08 مايو, 2009 م
لرابط : دراسات
بقلم//زيد يحيى المحبشي
قديماً كتب المؤرخ الروماني بلوتارك في مذكراته رسالة إلى الإسكندر الأكبر يخبره فيها بوجود واد من النيران السائلة بالقرب من مياه سوداء متسخة وهو ما صار يعرف اليوم بكركوك المدينة والمحافظة التي أصبحت منذ العام 2400 قبل الميلاد حلبة صراع وساحة تنافس بين القوى الإقليمية الكبرى أي منذ تأسيس مملكة أرافكا بها.
قديماً كان الصراع بين الإمبراطورية الآشورية والبابلية والميدية، وحديثاً بين الأكراد والعرب والأتراك وإيران وإسرائيل وأميركا وما بينهما، نجحت المدينة في أن تكون مدينة للتعايش بين مختلف مكوناتها القومية والعرقية لاسيما في القرن السابع إثر ضمها إلى الحاضنة العربية ، إلا أن الاستعمار الحديث وتحديداً قبل 200 عام عندما نجح الجيش التركي في استخراج النفط منها لاستخدامه في الإضاءة, حولَّها إلى واحدة من أهم وأخطر بؤر التوتر الداخلية والإقليمية والدولية والواصل ذروته اليوم بالتناغم مع تهديد رئيس الحكم الذاتي لإقليم كردستان العراق مسعود بارزاني بضمها رسمياً إلى الإقليم ودفعه قبل أسابيع مئات من البشمركة إلى المدينة على مقربة من فشل الحكومة العراقية في تمرير قانون انتخابات مجالس المحافظات وانفجار ملفات الأكراد في تركيا وسوريا وإيران.
ست سنوات مرت منذ احتلال أميركا للعراق كانت فيها كركوك بعيدة عن نيران الحرب الطائفية فإذا بها فجأة تطفو على السطح كقنبلة موقوتة تشير التفاعلات المحيطة بها إلى صيرورتها عنواناً لصراع قادم عنوانه الرئيسي القوميات وعامل تغذيته الأحلام الكردية المرتفعة وتيرتها بدعم إسرائيلي في بلد هو في الأساس عبارة عن شعوب توافدت وتعايشت عبر آلاف السنين مكونة فيما بينها فلكاً مشحوناً بالقوميات والأديان والمذاهب والأعراق ومتحفاً عقائدياً لا يحتمل بعث أمة دون سواها ، خصوصاً في هذه المرحلة الفارقة من تاريخه المعاصر.
لماذا كركوك؟استمدت كركوك أهميتها من توافر عدة عوامل أكسبتها أهمية استراتيجية خاصة داخلياً وإقليمياً ودولياً أهمها: المخزونات النفطية الهائلة المتجاوزة 10 مليارات برميل من الاحتياطي الخام المحقق إلى جانب اكتشاف مادة اليورانيوم مؤخراً ، ناهيك عن موقعها الجغرافي ذي الأهمية الاستراتيجية, كون المدينة وفقاً لخارطة العام 1957 تقع في قلب العراق ؛ ولذا فهي قريبة من كل العراق حيث يحدها من الشمال أربيل ومن الشمال الغربي الموصل ومن الشرق السليمانية ومن الجنوب ديالي ومن الغرب بغداد وتكريت ، ما يعني أن من يسيطر عليها سيتمكن من التحكم بمصير العراق حاضره ومستقبله الأمر الذي دفع القيادات العراقية المتعاقبة إلى تقطيع أوصالها والتلاعب بتركيبتها الديموغرافية ومن ثم استبدالها بمحافظة التأميم عام 1969 المفضي إلى تدمير قراها وتبديل تركيبتها السكانية تحت ذريعة الهاجس القومي والأمني والخوف من العرقيات غير العربية في شمال العراق بما فيها تلك القاطنة كركوك.
بالعودة إلى التركيبة السكانية للمدينة يمثل الإحصاء الأممي لعام 1957 المعتمد رسمياً اليوم كونه جرى قبل تولي صدام حسين السلطة بما تخلل فترته من عمليات نقل للسكان العرب إلى كركوك حيث يظهر أن سكانها الأكراد يمثلون الثلث فقط بواقع 187593 نسمة وهي النسبة الأعلى في الأطراف والعرب 37 بالمائة بواقع 109620 نسمة والتركمان 28 بالمائة بواقع 83371 نسمة يمثلون النسبة الأعلى بالمركز والسوريان – الكلدان 1605 نسمة ، فيما أظهرت نتائجه على مستوى لواء كركوك أن الأكراد أقل من النصف ، وبالتالي فالأغلبية للعرب والتركمان إلا أن الأكراد بعد الاحتلال الأميركي للعراق قاموا بجلب 600 ألف كردي إليها تحت شعار التكريد وعلى مدى خمس سنوات من الاحتلال لم تكن هناك أي بوادر لاحتمال ظهور الصراع في كركوك فما الذي أدى إلى انفجاره اليوم وما هي دوافع الجهات المغذية له؟
أجندة الصراع الداخليبدا الصراع واضحاً بين سكان كركوك العرب والأكراد حيث يحاول كل منهما تقوية وجوده عن طريق تعزيز وزنه الديموغرافي واستمالة الأقليات التركمانية والآشورية ، وصولاً إلى زج المئات من البشمركة الكردية إلى المدينة في الأشهر الثلاثة الأخيرة ، معززةً بتوجيهات من الطالباني والبارزاني للتهيؤ للاستيلاء عليها وقمع أي مقاومة تعترضها كخطوة أولى لضمها إلى إقليم كردستان بعد النجاح في وضع إطار دستوري يدعم الجهود الميدانية الكردية لضم الإقليم إلى كردستان، وقد تم تضمينه دستور العراق الجديد كما جاء في المادة 140 منه حول المناطق المتنازع عليها وإعلان الأكراد أن كركوك خط أحمر كون المادة 140 تمنحهم الحق في ضمها بموجب نتائج الاستفتاء الذي تضمنته لاسيما بعد إحكامهم القبضة على مجلس المدينة.
