارة
للجدل والانقسام في أوساط علماء المسلمين في الـ 14 قرناً الماضية، وتباينهم في
تفسير مفهومهما، والأحكام المترتبة عليهما، ولعلى أحد أهم أسباب هذه البلبلة تصادم
مدلولاتهما مع شهوة الأنا الإستئثارية التسلُّطية الإستحواذية لدى حكام وملوك
وسلاطين المُلك العضوض، وهو ما كان له عظيم الأثر في توهين وإضعاف دولة الإسلام،
وجعلها مرتعاً للغزاة والمحتلين والطامعين من طُغاة العالم.
ولا عجب عندما تتعارض الإرادة البشرية التسلُّطية
مع الإرادة الإلهية أن تتهدّم أركان الدين، وتنهار حضارة الإسلام، وتتحول أمة
الضاد، التي جعلها الله خير الأمم، وأمة وسطاً شاهدة على الناس، من العزة
والعلِّية الى الشتات والتقزّم والتيه، وهذا نتاجٌ طبيعي لـ:
1 - ابتعاد الأمة الإسلامية عمن أمر الله
بموالاتهم وولايتهم وتولِّيهم وتوليتهم من أهل الحق المُحقِّين بنص مُحكم التنزيل،
وجعله مودّتهم والولاء لهم أمنٌ وأمانٌ وحِصنٌ حصين من مهاوي السقوط والانزلاق في
بركة الباطل الآسنة.
2 - رضوخ المسلمين لإرادة من أمر الله بمعاداتهم
من أعد الحق وأهله، خوفاً من سياطهم وسيوفهم.
إذن فنحن أمام قاعدة إلهية ثُنائية الأبعاد، لا
يُعذر بتركها أحد من المُكلّفين بإجماع كل علماء الدين من خارج بلاط سلاطين المُلك
العضوض، من تمسك بها نجا في الدنيا من الذل والاستعباد والتيه والهوان، وفاز في
الأخرة بالأجر الجزيل والثواب الكبير ورضا الرب الجليل.
روى الإمام الناصر عليه السلام في
"البِساط" عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أن الإمام علي عليه السلام
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لو أن عبداً قام ليله وصام
نهاره، وأنفق ماله في سبيل الله عِلْقاً عِلْقاً وعَبَدَالله بين الركن والمقام،
ثم يكون آخر ذلك أن يُذْبَحَ بين الركن والمقام مظلوماً لما صعد إلى الله من عمله
وزنُ ذرةٍ، حتى يُظهر المحبة لأولياء الله والعداوة لأعدائه".
يقول الشهيد القائد السيد "حسين بدر الدين
الحوثي" رضوان الله عليه في تعليقه على هذا الحديث:
هذا حديثٌ خطير، القرآن يشهدُ لهُ فيما يتعلق
بخطورة المُوالاة والمُعاداة؛ ولهذا قال الله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، أليس الله هنا
يُخاطب مؤمنين؟ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ"؟، قال: "وَمَن
يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ"، أي: منكم أيها المؤمنون، "فَإِنَّهُ
مِنْهُمْ"، يُصبح حُكمه حُكمهم، فيكون يُصلِّي وهو يهودي، يُسبِّح وهو يهودي،
يصوم وهو يهودي، يُزكّي وهو يهودي.
خطيرة هذه جداً، يقول: "ومن يتولهم
منكم"، منكم أيها المؤمنون، من يشملهم اسم الإيمان فإنه منهم، حُكمه حُكمهم،
ومصيره مصيرهم.
فما هي الموالاة والمعاداة، وما أنواعهما، وما هي
الأحكام الشرعية المترتبة عليهما، وما أهميتهما في حياتنا المعاصرة؟.
ماهية الموالاة وأنواعها
تعددت مُسمياتها وأصلُها ومعناه واحد، منها:
الموالاة، الولاية، التولّي، الولاء.
