Translate

السبت، 7 مارس 2015

الوحدة اليمنية القلب ينبض جنوباً

زيد يحيى المحبشي
الوحدة اليمنية في مفهوم الراحل محمد أحمد نعمان: أمٌ لكل اليمنيين، وينبغي التعامل معها على هذا الأساس كأم وليس كزوجة, فالأم في هذا السياق لا يمكن إلاّ أن نحبها مهما كانت، وبأي شكل بدت، أما الزوجة فنحن نختارها أو أقل شيء نقبل بها لهذا لا مناص من أن الوحدة هي بالنسبة لليمنيين (الأم), قدرنا الذي لا يمكن أن نوجد بدونه.
ظللت الوحدة في مختلف المراحل التاريخية ثابتةً في وجدان الشعب اليمني, رغم تقاسم الحكم في بعض الفترات بين أكثر من دولة, إلاّ أن هذه الدويلات لم تنجح في إرساء أي شكل من أشكال الانفصال, لأن الوحدة الجغرافية والتاريخية والاجتماعية والثقافية كانت أقوى وأكثر صلابة من النزعات الانفصالية الشاذّة والغريبة على اليمن وشعبه الواحد الموحد في مساره ومصيره منذ فجر التاريخ.
 وهذا ليس كلاماً أو رأياً سياسياً بل حقيقة تاريخية وجودية لا يختلف عليها اثنان, خصوصاً في أوساط أبناء المناطق الجنوبية والشرقية وفي مقدمتها محافظة حضرموت الزاخر تاريخها بشهادات أبنائها واعتزازهم منذ ما قبل ميلاد المسيح بيمنيتهم وبتقاربهم مع إخوانهم في الجوف ومأرب والبيضاء أكثر من إخوانهم في المناطق الجنوبية.
الأحداث التي شهدتها المناطق الجنوبية في الأعوام الثلاثة الأخيرة أعادت إلى الذاكرة الأحداث المصاحبة لاستقلال شطري اليمن سابقاً وما بعده, بذات السيناريو وبذات الدوافع, ويكفينا هنا للتأكيد على هذه الحقيقة العودة إلى محاضرة لعبد الفتاح إسماعيل ألقاها أمام القيادات النقابية العمالية بتاريخ 20 شباط/ فبراير 1975, شخَّص فيها الوضع بدقة متناهية: معروف تاريخياً أن الإقطاع – أكان في الجنوب أو في الشمال- لم يكن يوماً مع الوحدة اليمنية، ولم يكن تفكيره في يوم من الأيام يقوم على أساس الموقف اليمني الوحدوي.. إن مثل هذه الإقطاعيات لاشك أنها أوجدت العديد من رواسب التخلف والتفكير الضيق والإحساس بالانتماء العشائري والقبلي والإقليمي.. في وطنٍ عانى الكثير من ويلات التجزئة الإقطاعية ومن الإقطاعيات المتخلفة...
لذا فقد كان عبدالفتاح إسماعيل يرى أن البلاد بحاجة ماسة إلى وعي حقيقي بخطورة المفاهيم التشطيرية التي غرسها الاستعمار والإمامة والإقطاعيين, وبضرورة العمل الجاد لتصحيحها, دون أن يفوته التأكيد على أن تلك المفاهيم لا يمكن أن يكون لها تأثير في شعبنا مستقبلاً, ومن يرفعها لا يمكن أن يقود نضال هذا الشعب, لأنهم لا يؤمنون بمجرى النضال الثوري اليمني في الوطن عموماً, داعياً أصحاب النزعات الانفصالية للعودة إلى التاريخ لأخذ الدروس والعبر: لو نأخذ عبراً ودروساً من الماضي لوجدنا أن كل المواقف الانفصالية كان مصيرها الفشل، وانتهت وسقطت تماماً، فلو نأخذ مثلاً, مواقف الرابطة [رابطة أبناء الجنوب العربي] سنجد أن مصيرها كان الفشل، فقد كانت في أواخر 1958 من أقوى الأحزاب السياسية الموجودة في جنوب الوطن، ولكن رغم قوتها وتأثيرها سقطت، لسبب رئيسي هو أنها كانت أولاً: مشبوهة بارتباطها بالاستعمار، وثانياً: لأنها كانت ترفع شعار الجنوب العربي!! وكانت لا تؤمن بوحدة المنطقة ووحدة الوطن اليمني، وفي نفس الوقت كانت لا تريد أن تعتمد على جماهير الشعب، فكان لا بُد أن تسقط وأن تفشل وأن تتخلى عنها الجماهير، لأنها بالفعل لم تكن لتمثل طموح شعبنا من حيث الأهداف الوحدوية.
كما أننا بعد الاستقلال نذكر جميعاً, كيف أن التيار اليميني في الجبهة القومية، عندما كان يعجز يلجأ إلى الاستعانة والاستنجاد بالتقاليد القديمة بكل قيمها العشائرية والقبلية في محاولةٍ منه لإشعال صراعات إقليمية مشبوهة من أجل إخفاء مواقفه وحقيقته, فالتيار اليميني, هو أيضاً، لم يستطيع أن يستغل قضايا الشماليين والجنوبيين.. بل أدى في الأخير بسببٍ من مواقفه تلك إلى أن يُهزم وينتهي إلى الفشل بفعل الخط الوحدوي داخل إطار الجبهة القومية..