التحرك الكردي يأتي بالتناغم مع مشروع برلمان كردستان كان قد تبناه في السابق تضمن تألف محافظة كردستان من المناطق ذات الغالبية الكردية حسب إحصاء عام 1957 أي محافظتي كركوك والتأميم، علماً أن مطالبهم قبل الحرب العالمية الأولى كانت مقتصرة على مدينة السليمانية فقط إلا أن نجاحهم في ضمها عام 1991 فتح شهيتهم نحو كركوك رغم أن نصفها تقريباً اليوم تقع خارج منطقة السيطرة الكردية، ولذا فهم يرون أن ضمها معناه الاحتفاظ بدور حيوي ومؤثر في إدارة الشأن العراقي المنبثق عن الاحتلال الأميركي والمضمن الدستور العراقي من خلال نص قانوني تقدموا به حول المناطق الكردية الشاملة محافظات دهوك وأربيل والسليمانية وكركوك والتأميم وأنحاء كردية في محافظتي ديالي والموصل.
مضامين المادة 140 تكونت من ثلاث مراحل لحل أزمة المناطق المتنازع عليها والمشكل لتنفيذها لجنة خاصة من قبل حكومة المالكي في شباط/ فبراير 2007 تمهيداً لإجراء انتخابات مجالس المحافظات المقررة في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 2008 وهي تطبيع الأوضاع وإجراء إحصاء سكاني في المناطق المتنازع عليها وإجراء استفتاء حول هويتها ومصيرها كان مقرراً قبل 31 كانون الأول/ ديسمبر 2007 ليتم تحت وطأة احتدام الخلافات الداخلية تأجيله ، خصوصاً بعد إقرار البرلمان العراقي مشروع قانون الانتخابات لمجالس المحافظات في 22 تموز/ يوليو 2008 دون مصادقة الطالباني وعادل عبدالمهدي عليه وإرجاعه إلى البرلمان لتعديله بسبب تضمنه فقرات تعيق ضم كردستان لكركوك الأمر الذي جعل الأكراد يصرون على الاستفتاء حول مصير كركوك قبل التوافق على التعديلات الدستورية للقانون في حين يصر العرب والتركمان على التعديلات قبل الاستفتاء وما بينهما وقفت الكتلة الصدرية إلى جانب تنفيذ المادة 140 في حين رأت الأمم المتحدة ضرورة إجراء الانتخابات واستثناء كركوك والتأميم والمناطق المتنازع عليها إلى حين البت في أمرها.
كل هذا يشي بأن الأزمة في طريقها نحو التصاعد وأن الانتخابات المحلية سيكون مصيرها التأجيل شأنها شأن التأجيل المتكرر للاستفتاء في ظل تحذير مجموعة الأزمات الدولية من عواقب وتداعيات الصراع على كركوك في إشعال حرب أهلية طاحنة أو حدوث تدخل عسكري خارجي قد يحولها إلى بؤرة لصراع وحرب إقليمية- دولية, ناصحةً بتأجيل الاستفتاء وتصنيف كركوك منطقة فيدرالية قائمة بذاتها وهو اقتراح لاقى استحسان العرب والتركمان المقترحين بدورهم تقسيمها إلى أربع دوائر انتخابية بواقع 32 بالمائة لكل من العرب والأكراد والتركمان و 4بالمائة للكدو- آشوريين أو الاحتكام إلى تعداد عام 1957 في حين يرى الأكراد أن ذلك مولداً للشكوك حول عدم قناعة العرب والتركمان بشراكتهم في العراق الجديد قد يدفعهم نحو تفضيل الخيار الانفصالي ما لم يتم إشعارهم بالأمان والاطمئنان والمواطنة الكاملة المتمثل في تعجيل الاستفتاء لإثبات حسن النية.
ومع ذلك فقد فات الجميع أنهم بالإجماع قد أقروا المادة 140 اللغم المهدد بتفتيت العراق بغية استغلال الظروف الاستثنائية لتثبيت مصالحهم الطائفية والعرقية على حساب وحدة واستقرار العراق.
أجندة الأطماع الخارجيةكركوك اليوم أشبه ما تكون بمثلث برمودا وبلغة أخرى مثلث الموت القادم في العراق الجديد ، قاعدته الصراعات السكانية الداخلية وضلعاه الأقلمة والتدويل ونقطة التقاطع الثروات المعدنية والأهمية الموقعية بما لها من أبعاد تاريخية مصحوبة بآثار كارثية صارت معها المدينة مرتعاً للتهجير القسري والتعريب تارة والتكريد أخرى ، والاختطافات والاعتقالات في ظل الشحن القومي والعصبوي المنفلت من عقاله والصائرة معه ساحة ساخنة للتجاذبات السياسية بين الدول الكبرى في المنطقة ساعدهم على ذلك ضعف الدولة المركزية العراقية وسيطرة الطائفيين الجدد على مفاصلها المتداعية فيما الجميع يشحذ سكاكينه استعداداً لتقطيع أوصال كركوك لتسهيل التهام قطعة منها.والملاحظ تقاطع محركات الأطراف الداخلية في كركوك وتحديداً العرب والتركمان، حول الخوف من اندفاع الأكراد نحو تحقيق أحلامهم القديمة المتجددة في إقامة دولتهم المستقلة عن العراق بما يترتب على ذلك من تذكية لطموحات الأقليات العراقية الأخرى ناهيك عن الطموحات الطائفية المعلنة من قبل الشيعة لإقامة دولتهم المستقلة أيضاً في جنوب العراق وهو ما يقود في نهاية المطاف إلى تقسيم العراق إلى دويلات متقزمة .