وهي تعني في لغة العرب: المحبة، المودة، النُصرة،
التقرُّب، الإكرام، ..، وفي الشرع: محبة المحاسن للغير، وكراهة المساوئ مع النصيحة
وعدم الخذلان حسب الإمكان، لأن من خذل لم يكن منه ضد المعاداة ضرورة، والتقرب إلى
الله في الأقوال والأفعال، وخُلوص النية له سبحانه وتعالى، واتخاذ المولى، وتقديم
كامل المحبة والنُصرة للمُتوليَّ، وإتباع نهجه وسيرته.
والموالاة بحسب النوع:
1 - عامة:
مثال ذلك موالاة المؤمنين والمؤمنات بعضهم لبعض،
قال الله سبحانه وتعالى:
"وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ أولئك سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ".
2 - خاصة:
وهي ما أوجب الله سبحانه وتعالى على المؤمنين من
طاعة أولي الأمر منهم ومودتهم، وتوقيرهم وسُؤالهم، والرد إليهم، والاقتفاء لآثارهم
في الدين قولاً وعملاً واعتقاداً.
وبحسب الظرف:
1 - مستترة:
مثال ذلك موقف أهل الكوفة من ثورتي الإمام الحسين
عليه السلام، وحفيده الإمام زيد بن علي عليه السلام، فقد كانت قلوبهم مع الثورتين،
لأن قادتهما على حق، وخرجا ضد باطل طغى واستفحل شره، لكن ساعة المواجهة بين الحق
والباطل تبدّلت النوايا وتحوّلت سيوفهم الى صدر سبط الرسول وحفيده عليهما السلام،
خوفاً من بطش الطُغاة والظلمة من بني أمية، ولهثاً وراء بريقٍ خادع من متاع الدنيا
الفانية.
2 - بارزة:
ما نجد دلالتها في موقف الناس في موسم الحج من
الملك الأموي "هشام بن عبدالملك" والإمام السجاد "علي بن
الحسين" عليه السلام.
يذكر المؤرخون أن "هشاماً" ذهب الى الحج
وأراد استلام الحجر الأسود، لكن زحمة الناس حالت دون ذلك، رغم أنه الملك والسلطان،
لكن لا هيبة لهما في ذلك المكان الطاهر، وصادف وجود الإمام "السجاد" في
نفس المكان والموسم، وعند اقترابه سلام الله عليه من الحجر، أفسح الناس له تهيُّباً
وتكريماً وإجلالاً وتعظيماً، فغضب جلاوزة وعبيد "هشام"، وسألوه عن هوية
ذلك العبد الصالح، فرد سيدهم العفن المُتسلِّط: "لا أعرفه".
حينها برز
من بين الجُموع الشاعر العربي الشهير "الفرزدق"، وقال: "أنا
أُعرِّفكم به"، وردد على مسامعهم قصيدته المشهورة:
هَذا الَّذي تَعرِفُ البَطحاءُ وَطأَتَهُ .. وَالبَيتُ
يَعرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ
هَذا اِبنُ خَيرِ عِبادِ اللَهِ كُلِّهِمُ .. هَذا
التَقِيُّ النَقِيُّ الطاهِرُ العَلَمُ
هَذا اِبنُ فاطِمَةٍ إِن كُنتَ جاهِلَهُ .. بِجَدِّهِ
أَنبِياءُ اللَهِ قَد خُتِموا
وَلَيسَ قَولُكَ مَن هَذا بِضائِرِهِ .. العُربُ
تَعرِفُ مَن أَنكَرتَ وَالعَجَمُ
كِلتا يَدَيهِ غِياثٌ عَمَّ نَفعُهُما .. يُستَوكَفانِ
وَلا يَعروهُما عَدَمُ
سَهلُ الخَليقَةِ لا تُخشى بَوادِرُهُ .. يَزينُهُ
اِثنانِ حُسنُ الخَلقِ وَالشِيَمُ
حَمّالُ أَثقالِ أَقوامٍ إِذا اِفتُدِحوا .. حُلوُ
الشَمائِلِ تَحلو عِندَهُ نَعَمُ
ما قالَ لا قَطُّ إِلّا في تَشَهُّدِهِ .. لَولا
التَشَهُّدُ كانَت لاءَهُ نَعَمُ
عَمَّ البَرِيَّةَ بِالإِحسانِ فَاِنقَشَعَت .. عَنها
الغَياهِبُ وَالإِملاقُ وَالعَدَمُ