نحن على ثقة بأن أية تيارات انفصالية سوف يكون هذا هو مصيرها, مهما ادعت وتسترت بأسلوب يميني أو يساري.
تاريخياً شهدت حقبة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي رواجاً فاقعاً للمقولات التشطيرية، سواء في أوساط أعداء الثورة والتحرر من الاستعمار والإمامة أو في أوساط أعداء الأنظمة الاستقلالية الثورية, بالتوازي مع سعي بعض قادة الجبهة الوطنية المتحدة وفي مقدمتهم أبو بكر باذيب لترسيخ فكرة التمايز النضالي: إن ثورتي 14 أكتوبر و 26 سبتمبر تسيران في خطين متوازيين متعارضين لا يلتقيان!! في حين سعت رابطة أبناء الجنوبي العربي والجمعية العدنية إلى ما هو أبعد من ذلك, وهو نفي يمنية أبناء المناطق الجنوبية والشرقية.
وسط هذه الأجواء الضبابية وجدت الحركة الوطنية نفسها منقسمة إلى تيارين, الأول: انفصالي آمنت به الرابطة الجنوبية والجمعية العدنية ومن لف لفهم, والثاني: وحدوي كانت في نطاقه حركة التحرر ممثلة في الجبهة الوطنية المتحدة فالجبهة القومية وتحديداً في العام 1955 الذي يعد عام الفصل في النضال الوطني على أساس وحدة الأرض والإنسان اليمني أو النضال خارج هذا الإطار، ومن حينها أصبح الموقف من إعادة الوحدة سلباً أم إيجاباً عاملاً حاسماً: إما أن تتحطم عليه القوى السياسية وتتعرى وطنياً إن كانت مبتعدة عن إعادة الوحدة أو يتقوى عمودها الفقري وتزداد نفوذاً وتوسعاً في أوساط اليمنيين, وبمعنى أخر أصبح الموقف من الوحدة هو الموقف من ثورتي سبتمبر وأكتوبر والعكس.
صحيح أن قضية الوحدة قد وُضعت على بساط البحث في أهم مراحل نضال الشعب اليمني, وفي كل محطات تاريخه المليئة بالصراعات من أجل الوحدة، وهذا أيضاً لا يعني عدم وجود قوى ذات نزعات انفصالية ضيقة الأفق وجدت في كل مراحل التاريخ اليمني لتسير عكس تيار الوحدة تبعاً للعلاقة البندولية، بين الثقافة المحلية والثقافة الوطنية, وبين الهويات المحلية والهوية الوطنية, وبين الصراعات المحلية ومكانة الدولة المركزية من حيث الضعف والقوة, وبين الاستعمار والوحدة اليمنية.
ونحن اليوم وبعد مرور 20 عاماً من عمر الوحدة اليمنية مازلنا نشهد نتوءات انفصالية متقطعة هنا وهناك تتبدى في الممارسات المشدودة إلى الماضي وتظهر عبر بعض الأفكار والطروحات الشوفينية المغايرة لاتجاه حركة التاريخ الوحدوي اليمني, ما دعانا إلى هذه الوقفة السريعة ليس لتأكيد المؤكد وإثبات الثابت (الوحدة اليمنية) بل لكشف زيف وادعاءات الانفصاليين الجدد وتفنيد آرائهم وطروحاتهم الدخيلة على اليمن وتاريخه.
الوحدة في أدبيات الاستعمار
احتل الانجليز مدينة عدن في 1839 بتواطؤ من العثمانيين, لإيقاف زحف محمد علي باشا وبالتالي عودة العثمانيين إلى اليمن ثانية في 1849 وهو ما فتح الباب على مصراعيه لسيناريوهات غرس مفاهيم التقسيم الجغرافي والسياسي لأول مرة في تاريخ اليمن الواحد وإن اختلفت الأهداف.
اللافت هنا تزامن الدخول العثماني الأول إلى اليمن 1535, مع تفرق أيدي سبأ, ومع ذلك فقد كان العثمانيون حريصون على إبقاء اليمن تحت رايتهم موحداً باستثناء بعض المناطق ليتم إخراجهم فيما بعد تحت ضغط المقاومة الوطنية المستمدة قوتها من وحدتها الوطنية, في حين كان الدخول الثاني للعثمانيين 1849 بالتوازي مع التمدد الانجليزي, في وقت كانت فيه اليمن قد وصلت ذروة الانقسام والتشرذم, لذا كان من الطبيعي أن تسجل المقاومة الوطنية فشلاً ذريعاً, لأنها كانت تتم في غياب الوحدة.
كما أن إخراج العثمانيين في المرة الأولى أعقبه قيام دولة يمنية موحدة هي الدولة القاسمية, التي لم تدم طويلاً بفعل الانقسام المزري بين أئمتها والذي أغرى في نهاية المطاف الإنجليز والأتراك لاحتلال اليمن وبدء توجههما منذ القرن الثامن عشر إلى إنشاء كيانين جغرافيين وسياسيين عرفا لاحقاً باليمن الشمالية والجنوبية وتم تعميد هذا الانشطار بخط حدود النفوذ البريطاني- العثماني (1902- 1904) وتسجيله رسمياً في 1914 عندما وقع الطرفان معاهدة ترسيم الحدود والتي مثلت أول إقرار رسمي موثق لتقسيم اليمن سياسياً وجغرافياً والإشارة الأولى أيضاً لوجود شطرين منفصلين.