الطموح الأميركي الإسرائيلي منذ الوهلة الأولى أيضاً ركز على ضرورة إقامة نظام فدرالي شكلاً وكونفيدرالي عملياً إلا أنه لا يزال مصطدم بالهواجس القومية والأمنية لدول الجوار وتحديداً تركيا وسوريا وإيران المتفقة في مخاوفها مع عرب وتركمان كركوك حيال الطموحات الكردية والتي من شأنها إشعال الامتدادات الكردية فيها للمطالبة بالحصول على ذات المكاسب التي حققها أكراد العراق ما يعني في خاتمة المطاف توحيد المطالب لأكثر من 30 مليون كردي شتتهم لعنة سايكس بيكو لإقامة دولتهم العرقية الخالصة الأمر الذي قد ينذر بإشعال الشرق الأوسط برمته لاسيما وأن الحلقات المحلية والإقليمية والدولية في طريقها إلى الاكتمال فهل يعني ذلك أن كركوك في طريقها لسلوك خطى فلسطين المحتلة وصولاً إلى جعلها عنواناً للصراعات القادمة في المنطقة لاسيما وأن كل المؤشرات القائمة والمختمرة تصب في اتجاه صيرورتها مجمعاً لصراعات تقارب الانفجار بفعل تداخل وتشابك المحن فيها بشكل أهلَّها لأن تكون محطة ساخنة لبانوراما برمودية شرق أوسطية قادمة وفي نفس الوقت رقماً مهماً وصعباً في استقرار ووحدة العراق والمنطقة برمتها؟.إن قراءة سريعة لمعطيات الأطماع الخارجية المختلفة في كركوك وحولها سواء تلك المتحركة تحت شعار تداخل المصالح والديموغرافيا كما هو حال الموقف التركي المتحرك بدواعي الخوف على مصير التركمان، أو التوجس من تحريك أي نجاح قد يحرزه أكراد العراق في كركوك لثورة قد يقودها حزب العمال الكردستاني التركي بغية تحقيق أكراد تركيا الممثلين أكثر من ثلث سكانها ذات المكاسب أو تلك المتحركة تحت شعار القنبلة الديموغرافية كما هو حال الموقف السوري والإيراني من امتداد نيران الثورة الكردية إلى امتداداتها الخارجية.. فيما كانت تحركات أميركا وإسرائيل تحت غطاء المصالح الاقتصادية والعسكرية الرامي في حقيقته إلى جعل كركوك مفتاح سر وبوابة عبور جديدة نحو الشرق الأوسط الجديد ممثلاً في الخطة الإسرائيلية البديلة والجاري تنفيذها حالياً بعد فشل خطة المحافظين الجدد الأميركان في العراق والمنطقة معززاً بفشل إسرائيلي أميركي ذريع لجعل لبنان بوابة العبور فلم يكن أمامها من سبيل سوى كركوك .
الأجندة التركية يذهب الصحفي التركماني العراقي صبري طرابية إلى أن تقدير التركمان في العراق لا يقل عن مليون نسمة يعيش غالبيتهم في كركوك والتي كانوا دوماً يشكلون الأغلبية فيها، وهو التبرير الدافع بأنقرة إلى مواجهة طموحات أكراد العراق في كركوك والتلويح بالتدخل العسكري لإيقافها ولذا فهي تعتبر كركوك من الخطوط الحمراء التي لا يجب على الأكراد تجاوزها لما يترتب على ذلك من تداعيات قد تطال جنوب شرق تركيا ذات الغالبية الكردية أيضاً وهو ما يهدد في النهاية وحدة الأراضي التركية ما دعاها إلى استباق ذلك بالتلويح بتوجيه ضربات استباقية للاستفتاء حول مصير كركوك.الصراع التركي الكردي على هوية كركوك في حقيقته محكوماً بالاختلافات الشخصية بين قادة الطرفين وهو صراع كان ومازال منذ انهيار الدولة العثمانية وظهور الجمهورية التركية على أنقاضها حيث كان العراق بكامل حدوده الحالية يدخل وحتى العام 1921 ضمن الحدود العثمانية وكان التداخل العرقي في ولاية الموصل وعاصمتها كركوك أكثر وضوحاً.
لكن حدود التنازع لا تقف عند الأبعاد السياسية بل تتعداها إلى الأبعاد الاقتصادية وهو ما قد يُعقِّد الأزمة مستقبلاً ، خصوصاً وأنه في حال ضم كردستان لكركوك ستفقد أنقرة أول منفذ يتم من خلاله تصدير النفط العراقي إلى ميناء جيهان التركي وهو ما دفعها إلى تنظيم مؤتمراً إقليمياً حول كركوك خلال الفترة 15- 16 كانون الثاني/ يناير 2007 عدته كردستان العراق بمثابة أول تدخل سافر في الشأن العراقي في حين اكتفت أنقرة بإجراء رئيس وزراءها أردوغان مؤخراً اتصالاً هاتفياً مع رئيس العراق أبدا خلاله قلقه من مطالب سلطات أكراد كردستان العراق بضم محافظتي التأميم وكركوك مصحوباً بالتهديد العسكري للحيلولة دون حصول ذلك.
ومن الثابت أيضاً وجود مطالب تركية تاريخية لأجزاء من الموصل والسليمانية والتأميم وكانت كركوك محور اهتمامها الأول قبل أن يسيطر عليها الإنجليز وقد قضى قرار عصبة الأمم في 1925 بتبعية الموصل وعاصمتها كركوك للملكة العراقية على إثر ذلك تنازلت تركيا عنها رسمياً في 1926 مقابل الحصول على 10 بالمائة من عائداتها النفطية لمدة 25 عاماً ثم عدلت بعدها إلى سعر مقطوع لمدة واحدة ..كما هددت أنقرة في 1959 بالاستعداد العسكري لاقتحام كركوك وبعد العام 1991 إثر إقامة منطقة أمنه للأكراد في شمال العراق توصلت أنقرة إلى تفاهم مع أميركا على ألا تشمل المنطقة الأمنية كركوك.
إذن فهي جادة اليوم عندما لوحت بالتهديد العسكري لكن ما تداعيات ذلك على تحالفاتها الاستراتيجية مع كل من إسرائيل وأميركا؟ خصوصاً وأنها ترى في الطموحات الكردية تهديداً وجودياً لأمنها القومي؟ وهو شعور تشاركها فيه كل من إيران وسوريا بفعل تواجد القيادات الكردية المناوئة لكل من طهران ودمشق في كردستان العراق في وقت تتصاعد فيه التوترات بين طهران والحركات الكردية الإيرانية على مناطق الحدود مع تركيا والعراق إثر نجاح جماعة بيجاك الكردية الإيرانية بإسقاط مروحية للجيش الإيراني نهاية شباط/ فبراير 2007 م مسنودة من حزب العمال الكردستاني التركي وإسرائيل الأمر الذي أدى إلى فتح ملف أكراد إيران مجدداً بالتزامن مع إشتعال الاضطرابات في المناطق الكردية السورية تحت ذريعة المطالبة بالمواطنة المتساوية والأهم من هذا إعلان حزب العمال الكردستاني التركي مؤخراً عن انتهاء الهدنة التي استمرت خمس سنوات مع الجيش التركي.
