Translate

الأربعاء، 16 يونيو 2010

رؤية بنيامين نتنياهو للدولة الفلسطينية

بقلم زيد يحيى المحبشي
مع كل جولة من جولات ميتشل الشرق أوسطية, يتجدد الحديث عن التمسك الإسرائيلي بسلة الحلول المرحلية وفكرة الدولة الفلسطينية ذات الحدود المؤقتة والترتيبات الأمنية والبناء الاستيطاني, مقابل تجدد الرفض الفلسطيني للدولة المؤقتة واستمرار النشاط الاستيطاني وبالتالي التمسك بسلة الحلول الدائمة والنهائية, دون ظهور أي بارقة أمل لإعادة قطار المفاوضات إلى مساره المتجمد منذ نهاية العام 2008 باستثناء محاولات أميركية عبثية لتدشين حوار غير مباشر يمهد لحوار مباشر, يعيد لعملية التسوية بريقها, في إطار التبني الأميركي في إدارتي بوش الابن و أوباما على حد سواء لفكرة حل الدولتين.
فكرة حل الدولتين ليست وليدة اللحظة، بل بدأ الحديث عنها منذ العام 1937 وتكرست على أرض الواقع في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947 بصدور قرار التقسيم 181 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة, والذي استغلته الحركة الصهيونية حينها بإعلان قيام دولة إسرائيل والاعتراف الدولي بها, في حين أدى إعلان حكومة عموم فلسطين بأن فلسطين بحدود الانتداب "دولة مستقلة" إلى رفض الأمم المتحدة الاعتراف بذلك، وبالتالي تمخض حرب 1948-1949عن ضم الضفة إلى الأردن ووضع القطاع تحت الإدارة المصرية, ونشوء ما بات يعرف بالخط الأخضر ومن ثم توجه منظمة التحرير الفلسطينية في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 1988 إلى إعلان استجابتها لحل الدولتين على أساس القرار 181, وهو ما نال حينها اعتراف 120 دولة, ما أدى إلى منح المنظمة نظرياً حق التمتع بوضعية الدولة, لكن دون تمكنها من ممارسة استقلالها على أرض الواقع خصوصاً وأن إعلانها يأتي على مقربة من فك الارتباط بين الأردن والضفة 1974.
انقسام الموقف الفلسطيني منذ تسعينيات القرن الماضي حول ملامح وحدود وطبيعة الدولة التي يحلمون بها ويناضلون من أجل تحقيقها, انسحب بصورة تلقائية على الجانبين الإسرائيلي والأميركي, وما بينهما كانت المسودة الثالثة لخريطة الطريق وتحفظات شارون الـ 14 هي الفيصل في هذا الصراع حول مفهوم الدولة الموعودة، والأمر الواقع الذي لا مفر منه وسط رزمة ثقيلة من الهموم والتحديات والإشكاليات المتراكمة منذ نشوء دولة الاحتلال والمتعاظمة بصورة لافته بعد إطلاق قطار التسوية من مدينة مدريد عام 1991 وما تمخض عنها من سيناريوهات لا تزال حتى الآن مصطدمة بجدار التصلب الإسرائيلي والضعف الفلسطيني والوهن العربي وغياب الجدية الأميركية في حل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.
هذه الأمور مجتمعة أوجدت عدة سيناريوهات لطبيعة وحدود الدولة الموعودة منها: إقامة دولة فيدرالية علمانية واحدة تضم الفلسطينيين والإسرائيليين, إقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة على كامل ارض فلسطين التاريخية, تبنى خيار مقاربة الدول الثلاثة أي تقسيم فلسطين على إسرائيل والأردن ومصر, وهو سيناريو بعيد المدى, ومبدأ حل الدولتين وهو ما يعنينا هنا، وهو يقوم على أساس قيام دولتين يهودية وفلسطينية, لكن الخلاف حول هوية الثانية: هل تكون ذات حدود مؤقتة, والذي يعني الدفع في نهاية المطاف إلى جعلها حدوداً دائمة أو جعلها محطة عبور للانتقال المتدرج نحو خيار الدول الثلاث, إلى جانب طرح خيار ثاني يقوم على أساس نشوء دولة فلسطينية ذات حدود دائمة، والإشكالية هنا هل تكون في حدود 1967 أم في حدود 1948 والسيناريو الأخير هو استمرار تجربة الحكم الذاتي الفلسطيني على حاله.
وكون الفلسطينيين اليوم محشورين بين خيار الدولة المؤقتة وخيار استمرار الحكم الذاتي باعتبارهما الأكثر واقعية في نظر إسرائيل وأميركا لذا سنركز عليهما دون سواهما في هذه الوقفة السريعة انطلاقاً من رؤية نتنياهو الهادفة بالمقام الأول إلى تصفية القضية الفلسطينية نهائياً واستبدال شعار "السلام للنهوض بالاقتصاد" إلى شعار "الاقتصاد للنهوض بالسلام" باعتبار أن أصل المشكلة اقتصادي بحت وهو مشروع كارثي لكنه حقيقي نظراً لوجود من يؤيده في الأوساط الفلسطينية والعربية.