إِذا رَأَتهُ قُرَيشٌ قالَ قائِلُها .. إِلى مَكارِمِ
هَذا يَنتَهي الكَرَمُ
يُغضي حَياءً وَيُغضى مِن مَهابَتِهِ .. فَما
يُكَلَّمُ إِلّا حينَ يَبتَسِمُ
بِكَفِّهِ خَيزُرانٌ ريحُهُ عَبِقٌ .. مِن كَفِّ
أَروَعَ في عِرنينِهِ شَمَمُ
يَكادُ يُمسِكُهُ عِرفانُ راحَتِهِ .. رُكنُ
الحَطيمِ إِذا ما جاءَ يَستَلِمُ
اللَهُ شَرَّفَهُ قِدماً وَعَظَّمَهُ .. جَرى
بِذاكَ لَهُ في لَوحِهِ القَلَمُ
وبحسب الأهمية:
1 - إيجابية:
كولاء المسلمين لدينهم وكيانهم الإسلامي، يقول
الله سبحانه وتعالى: "وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ
الأَعْلَوْنَ"، أي تنتمون لأعلى كيان أو مجتمع، كما يقول الحق سبحانه:
"وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ
يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ"، فجعلت الآية
الأمر بالمعروف ولاء للإسلام، لأن فيه حفاظٌ على قيم الإسلام، وترسيخٌ لمبادئه.
2 - سلبية:
كولاء المسلمين لمن يُعادون الإسلام أو أولياء
الله، قال الحق تبارك وتعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم
بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ"، والمودة هنا
"الولاء المُتبادل"، وقال سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ".
ماهية المعاداة وأقسامها
تنوعت مُسمياتها وضابطها واحدٌ، منها: المُعاداة،
العداوة، البراء، البراءة، التبرّي.
أصلها من "عدا" إذا غَشم وظَلم، ونقصد
بها في لغة العرب البُغض والبُعد والكراهية والمُباينة، ..، وفي الشرع: محبة
المساوئ، وكراهة المحاسن، والبُعد عن طريق الصلاح والإسلام، وإتباع الكافرين
والمنافقين، والبُعد عن الله تعالى بالمعاصي والشرك والنفاق.
وهي على قسمين:
1 - المُبارأة لكل عاصٍ لله تعالى بالقلب واللسان
مع جواز البر له والإقساط إليه - إذا كان مُسالماً - بكل ممكن.
2 - المُبارأة لمن حارب أئمة الهُدى، وظاهر على
حربهم، والمعاداة لهم.
موقف الشرع منهما
تنفرد الزيدية عن سائر المذاهب الإسلامية الأخرى
بالخروج على الظالمين أياً كانوا، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإعمال
مبدأ الموالاة والمعاداة، أو ما يسمى بالولاء والبراء، وتتشدد في أحكامها تشدُداً
كبيراً، ولا تُجَوِّز موالاة الظالمين إلى حد تحريم مُجالستهم ومُؤانستهم
ومُداهنتهم، كما تُحَرِّم مُعاداة أولياء الله ولو بمجرد الكراهية النفسية، بل
وتعتبر الموالاة والمعاداة من مسائل أصول الدين، وأحد أركانه الوثيقة التي لا
يُعذر بتركها أحد.
والولاء والبراء في مفهوم علماء الزيدية، ومنهم
الإمام الأجل "حُميدان بن يحيى القاسمي" عليه السلام، من جُملة البلوى،
أي من الأمور التي أُبتلي بها المؤمنين في هذه الدنيا الفانية من أجل التمحيص
والاختبار، وهما مأخوذان من وجوب إكراه النفس على البُغضة والمُهاجرة لمن وَلِعَت
نفسه بمحبته، وأَنِست بصُحبته، من الآباء والأبناء، والسادة والأخلاء، إذا كانوا
مُحادِّين لله ولأوليائه، وإكراهها على ما تكره من الموادّة، والموالاة لمن
عاداهم.