الأجندة الإسرائيليةيعتقد الأكراد بأن مطية الوصول إلى طموحاتهم بحاجة إلى دعم خارجي، وهنا يطل البطل الإسرائيلي بقوة بوصفه اللاعب الأساسي والسري في لعبة الأمم الكبرى الراهنة المتمحورة حول الأكراد بعد التوصل إلى قناعة نهاية العام الماضي بعدم جدية أميركا للوقوف في وجه طهران وأنها لن تكون قادرة على تحقيق الاستقرار أو الديمقراطية في العراق، لذا رأت ضرورة التوجه إلى نسج خطة بديلة تضمنت حصر الأضرار التي سببتها الحرب العراقية للموقع الاستراتيجي الإسرائيلي من خلال توسيع علاقاتها القديمة القائمة مع أكراد العراق ونشر وجود إسرائيلي بارز في مناطقهم أولاً لاتخاذه كقاعدة لتنفيذ عملياتها السرية داخل المناطق الكردية في سوريا وإيران ، أملاً في تحقيق ما عجزت عن تحقيقه القوات الأميركية بالسلم والدبلوماسية ووصولاً إلى خلق واقع فيدرالي شكلي وكونفدرالي عملياً في العراق من خلال خلق حرب أهلية يكون فتيلها تغذية النوازع الانفصالية لدى الأكراد لإقامة دولتهم كون الأمر لم يعد مستحيلاً والتكفل بتوفير الضمانات الأميركية وهو ما يسمح في الأخير بفتح الباب واسعاً أمام إسرائيل لنهب ثروات العراق ولم يعد خافياً اليوم وجود الكثير من شركاتها الاستثمارية تحت مسميات متعددة في الشمال العراقي خصوصاً في مجال التنقيب عن النفط و اليورانيوم في كركوك وهو حلم قديم تحرص اليوم على تحقيقه من خلال إعادة تأمين خط أنابيب كركوك- حيفا.
اللعب الإسرائيلي اليوم بالصاعق الكردي العراقي من شأنه إشعال ردود فعل تركية وربما حرباً ما يعني نسف تحالفاً مهماً وتاريخياً يربطهما لاسيما بعد الفشل في إقناع أنقرة بأن المستهدف هو إيران وسوريا وليس تركيا كما أنه قد يضطر أميركا إلى المفاضلة بين كردستان حرة وبين تركيا الحليف الاستراتيجي بما لذلك من خطورة في حال اختارت الخيار الأول لاندفاع تركيا نحو الانفجار وربما توحد الأصوليين في الشرق مع الجيش التركي العلماني ما لم تنجح واشنطن في إيجاد صفقة مرضية حول كركوك لكل الأطراف بعيداً عن الاندفاعات الإسرائيلية الجنونية.
الأجندة الأميركيةفي طابعها العام بعد فشل ضغوطها على القادة العراقيين للتوصل إلى تسوية تسمح بإجراء انتخابات مجالس المحافظات كخطوة أولى تدعم العملية السياسية تمهيداً لإجراء انتخابات عامة لم تخفي خشيتها من أن تستغل الجماعات المسلحة مثل القاعدة والميليشيات الشيعية الجدل المحتدم حول كركوك لتنفيذ مخططات تضر بالمكاسب الأمنية المتحققة مؤخراً حسب زعمها.
كما أن واشنطن تدرك بأن انفصال كركوك وضمها لكردستان من شأنه فتح أبوب من التوتر والانقسام هي في غنى عنها حالياً ، كما أنها ليست في وارد التضحية بثروات كركوك وليست لديها الرغبة في خسارة تركيا وما بينهما تحاول الإمساك بخيوط اللعبة السياسية وهو ما يحتم عليها امتلاك أوراق ضغط إضافية لاستغلالها في الوقت المناسب خصوصاً كركوك الورقة الرابحة في المستقبل القريب والبعيد تجاه تركيا وسوريا وإيران.
إذن فهي تعتمد استراتيجية كسب الوقت إذ الملاحظ أنها عندما تتصاعد الأزمات تقوم باختيار الحل المناسب لمصالحها الخاصة وتحاول تطبيقه وإذا كانت معطيات الواقع لا تقبل ذلك تسعى إلى تغييره وتطويعه وهو المنهج المتبع حالياً حيال ملف كركوك القائم بصورة أساسية على: تأجيل الاستفتاء حولها لإرضاء أنقرة..و تأجيل العملية العسكرية لإرضاء أربيل وجعلها تقبل بتأجيل الاستفتاء على أمل إجرائه لاحقاً.
ومن ثم الحيلولة دون وقوع صراع عربي- كردي- تركي من خلال سيطرة الجيش الأميركي مؤخراً على كل الجسور والممرات الموجودة في كركوك كمقدمة للسيطرة عليها وصولاً إلى خلق واقع جديد يمكنها من استخدام ملف كركوك في المساومات السرية مع أنقرة والزعماء الأكراد والعرب مصحوباً بخطوات ميدانية متسارعة من أجل بناء قاعدة عسكرية جوية في كركوك هي الأهم والأكبر من نوعها في الشرق الأوسط ودفع الشركات الأميركية لتوقيع المزيد من عقود احتكار حق تنقيب وحفر وتوزيع وبيع نفط كركوك.
كلها في نهاية المطاف تقود إلى خلق واقع جديد في هذه المنطقة المنكوبة بحيث لا يكون أمام الأطراف المتصارعة سوى تقديم المزيد من التعاون لواشنطن من أجل الحصول على نصيب أكبر من كعكة كركوك وربما الفتات كون الجزء الأكبر قد أضحى في جيب الشركات الأميركية والإسرائيلية.------------------------------المصادر- تيلي أمين- محامي كردي، كركوك.. مدينة التعايش السلمي، جريدة الزمان العراقية، 13 أيار/ مايو 2004.- رشيد الخيون، كركوك.. رفقاً بالفلك المشحون، جريدة الشرق الأوسط، 30 تموز/ يوليو 2008.- د. مصطفى اللباد، الصراع على كركوك بين التاريخ والمصالح، موقع جريدة الجريدة.- عماد الدبك، الصراع يحتدم في العراق للحصول على نصيب أكبر من كعكة كركوك، موقع شبكة البصرة، 29 كانون الثاني/ يناير 2008.- أكراد العراق: الدستور مقابل المادة 140، الأخبار اللبنانية، 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 2007.- العراق: الصراع على كركوك يعرقل إجراء الانتخابات المحلية، موقع بي. بي. سي، 3 آب/ أغسطس 2008.- محمد أمين، كركوك: برميل بارود يشتعل، موقع مفكرة الإسلام، 6 أيار/ مارس 2007.- الجمل، صراع الذئاب على بقرة كركوك الحلوب، موقع أحرار سوريا، قسم الدراسات والترجمة.- سعد محيو، كركوك أولاً.. كركوك أخيراً، الكفاح العربي، 9 آب/ أغسطس 2008.
