بقلم//القاضي العلامة صلاح بن أحمد فليته رحمة الله تغشاه
إن الاستئثار يُوجب الحسد, والحسد يُوجد البغضاء, والبغضاء تُوجب
الفُرقة, والفُرقة تُوجب الضعف, والضعف يُوجب الذل, والذل يُوجب زوال الدولة وزوال
النعمة وإهلاك الأمة..
والتاريخ يُحدثنا والوجدان
والعيان يشهدان لنا, شهادة حق, أنها حينما تكون السخائم والمآثم, فهناك فناء الأمم
وموت الهمم, وفشل العزائم, وفشل العناصر, والاستعباد والاستعمار والهلكة والبوار, وتغلب الأجانب, وسيطرة العدو, أما (حينما) تكون
الآراء مجتمعة والأهواء مؤتلفة, والقلوب متآلفة والأيدي متماسكة, والبصائر متناصرة
والعزائم متآزرة, فهناك العز والبقاء والعافية والنعمة والغلبة والقوة والملك
والثروة والكرامة والسطوة, ويجعل الله لهم من مضايق البلاء فرجاً, ومن حال السوء
مخرجاً, وكان العز مكان الذل والأمن مكان الخوف..
هيهات أن يتحد المسلمون ما لم يتساعدوا, وهيهات أن يَسعَدوا ما لم يتحدوا,
ليس الإتحاد ألفاظاً فارغة وأقوالاً بليغة وحِكَماً بالغة مهما بلغت من دون إعمال
جِد ونشاط متحد, وأخلاق فاضلة ونفوس متضامنة, وسجايا شريفة, وعواطف كريمة مع
اشتراك في الفوائد, وميزان عدل وقسط, وليس من العدل أن يُهضَم أحد حقوقه, أو يقال
له إذا اشتكى: إنك مُفَرق أو مُشَاغب, بل يُنظَر إلى حقيقة الحال, فإن كان طلبه
حقاً نصره, وإن كان حيفاً أرشده وأقنعه وجادله بالتي هي أحسن, مجادلة الحميم
لحميمه والأخ لأخيه, لا سخط ولا سباب ولا منابزة بالألقاب بل المرونة والصبر
والاحتمال, وبالخُلق والأخلاق الحسنة يبلغ غاية المراد, ومقابلة السيئة بالحسنة من
أفضل الأعمال, ومعالجة القطيعة بالصلة من أشرف الأفعال... وقد قيل: " عند
الشدائد تذهب الأحقاد "...
إذا اجتمعت الأهداف وتآزرت البصائر ووُجِدَ الائتلاف وكان كل واحدٍ
منا يسعى في صالح الآخر, واندفع الجميع نحو العمل الجِدِي والحركة الجوهرية,
وحرروا أخلاقهم, وكبحوا جماح أهوائهم ونفوسهم بأرسان العقل والروية والحنكة
والحكمة, فيجد كل واحد منا أن مصلحة أخيه المسلم هي مصلحة نفسه فيسعى لها كما يسعى
لمصالح ذاته, ذلك حيث ينزع الغل من صدره والحقد من قلبه, وينظر كل واحد منا لأخيه
نظر الإخاء لا نظر العداء وبعين الرضاء لا بعين السخط, وبلحظ الرحمة لا الغضب والنقمة,
ويعلم أنه لا عِزَة له ولا قوة إلا بعزة أخيه وقوته وعونه ..
والملاك في ذلك اقتلاع رذيلة الحرص والجشع والغلبة والاستئثار والحسد
والتنافس, لأن هذه سلسلة شقاء وحلقات بلاء يتصل بعضها ببعض ويجر بعضاً إلى بعض حتى
تنتهي إلى هلاك الأمة وتهوي بها المهاوي والشقاء والتعاسة ..
وأعلم أنه لم يبقى ذو حس وشعور في أنحاء المعمورة إلا وقد عرف وتحقق
بضرورة الإتحاد وجمع الكلمة والاتفاق ومضرة الاختلاف والافتراق, حتى أصبح هذا
الشعور والعرفان وجدانياً محسوساً وأمراً واضحاً ملموساً, فلا بُد إذاً من التدارك
وجمع الكلمة والوحدة قبل أن يقضي الافتراق على الجنس البشري الحي فيدخل في خبر كان
ويعود كأمس الدابر ونعوذ بالله والله المستعان.
* المصدر: القاضي العلامة صلاح بن أحمد فليته, النصيحة العسجدية,
مكتبة التراث الإسلامي – صعدة, الطبعة الأولى 1995 (بتصرف من عدة مواضع بالكتاب)