 ورغم ذلك فقد بقي اليمن موحداً في علاقاته الاجتماعية والثقافية والنضالية ضد الاستعمار الانجليزي والوجود العثماني الأمر الذي مكّنه من إجلاء العثمانيين في نهاية 1918 ولكن عن جزء من اليمن, بينما بقي الجزء الآخر تحت الاستعمار الانجليزي ومن ثم تسلم آل حميد الدين حكم المناطق الشمالية والغربية من اليمن, بعد أن كانوا قد استطاعوا بفضل رفعهم لشعار إعادة الوحدة اليمنية من طرد العثمانيين تمهيداً لتحرير الجنوب المحتل.
حرصت السياسة الانجليزية في المناطق اليمنية المحتلة في طابعها العام على تعميق تمزيق الوحدة اليمنية, وتعميق اليأس في أوساط أبناء الشعب اليمني من عودة التحام جسدهم الواحد, في وقت تجزأ فيه اليمن إلى ثلاثة أجزاء هي الانجليز والأدارسة والإمامة؛ في حين كانت عناوين السياسة الاستعمارية واحدة في معانيها ومبانيها منذ عام 1839 بدءاً بسياسة فرق تسد ومروراً بسياسة معاهدات واتفاقيات الحماية وانتهاءاً بسياسة التقدم نحو الأمام وإعمال نظام الانتداب والاستشارة تبعاً لمقتضيات التجزئة ومتطلبات كبح جماح نمو الوعي الوطني الواصلة ذروتها في 1959 بإنشاء اتحاد الجنوب العربي, أملاً في تمديد سيطرة الاستعمار السياسية والعسكرية على المنطقة أكبر مدة ممكنة.
وتكمن خطورة ذلك في توجه الاستعمار منذ بداية عام 1934 إلى سلخ هوية الأجزاء الجنوبية والشرقية من اليمن عن هويتها التاريخية والجغرافية عبر تغليب الثقافات والهويات المحلية وتغذية النزعات الانفصالية, لضمان طمس الثقافة والهوية الوطنية اليمنية وإسكات الصوت اليمني الوحدوي.
ولهذا الغرض الاستعماري المقدس تم إيفاد وليم هارولد إنجرامز (1897- 1973) الضابط السياسي الانجليزي ومهندس معاهدة الصداقة الانجليزية - المتوكلية وأحد أخطر منظري التجزئة بين أبناء اليمن الواحد وطمس الهوية اليمنية لصالح الثقافات المحلية وتعميق التناقضات الداخلية, والمسؤول الأول عن المفاوضات حول الحدود مع الأئمة وتنفيذ سياسة التقدم نحو الأمام.
حيث حرص منذ وصوله إلى عدن 1934 على تأليف عدة كتب عن اليمن كان الغرض منها سلخ حضرموت وشبوة عن اليمن وحصر مصطلح اليمن على الأجزاء الواقعة تحت نفوذ الأئمة, فيما أعاد الأجزاء الجنوبية والشرقية الأخرى من اليمن إلى ما أسماه بالجنوب العربي مدعياً بأنه استخدم هذا المصطلح كما استخدمه الجغرافيون والمؤرخون العرب لتمييز تلك المناطق, في وقت كان فيه الانجليز يطمحون إلى خلق دولة بالجنوب اليمني على النمط الغربي وتحويل عدن إلى قاعدة لإطلاق ما أسموه بالعالم الحر.
يأتي هذا بعد فشل السياسات الاستعمارية المتبعة قبل 1934 وإدراكهم بخطورة تنامي الوعي الوطني اليمني على مخططاتهم البعيدة المدى وبالتالي تطلب المرحلة ضرورة دق إسفين التجزئة وإشاعة التمايز التاريخي والاجتماعي بين أبناء الشعب الواحد في خطوة مكشوفة لإحباط أحلام إعادة التحام الجسد اليمني.
ويكفينا للدلالة على هذا التوجه الخطير الوقوف عند مقولة انجرامز في كتابه اليمن: الإئمة والحكام والثورات صـ45- 47: لقد وصفت اليمن ككيان طبيعي ضمن العالم العربي على الرغم من عدم اندماجها في كيان سياسي متحد.. إنها إقليم عربي معترف به تاريخياً وجغرافياً واؤلئك الذين يعيشون فيه أصبحوا يحملون في أعماقهم شعوراً مناطقياً مشتركاً.. إنه لم يكن لهذا الكيان على الإطلاق صفة الأمة الموحدة, بالمعنى الذي يفهمه الأوربيون من كلمة الأمة، فلم يحدث أبداً أن اعتبر اليمنيون أنفسهم بهذا المعنى حتى الوقت الحاضر.. إن العرب واليمنيون جزء أصيل منهم ميالون بطبعهم إلى الاختلاف والفرقة والتنافس على السلطة, ولذا فهم فرديون وأصحاب طفرات وفورات مفاجئة, ومفهومهم للوحدة ليس إلا فكرة غامضة وصوفية يمكن أن تتغلب عليها المغريات المادية..