ووجوبهما، ظاهرٌ بما في كتاب الله من الأمر
بموالاة أوليائه، وأوليائه هنا "العترة الطاهرة" ومن سار على نهجهم
واقتفى أثرهم، والوعد على ذلك بالثواب، والنهي عن مُوادّة أعدائه، ويندرج في ذلك
المناوئين والمُبغضين لأئمة الحق، والوعيد على ذلك بالعقاب.
وبما في أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وأفعاله، واشتراطه للولاء والبراء على من تابعه.
قال الإمام الناصر "الحسن بن علي" عليه
السلام: فيما حكاه عنه مُصنف "المُسفر":
"لا إيمان إلا بالبراءة من أعداء الله وأعداء
رسول الله، وهم الذين ظلموا آل محمد، وأخذوا ميراثهم، وغصبوا خُمسهم، وهمّوا
بإحراق منازلهم".
وقال الإمام الهادي "يحيى بن الحسين"
عليه السلام في جوابه لأهل صنعاء:
"وإلى الله أبرأ من كل رافضٍ غوي، ومن كل
حروريٍ ناصبي، ومن كل معتزليٍ غال".
وقال سلام الله عليه في "الأحكام":
"لا يجوز مُكاتبة الظالمين، ولا يحِل
مُؤانستهم بكتاب ولا غيره، ..، يجب على المؤمنين إنكار المُنكر على الظالمين بأيديهم
إن استطاعوا ذلك، فإن لم يستطيعوا وجب عليهم إنكاره بألسنتهم، فإن لم يستطيعوا وجب
عليهم الهجرة عنهم والمعاداة للظالمين بقلوبهم وترك المقام بينهم والمجاورة
لهم"، وكذلك جاء التشديد في مصنفاته، فكيف يصح التولِّي من جهتهم، وذلك من
أعظم الإيناس لهم!، ويلزم منه مساكنتهم، وعدم الهجرة من بينهم مع ترك النكير
عليهم، لأن عوائدهم جائرة بالتجبر والتكبر وعدم الرضا بالنكير عليهم.
ولا خلاف في وجوب الولاء والبراء على الجُملة، لأن
أهل كل مذهبٍ يوجبونهما على أتباعهم، ويدّعون أنهم هم "الفرقة الناجية".
لكن يبقَ الخلاف في معرفة الفرق بين "ولي
الله" و"عدوه"، ومعرفة الفرق بينهما فرع على معرفة الفرق بين
"الحق" و"الباطل" بصفاتهما وأدلتهما التي من عرفها لم يُوالِ
من تجب مبارأته، ولم يبارِ من تجب موالاته.
ومعرفة الفرق بين الحق والباطل فرعٌ على معرفة
الفرق بين أدلة العقل وما يُعارضها من الشُبه المُتوهمة، وبين مُحكم الكتاب
والسنة، وما يُعارضهما من المُتشابه، والآراء المُبتدعة.
وبمعرفة هذا الأصل وهذه الجملة من مُقدمات البلوى
يُعرف الفرق بين الحق والباطل، وبين أهلهما، وبمعرفة ذلك كله يُستعان على معرفة
البلوى بما أوجب الله تعالى على الأمة من طاعة من جعله الله ولياً لهم بعد رسول
الله، وأميراً لهم في حياته وبعد مماته، ونقصد بذلك الإمام "علي بن أبي
طالب" عليه السلام ومن توافرت فيهم شروط الدعوة والقيام من ذريته الطاهرة الى
يوم البعث والنشور، وما يستوجبه الشرع الشريف من موالاتهم ومعاداة من نازعهم، ولا
يجوز رفض كليهما لما في ذلك من تجويز خروج الحق من أيدي جميع الامة.
