مركز البحوث والمعلومات: زيد المحبشي
تُسمى الجمعة الأخيرة من شهر رمضان بالجمعة اليتيمة أو جمعة الوداع، ولهذا اختارها الإمام الخميني رحمه الله لتكون يوماً عالمياً للقدس السليب واليتيم:
"أدعو المسلمين في جميع أنحاء العالم لتكريس يوم الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك ليكون يوم القدس، وإعلان التضامن الدولي من المسلمين في دعم الحقوق المشروعة للشعب المسلم في فلسطين، وأطلب من جميع المسلمين في العالم والحكومات الإسلامية العمل معاً لقطع يد هذه الغاصبة – إسرائيل – ومُؤيديها".
تم إعلان هذا الاختيار المُبارك في يوم 13 - 15 رمضان 1399هـ، الموافق 7 أغسطس 1979، وتحديداً عقب احتلال الكيان الصهيوني الغاصب لجنوب لبنان، وكان الجنوب اللبناني يومها مرتعاً بلا راعٍ ولا حامٍ، يعاني التهميش والإهمال الحكومي، وها هو اليوم قلعة حصينة للمقاومة الإسلامية بقيادة حزب الله.
هذه المقاومة واحدة من ثمار دعوة الإمام الخميني المباركة لإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، وتدشين الجهاد المُقدس ضد الكيان الصهيوني الغاصب على كل الأصعدة والجبهات.
والحديث عن دور حزب الله وحركة أمل في تحرير جنوب لبنان وتكوين جبهة رديفة ومُساندة لقوى المقاومة الفلسطينية بحاجة لقراءة مستفيضة مستقلة.
الاختيار دقيق، والتوقيت في غاية الأهمية، فهو يأتي بعد شهرٍ حافلٍ بالعبادة والطاعات، وقلوب المسلمين أكثر قُرباً من الله، وأكثر إحساساً وإدراكاً للمخاطر المُحدقة بمدينة الأنبياء والبقاع المقدسة فيها، وعلى رأسها المسجد الأقصى، والمخططات الصهيونية الرامية لصهينة وأسرلة وعبرنة ما تبقَ من المعالم الإسلامية والمسيحية في المدينة المقدسة، وطمس هويتها العربية، وجعلها مدينة خالية من العرب، وعاصمة أبدية للكيان الصهيوني اللقيط.
اختياره رحمة الله عليه لجمعة القدس أتي بعد 6 أشهرٍ فقط من عودته إلى إيران وإعلانه قيام الجمهورية الإسلامية في هذا البلد المسلم، وفي قتٍ لم تعد فيه القضية الفلسطينية تُمثل قضية العرب والمسلمين الأولى وهمهم الأول، بل صار العديد من قادة العرب يتأمرون جهاراً نهاراً على الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة في استعادة أرضه وإقامة دولته الحرة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وهرول البعض مُسرعاً للتطبيع مع الصهاينة بلا كوابح أخلاقية ولا دينية ولا قومية ولا عروبية، فاتحين بازار المساومة والمتاجرة بالقضية الفلسطينية على مصارعيه، وهي متاجرة رخيصة في زمنٍ عزّ فيه الناصر.
وأراد رضوان الله عليه بذلك التأكيد على أن القضية الفلسطينية تقع على قمة سُلم الأولويات للجمهورية الإسلامية الإيرانية الوليدة، والتي وضعت في بنك أهدافها منذ يومها الاول التصدي لمخططات الصهاينة الساعية بلا كلل ولا ملل للقضاء على الشعب الفلسطيني وإزالة كافة المظاهر الإسلامية في هذه الأرض المقدسة.
إعادة الإمام الخميني الاعتبار للقضية الفلسطينية، وتصحيح مسار النضال الفلسطيني، وتوجُهه بخطاب الاستنهاض الى الشعوب العربية والإسلامية بعيداً عن الحُكام والأطر الرسمية للأنظمة المتآمرة والمسبحة بحمد أبقار البيت الأسود وقرود تل أبيب، فتح على الشعب الإيراني الحر ونظامه الإسلامي الوليد أبواب جهنم، وجعله على قائمة المغضوب عليهم في جنة البيت الأسود الأميركي.