هذا المقال من قبل صوت العروبةhttp://www.arabvoice.com/ رابط هذا المفال:http://www.arabvoice.com/modules.php?op=modload&name=News&file=article&sid=14839
قديماً كان الصراع بين الإمبراطورية الآشورية والبابلية والميدية، وحديثاً بين الأكراد والعرب والأتراك وإيران وإسرائيل وأميركا وما بينهما، نجحت المدينة في أن تكون مدينة للتعايش بين مختلف مكوناتها القومية والعرقية لاسيما في القرن السابع إثر ضمها إلى الحاضنة العربية ، إلا أن الاستعمار الحديث وتحديداً قبل 200 عام عندما نجح الجيش التركي في استخراج النفط منها لاستخدامه في الإضاءة, حولَّها إلى واحدة من أهم وأخطر بؤر التوتر الداخلية والإقليمية والدولية والواصل ذروته اليوم بالتناغم مع تهديد رئيس الحكم الذاتي لإقليم كردستان العراق مسعود بارزاني بضمها رسمياً إلى الإقليم ودفعه قبل أسابيع مئات من البشمركة إلى المدينة على مقربة من فشل الحكومة العراقية في تمرير قانون انتخابات مجالس المحافظات وانفجار ملفات الأكراد في تركيا وسوريا وإيران.
ست سنوات مرت منذ احتلال أميركا للعراق كانت فيها كركوك بعيدة عن نيران الحرب الطائفية فإذا بها فجأة تطفو على السطح كقنبلة موقوتة تشير التفاعلات المحيطة بها إلى صيرورتها عنواناً لصراع قادم عنوانه الرئيسي القوميات وعامل تغذيته الأحلام الكردية المرتفعة وتيرتها بدعم إسرائيلي في بلد هو في الأساس عبارة عن شعوب توافدت وتعايشت عبر آلاف السنين مكونة فيما بينها فلكاً مشحوناً بالقوميات والأديان والمذاهب والأعراق ومتحفاً عقائدياً لا يحتمل بعث أمة دون سواها ، خصوصاً في هذه المرحلة الفارقة من تاريخه المعاصر.
لماذا كركوك؟استمدت كركوك أهميتها من توافر عدة عوامل أكسبتها أهمية استراتيجية خاصة داخلياً وإقليمياً ودولياً أهمها: المخزونات النفطية الهائلة المتجاوزة 10 مليارات برميل من الاحتياطي الخام المحقق إلى جانب اكتشاف مادة اليورانيوم مؤخراً ، ناهيك عن موقعها الجغرافي ذي الأهمية الاستراتيجية, كون المدينة وفقاً لخارطة العام 1957 تقع في قلب العراق ؛ ولذا فهي قريبة من كل العراق حيث يحدها من الشمال أربيل ومن الشمال الغربي الموصل ومن الشرق السليمانية ومن الجنوب ديالي ومن الغرب بغداد وتكريت ، ما يعني أن من يسيطر عليها سيتمكن من التحكم بمصير العراق حاضره ومستقبله الأمر الذي دفع القيادات العراقية المتعاقبة إلى تقطيع أوصالها والتلاعب بتركيبتها الديموغرافية ومن ثم استبدالها بمحافظة التأميم عام 1969 المفضي إلى تدمير قراها وتبديل تركيبتها السكانية تحت ذريعة الهاجس القومي والأمني والخوف من العرقيات غير العربية في شمال العراق بما فيها تلك القاطنة كركوك.
بالعودة إلى التركيبة السكانية للمدينة يمثل الإحصاء الأممي لعام 1957 المعتمد رسمياً اليوم كونه جرى قبل تولي صدام حسين السلطة بما تخلل فترته من عمليات نقل للسكان العرب إلى كركوك حيث يظهر أن سكانها الأكراد يمثلون الثلث فقط بواقع 187593 نسمة وهي النسبة الأعلى في الأطراف والعرب 37 بالمائة بواقع 109620 نسمة والتركمان 28 بالمائة بواقع 83371 نسمة يمثلون النسبة الأعلى بالمركز والسوريان – الكلدان 1605 نسمة ، فيما أظهرت نتائجه على مستوى لواء كركوك أن الأكراد أقل من النصف ، وبالتالي فالأغلبية للعرب والتركمان إلا أن الأكراد بعد الاحتلال الأميركي للعراق قاموا بجلب 600 ألف كردي إليها تحت شعار التكريد وعلى مدى خمس سنوات من الاحتلال لم تكن هناك أي بوادر لاحتمال ظهور الصراع في كركوك فما الذي أدى إلى انفجاره اليوم وما هي دوافع الجهات المغذية له؟
أجندة الصراع الداخليبدا الصراع واضحاً بين سكان كركوك العرب والأكراد حيث يحاول كل منهما تقوية وجوده عن طريق تعزيز وزنه الديموغرافي واستمالة الأقليات التركمانية والآشورية ، وصولاً إلى زج المئات من البشمركة الكردية إلى المدينة في الأشهر الثلاثة الأخيرة ، معززةً بتوجيهات من الطالباني والبارزاني للتهيؤ للاستيلاء عليها وقمع أي مقاومة تعترضها كخطوة أولى لضمها إلى إقليم كردستان بعد النجاح في وضع إطار دستوري يدعم الجهود الميدانية الكردية لضم الإقليم إلى كردستان، وقد تم تضمينه دستور العراق الجديد كما جاء في المادة 140 منه حول المناطق المتنازع عليها وإعلان الأكراد أن كركوك خط أحمر كون المادة 140 تمنحهم الحق في ضمها بموجب نتائج الاستفتاء الذي تضمنته لاسيما بعد إحكامهم القبضة على مجلس المدينة.
التحرك الكردي يأتي بالتناغم مع مشروع برلمان كردستان كان قد تبناه في السابق تضمن تألف محافظة كردستان من المناطق ذات الغالبية الكردية حسب إحصاء عام 1957 أي محافظتي كركوك والتأميم، علماً أن مطالبهم قبل الحرب العالمية الأولى كانت مقتصرة على مدينة السليمانية فقط إلا أن نجاحهم في ضمها عام 1991 فتح شهيتهم نحو كركوك رغم أن نصفها تقريباً اليوم تقع خارج منطقة السيطرة الكردية، ولذا فهم يرون أن ضمها معناه الاحتفاظ بدور حيوي ومؤثر في إدارة الشأن العراقي المنبثق عن الاحتلال الأميركي والمضمن الدستور العراقي من خلال نص قانوني تقدموا به حول المناطق الكردية الشاملة محافظات دهوك وأربيل والسليمانية وكركوك والتأميم وأنحاء كردية في محافظتي ديالي والموصل.