ومن التقولات المتهافتة الواجب التنبُّه لها،
ادعاء البعض بأن البراء يتنافى مع كرامة الإنسانية، ومع المحبة والمودة والترابط
والتعاطف بين أبناء المجتمع الإسلامي، لأنه يعمل على تأليب القلوب على أشخاص
آخرين، ونشر الكراهية والحقد بين أبناء المجتمع الإسلامي، لذا فهو غير حضاري بحسب
زعمهم.
وهذا زعمٌ باطلٌ، وكلامٌ ممجوجٌ ومردودٌ عليه، لأن
البراء موجهٌ في الأساس لمن يجاهرون بالعداء للإسلام والمسلمين، لكن لا مانع من
إقامة علاقات صداقة مع من يحترموننا ويحترمون ديننا ومُعتقداتنا من الديانات
الأخرى، يقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن
ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا"، وقال
الحق سبحانه: "لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ
فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا
إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ
عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ
وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ".
الأهمية والغايات
الحُب والبُغض، والولاء والبراء، والمودة والعداء،
في مفهوم العلامة "محمد الرصافي المقداد" أحاسيس تنمو في البشر، وتتفاعل
زيادة أو نُقصاناً، كلما طرأ على القلب طارئ، فأنت عندما تُحبُ أحداً، يكون لحبك
سببٌ دفع بقلبك إلى أن يُفسح المجال لذلك الإحساس، كي يستقر فيه وينمو.
والدين كل الدين ليس إلا تولِّياً وتبرِّياً،
تولِّياً لأولياء الله، وما يستوجبه ذلك من المعرفة والحب والاقتداء والإتباع
والنُصرة والمؤازرة، وتبرياً من أعدائه وما يستوجبه ذلك من معرفتهم وبغضهم
ومقاطعتهم ومناوئتهم وحربهم.
وإن كنت من أهل الدين، فابحث داخل قلبك عن
التوِّلي والتبرِّي، فإن وجدت لهما مكاناً، فإنك على خير، وإن لم تجد أحدهما، فإنك
تتأرجح بين طريقي الهداية والغواية، وإن لم تجد كليهما فكبّر على دينك وعُمرك
اللذين ضيعتهما خمساً.
إذن فهما كما يرى السيد العلامة "محمد
بدرالدين الحوثي" أساسٌ من أُسس الدين القويم، وقاعدةٌ عريضةٌ ارتكزت عليها
دولة الإسلام يوماً ما، وعندما فقد المسلمون التزامهم بهذه القاعدة الإلهية،
وركنوا إلى أعداء الله الظالمين والمُستكبرين، انهارت دولة الإسلام، وتهاوى ذلك
البناء الشامخ، وتخطّفهم المستعمرون، واحتلوا بُلدانهم، وسيطروا على ثرواتهم.
ولا خلاف بين علماء أهل البيت بمختلف مذاهبهم
وتوجهاتهم ومراتبهم ومُسمياتهم بأن التولِّي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وأهل بيته عليهم السلام، ومودّتهم، ومحبّتهم، تكليفٌ إلهي لا عُذر لأحدٍ فيه،
وولائهم، ولاءٌ للإسلام والرسالة المحمدية، وأمانٌ من الانحراف واتباع الهوى،
ورُكنٌ وثيقٌ من أركان الدين، وأحد أهم العوامل المُساعدة على ترسيخ العقيدة في
قلوب المؤمنين.
ذكر القاضي "عيّاض" رحمة الله عليه في
"الشفاء"، أنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "معرفة آل محمد
براءةٌ من النار، وحُب آل محمد جوازٌ على الصراط، والولاية لأهل محمد أمانٌ من
العذاب".
ورُوي أنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال:
"ألزموا مودّتنا أهل البيت، فإن من لقي الله وهو يودّنا، دخل الجنة بشفاعتنا،
والذي نفسي بيده لا ينفع عبداً عمله إلا بمعرفة حقنا"، والمودة في الحديث هي
الموالاة والولاية بمفهومها الشرعي الواضح المتمثل في التولّية والحكم.