وعلى مدى أربعة عقود ونيف مارس النظام الأميركي ضد إيران الإسلامية كل أنواع الضغوطات والعقوبات من أجل إجبار نظامها على التخلي عن القضية الفلسطينية وعن دعم قوى المقاومة الإسلامية في المنطقة، واستخدمت الاستخبارات الأميركية والصهيونية كل الأساليب القذرة للتأليب ضد النظام الإسلامي الإيراني والعمل على خلخلته من الداخل وتصفية قائمة طويلة من رموزه الوطنية والعُلمائية في كافة المجالات، في محاولة عبثية مفضوحة لإسقاط هذا النظام الحر، لكن كل مراميهم ومساعيهم باءت بالفشل.
ومن أهم ثمار مُبادرته رضوان الله عليه انتظام القوى الإسلامية الحية والحرة في فلسطين ولبنان تحت راية حركات المقاومة الإسلامية، بعد سنوات من دعوته، وبفضل الله وتوفيقه وتأييده أصبحت هذه القوى الحرة اليوم من القوة بمكان، واستطاعت إحباط العديد من المخططات "الصهيو – أميركية" في المنطقة، على رأسها مشروع الشرق الأوسط الجديد والقرن الأفريقي الكبير وإسرائيل الكبرى.
وتُحيي العشرات من الدول والقوى والحركات والأحزاب والتجمعات والتكتلات العربية والإسلامية والدولية يوم القدس بفعاليات متنوعة، تُحاكي مظلومية القدس والشعب الفلسطيني، وتكشف خفايا وأسرار المؤامرات "الصهيو – أميركية" المتناسلة للقضاء على القضية الفلسطينية نهائياً.
هذه الفعاليات كان لها الفضل في تشكيل الوعي العربي والإسلامي المُقاوم، وتزايد قوته ومنعته، وتحصين قوى الممانعة والمقاومة، وإيصالها الى مستوى أصبحت معه مُتحكِّمة بكل أوراق القوة في رقعة شطرنج الصراع المصيري مع ما يسمى بمحور الاعتدال "الصهيو – أميركي" في المشرق العربي.
والجميل في تلك الفعاليات المشاركة الواسعة من كل الأطياف والتوجهات والشرائح، وفي هذا تأكيدٌ جلي على أن قضية القدس "قضية إنسانية عالمية"، تتجاوز كل الحدود القومية والعرقية والدينية والمذهبية والطائفية والفكرية والسياسية والحزبية، لأنها تهم كل الأحرار الرافضين لجرائم الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة وجبروت وطغيان الحامي والحاضن الأميركي في المشرق العربي.
كما تعكس تلك الفعاليات المكانة الرفيعة لمدينة القدس والمسجد الأقصى في وجدان وذاكرة المسلمين بمختلف توجهاتهم، وأهمية الحفاظ على هذه الأماكن المُقدسة وعدم التفريط بها، مهما كانت الأسباب والمُغريات والضغوطات.
ويكتسب يوم القدس هذا العام أهمية خاصة، فهو يأتي مع تفاعل انتفاضة الضفة الغربية، وتصاعد المخاوف الصهيونية من تأثير ذلك على الوضع الصهيوني الداخلي الذي يشهد أزمة خانقة بين لفيف قواه السياسية المتصارعة على كعكة الحكم، هي الأسوأ منذ تشكُّل كيانه اللقيط في فلسطين المحتلة، بالتوازي مع ما تشهده المنطقة من مُتغيرات ليست في صالح الكيان العبري، أهمها عودة الدفئ إلى العلاقات "السورية – السعودية"، و"الإيرانية – السعودية"، والفشل الذريع الذي سجله تحالف العاصفة في اليمن، ونجاح القوى الحُرة في صنعاء في إرغام السعودية للجلوس على طاولة المفاوضات المُباشرة، وفرض صنعاء شروطها للسلام على المعتدين من موقع القوة.