رؤية نتنياهو
عرض نتنياهو في نيسان/ أبريل 2010 إقامة دولة فلسطينية بحدود مؤقتة, كان الهدف منه تحفيز عباس للعودة إلى طاولة المفاوضات المتوقفة منذ نهاية العام 2008 ,ولذا فهولم يكن مفاجئاً على اعتبار أنه يأتي بعد طول رفض لمبدأ حل الدولتين, لعدم إتيانه بجديد, حيث سبق لخريطة الطريق في نسختها الثالثة الدعوة إلى تبني هذا الخيار ضمن أجندة المرحلة الثانية منها.
ومعلومٌ أن خارطة الطريق لم تكن لترى النور لولا مراعاتها لتحفظات شارون ومن ضمنها عدم العودة إلى حدود 1967 وبقاء الكتل الاستيطانية تحت سيطرة إسرائيل، وأن يتم تحديد طبيعة الدولة الفلسطينية من خلال مفاوضات ثنائية بحيث تكون مؤقتة وذات حدود غير دائمة وذات سيادة محدودة ومنزوعة السلاح وإسقاط حق العودة للاجئين الفلسطينيين.
فيما أضاف نتنياهو إلى ذلك اعتبار القدس بشقيها عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل والتمسك بسيطرة كيانه على منابع المياه وثروات البحر الميت وأخذ الوقائع الميدانية بالحسبان، والأهم من ذلك اشتراطه جعل الأولوية المرحلية للتطبيع ونزع سلاح المقاومة وزوال التهديد النووي الإيراني.
كما هو معلوم أيضاً أن خريطة الطريق قد أجلّت البت في مستقبل القدس إلى المرحلة الثالثة والتي يفترض فيها حسم قضايا الحل النهائي في سياق السلام الشامل والتطبيع.
الموقف الإسرائيلي في إطاره العام، بغض النظر عن من يحكمه، يكاد مُجمِعاً فيما يتعلق بالنظر إلى الدولة الفلسطينية في سياق الاعتبارات الدينية والتاريخية والإستراتيجية والاقتصادية والأمنية والسياسية, ولذا فهو لم ولن يكون في وارد القبول بقيام دولة فلسطينية ذات سيادة, ما نجد مدلولاته في تشابه المواقف لدى حكومات الاحتلال المتعاقبة, منذ انطلاق مؤتمر مدريد, وهو ما يُسقِط عامل المفاجئة عن عرض نتنياهو المتناقض كليةً مع الممارسات الميدانية لكيانه ويكشف حقيقة التوجه إلى فرض سياسة الأمر الواقع فيما يتعلق بالحل الدائم والذي يتوقف بصورة أساسية على: الانتهاء من انجاز جدار الفصل العنصري و تسريع عمليات الاستيطان في الضفة والقدس الشرقية و التأكد من أن عدد يهود الكيان قد تجاوز العشرة ملايين نسمة والانتهاء من انجاز السلام على المسارين السوري واللبناني وزوال التهديد الإيراني, حينها فقط سيكون مستعداً لمناقشة قضايا الحل النهائي, وإقامة الدولة الفلسطينية على القطاع وما تبقى من الضفة ودون القدس الشرقية طبعاً.
فكرة الدولة المؤقتة، حسب الكاتب الفلسطيني جواد البشيتي، ليست في حد ذاتها مدعاة للرفض أو القبول من الجانب الفلسطيني, فهي يمكن أن تكون موضع قبول فلسطيني, بطريقة تجعل إسرائيل هي الرافضة والمتشددة في رفضها, في حال نجح الجانب الفلسطيني بتضمين ذلك اتفاق مرحلي يكون مقدمة لمعاهدة دائمة يجرى توقيعها بعد حسم نقاط الجدل الرئيسية, شريطة عدم تعارض الحدود المؤقتة مع فكرة أن بعض حدودها يجب أن يكون مؤقتاً وبعضها يجب أن يكون دائماً.
فغزة باعتبارها جزاءً من إقليم الدولة الموعودة يجب أن تُعين حدود دائمة لها مع إسرائيل ومصر, أما الضفة المستثنى منها القدس الشرقية, فيجب أن تصبح كلها باستثناء المستوطنات, جزءاً من إقليم الدولة المؤقتة, والمؤقت من حدود الضفة يجب أن يقترن بالدائم منه, ألا وهو حدودها مع الأردن, وفيما يتعلق بالقدس الشرقية فالأحياء العربية تضم إلى الدولة الموعودة والأحياء اليهودية تضم إلى الكيان والمختلطة يتم إخضاعها لإدارة دولية مؤقتة, وهذا المؤقت من حدود الدولة الفلسطينية يصبح مشتركاً بينها وبين إسرائيل, حينها فقط تكون الفكرة مقبولة فلسطينياً. لكن ما يريده نتنياهو يبدو على النقيض تماماً, ما يعزز نقائض الفكرة، وبالتالي استمرار الاختلافات في القضايا الأكثر حساسية بما يهدد بالانفجار في خاتمة المطاف.
"ألوف بن" في مقال له نشرته هآرتس بتاريخ 28 نيسان/ أبريل 2010 خلص إلى أن كيانه يريد من وراء طرح فكرة الدولة المؤقتة, التخلص والتحرر من عبء السيطرة على الفلسطينيين داخل الكيان والاحتفاظ بأكثر المناطق والمستوطنات والسيطرة الأمنية في الضفة والانفراد بالقدس, والاكتفاء بإطلاق الدعوة لتطوير سلطة عباس وفياض إلى مكانة الدولة المؤقتة, لإعفاء الكيان من مسؤوليتها, كي يتم البت في الخلاف حول ما تبقى من المناطق المتنازع عليها والقدس واللاجئين بين دولتين ذات سيادة لا بين المحتل والخاضعين له.
وهنا تأتي أهمية مقترح معهد "رئيوت" الإسرائيلي العام الماضي بخلق مسار موازي للتقريب بين طرفي الصراع يقوم على أن تعرض أميركا رؤية للتسوية الدائمة كي تمنح الفلسطينيين أُفقاً سياسياً، وأن تنشأ دولتهم المؤقتة باعتبارها التسوية الأكثر عملية سواء باتفاق ثنائي أو بإجراء إسرائيلي من طرف واحد, والتي بموجبها سيستطيع الكيان الاكتفاء بإخلاء ضئيل ومحدود للمستوطنات والبؤر الاستيطانية, وأن يحافظ على السيطرة الأمنية باعتبارها تحتل الأولوية لدى كيانه, وألاّ تُمس القدس في هذه الأثناء، ولا يُطلب إلى الفلسطينيين أن يمنحوا شيئاً عوضاً عن ذلك, لا اعتراف بالدولة اليهودية ولا تخلِّياً عن حق العودة اللذين يطلبهما نتنياهو كشرطين للتسوية الدائمة. وبذلك يكون كيانه قد تخلص من العبء الفلسطيني وربما كسب العرب إلى صفه في منازلته المصيرية مع الخطر الإيراني.

