بقلم//
زيد يحيى المحبشي
الثلثاء 5 صفر 1429هـ/12 فبراير 2008
الطعن والتشكيك في شرعية ومصداقية نتائج
الانتخابات من العادات المتجذرة في قاموس الديمقراطية الإفريقية والتي غالباً ما
يرافقها معارضة شعبية قوية، يتم مواجهتها بالشرطة والجيش سرعان ما تتحول إلى أعمال
عنف واضطرابات تُنتهك فيها كل الحقوق حاصدة في طريقها الأخضر واليابس، مستمدة
عوامل تغذيتها من تراكمات الاحتقانات السياسية والعرقية والحقوقية الداخلية أو
الأوضاع الاقتصادية المعقدة أو عدم مصداقية، واستقلالية الهيئات الرسمية الوطنية
المشرفة على الانتخابات.
الأمر
قد يبدو مبرراً في منطقة مضطربة وغير مستقرة، إلا أنه في الحالة الكينية وبتلك
الصورة التي لمسناها عقب الانتخابات الرئاسية المنعقدة في 27 كانون الأول/ ديسمبر
الماضي يُعد فضيحة كبيرة للغرب قبل كينيا كونه واقع في بلد كثيراً ما تغنى الغرب
بتفردها عن مثيلاتها في المحيط الإفريقي من حيث الاستقرار والتوجه الديمقراطي والتحول
الاقتصادي خصوصاً في العقدين الماضيين، فإذا بها اجترار للمحيط المضطرب بكل مثالبه
ومآسيه (السودان، أوغندا، الصومال، وتشاد نموذجا)، فما الذي دفعها إلى هذا التحول
الخطير لاسيما وأن الوضع السياسي فيها قبل الانتخابات وأثناء الحملة لم يكن يحمل
بوادر الأزمة التي تعصف بها اليوم؟! هل هو التواطؤ الغربي مع النظام القبلي
التسلطي الفردي، والتغاضي عن سياسة القمع والإقصاء ضد الأطياف العرقية المهمشة،
وتحديداً شريحة الفقراء الممثلة غالبية السكان في هذا البلد؟.
وإذا كان هذا هو حقيقة الحال فما جدوى الحديث
التبشيري بالنموذج الديمقراطي الكيني إذن؟.
إعصار التزوير لم يكن هناك ما يدعو للقلق قبل
الإعلان المتسرع للنتائج بعد يومين من إجرائها - 29 كانون الأول / ديسمبر 2007 -
تحت ضغط الرئيس المنتهية ولايته الأولى "مواي كيباكي" (76 عاما) مرشح
حزب "كانو" المدعوم من الغرب وأميركا والحائز على 4584721 صوتا، مقابل
4352993 صوتا لمنافسه الوزير السابق " رايلا أودينغا" (62 عاماً) مرشح
الحركة الديمقراطية البرتقالية - زعيم المعارضة - أي بفارق 231828 صوتاً من إجمالي
300 ألف قالت المعارضة أنه تم تزويرها.
فصول
الأزمة وصلت ذروتها عندما اتهمت المعارضة لجنة الانتخابات بالتباطؤ في الفرز وعدم
الحياد ما أدى إلى التحايل والتزوير لصالح كيباكي، أمور كثيرة عززت هذا الادعاء
دفعة مجتمعة بالأزمة من الطور السياسي البحت إلى المواجهات المسلحة الأكثر عنفاً
منذ الإنقلاب العسكري في 1983 حاصدة في طريقها أكثر من ألف كيني ومشردة ما بين
250- 350 ألفا آخرين.
وبعيداً
عن تضارب آراء وبيانات طرفي الصراع، تظل المؤشرات الميدانية دليلاً فاضحاً لأنموذج
الغرب الديمقراطي في إفريقيا:
*
إتمام عملية الفرز بعيداً عن أعين المراقبين الدوليين بما فيها البعثة الأوربية
المشاركة في مختلف المراحل باستثناء مرحلة الفرز بأمر من كيباكي إثر تقدم منافسه
بفارق كبير مع بدايات الفرز تجاوز المليون صوت اضطرته إلى تبديل المراقبين
الدوليين بالجيش والسلاح وبطاقات التصويت.