هذه المتغيرات جعلت الكيان الغاصب مرعُوباً من فعاليات يوم القدس هذا العام، فقرر رفع كامل الجهوزية الأمنية لمواجهة أي طارئ قد يتهدد كيانه خصوصاً الجبهة الشمالية مع لبنان، تحسُّباً لمفاجآت وعد بها سيد المقاومة "حسن نصر الله" في يوم القدس.
وتنقل قناة الميادين اللبنانية عن مُعلق الشؤون العربية في القناة "13" العبرية "تسفي يحزكيلي" أنّ جهوداً قُصوى تُبذل من الأمين العام لحزب الله "حسن نصر الله" ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس "إسماعيل هنية"، وحركة أنصار الله، من أجل ممارسة الضغط على كيانه.
وتحدث الإعلام العبري عن وجود رغبة "لدى محور المقاومة في الربط بين ما يحصل على الأرض وبين يوم القدس"، مؤكداً بأن "التطورات التي تحصل في الشرق الأوسط تُقلق المؤسسة الأمنية، ولا يمكن فصلُها عما يحدث في إسرائيل".
يمنياً، شهدت البلاد بعد قيام ثورة 21 سبتمبر 2014 المباركة تفاعُلاً كبيراً مع فعاليات يوم القدس على مختلف الأصعدة، ويُؤكد قائد الثورة وأحد قادة محور المقاومة السيد "عبدالملك الحوثي" حفظه الله أن قضية القدس وفلسطين المُحتلة تعني الشعب اليمني بشكل مُباشر باعتباره واحداً من الشعوب الإسلامية الرافضة للظلم والضيم بكل صوره وأشكاله، فكيف إذا كان ذلك مُتعلقاً بأهم مُقدسات الأمة وقلبها النابض:
"قضية الأقصى والمقدسات وفلسطين شعباً وأرضاً تعنينا كأمة إسلامية بشكل مباشر، وموقع القضية يعبر عنه يوم القدس الذي اختاره الإمام الخميني رضوان الله عليه في آخر جمعة من شهر رمضان، ليكون ذلك بنفسه مُعبراً عن أهمية هذه القضية وعن موقعها وعن مرتبتها في سلم المسؤوليات، وعن طبيعة هذه المسؤولية باعتبارها مسؤولية إيمانية دينية تتصل بمسؤولياتنا الدينية وبالتزامنا الديني، وجُزء من مسؤولياتنا وواجباتنا التي فرضها الله سبحانه وتعالى، فهي فريضة دينية والتفريط بها خللٌ كبير في التزامنا الديني والإنساني والأخلاقي.
يوم القدس فرصةً مهمة للالتفات إلى القضية الفلسطينية التفاتةً عملية، بدلاً من الانتظار، والجمود، والتفرّج، والتعامل مع الموضوع وكأنه لا يعنِ الأمة إلا من واقع التعاطف، أن تدخل الأمة في إطار الموقف، في إطار المسؤولية والفعل، والتعبير والتحرك الجاد، وفرصةً كبيرة لتدارس هذه القضية، وتدارس ماذا تعنيه بالنسبة لنا كأمةٍ مسلمة، وفي نفس الوقت ما هي الحلول والخطوات العملية المُناسبة والصحيحة والحكيمة تجاه هذه القضية".
مؤكداً بأن الهدف من إحياء يوم القدس العالمي هو بقاء مشاعر الجهاد ورفض إسرائيل "حية" في نفوس المسلمين، ويقظة الشعوب الإسلامية من خلال البحث عن الرؤية الصحيحة للوصول إلى النتيجة المحتومة في الوعد الإلهي بتحقيق النصر الحاسم وإنقاذ الشعب الفلسطيني المظلوم وتطهير فلسطين والأقصى من رجس الصهاينة.