مضامين المادة 140 تكونت من ثلاث مراحل لحل أزمة المناطق المتنازع عليها والمشكل لتنفيذها لجنة خاصة من قبل حكومة المالكي في شباط/ فبراير 2007 تمهيداً لإجراء انتخابات مجالس المحافظات المقررة في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 2008 وهي تطبيع الأوضاع وإجراء إحصاء سكاني في المناطق المتنازع عليها وإجراء استفتاء حول هويتها ومصيرها كان مقرراً قبل 31 كانون الأول/ ديسمبر 2007 ليتم تحت وطأة احتدام الخلافات الداخلية تأجيله ، خصوصاً بعد إقرار البرلمان العراقي مشروع قانون الانتخابات لمجالس المحافظات في 22 تموز/ يوليو 2008 دون مصادقة الطالباني وعادل عبدالمهدي عليه وإرجاعه إلى البرلمان لتعديله بسبب تضمنه فقرات تعيق ضم كردستان لكركوك الأمر الذي جعل الأكراد يصرون على الاستفتاء حول مصير كركوك قبل التوافق على التعديلات الدستورية للقانون في حين يصر العرب والتركمان على التعديلات قبل الاستفتاء وما بينهما وقفت الكتلة الصدرية إلى جانب تنفيذ المادة 140 في حين رأت الأمم المتحدة ضرورة إجراء الانتخابات واستثناء كركوك والتأميم والمناطق المتنازع عليها إلى حين البت في أمرها.
كل هذا يشي بأن الأزمة في طريقها نحو التصاعد وأن الانتخابات المحلية سيكون مصيرها التأجيل شأنها شأن التأجيل المتكرر للاستفتاء في ظل تحذير مجموعة الأزمات الدولية من عواقب وتداعيات الصراع على كركوك في إشعال حرب أهلية طاحنة أو حدوث تدخل عسكري خارجي قد يحولها إلى بؤرة لصراع وحرب إقليمية- دولية, ناصحةً بتأجيل الاستفتاء وتصنيف كركوك منطقة فيدرالية قائمة بذاتها وهو اقتراح لاقى استحسان العرب والتركمان المقترحين بدورهم تقسيمها إلى أربع دوائر انتخابية بواقع 32 بالمائة لكل من العرب والأكراد والتركمان و 4بالمائة للكدو- آشوريين أو الاحتكام إلى تعداد عام 1957 في حين يرى الأكراد أن ذلك مولداً للشكوك حول عدم قناعة العرب والتركمان بشراكتهم في العراق الجديد قد يدفعهم نحو تفضيل الخيار الانفصالي ما لم يتم إشعارهم بالأمان والاطمئنان والمواطنة الكاملة المتمثل في تعجيل الاستفتاء لإثبات حسن النية.
ومع ذلك فقد فات الجميع أنهم بالإجماع قد أقروا المادة 140 اللغم المهدد بتفتيت العراق بغية استغلال الظروف الاستثنائية لتثبيت مصالحهم الطائفية والعرقية على حساب وحدة واستقرار العراق.
أجندة الأطماع الخارجيةكركوك اليوم أشبه ما تكون بمثلث برمودا وبلغة أخرى مثلث الموت القادم في العراق الجديد ، قاعدته الصراعات السكانية الداخلية وضلعاه الأقلمة والتدويل ونقطة التقاطع الثروات المعدنية والأهمية الموقعية بما لها من أبعاد تاريخية مصحوبة بآثار كارثية صارت معها المدينة مرتعاً للتهجير القسري والتعريب تارة والتكريد أخرى ، والاختطافات والاعتقالات في ظل الشحن القومي والعصبوي المنفلت من عقاله والصائرة معه ساحة ساخنة للتجاذبات السياسية بين الدول الكبرى في المنطقة ساعدهم على ذلك ضعف الدولة المركزية العراقية وسيطرة الطائفيين الجدد على مفاصلها المتداعية فيما الجميع يشحذ سكاكينه استعداداً لتقطيع أوصال كركوك لتسهيل التهام قطعة منها.والملاحظ تقاطع محركات الأطراف الداخلية في كركوك وتحديداً العرب والتركمان، حول الخوف من اندفاع الأكراد نحو تحقيق أحلامهم القديمة المتجددة في إقامة دولتهم المستقلة عن العراق بما يترتب على ذلك من تذكية لطموحات الأقليات العراقية الأخرى ناهيك عن الطموحات الطائفية المعلنة من قبل الشيعة لإقامة دولتهم المستقلة أيضاً في جنوب العراق وهو ما يقود في نهاية المطاف إلى تقسيم العراق إلى دويلات متقزمة .
الطموح الأميركي الإسرائيلي منذ الوهلة الأولى أيضاً ركز على ضرورة إقامة نظام فدرالي شكلاً وكونفيدرالي عملياً إلا أنه لا يزال مصطدم بالهواجس القومية والأمنية لدول الجوار وتحديداً تركيا وسوريا وإيران المتفقة في مخاوفها مع عرب وتركمان كركوك حيال الطموحات الكردية والتي من شأنها إشعال الامتدادات الكردية فيها للمطالبة بالحصول على ذات المكاسب التي حققها أكراد العراق ما يعني في خاتمة المطاف توحيد المطالب لأكثر من 30 مليون كردي شتتهم لعنة سايكس بيكو لإقامة دولتهم العرقية الخالصة الأمر الذي قد ينذر بإشعال الشرق الأوسط برمته لاسيما وأن الحلقات المحلية والإقليمية والدولية في طريقها إلى الاكتمال فهل يعني ذلك أن كركوك في طريقها لسلوك خطى فلسطين المحتلة وصولاً إلى جعلها عنواناً للصراعات القادمة في المنطقة لاسيما وأن كل المؤشرات القائمة والمختمرة تصب في اتجاه صيرورتها مجمعاً لصراعات تقارب الانفجار بفعل تداخل وتشابك المحن فيها بشكل أهلَّها لأن تكون محطة ساخنة لبانوراما برمودية شرق أوسطية قادمة وفي نفس الوقت رقماً مهماً وصعباً في استقرار ووحدة العراق والمنطقة برمتها؟.إن قراءة سريعة لمعطيات الأطماع الخارجية المختلفة في كركوك وحولها سواء تلك المتحركة تحت شعار تداخل المصالح والديموغرافيا كما هو حال الموقف التركي المتحرك بدواعي الخوف على مصير التركمان، أو التوجس من تحريك أي نجاح قد يحرزه أكراد العراق في كركوك لثورة قد يقودها حزب العمال الكردستاني التركي بغية تحقيق أكراد تركيا الممثلين أكثر من ثلث سكانها ذات المكاسب أو تلك المتحركة تحت شعار القنبلة الديموغرافية كما هو حال الموقف السوري والإيراني من امتداد نيران الثورة الكردية إلى امتداداتها الخارجية.. فيما كانت تحركات أميركا وإسرائيل تحت غطاء المصالح الاقتصادية والعسكرية الرامي في حقيقته إلى جعل كركوك مفتاح سر وبوابة عبور جديدة نحو الشرق الأوسط الجديد ممثلاً في الخطة الإسرائيلية البديلة والجاري تنفيذها حالياً بعد فشل خطة المحافظين الجدد الأميركان في العراق والمنطقة معززاً بفشل إسرائيلي أميركي ذريع لجعل لبنان بوابة العبور فلم يكن أمامها من سبيل سوى كركوك .