رؤية مستقبلية
من المؤكد أن "المؤقت" في القاموس الإسرائيلي هو الدائم أو شبه الدائم, ما يعني أن فكرة الدولة المؤقتة ستعني فيما تعنيه إطالة أمد المفاوضات قبل الوصول إلى سلام شامل على خلفية الإشكاليات والمعوقات المعترضة مسار الحل الشامل, والتي عجزت معها كل المحاولات الإقليمية والدولية طيلة العقدين الأخيرين في التقريب بين الحد الأعلى الإسرائيلي والحد الأدنى الفلسطيني, وهو ما يرجح استمرار سيناريو سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية الحالية, لاسيما وأن العرض المسرحي للدولة المؤقتة ليس سوى ذريعة لما هو أبعد, وهو اصطياد عدة عصافير بحجر واحدة, منها: إطلاق عملية التطبيع وإضعاف موقف قوى المقاومة وتوفير موقف عربي متضامن حيال الملف النووي الإيراني وتحريك المسارين السوري واللبناني.
إذن ليس هناك أي بوادر إسرائيلية أو أميركية, توحي بوجود الاستعداد لطي ملف الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي, وإنما يوجد توجه ممنهج يقوم على أساس الاستمرار في إدارة الأزمة لمنع حدوث السيناريو الأسوأ المتمثل في سقوط مشروع التسوية بشكله الحالي وسقوط سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني وعودة المقاومة المسلحة والمدنية بشكلها الأول.
وحتى لو سلّمنا جدلاً بنجاح فكرة الدولة المؤقتة, فهي لن تكون دولة ذات سيادة تامة بل مجرد دويلة لا تتعدّ صلاحياتها حدود العلم والنشيد الوطني, وهو ما تريده إسرائيل, دولة فلسطينية مقطعة الأوصال مسلوبة الإرادة والسيادة, يتحكم الاحتلال في قرارها ومياهها وأجوائها وحدودها وأمنها واقتصادها, وكلها حقائق مقدسة لدى الكيان الصهيوني.
وهو ما يؤكد حقيقة أن الموقف الفلسطيني بما فيه المعتدل والموقف الإسرائيلي في حال حدثت معجزة واعتدل, "ضدان لا يلتقيان", وأن نتنياهو لا يختلف عن سلفه شارون إلا بالمزيد من التطرف في رسم حدود الدولة اليهودية وإلغاء أي حدود أخرى لا تنسجم مع مشروعه العنصري.