ومع إطلالة العام 1952 بدأ الانجليز بترجمة سياستهم الجديدة عبر الترويج لإقامة كيانين اتحاديين فيدراليين حسب التقسيم الإداري في الإمارات ومستعمرة عدن وتوحيدها في دولة جديدة تسمى دولة الجنوب العربي الاتحادية على أن تبقى مستعمرة عدن خارج الاتحاد, وفي 1954 قدموا وجهة نظرهم بشأن الاتحاد الفيدرالي وإدارته على أن تتكون من المندوب السامي, وتكون له رئاسة الاتحاد والعلاقات الخارجية والقرار الأول في حالة الطوارئ, ومجلس رؤساء يضم رؤساء البلاد الداخلية في الاتحاد, ومجلس تنفيذي وآخر تشريعي. وفي 19 شباط/ فبراير 1959 أُعلن رسمياً عن قيام اتحاد إمارات الجنوب العربي بالتوازي مع إعلان الإمام أحمد الانضمام للجمهورية العربية المتحدة وهو ما جعل الجامعة العربية تنتقد اتحاد الجنوب بشدة محذرة من خطورته في ترسيخ التجزئة.
حدث إعلان دولة الجنوب العربي المزيف والمجافي للحقائق التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية لم يشذ عن مخطط تدجين الهوية الوطنية لصالح الهوية المحلية المصطنعة, وتعميق الهوة بين علاقات أبناء هذه المناطق وهويتهم الوطنية الأم, وتعميق النزعة الانفصالية التي وجدت في الجمعية العدنية ورابطة أبناء الجنوب العربي ضالتها المنشودة على أمل الحلول مكان الاستعمار بعد رحيله لتنفيذ مخططاته.
والحقيقة أن الاستعمار وجد حينها أن قوة وجوده واستمراره ومقومات أمانه متوقفة على التجزئة لأنها ستبقى إذا اُضّطر للرحيل, وذلك ما نجد دلالته في قراءة انجرامز لمستقبل اليمن بعد زوال الوجود المصري والبريطاني: سيبقى [اليمن] على عادته القديمة في الانقسام، لأن طبيعة الأثرة والفردية عند العرب كفيلة بذلك, ولأن لهفتهم للفوز بالمغانم المادية... ستقودهم حتماً بعيداً عن التسامي الروحي.. ومعنى ذلك أن التحديث سيأخذ مدى أبعد ولكن دون أن يكون هناك اتجاه أكثر من وحدة متماسكة إلاّ إذا كان نكاية في حكم مكروه من الشعب أو استجابة لبريق فكرة جديدة، وإذا ولدت هذه الوحدة في اليمن فلا شك أنها ستدفع اليمنيين إلى الأمام ولكن لابد أنه سيمر وقت طويل قبل أن يمكن لأي أفكار جديدة أو وعي اجتماعي عميق أن يتغلب على تلك الأفكار القديمة.
الوحدة في أدبيات الإمامة
صحيح أن الإمامة قد رفعت شعار إعادة الوحدة وتحرير الجنوب المحتل في نضالها ضد العثمانيين, كما هو صحيح أيضاً أنها ظلت في صراع مع الانجليز, تتحرك تحت شعار الوحدة ظاهرياً, لكنها لم تكن تمتلك أي مشروع للوئام الاجتماعي التوحيدي, لسبب بسيط هو أنها رغم رفضها الاعتراف بالمحميات ودولة اتحاد الجنوب العربي, إلا أن مواقفها من إعادة الوحدة ظلت مندرجة تحت إطار الادعاءات التاريخية لأسلافها في الجنوب, وهو ما حال دون بذل مساعي جدية لتوحيد اليمن, وباعد المسافة بينها وبين الأمراء والسلاطين خصوصاً في الفترة (1918-1934)، حيث كانت كل الأمور مواتية لإعادة توحيد اليمن ما أدى في خاتمة المطاف إلى ظهور الحركة الوطنية التحررية وانكشاف حقيقة أن بقاء الإمامة والاستعمار مرهون ببقاء الوضع التجزيئي القائم والمحافظة عليه, باعتباره من مقومات الأمان والاستمرار في علاقة جدلية مفيدة للطرفين.
وما يهمنا هنا هو التأكيد على أن مطالب إعادة الوحدة قد تأطرت على مستوى اليمن في العام 1918, وأخذت طابعها التوثيقي في العام 1924 عندما قدم المصلح التونسي عبدالعزيز الثعالبي مشروعه التوحيدي إلى الإمام, داعياً فيه إلى عقد مؤتمر يمني يضم الإمام والسلاطين والمتنفذين من أبناء المناطق اليمنية المحتلة لإعلان الوحدة لكن الإمام رفض ذلك المشروع كما رفضه السلاطين وان كانوا قد ابدوا الاستجابة العلنية لسبب بسيط هو ربط الثعالبي مقترحه بضرورة توجه الإمام في المقام الأول إلى إصلاح نظامه السياسي كشرط واجب لتحقيق الوحدة وهو شرط يتفق مع مطالب السلاطين لكن شريطة التخلي عن الادعاءات الإمامية التاريخية في الجنوب, والإيمان بالمواطنة اليمنية المتساوية في ظل سلطة وحدوية يكون فيها الشعب هو صانع القرار.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الإمام كان قد عين القاضي محمد الشامي مفاوضاً رسمياً لمملكته مع السلاطين والاستعمار منذ عشرينيات القرن الماضي, كما انه أنكر اتفاقية الحدود بين الانجليز والأتراك لعام 1914 غير أن إصراره على الادعاءات التاريخية دفعه في نهاية حزيران/ يونيو 1915 إلى استنكار هجوم الأتراك على عدن معتبراً إياه تعديا على حقوقه وهو موقف عجيب وغريب يشي بما لا يدع مجالاً للشك بوجود علاقة سرية تربطه بالانجليز منذ ما قبل الاستقلال بدت بصماتها واضحة في الحرص على عدم تضمين اتفاقية دعان لعام 1911 بين الإمام والأتراك أي إشارة إلى الوحدة اليمنية ما يعني موافقته الإستباقية على نظرية التجزئة, وفي هذا السياق فقط يمكن تفسير رفض الإمام يحيى نداء الوالي العثماني اثناء رحيل القوات التركية نهاية 1918 لتسلم لحج وتوجهه بعد الاستقلال مباشرة إلى إعلان استحالة إعادة الوحدة موثقا ذلك باعتراف رسمي في 1934 عندما وقع معاهدة الصداقة والتعاون مع الانجليز المتضمنة إبقاء الوضع القائم في الجنوب على ما هو عليه لأربعة عقود قادمة إلى أن تنشأ ظروف تسمح بإعادة فتح التفاوض.