الأجندة التركية يذهب الصحفي التركماني العراقي صبري طرابية إلى أن تقدير التركمان في العراق لا يقل عن مليون نسمة يعيش غالبيتهم في كركوك والتي كانوا دوماً يشكلون الأغلبية فيها، وهو التبرير الدافع بأنقرة إلى مواجهة طموحات أكراد العراق في كركوك والتلويح بالتدخل العسكري لإيقافها ولذا فهي تعتبر كركوك من الخطوط الحمراء التي لا يجب على الأكراد تجاوزها لما يترتب على ذلك من تداعيات قد تطال جنوب شرق تركيا ذات الغالبية الكردية أيضاً وهو ما يهدد في النهاية وحدة الأراضي التركية ما دعاها إلى استباق ذلك بالتلويح بتوجيه ضربات استباقية للاستفتاء حول مصير كركوك.الصراع التركي الكردي على هوية كركوك في حقيقته محكوماً بالاختلافات الشخصية بين قادة الطرفين وهو صراع كان ومازال منذ انهيار الدولة العثمانية وظهور الجمهورية التركية على أنقاضها حيث كان العراق بكامل حدوده الحالية يدخل وحتى العام 1921 ضمن الحدود العثمانية وكان التداخل العرقي في ولاية الموصل وعاصمتها كركوك أكثر وضوحاً.
لكن حدود التنازع لا تقف عند الأبعاد السياسية بل تتعداها إلى الأبعاد الاقتصادية وهو ما قد يُعقِّد الأزمة مستقبلاً ، خصوصاً وأنه في حال ضم كردستان لكركوك ستفقد أنقرة أول منفذ يتم من خلاله تصدير النفط العراقي إلى ميناء جيهان التركي وهو ما دفعها إلى تنظيم مؤتمراً إقليمياً حول كركوك خلال الفترة 15- 16 كانون الثاني/ يناير 2007 عدته كردستان العراق بمثابة أول تدخل سافر في الشأن العراقي في حين اكتفت أنقرة بإجراء رئيس وزراءها أردوغان مؤخراً اتصالاً هاتفياً مع رئيس العراق أبدا خلاله قلقه من مطالب سلطات أكراد كردستان العراق بضم محافظتي التأميم وكركوك مصحوباً بالتهديد العسكري للحيلولة دون حصول ذلك.
ومن الثابت أيضاً وجود مطالب تركية تاريخية لأجزاء من الموصل والسليمانية والتأميم وكانت كركوك محور اهتمامها الأول قبل أن يسيطر عليها الإنجليز وقد قضى قرار عصبة الأمم في 1925 بتبعية الموصل وعاصمتها كركوك للملكة العراقية على إثر ذلك تنازلت تركيا عنها رسمياً في 1926 مقابل الحصول على 10 بالمائة من عائداتها النفطية لمدة 25 عاماً ثم عدلت بعدها إلى سعر مقطوع لمدة واحدة ..كما هددت أنقرة في 1959 بالاستعداد العسكري لاقتحام كركوك وبعد العام 1991 إثر إقامة منطقة أمنه للأكراد في شمال العراق توصلت أنقرة إلى تفاهم مع أميركا على ألا تشمل المنطقة الأمنية كركوك.
إذن فهي جادة اليوم عندما لوحت بالتهديد العسكري لكن ما تداعيات ذلك على تحالفاتها الاستراتيجية مع كل من إسرائيل وأميركا؟ خصوصاً وأنها ترى في الطموحات الكردية تهديداً وجودياً لأمنها القومي؟ وهو شعور تشاركها فيه كل من إيران وسوريا بفعل تواجد القيادات الكردية المناوئة لكل من طهران ودمشق في كردستان العراق في وقت تتصاعد فيه التوترات بين طهران والحركات الكردية الإيرانية على مناطق الحدود مع تركيا والعراق إثر نجاح جماعة بيجاك الكردية الإيرانية بإسقاط مروحية للجيش الإيراني نهاية شباط/ فبراير 2007 م مسنودة من حزب العمال الكردستاني التركي وإسرائيل الأمر الذي أدى إلى فتح ملف أكراد إيران مجدداً بالتزامن مع إشتعال الاضطرابات في المناطق الكردية السورية تحت ذريعة المطالبة بالمواطنة المتساوية والأهم من هذا إعلان حزب العمال الكردستاني التركي مؤخراً عن انتهاء الهدنة التي استمرت خمس سنوات مع الجيش التركي.