Al-mahbashi@maktoob.com

السبت، 12 يونيو 2010

الدور التركي في الصومال

زيد يحيى المحبشي
"علينا ألاّ نترك الصومال وحدها".
كلمات بسيطة أراد من خلالها وزير خارجية تركيا تأكيد أن رعاية بلاده للمؤتمر الدولي الذي انعقد بمدينة اسطنبول خلال الفترة 21- 23 أيار/ مايو 2010 بدعم من الأمم المتحدة, لن تكون مجرد محطة عابرة لتبادل القبلات والتحايا الدبلوماسية, بل نقطة انطلاق عملية لتحريك الملف الصومالي, وتسليط الأضواء على الأزمة الإنسانية العاصفة بهذا البلد, والتي تُعد الأسوأ من نوعها عالمياً, في العصر الحديث, بعد أن أكلت الحروب الأهلية في العقدين الأخيرين معالم حضارته, واستنزفت كل مرافقه الحيوية والعامة, وموارده الطبيعية, بصورة عجزت معها كل المحاولات الإقليمية والدولية عن إعادة الأمل والأمن والاستقرار إلى أبناء الصومال؛ فهل ستنجح تركيا حيث فشل غيرها؟
المؤتمر ليس الأول من نوعه، بل سبقته مؤتمرات كثيرة, لم يجن الشعب الصومالي منها سوى الضجيج الإعلامي والشعارات الفضفاضة.
وهنا تكتسب الرعاية التركية لهذا المؤتمر أهميتها, فيما يتعلق بالانتقال من الوعود إلى التنفيذ, وصولاً إلى كسر جدار اللامبالاة العربية والدولية, وسط تساؤل الصوماليين المتابعين باهتمام كبير للدور التركي في كسر الحصار الظالم المفروض على غزة, عمّا إذا كانت تلك المواقف المشرفة للقيادة التركية, ستنعكس ايجابياً على المشهد الصومالي, من خلال تحويل العواطف والوعود المتمخضة عن مؤتمر اسطنبول إلى تنفيذ البرامج والمشروعات الموعودة على ارض الواقع، لاسيما وأن المؤتمر قد نجح في دق جرس الإنذار الدولي لخطورة الوضع في الصومال, ولضرورة ربط الحل السياسي فيه بحل المشكلة الاقتصادية, وإعادة اللحمة الوطنية, حتى يخرج من أزمته المركبة, وإبداء الاهتمام الدولي الصادق بمشاكله.
في هذه القراءة السريعة سنحاول تسليط الضوء على الأزمة الصومالية بأبعادها المختلفة, واستشراف آفاق الدور التركي في حلحلة عقدها, وتداعياته الآنية والمستقبلية على صعيد الأجندة المتنافسة والمتصادمة في هذا البلد, والتي لا تزال تحول دون وضع حد للمأساة الصومالية, بعد أن تمازجت فيها العوامل الداخلية بالعوامل الإقليمية والدولية, بصورة لم يعد معها ممكناً حل الأزمة دون أخذ تلك العوامل بالحسبان, وهو ما يشي بمدى عمقها وتعقدها؛ فهل يفلح العطار التركي في إصلاح ما أفسدته الأطماع الإقليمية والدولية في هذا البلد؟

