بقلم زيد يحيى المحبشي
يقول الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل "كنتم خير أمة أخرجت للناس"، "كنتم" من أفعال الماضي الناقصة تفيد التمام والدوام، وتلك الأمة هي أمة الوسط التي شرّفها الله بأن تكون شاهدة على الناس يوم الأشهاد: "لتكونوا شهداء على الناس".
من بطحاء مكة كان انبعاث حضارتها على يد النبي الأمي، فحصدت المجد والعزة، وذلك نتاجٌ طبيعي لما اتصف به الرعيل الأول لصانعي حضارة الإسلام من عبقرية الطموح إلى الحياة المُثلى، والتسابق في خيرات الترقي على سلالم الكمال البشري وصولاً إلى مرحلة حق وعين اليقين الوارد فيها "والله لو كُشِفَ لي الغطاء ما ازددت يقيناً".
بالإضافة إلى النبوغ المعرفي الجاعل من الحُفاة الرعاة منارة أضاءت الكون بأسره، وبطولة للتغيير الكاسرة أغلال الانعتاق والكبت والتحجر والتقوقع بإرادة ماضية وعزيمة أصحاب العزم بعيداً عن محادل التسييس والتفتير والتفريخ.
إن الإسلام هو المنطلق لبروز حضارة العرب ومرد ذلك عقيدته المُحرِرة والمُحرِّضة على صُنع الحضارة الإنسانية المثالية وجوهره ثوابته ومصادره الداعية إلى إعمالها دون استثناء "الإيمان يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل"، "الإيمان قولٌ باللسان وعملٌ بالأركان واعتقادٌ بالجنان".
وبيان ذلك القرآن الكريم الكتالوج والدستور المُنظم أدق معالم الحضارة الإسلامية، إذ تمثلت في مُقدمة حقائقه أهمية الإيمان بالله الخالق الواحد الذي لا شبيه له ولا نِدّ ولا عديل، وهي حقيقة تدخل في إطار تحرير الإنسانية من أغلال المعتقدات المنحرفة المُبقية للإنسان أسيراً لها والمُمانعة له من الانطلاق نحو اكتشاف الحقيقة وبالتالي الحد من الإبداع والنبوغ في سبيل خيرية الإنسانية.
من هنا جاءت العِلِية لهذه الأمة بفعل المضارع وليس الماضي مع أدوات النهي الجازمة "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين".
أي "الأعلون سنداً" كما فسرها السيد قطب رحمه الله في ظِلال القرآن عبر ثلاثة فصول متوالية وأي سندٍ أعظم من سند الله وألطافه الحامية للأمة من الوقوع في منزلقات المهاوي، والمُحصِّنة من أمواج الفتن والمحن والابتلاءات المتلاطمة.
"ولا تهنوا" إعجاز حوى إخباراً بأن الأمة سوف تتكالب عليها الأمم مُمارِسة ضدها ضُغوطاً جمة لحجمها عن مواصلة مسيرة السلام والمحبة والتحرر من عبودية الإنسان، وما يشهده القدس، من خطط جهنمية لتهويده أنصع مثال، في ذات الوقت الذي تمارس فيه أميركا وحلفاؤها الضغوط على زعمائنا لمواصلة المسيرة الإستسلامية.
والعجيب أن هذا على طرف واحد هو الحلقة الأضعف في حين أن أنَّات وصرخات المقدسيين لإنقاذ أُولى القبلتين وثالث الحرمين فاضحة لأوهام السلام وكأن الآية تقول لنا:
لا تنسلخوا من عروبتكم، لا تركنوا إلى معسول كلام عرقوب البيت الأسود، لا ترضخوا لضغوطه، فلكم في تاريخ هؤلاء الصهاينة القاطرة أيديهم بدمائكم، عِظة وعبرة، أنتم بُناة حضارة لا معاول هدم.
مُتبِعاً ذلك ببشارة الخلاص "ولا تحزنوا" أي حتى لو أصابكم البلاء من الظلمة المُريدين لكم المهزومية والاستسلام فناضلوا لأنكم أصحاب الأرض.
"ولا تحزنوا" لأن الله يقول: "إن مع العُسر يُسرا"، فجعل العُسر المعرفة عُسراً واحداً، ويُسر الفرج النكرة يُسران في الدنيا بانفراج الغُمة، وذلك لا يكون إلا بتقديم قرابين العشق الإلهي وفي الأخرة بالأجر الجزيل والمثوبة الغامرة في مقعد صدق للشهداء الأبرار، ألم يقل الله تعالى "إذ يقول لصاحبه لا تحزن"، أي لا تخاف ولا تستوحش.
وتتوضح صورة ذلك مع "إن كنتم مؤمنين"، الشرطية الكفيلة بالخروج من الدوامة.
الأمر لا يتوقف على مؤامرة تهويد للقدس، وإنما يمتد إلى ما صرنا فيه كأمة عربية من القزامة بمكان، بعد أن تمكن منا داء الأمم في زمن العمالقة المتكتلة والمتحدة بينما نحن خارج نطاق التغطية، رغم علم الجميع أنه لا مكان في عالمنا إلا للأقوى، ولذا فنحن بين خيارين لا ثالث لهما: إما "أن نكون" أو "لا نكون"، فإن أردنا "أن نكون" توّجب علينا التشمير عن سواعد الجد والعمل والله ناصرنا "كم من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله".
و"أن نكون" لا تكون إلا بالجدولة العملية لأن "نروي ظمأ القلوب بالتسامح البيني عذباً فُراتاً لذةً للشاربين، وما أكثر الظمأ، أن نطحن بذور المحبة المقدسة لتصير خُبزاً ملائكياً وما أكثر الجياع، أن نرسم من الوجع أقواس فرح، أن نصوغ من الألم شموس أمل، من الجُرح النازف أقمار تفاؤل، من البشاعة ينابيع جمال، من الكراهية أشجار مودة، من الرجمة سهول رحمة، من الكآبة حدائق غبطة، من القلق أزهار طمأنينة، من البرد والقحط صلوات دفء، من الحِرمان دعوات مغفرة وعطف وحنان".
وأن نجعل من أنفسنا مُنطلقاً للتغيير، وننفض عن أنفسنا جلباب الذل والهوان، ونكسر قيود الخوف من الأخر، ونحرر أنفسنا من أغلال عُقدة الأنا وإدعاء التأمثل والتطهر .. ألخ.
حينها فقط سنكون الأعلون سنداً بدلاً من الإندكاك في إرادة الأهواء والنزوات والتماهي في سلطات الأقفاص.