الأجندة الإسرائيليةيعتقد الأكراد بأن مطية الوصول إلى طموحاتهم بحاجة إلى دعم خارجي، وهنا يطل البطل الإسرائيلي بقوة بوصفه اللاعب الأساسي والسري في لعبة الأمم الكبرى الراهنة المتمحورة حول الأكراد بعد التوصل إلى قناعة نهاية العام الماضي بعدم جدية أميركا للوقوف في وجه طهران وأنها لن تكون قادرة على تحقيق الاستقرار أو الديمقراطية في العراق، لذا رأت ضرورة التوجه إلى نسج خطة بديلة تضمنت حصر الأضرار التي سببتها الحرب العراقية للموقع الاستراتيجي الإسرائيلي من خلال توسيع علاقاتها القديمة القائمة مع أكراد العراق ونشر وجود إسرائيلي بارز في مناطقهم أولاً لاتخاذه كقاعدة لتنفيذ عملياتها السرية داخل المناطق الكردية في سوريا وإيران ، أملاً في تحقيق ما عجزت عن تحقيقه القوات الأميركية بالسلم والدبلوماسية ووصولاً إلى خلق واقع فيدرالي شكلي وكونفدرالي عملياً في العراق من خلال خلق حرب أهلية يكون فتيلها تغذية النوازع الانفصالية لدى الأكراد لإقامة دولتهم كون الأمر لم يعد مستحيلاً والتكفل بتوفير الضمانات الأميركية وهو ما يسمح في الأخير بفتح الباب واسعاً أمام إسرائيل لنهب ثروات العراق ولم يعد خافياً اليوم وجود الكثير من شركاتها الاستثمارية تحت مسميات متعددة في الشمال العراقي خصوصاً في مجال التنقيب عن النفط و اليورانيوم في كركوك وهو حلم قديم تحرص اليوم على تحقيقه من خلال إعادة تأمين خط أنابيب كركوك- حيفا.
اللعب الإسرائيلي اليوم بالصاعق الكردي العراقي من شأنه إشعال ردود فعل تركية وربما حرباً ما يعني نسف تحالفاً مهماً وتاريخياً يربطهما لاسيما بعد الفشل في إقناع أنقرة بأن المستهدف هو إيران وسوريا وليس تركيا كما أنه قد يضطر أميركا إلى المفاضلة بين كردستان حرة وبين تركيا الحليف الاستراتيجي بما لذلك من خطورة في حال اختارت الخيار الأول لاندفاع تركيا نحو الانفجار وربما توحد الأصوليين في الشرق مع الجيش التركي العلماني ما لم تنجح واشنطن في إيجاد صفقة مرضية حول كركوك لكل الأطراف بعيداً عن الاندفاعات الإسرائيلية الجنونية.
الأجندة الأميركيةفي طابعها العام بعد فشل ضغوطها على القادة العراقيين للتوصل إلى تسوية تسمح بإجراء انتخابات مجالس المحافظات كخطوة أولى تدعم العملية السياسية تمهيداً لإجراء انتخابات عامة لم تخفي خشيتها من أن تستغل الجماعات المسلحة مثل القاعدة والميليشيات الشيعية الجدل المحتدم حول كركوك لتنفيذ مخططات تضر بالمكاسب الأمنية المتحققة مؤخراً حسب زعمها.
كما أن واشنطن تدرك بأن انفصال كركوك وضمها لكردستان من شأنه فتح أبوب من التوتر والانقسام هي في غنى عنها حالياً ، كما أنها ليست في وارد التضحية بثروات كركوك وليست لديها الرغبة في خسارة تركيا وما بينهما تحاول الإمساك بخيوط اللعبة السياسية وهو ما يحتم عليها امتلاك أوراق ضغط إضافية لاستغلالها في الوقت المناسب خصوصاً كركوك الورقة الرابحة في المستقبل القريب والبعيد تجاه تركيا وسوريا وإيران.
إذن فهي تعتمد استراتيجية كسب الوقت إذ الملاحظ أنها عندما تتصاعد الأزمات تقوم باختيار الحل المناسب لمصالحها الخاصة وتحاول تطبيقه وإذا كانت معطيات الواقع لا تقبل ذلك تسعى إلى تغييره وتطويعه وهو المنهج المتبع حالياً حيال ملف كركوك القائم بصورة أساسية على: تأجيل الاستفتاء حولها لإرضاء أنقرة..و تأجيل العملية العسكرية لإرضاء أربيل وجعلها تقبل بتأجيل الاستفتاء على أمل إجرائه لاحقاً.
ومن ثم الحيلولة دون وقوع صراع عربي- كردي- تركي من خلال سيطرة الجيش الأميركي مؤخراً على كل الجسور والممرات الموجودة في كركوك كمقدمة للسيطرة عليها وصولاً إلى خلق واقع جديد يمكنها من استخدام ملف كركوك في المساومات السرية مع أنقرة والزعماء الأكراد والعرب مصحوباً بخطوات ميدانية متسارعة من أجل بناء قاعدة عسكرية جوية في كركوك هي الأهم والأكبر من نوعها في الشرق الأوسط ودفع الشركات الأميركية لتوقيع المزيد من عقود احتكار حق تنقيب وحفر وتوزيع وبيع نفط كركوك.
كلها في نهاية المطاف تقود إلى خلق واقع جديد في هذه المنطقة المنكوبة بحيث لا يكون أمام الأطراف المتصارعة سوى تقديم المزيد من التعاون لواشنطن من أجل الحصول على نصيب أكبر من كعكة كركوك وربما الفتات كون الجزء الأكبر قد أضحى في جيب الشركات الأميركية والإسرائيلية.------------------------------المصادر- تيلي أمين- محامي كردي، كركوك.. مدينة التعايش السلمي، جريدة الزمان العراقية، 13 أيار/ مايو 2004.- رشيد الخيون، كركوك.. رفقاً بالفلك المشحون، جريدة الشرق الأوسط، 30 تموز/ يوليو 2008.- د. مصطفى اللباد، الصراع على كركوك بين التاريخ والمصالح، موقع جريدة الجريدة.- عماد الدبك، الصراع يحتدم في العراق للحصول على نصيب أكبر من كعكة كركوك، موقع شبكة البصرة، 29 كانون الثاني/ يناير 2008.- أكراد العراق: الدستور مقابل المادة 140، الأخبار اللبنانية، 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 2007.- العراق: الصراع على كركوك يعرقل إجراء الانتخابات المحلية، موقع بي. بي. سي، 3 آب/ أغسطس 2008.- محمد أمين، كركوك: برميل بارود يشتعل، موقع مفكرة الإسلام، 6 أيار/ مارس 2007.- الجمل، صراع الذئاب على بقرة كركوك الحلوب، موقع أحرار سوريا، قسم الدراسات والترجمة.- سعد محيو، كركوك أولاً.. كركوك أخيراً، الكفاح العربي، 9 آب/ أغسطس 2008.
هذا المقال من قبل صوت العروبةhttp://www.arabvoice.com/ رابط هذا المفال:http://www.arabvoice.com/modules.php?op=modload&name=News&file=article&sid=14839