 كل هذا يجعلنا أمام عدة حقائق أبرزها:
- وجود مؤامرة انجليزية إمامية لإضاعة الجنوب اليمني نسجت خيوطها قبل استقلال الشمال عن الأتراك وتعمقت في 1934 دافعها في البداية خوف الإمام من دعم الانجليز لخصومه الأدارسة وفي النهاية تخّوف الانجليز من الأفكار القومية العربية ونفوذها إلى اليمن.
وقد شهدت نهاية الخمسينيات حركة مكوكية لتقارب الانجليز والإمامة حول حلول وسطية اقتصرت مخرجاتها على دفع ترسيم الحدود إلى نهاياتها وتراجع الأعمال العدائية ضد بعضهما البعض والتعاون في وقف المد الثوري الوطني في شطري اليمن.
- اعتماد الإمامة والانجليز على كل ما هو متخلف من مؤسسات الحكم الطائفية والقبلية والسلاطينية والاستبدادية ما حال في بداية الأمر دون حصول الحركة الوطنية التحريرية التوحيدية على مقومات النجاح لكنها سرعان ما استعادت عافيتها منذ منتصف العام 1955.
- تدعيم المعارضة للادعاءات الإمامية في مستعمرة عدن والمحميات وكشف حقيقة عدم جدية الإمامة في إعادة توحيد اليمن وعدم استعدادها لتقديم الوحدة على الأطماع السلطوية ولو تطلب ذلك التنسيق مع الاستعمار والتغاضي عن أعماله في تعميق الهوة بين أبناء الشعب الواحد وتفتيت قوة اليمن الواحد وضرب وحدته الوطنية.
الوحدة في أدبيات الحركة الوطنية
مرت الحركة الوطنية بأربع مراحل هي: مرحلة العمل السياسي والإعلامي السري في الثلاثينيات، مرحلة الإيقاظ والتيقظ في الأربعينيات، مرحلة الاحتجاجات في الخمسينيات، مرحلة التمرد والثورة في الستينيات والتي أنهت عهداً مظلماً من تاريخ اليمن. في حين كانت قضية الوحدة اليمنية حاضرة في كافة مراحل النضال السياسي المعاصر فكانت تارةً: مركزاً للتقارب بين أقطاب الحركة الوطنية في الشطرين, وتارة أخرى: بؤرة للصراع بين الاتجاهات الوحدوية والاتجاهات الانفصالية وسبباً في الاستقطابات السياسية.
الانقسام حول شعار الوحدة اليمنية احتل مكانة خاصة في العام 1955 تمثلت في انعقاد اجتماع موسع بعدن ضم الأحزاب السياسية والنوادي والهيئات وانبثق عنه خطان, الأول, انفصالي آمنت به رابطة أبناء الجنوب العربي والجمعية العدنية ومن لف لفهم، والثاني: وحدوي كانت في نطاقه حركة الأحرار والجبهة الوطنية المتحدة المنبثق عنها فيما بعد الجبهة القومية, وما بينهما كان الموقف من حقائق التاريخ والجغرافيا هو الفيصل في تكذيب توجه الاستعمار وأتباعه من القوى الانفصالية وهزيمتهم وانتصار القوى الوطنية المؤمنة بوحدة اليمن الطبيعي بعد فشل الجمعية العدنية في تقديم أي مشاريع تذكر في مضمار الحركة الوطنية الثورية, وعجز الرابطة الجنوبية عن بناء موقف وطني يمني يعطي للثقافة والفكر الشمولي وطنيته على صعيد الوطن اليمني الواحد.
أولاً: الحركات الانفصالية
واكب تعجيل الاستعمار بطبخة اتحاد الجنوب العربي انقسام حاد بين قوى الحركة الوطنية من حيث موقفها من الاحتلال ومقاومته, وموقفها من شعار إعادة تحقيق الوحدة اليمنية. حيث فضّل الفريق الأول الكفاح السياسي, والاكتفاء بإقامة دولة اتحاد الجنوب العربي تحت رعاية المندوب السامي, وترسيخ التمايز والاختلاف بين شطري اليمن, وبذلك تطابقت شعاراته مع مخططات الاستعمار ما جعل من هذا التيار بمثابة القوة الاحتياطية للاستعمار والتي كانت تمثلها وقتها الجمعية العدنية ورابطة أبناء الجنوب العربي.