الأزمة الصومالية
صحيح أن الصراع على السلطة السبب الرئيسي للحرب الدامية العاصفة بهذا البلد, منذ سقوط نظام محمد سياد بري عام 1991؛ لكنه ليس الوحيد, خصوصاً وأننا أمام أزمة يتداخل فيها البعد الداخلي بمفرداته المختلفة مع البعد الخارجي بصورة متلازمة, نظراً للأهمية الموقعية والجيوسياسية التي يتمتع بها هذا البلد.
واللافت هنا، رغم كثرة المؤتمرات الدولية ومحاولات الوساطة وعمليات التسوية, أنها ظلت مقتصرة على البعد الأمني, وإهمال الأبعاد الأخرى, باستثناء بارقة أمل وحيدة بعثتها جيبوتي في العام 2008, عندما تمكنت من جمع الفرقاء الصوماليين على طاولة الحوار, وتوقيعهم اتفاق سلام أثمر في كانون الثاني/ يناير 2009 تشكيل حكومة فيدرالية انتقالية برئاسة شيخ شريف شيخ أحمد, وسط وعود دولية بدعمها مادياً ومعنوياً, لكنها لم تتعدَّ الحبر الذي كتبت به, وهو ما جعل هذه الحكومة شبه مشلولة؛ نظراً لتخلي المجتمع الدولي عنها, ولعجز إمكانياتها عن تأمين الخدمات الحياتية الضرورية لمواطنيها, وعجزها عن بسط نفوذها وفرض الأمن والاستقرار, في وقت بدت فيه سلطتها مقتصرة على أحياء محدودة من العاصمة الصومالية (مقديشو), فيما تسيطر المعارضة الصومالية (حركة الشباب والحزب الإسلامي والجناح المتشدد في جماعة أهل السنة) على الجنوب, إلى جانب إقليم بونت لاند وجمهورية أرض الصومال(الواقعتان على التوالي في شمال شرق وشمال غرب الصومال), اللتين أعلنتا استقلالهما دون الاعتراف الدولي بهما, بالتوازي مع بروز الخلاف بين أجنحة الحكومة الفيدرالية واستفحال داء القرصنة ووباء "القاعدة".
هذه الأمور مجتمعة خلقت رزمة من التحديات, وجدت الحكومة الفيدرالية نفسها عاجزة عن حلحلتها, مطالبة المجتمع الدولي بمساعدتها والحيلولة دون سقوطها, منها على سبيل المثال:

- التحديات الأمنية: في مقدمتها غياب الأمن والاستقرار بسبب محدودية القدرات الأمنية. ورغم ذلك فقد تمكنت الحكومة الفيدرالية من شق جماعة أهل السنة, عبر استمالة الجناح المعتدل ومحاولة دمج عناصره بالقوات المسلحة الصومالية لمجابهة حركة الشباب والحزب الإسلامي ومنحه خمس وزارات و3 قنصليات و3 مندوبين في السفارات الصومالية بالخارج, وتجنيد 7000 صومالي ضمن الشرطة الصومالية, وتدريب آلاف الصوماليين, لإمساك زمام الأمور من جديد, ناهيك عن تلقي الدعم اللوجستي من كينيا وقوات حفظ السلام الأفريقية, في إطار الاستعداد لاستعادة مقديشو, مع التشديد على أن قضية الأمن يجب أن تصبح أولوية لكن دون إغفال العوامل الأخرى.
في حين شكّل تنظيم القاعدة التحدي الأمني الأكثر خطورة على الصومال وجواره وعلى الأمن والسلم الدوليين, يليه وباء القرصنة البحرية من حيث الخطورة والتي ما كانت لتزدهر, لولا الفقر المدقع, وغياب مؤسسات الدولة الفعالة، وتوجه المجتمع الدولي إلى الاهتمام بـ"القاعدة" والقرصنة دون وجود معالجات عملية لأصل المشكلة. ومعلومٌ للجميع أن حل هذه المشكلة ليس موضوعاً أمنياً فقط , إنما يمر عبر إرساء الاستقرار السياسي وتحسين الظروف الاقتصادية في الصومال.

- التحديات الإنسانية: أدت الصراعات الدامية في الأعوام الثلاثة الأخيرة إلى حصد أرواح 21 ألف إنسان صومالي وتشريد 1.5 مليون ووجود نحو 3.7 ملايين إنسان بحاجة ماسة للمساعدات الإنسانية العاجلة, في حين اقتصرت مساعدات برنامج الغذاء العالمي على 700 ألف صومالي شهرياً كجزء من الإنفاق الدولي البالغ 8 مليارات دولار, المقدمة إلى الصومال في العقدين الأخيرين على شكل مساعدات متنوعة منها معونات إنسانية.
ومكمن الخطورة هنا وقوع المساعدات الدولية فريسة للمقاولين الفاسدين من موظفي المنظمة الدولية, على خلفية فضيحة قيامهم بتحويل هذه المساعدات إلى حركة الشباب, بالتوازي مع انكشاف حقيقة اللامبالاة الدولية, وليس آخرها عدم الوفاء بالوعود المقدمة في مؤتمر قمة بروكسل للمانحين التي انعقدت في نيسان/ ابريل 2009 والمتمخض عنه وعود أوربية بتقديم 213 ملايين دولار لم تتسلم منها الحكومة الصومالية دولاراً واحداً حتى الآن.
هذه الأمور مجتمعة دفعت بالشعب الصومالي إلى التشكيك بمدى جدِّية المجتمع الدولي لمساعدتهم للخروج من النفق المظلم الذي يعيشونه.

- التحديات السياسية: اقتصار الاهتمام الدولي على الدعم السياسي للحكومة الفيدرالية, والتي نجدها بعد مرور عام ونصف من تشكلها, تعيش وسط تخبط سياسي مزرٍ, حال حتى الآن دون نجاح محاولاتها لإنجاز المصالحة الوطنية على خلفية قرار الرئيس الصومالي الشهر الماضي بعزل رئيس حكومته وحظوة هذه الخطوة بتأييد المبعوث الأممي إلى الصومال, رغم عدم دستوريتها, ثم تراجع الرئيس الصومالي عن قراره قبل يوم واحد من انعقاد مؤتمر اسطنبول, الأمر الذي أضرّ بمصداقيته ومصداقية الأمم المتحدة, وعمق من هوة الشراكة والمصالحة الوطنية.

إذن، ما يريده الشعب الصومالي من المجتمع الدولي وتركيا على وجه الخصوص هو: مساعدته على تحقيق المصالحة الوطنية والتخفيف من معاناته والحفاظ على وحدته وأمنه واستقراره والحيلولة دون سقوط حكومته المؤقتة.