وتحتل القضية الفلسطينية موقع الصدارة في كافة أدبيات حركة أنصار الله والمسيرة القرآنية المباركة منذ انطلاقتها على يد الشهيد القائد السيد "حسين بدرالدين الحوثي"، وكانت أول ملزمة له عن يوم القدس العالمي، ولنا قراءة حولها، نشرتها وكالة سبأ العام الماضي.
وتعتبر المسيرة القرآنية المباركة "الجهاد ضد العدو الصهيوني والهيمنة الأميركية مُرتكزاً أساسياً لمشروعها، وعاملاً مُهماً في نهضة الأمة وتغيير واقعها وذلك من خلال الرؤية القرآنية التي ترتقي بالأمة في وعيها وتُحيي الروح الجهادية وتنتقل بالأمة من حالة الجمود وتلقى الضربات إلى موقع الفاعلية والتحرك الجاد في كل المجالات".
وفي المحصلة، سيظل يوم القدس صرخة مدوية في وجه التحالف الشيطاني "الصهيو – أميركي"، تستنهض الأمة لمواجهة هذا التحالف، وتُبقي قضية القدس حية في الوعي الجمعي للعرب والمسلمين الى أن يأتي النصر الإلهي بالتحرير والتنظيف لتلك البقاع الطاهرة من دنس ورجس اليهود.
وسيظل أيضاً كما يرى الدكتور "وليد القططي" حداً فاصلاً بين تيارين:
"الأول يُوّجه بوصلته نحو القدس، ويُصوّب بندقيته نحو الكيان الغاصب للقدس، ويُريد أن تكون كل البلاد فلسطين، وكل الأيام للقدس، ويتوق لرؤية كل الأمة عزيزة، ويزرع كل الأرض مقاومة.
والثاني يُوّجه بوصلته إلى كل الاتجاهات ما عدا القدس، ويُصوّب بندقيته إلى كل الأماكن ما عدا الكيان الغاصب للقدس، ويُريد أن تُحذف فلسطين من الجغرافيا، ويُحذف يوم القدس من التاريخ، ويتوق لرؤية كل الأمة ذليلة، ويزرع كل الأرض مساومة".
وعلينا أن نختار إما محور المقاومة والممانعة الرافع راية الحرية والكرامة ومقارعة التحالف الاستعماري "الصهيو – أميركي"، أو الانسياق وراء محور الاعتدال والانبطاح الرافع راية العمالة والتطبيع ومحاربة قوى المقاومة الإسلامية الحرة والمتاجرة بالمقدسات الإسلامية وقضايا الأمة المصيرية.
ولا وجه للمقارنة بين محورين:
الأول مركزه "القدس" قلب فلسطين، ومشاعله كل القوى الحرة الرافضة لأن تكون أميركا قدراً جبرياً والكيان العبري اللقيط قضاء قهرياً على الأمة.
والثاني مركزه "أورشليم" قلب الاحتلال الصهيوني، وأدواته صهاينة العرب المطبعين وكلابهم المسعورة من الجماعات التكفيرية.
الاختيار صعب، لكن لا مجال للبقاء في المنطقة الرمادية، ولذا فنحن اليوم مطالبون أكثر من أي وقتٍ مضى بإعادة التفكير في الأحداث العاصفة بنا، بما فيها من مؤامرات تروم طمس هويتنا وديننا ومقدساتنا، وجعلنا أمة مسلوبة القرار والإرادة والأرض والسيادة والثروة والهوية، وإعادة توحيد كل الطاقات والجهود باتجاه المعركة الحقيقية مع الاحتلال الصهيوني وقوى الاستكبار العالمي، وتجديد تأكيد القوى الحية والحرة في العالم العربي والإسلامي على دورها المبدئي والعقدي والتاريخي والمقاوم في دعم ومساندة الفلسطينيين والمقدسيين في هذه المعركة المقدسة والفاصلة بين الحق والباطل.