وتشير وثيقة صادرة عن الرابطة في 1958 نشرتها مجلة اليمن التابعة لجامعة عدن في ايار/ مايو 2004, إلى نوعين من الأحزاب القائمة حينها من حيث درجة الموالاة للاستعمار, أولاها تعمل على تنفيذ مخططات الانجليز وفي مقدمتها الجمعية والرابطة وحزب الشعب الاشتراكي والاتحاد الوطني وتيار عريض من السلاطين والأمراء ، والأخرى: غير موالية للاستعمار مع بعض التحفظات كالبعثيين وجزء من حزب الشعب الاشتراكي والإخوان المسلمون والقوميون العرب (جناح قحطان الشعبي وفيصل عبداللطيف) وعدد من السلاطين والأمراء الذين عزلتهم حكومة الاستعمار بسبب معارضتهم لسياستها.
ومعلومٌ أن الجمعية العدنية كانت تنادي بعدن للعدنيين فيما كانت الرابطة الجنوبية في بداية عملها تسعى إلى توحيد أراضي الجنوب المجزأة تحت رايتها, غير أن دخول سموم ذوي السلطة والسلطان في صفوفها دفع بالكثير من قادتها إلى الانفصال عنها وإعلان النضال ضد طروحاتها والذي وصل ذروته في 1954 عندما أعلنت الرابطة أنها تمثل قوة احتياطية للاستعمار.
تبني الرابطة لدولة اتحاد الجنوب الفيدرالي تمت مواجهته حينها بمقاومة جماهيرية قوية وتُوجت بانتفاضة 24 أيلول/ سبتمبر 1962 ضد المجلس التشريعي بعدن والحكم الذاتي ومقاطعة الانتخابات التشريعية قبل ذلك في 1955 تحت شعار يمنية المنطقة ووحدتها, لكن إجادة الرابطة لفن التلاعب بشعارات الوحدة اليمنية والوحدة العربية أعطاها فسحة للتمويه على مواقفها الانفصالية, وكذا إرباك الحركة الوطنية التوحيدية وبلبلة صفوفها, في وقتٍ كانت شعارات الرابطة غامضة وغير صريحة من قضية الوحدة اليمنية وحدة شعب الجنوب الكبير!.
 والأخطر من هذا لجوءها إلى طرح الوحدة اليمنية في إطار الوحدة العربية, أي ليس بوصفها قضية قائمة بذاتها بل كقضية معلقة بقضية أخرى ومشروطة بها ما جعلها تدفع باتجاه تعجيل الاستعمار بولادة اتحاد الجنوب العربي 1959 لقطع الطريق على دعاة الوحدة اليمنية.
هذه الأمور مجتمعة كشفت مدى عمق النفس الانفصالي لدى الرابطة بدلالة حرصها على تضمين دستورها الدعوة إلى اعتبار الجنوب العربي وحدة طبيعية سياسية واقتصادية في كيان منفصل عن اليمن وهو ما جعل هذا التوجه المنكِر ليمنيته محكوم في خاتمة المطاف بالسقوط الذريع عشية إطلالة 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1967.
ثانيا: الحركات الوحدوية
تساعد الوثيقتان الصادرتان عن مؤتمر الطلبة اليمنيين الدائم بالقاهرة عام 1956 في تكوين صورة عن طبيعة المشاريع المطروحة حينها فيما يتعلق بالوحدة اليمنية, وكذا مشروع قيام دولة مستقلة بمعزل عن الشطر الشمالي, حيث حذر المؤتمر في بيان له من خطورة هذا المشروع على حاضر ومستقبل اليمن وما يرمي إليه من تجذير ممنهج لفكرة وجود شعبين متمايزين في اليمن, معلناً في الوقت ذاته تمسكه بالوحدة.
 ومن هنا جاءت الجبهة الوطنية المتحدة عام 1955 التي رفعت لأول مرة في تاريخ المنطقة شعارات وطنية منادية بالاستقلال السياسي الناجز عن الاستعمار وبوحدة اليمن، إلاّ أن نجاح الاستعمار في تدجينها قاد إلى عدة انشقاقات كانت من نتائجها في بداية الأمر ترسيخ دعائم حكومة الاتحاد الفيدرالي وبلبلة المواقف من الوحدة اليمنية والتي سرعان ما تحولت إلى صراع مسلح بين فصائل الحركة الوطنية المتحدة في 1966 (جبهة التحرير والجبهة القومية).
وسط هذه المعمعة برزت في الساحة الجنوبية رؤيتان فيما يتعلق بموقع شعار الوحدة في سلم الأولويات بالنظر إلى طبيعة المرحلة, الأولى: ترى أن المرحلة هي مرحلة وطنية (وثيقة حزب العمل- النقابات العمالية)، فيما رأت الثانية: أنها مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية (نشرة اتحاد الشعب), وبالتالي إقرار التيار الأول بان الوحدة هي المهمة الأساسية للمرحلة الوطنية الحاضرة ولها الأولوية على ما عداها لأنه بحلها تُحل المهام الأخرى بما فيها المهام الاجتماعية؛ فيما أصر التيار الثاني: على أن تحقيق الوحدة أمرٌ مشروطٌ بإقامة حكم وطني- ديمقراطي في الشمال, والى حين تحقق ذلك ينبغي الحفاظ على النظام الديمقراطي في الجنوب.