* اعتراف "صمويل كيفوتو" -رئيس اللجنة
الانتخابية- أن الأصوات في وسط كينيا أظهرت نتائج شاذة نتيجة وجود حالات خاصة بلغت
نسبة الإقبال فيها 115 بالمائة من الناخبين المسجلين!! وهو إقرار واضح بحدوث شوائب
وثغرات في عملها جعلها تتردد كثيراً قبل إعلان النتيجة دون التأكد من مطابقة
محاضرها المركزية مع محاضر الدوائر المحلية. * تشكيك البعثة الأوربية في صحة
الانتخابات وإن بصورة ملطفة رغم حضورها القوي، مكتفية ببعض التصريحات على ألسنة
مسؤوليها لكنها أحرجت حكام كينيا وعززت مصداقية المعارضة وأحقيتها في الفوز
المسروق منها.
*
مسارعة كيباكي إلى إعلان فوزه وأدائه اليمين الدستورية بعد ساعة واحدة من إعلان
اللجنة الانتخابية النتائج. * مسارعة واشنطن إلى تقديم التهنئة لكيباكي مضيفة بذلك
عليه الشرعية إلا أنها سحبتها سريعاً عندما لاح لها تعقيد مشهد ما بعد إعلان
النتائج بما قد ينتج عنها من عواقب قد تطيح بحليفها.
هذه
الأمور تشي بأن المأساة الكينية القائمة ليست كامنة في أن شعبها قد فشل في مراقبة
الانتخابات ولكن حالما انتهت أخذت من أيديهم!! رغم المحاولات المبذولة من زعيم
الفقراء الفائز الخاسر لإقناع كيباكي ترك منصبه والاكتفاء بلقب "رجل ساعد في
تحقيق الديمقراطية في بلاده" إلا أن الأخير فضل استبدال وسام منديلا بزج
الجيش إلى الشارع لقمع تحرك الفقراء وقطع الطريق أمام أي احتجاج سلمي ما أدى إلى
تحول المشهد من إشكال سياسي على عد الأصوات إلى مستنقع دموي لعد الأموات.
أبعاد
الأزمة احتلت كينيا في السنوات الأخيرة مكانة مرموقة إقليمياً ودولياً أضحت
بموجبها ملهمة الإعلام الغربي وساحرة السياسة الدولية ليس لجاذبية طبيعتها الثرية
بالتضاريس والألوان، بل لسحر صناعة السياسة فيها، جاعلاً منها واحة للاستقرار
السياسي والنجاح الاقتصادي كونها الوحيدة في المحيط الأفريقي التي أفلتت من شراك
الفاشية، إلا أن هذا التلميع الممزوج بالتستر كان يخفي وراءه الكثير من الإشكاليات
حول "الأرض والثروة والسلطة" سرعان ما تحولت بفعل التراكمات التاريخية
إلى صواعق تهدد بإرجاع كينيا إلى عهد ما قبل الدولة، أي ما قبل انصهار المكونات
الأساسية المحتوية تحت عباءتها أكثر من 40 قبيلة متنافرة ومتناحرة، إذن فالهدوء
النسبي الذي شهدته كان قسرياً لعدم ارتكازه على مقومات الديمقراطية الحقيقية
(التنمية، التحديث، المجتمع المدني، التخلص من الفقر والصراعات العرقية) الأمر
الذي حولها إلى نقمة في ظل هيمنة الكبار المفضلين دعم التحولات الديمقراطية
الملتقية مع مصالحهم، أكثر من أي شيء آخر، حتى لو كانت ضد مصالح الكثير من
الجماهير، وبصورة خاصة الفقراء منهم، وهذا ما حدث في كينيا حيث صحب تجربتها تجاهل
كامل للمشاكل الحقيقية المتجذرة من قبيل:
التنوع
الشديد لغوياً ودينياً واجتماعياً، والهوية الإثنية مقابل الهوية الوطنية، وإخفاق
مشروع الدولة الوطنية، والسياسات التي اتبعها الاستعمار نفسه (أميركا وبريطانيا
تحديداً) إبان الحقبة السابقة، بأبعادها المختلفة والتي بقيت منذ الاستقلال عن
بريطانيا في 1963 معلقة إثر نجاح قبيلة كيكويو في إجبار الاستعمار على الرحيل
لتجني أولى ثمار الاستقلال عندما عمدت إلى الحلول محله في بسط السيطرة على أراضي
الوادي المتصدع الواقع غرب كينيا والصائر فيما بعد, محوراً أساسياً للنزاعات
الطائفية والعرقية المغذاة سياسياً، والمتفجرة عادة عقب كل انتخابات تنعقد في هذا
البلد الواقعة تحت وطأة التدخل العسكري في الحياة السياسية وتحكمه بزمام خيارات
التحولات الديمقراطية الكينية، ومستنقع الفساد المالي والإداري المعبر عنه المفوض
الأعلى البريطاني بقوله "لقد ابتلعوا وابتلعوا حتى تقيأوا على أحذية المانحين
الأوربيين".