والموالاة لهم أيضاً لا تعنِ الحُب المُتعارف عليه
بين المُتحابِّين، بل الالتحام المنهجي والفكري والسياسي للإنسان المسلم في كافة
الميادين والمناشط الحياتية مع قادة وأئمة أهل البيت عليهم السلام، قال تعالى:
"ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ شَكُورٌ".
وهناك فرقٌ كبير بين "الحب"،
و"الولاء"، كي تتوضّح الصورة وتكتمل الفائدة، فالأول يعني "الميل
النفسي والقلبي" لشخصٍ أو جِهةٍ ما، بسبب وجود صفةٍ أو شكلٍ أو سلوكٍ مُعين
جاذب، بينما يعني الثاني "الارتباط المنهجي"، والارتباط أكبر وأعظم من
الحُب، وهذا يعني اعتبار الموالاة "رمزاً" و"مثلاً"
و"قدوة"، لأنها نهجٌ رباني شمل الكون والحياة، نتيجة التخلُّق بأخلاق
الله، والتولّي لأوليائه، ورفض كل أشكال الانحراف والازدواجية في شخصية الانسان
المؤمن، كون الانسان لا يستطيع أن يُوازي بين فعل الخيِّر الذي يتولاه الولي،
والفعل الشنيع الذي يتولاه أعداء الله، ما يجعل من الموالاة لأهل الحق شِفاءٌ ناجع
لأمراض النفس، والسمو بها في سلالم اليقين والتقوى.
من هنا تأتي أهمية هذه القاعدة الإلهية في الحفاظ
على دولنا وثرواتنا وسيادتنا وكينونتنا وديننا وكرامتنا وهويتنا الإيمانية من دنس
وعبث الغزاة والمحتلين والمخذولين والمنبطحين والمُتصهينين من أبناء جلدتنا، وهذا
لا يكون إلا بموالاة من أمر الله بموالاتهم في محكم التنزيل، وجعل موالاتهم حِصناً
وأمناً لأهل الأرض من مهاوي الضلال والضياع والتيه، ونوراً يستضيئُ به الباحثين عن
الحق والهُدى والحرية والكرامة والعلِّية والعزة والرفعة.
كما للعمل بهذا المبدأ الديني السامي أهمية كبيرة
في تربية المسلمين على رفض الظلم من أي جهةٍ كانت، قال تعالى: "قَدْ كَانَتْ
لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا
لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ"، وقال سبحانه: "إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ
إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ
وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى
تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ".
وعليه يمكننا القول بيقينٍ قاطع وإيمانٍ ساطع بأن
الموالاة والمعاداة ثقافة إسلامية وقرآنية أصيلة، مطلوبٌ من المسلمين اشاعة هذه
الثقافة التي يُشكِّل أهل البيت عليهم السلام محورها، إذا ما أرادوا الظفر
والعلِّية.
المراجع:
1 - السيد العلامة أحمد بن محمد بن صلاح الشرفي،
اللآلئ المضيئة، الجزء الأول.
2 - مجموع الإمام القاسم بن محمد عليه السلام.
3 - السيد العلامة حسين بدر الدين الحوثي،
الموالاة والمعاداة، اليمن ـ صعدة، شوال 1422هـ.
4 - مجموع السيد حُميدان بن يحيى القاسمي عليه
السلام.
5 - الشيخ الدكتور عبدالزهراء البندر، الولاية
ومفهوم التولي والتبريء، مؤسسة الأبرار الإسلامية، 23 مارس 2018.
6 - السيد العلامة محمد بدر الدين الحوثي، الولاء
والبراء الأهمية والأثر، المنطلقات والضوابط، دائرة الثقافة القرآنية بالمكتب
التنفيذي لأنصار الله، 7 مارس 2018
7 - العلامة محمد الرصافي المقداد، ولاية الله
تعالى، مركز الأبحاث العقائدية، تونس.
8 - العلامة منير الخباز القطيفي، الولاء المقدس،
شبكة المنير، 1 يناير 2009.
9 - موقع شبكة عريق، التولي والتبري.