 التيار الثاني بدوره انقسم إلى فريقين فيما يتعلق بموقع الوحدة في إطار مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية ومستقبل قضية الوحدة حيث ذهب الأول: إلى استحالة انجاز مرحلة الثورة بدون قيام الوحدة (أنيس حسن يحيى، سلطان أحمد عمر، عبدالعزيز عبدالولي) باعتبار الوحدة مهمة أساسية وان الثورة تجري على مستوى الوطن؛ فيما شكك الثاني: في إمكانية الانتقال إلى الاشتراكية من دون الوحدة (عبدالفتاح إسماعيل). ناهيك عن بروز تيار ثالث: يرى أن الاستقطاب الدولي الذي إنشّد إليه شطرا اليمن قد جعل تحقيق الوحدة أمراً مستحيلاً وهذا ما يفسر حقيقة نجاح أعداء الثورة اليمنية في جعل قضية الوحدة مسألة ثانوية في فترات زمنية ربما وصلوا فيها إلى قمة السلطة سواء في الشمال أو الجنوب.
نجيب قحطان الشعبي في مقالة له نشرها موقع تاج عدن بتاريخ 9 شباط/ فبراير2010 تحت عنوان الوحدة اليمنية: نشوء وتطور الفكرة واهتزاز الانجاز, خلُص إلى أن الوحدة ظلت الشعار المحرك لكافة القوى الوطنية المنبثقة عن الجبهة الوطنية المتحدة رغم تباين تياراتها وتصارعها فيما بينها وتباين مواقفها من الاحتلال وفي مقدمتها الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل 1963 بقيادة قحطان محمد الشعبي وفيصل عبداللطيف والذي وضع حينها وثيقة هي من أهم الوثائق السياسية عن الاتحاد الجنوبي المزيف, ومن حينها لا تكاد تخلو وثيقة أو بيان أو تصريح للجبهة الوطنية من الحديث عن الوحدة اليمنية وفي مقدمتها ميثاقها الوطني الذي أكد في ديباجته على أن إعادة وحدة شعبنا العربي في إقليم اليمن شماله وجنوبه سيراً نحو وحدة عربية متحررة مطلب شعبي وضرورة تفرضها المرحلة. كما أفرد الميثاق باباً خاصاً أثبت فيه وحدة الكيان اليمني عبر التاريخ. في حين تضمن البرنامج التنظيمي السياسي للجبهة الحديث عن آفاق وحدة النضال اليمني: إن وحدة الأرض ووحدة الشعب اليمني ظلت عبر التاريخ على الرغم من حالات التمزق والتجزئة الآنية، وحدة متماسكة على كافة المستويات.. ولم تتمكن أية نهضة أو حضارة حقيقية أن تقوم إلا في ظل هذه الوحدة.
نخلص مما سبق إلى أن الوحدة ظلت حاضرة في مختلف مراحل النضال الوطني باعتبارها من الأهداف النبيلة, ولذا ليس من قبيل المفارقة أن نجد الحديث عنها تاريخياً في المناطق الجنوبية والشرقية كان سابقاً للحديث عنها في المناطق الشمالية والغربية, كما تشهد بذلك كل أدبيات ووثائق الحركة الوطنية الجنوبية, وهو ما يؤكد دورها التاريخي والريادي في إعادة الوحدة ويكشف زيف المتنكرين اليوم للوحدة والمطالبين بإعادة كيان الجنوب العربي الدخيل على وحدة اليمن أرضاً وإنساناً.
 وبالمناسبة فإن مقولة الاستعمار التي يرددها البعض فيما يتعلق بأن الجنوب إقليم ذو تاريخ سياسي مستقل عن شمال اليمن تعد مقولةً ساقطة تاريخياً. ولو عدنا إلى عهد التبابعة لوجدناهم يذيلون ألقابهم الملكية بلقب (ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات وتهامت) دون أي ذكر للجنوب العربي. والملاحظ على ذلك النص أيضاً إضافة لفظة يمنات في الوقت الذي أضيفت فيه حضرموت, مما يدل على وجود صلة وثيقة بينهما. والاهم من هذا وذاك أن إطلاق يمنات حينها, إنما أُريد به الإشارة إلى سواحل اليمن الجنوبية, فيما أطلقت لفظة تهامت على سواحل اليمن المطلة على البحر الأحمر, وهي حقيقة تاريخية وثقتها أمهات كتب التاريخ العربي القديم التي حاول الاستعمار تزييفها بهدف تشويش الموقف من الوحدة اليمنية, وطمس هويتها الوطنية التاريخية, ووحدتها الجغرافية الضاربة في أعماق التاريخ, ومن ثم دفع اليمنيين إلى التحليق فوق رمال الطبقات وصراعاتها الدامية, لأنه يعلم في قرارة نفسه أنه عندما تغيب بوصلة الانتماء الوطني والهوية الوطنية, يصبح الوقوع في تيه ومستنقع الانتماءات والولاءات العشائرية والطبقية أمراً طبيعيا وذلك غاية أماني أعداء اليمن ووحدته قديماً وحديثاً.
شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 25/أيار/2010 - 9/جمادى الآخرة/1431

الدولة المدنية بين الواقع والخيال



زيد يحيى المحبشي
الدولة المدنية لم تكن في يوم من الأيام دينية أو بوليسية بل مدنية مدنية في مبناها ومعناها.. الدولة المدنية كانت ولا تزال الأمل والملاذ لكل من يؤمن بالتعدد والتنوع والحرية للجميع دون تفرقة عنصرية على أساس المذهب أو العرق أو الجنس أو المستوى الاجتماعي..
الدولة المدنية الحلم والحضن الدافئ لكل من يؤمن بأن عملية التحول نحو المدنية لا يمكن ترجمتها دون توافر النية الصادقة والعزيمة النافذة والإرادة القوية والثقة المتبادلة بين مكونات الفعل السياسي وتجذر الولاء الوطني الخالي من شوائب التبعية وتقديم المصلحة الوطنية على ما عداها من المصالح والحسابات الضيقة والابتعاد عن التشنجات والنعرات الدينية والمذهبية والفكرية..
الدولة المدنية المرفأ الآمن لك وطني غيور يطمح إلى بناء المستقبل على أسس ومبادئ جامعة يؤمن بها جميع أبناء وطنه باختلاف مشاربهم ومأربهم واتجاهاتهم السياسية والثقافية والمذهبية والعلمية..
المدنية هي التعلم من التاريخ لا التغني به لأن المجد الحقيقي ما نبنيه في الحاضر ويحياه الناس دون أوهام ماضوية ماتت وشبعت موت..
المدنية تعني ضرورة أن يعادل رفضنا للماضي الفاسد شجاعتنا في بناء المستقبل، والانتقال من الهدم إلى البناء ومن الشجب إلى العمل ومن اتهام الآخرين أو تخوينهم إلى اتهام النفس ومحاسبتها قبل الآخرين (جدية التخلي عن ثقافة اتهام وتخوين الآخرين للتهرب من مسؤوليتنا)، والانتقال من سياسة الاستحواذ والإقصاء والتفرد بمفاتيح غرفة الاقدار إلى ثقافة المواطنة والمشاركة الوطنية المتسعة للجميع..
 المدنية تعني ضرورة أن يدافع كل فرد من أفراد المجتمع عن حقوق الآخرين بنفس القوة التي يدافع بها عن حقوقه، دفاع المجتمع عن المظلوم والمقهور، دفاع القوي عن الضعيف وليس العكس، لأن التحضر يقاس بدرجة حماية الأكثرية للأقلية..
المدنية تعني خلق بيئة ثقافية وفكر إنساني حر لا يخاف بطش الاكثرية أو قوى النفوذ بتلاوينها ولا يبحث عن دغدغة المشاعر باللعب على وتر الدين، ووجود مثقفين يدافعون عن الحق والمجتمع دون تصفيق أو رياء لأصحاب السلطة والنفوذ، دون أن يبيعون أفكارهم وآرائهم لمن يدفع أكثر..
المدنية تعني وجود ارادة شعبية حقيقية ومؤثرة (قاعدة شعبية يمكن البناء عليها بشجاعة) تفهم معنى مدنية الدولة، ومستعدة لفعل أي شيء من أجل الوصول إليها، ووجود قائد قوي يملك حجة الحديث والمنطق لا قوة السلاح والبطش، قائد لديه رؤية علمية واضحة المعالم وواضحة الترتيب لأولويات البناء، ومستعد للموت من أجلها، لإيمانه بالوطن وبالمستقبل..
والمدنية قبل هذا وذاك تتطلب وجود قادة جدد يقدرون الثورات الشعبية السلمية ويحترمون ارادة شعوبهم ويحمونها ويمنعون الفساد ويضعون حداً للانتهازيين والمتسلقين على أكتاف ودماء وتضحيات الثوار والثورات..
المدنية حلم وردي يحمل في طياته كل معاني الجمال، حلم اشبهه بطيف علان (قوس قزح) توشح سماء ما بات يعرف بالربيع العربي.. غير أن فجائة الظهور السريع بما اشاعه من أحلام وأمال وطموحات، سرعان ما تلاشت وبذات الطريقة، مخلفة ورائها كومة من الاسئلة المتعثرة عن مستقبل شعوب ما يزال مكتنفا بالغموض الكبير، مستقبل شعوب سمية ظلما بسلة ورد الربيع المتفتح، ورد لم تنال منه سوى السراب/الطيف القزحي، ورد سرعان ما تحولت سلته العابقة الى اشواك متوحشة في تنمرها متوحشة في شدة ايلامها، وفي وسط غُدرة الربيع بدت الهوة شاسعة بين فساد الانظمة وحاشيتها ورغبات الشعوب وطموحاتها، بين اسقاط الديكتاتور المستبد وبقاء الديكتاتورية، بين شعوب تحلم بالتغيير وتخشاه، شعوب تصيح بالثورة وترفض دفع الثمن، بين عقل جمعي لا يزال يمارس سطوته العنفوانية في الساحات والميادين الربيعية القزحية، ولا يزال يتمنع التفكير على اصحابه، وهواجس تحل محل الأفكار، محولة في طريقها احلام المدنية الوردية الى كابوس مخيف وحلم مرعب
zeid231@gmail.com
شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 14/آيار/2013 - 3/رجب/1434