في ظل غياب معايير الشفافية الدافعة بمنظمة
الشفافية الدولية إلى جعل كينيا في مقدمة قائمتها السوداء، صار معه الفساد جزءاً
من آليات اشتغال النظام السياسي الواقع بدوره تحت وطأة أنظمة قمعية اعتمدت في
بقائها على القوة الإثنية الغالبة لقبيلة كيكويو المتفردة بالسلطة والثروة في
البلاد والمتلطية بنظام الحزب "كانو" وتحت سلطة الزعيم الأوحد ومن ثم
صيرورتها في قلب الحدث كجناة أو ضحايا كون كافة الحقوق حكراً عليها بينما الفئات
الأخرى أيتام لا رأي لهم ولا استشارة.
أودينغا
حلم يوماً بوطن يتسع للجميع معلناً بأن تحولات كبيرة ستشهدها بلاده في العام 2007
على طريق حسم الحرية والمصير بعد عقوداً من الاستغلال السيئ للثروة الوطنية مردداً
كلمات غاندي السبع المحذرة من الموبقات المدمرة لأي بلد "السياسة دون مبدأ،
السرور دون ضمير، الثروة دون عمل، المعرفة دون طابع، التجارة دون أخلاق، العلم دون
إنسانية، العبادة دون تضحية"، ومتوعداً بثورة دستورية على الواقع القائم ما
جعله يكسب تأييد الإسلاميين رغم ميوله الشيوعي متناسياً أن الفقراء لازالوا
يُستخدوا كوقود لكل التحولات الديمقراطية في العالم الثالث بما يتمخض عنها من
تحولات سياسية غالباً لا تصب في مصلحة الفقراء.
خيارات التسوية جهود الوساطة الخارجية وإن أتت
متأخرة صبت في اتجاه واحد هو إنقاذ كيباكي حليف واشنطن نظراً لأهمية بقائه المرحلي
في تمرير المخططات الأميركية في القارة السمراء ولأهمية الموقع الجيوسياسي الكيني
الدافع بريتشارد نيكسون، الرئيس الأمريكي السابق، في كتابه "الفرصة السانحة
"، إلى توصية قادة البيت الأبيض بعدم التفريط بكينيا. القس الجنوب أفريقي
توتو ومساعدة وزيرة الخارجية الأميركية فرايزر وكوفي أنان، كانوا أبرز وجوه
الوساطة، إلا أنها في طابعها العام صبت في ذات الاتجاه وهو إنقاذ كيباكي، ومع ذلك
لازالت تراوح مكانها في ظل استمرار دوامة العنف، لتبقى مفاتيح الانفراج رهينة
الرغبة الأميركية لتعجيل الحسم في اتجاه التسوية السياسية بما يحفظ لحليفها البقاء
وللمعارضة ماء الوجه بدت معها خيارات التسوية متمحورة حول:
1 -
تشكيل حكومة وحدة وطنية وهو الاحتمال الأكثر رواجاً كونه يجسد الرغبة الأميركية
البريطانية.
2 - إعادة فرز الأصوات كمطلب للمعارضة إلا أنه
مرفوض من السلطة خوفاً من تحول النتيجة لصالح المعارضة.
3 -
إعادة الانتخابات وتشكيل حكومة تصريف أعمال وهو مقبول سياسياً ومرفوض أمنياً لما
يترتب عليه من شغب وصخب، كينيا اليوم في غنى عنه.
مصادر الدراسة
1 -
مارك دويل، "التصدع السياسي والجغرافي في كينيا", موقع هيئة الإذاعة البريطانية
(بي. بي. سي).
2 -
حمزة عباس خليل، "الانتخابات الكينية ما بين حصر الأصوات وحصر الأموات"،
سودانيز أونلاين دوت كوم, 20 كانون الثاني / يناير 2008
3 -
غازي دحمان، "كينيا نموذج للدولة وليست نموجاً للاستقرار"، الجزيرة نت،
29 كانون الثاني / يناير 2008
4 -
سيد أحمد ولد باب، "هل تشعل واشنطن بلد الثورة والفقراء؟"، موقع الأخبار
الموريتاني المستقل، الأول من كانون الثاني / يناير 2008
5 -
سِيدي ولد عبدالمالك، "كينيا والطريق إلى التسوية"، موقع الأخبار
الموريتاني المستقل، 7 كانون الثاني/ يناير 2008