الدور التركي
النجاحات التي سجلتها تركيا في المصالحة وعمليات الوساطة بالشرق الأوسط, تركت بصماتها مباشرة على المشهد الصومالي, وبداية الغيث النجاح في تحويل مؤتمر اسطنبول إلى فرصة استثنائية للمجتمع الدولي لإظهار التضامن السياسي مع الشعب الصومالي, وإرسال بارقة أمل دولية بأنهم ليسوا وحدهم وأن لديهم أصدقاء حقيقيين على استعداد لإحداث تغيير في بلدهم المنكوب, لاسيما وأن تركيا قد تمكنت من حشد نحو 55 دولة أوربية وأميركية وأفريقية وشرق أوسطية و12 منظمة ووكالة إقليمية ودولية و70 من رجال الأعمال الصوماليين, والأهم من هذا نجاحها في جمع الصومال واريتريا -الحاضن الإقليمي للحزب الإسلامي الصومالي- على طاولة واحدة, وكذا مشاركة رئيس إقليم بونت لاند الانفصالي لأول مرة, وهو ما يعكس مدى الاهتمام التركي بالمأساة الصومالية, ومدى الجدية في التوجه لإعادة الإعمار وإعادة السلام والاستقرار إلى الصومال, وتأكيد العزم التركي لمواصلة جهوده في هذا المجال, ودعوته المجتمع الدولي للعمل معاً, من أجل دعم الصومال, وعدم تركه وحيداً.
محاور مؤتمر اسطنبول غطت الأزمة الصومالية بأبعادها المختلفة, إلى جانب بحث قضية القرصنة البحرية المزدهرة قُبالة السواحل الصومالية, والمسيئة إلى سمعة وطبيعة هذا الشعب المسالم, ومع ذلك فهو لم يكن مؤتمراً للمانحين, بقدر ما كان معنياً بالعمل على تفعيل القدرات الصومالية الداخلية, ودعم الاقتصاد الصومالي وتشجيع قطاعه الخاص, من أجل تحريك التنمية, ودعم حكومته الفيدرالية وتطوير مشاريع الإعمار, وتأكيد حاجة هذا البلد إلى جهود دولية طويلة الأمد لمساعدته على تجاوز أزمته, وطبعاً دون تقديم مساعدات مالية جديدة عكس المؤتمرات الدولية السابقة, في حين انفردت فرنسا بدعوة الحكومة الصومالية لتعزيز الحوار مع سلطات إقليم بونت لاند وجمهورية أرض الصومال, وحثها على توسيع قاعدة المشاركة السياسية, لكن دون استيعاب حركات التمرد المسئولة عن أعمال وحشية! وبالتالي توصل المشاركين إلى حقيقة واحدة مفادها أن "المصالحة الوطنية الصومالية مرهونة بتوفير مزيد من الدعم الدولي".
وبالعودة إلى الدور التركي الذي تميز بالتعهد بتدريب الجهاز الأمني الصومالي ودعمه فعلياً وإبداء الاستعداد للمساهمة في تحريك مياه المصالحة الوطنية عبر الحوار مع جميع الأطراف الإقليمية والداخلية والتوسط لتسوية مشاكل الصومال مع جيرانه وفي مقدمتهم اريتريا, حيث نجحت عملياً في جمع اريتريا والصومال على هامش مؤتمر اسطنبول لأول مرة, تمخض عنه ثمار ايجابية, لمست من خلالها تركيا أن وساطتها مقبولة, وأنها تملك أرضاً خصبة وواعدة تضاف إلى الرصيد التركي المتألق ما حدا بوزير الخارجية التركي إلى القول بكل ثقة: "إن الجمع بين خصمين علنيين يعد اختراقه.. لقد نجحنا في الجمع بين الجانبين وجهاً لوجه، وأصبح بإمكان الصومال الإعراب عن مخاوفه".
الدور التركي المتنامي في الصومال يأتي في إطار مشروع الانفتاح التركي على أفريقيا, والذي تم تدشينه في العام 1998 وأخذ مساراته التطبيقية في العام 2007 الذي أعلنته تركيا عاماً لأفريقيا, والذي بموجبه قررت تركيا لأول مرة منذ تأسيس دولتها الحديثة 1923 نقل الاهتمام ومساعي التوسط إلى القارة الأفريقية, بعد أن ظلت سياستها واهتماماتها لعقود متجهة نحو الغرب الأوربي, وهو ما أحدث أصداءً واسعة لإمكانية لعبها دورًا فعّالاً في أفريقيا المثقلة بالهموم والأزمات, وفتح أمامها آفاقا رحبة.
ولذا كانت شديدة الحرص على تأكيد أن مؤتمر اسطنبول الأخير ليس سوى نافذة من نوافذ إستراتيجية مد اليد إلى أفريقيا, والتي تسعى تركيا من خلالها إلى المواءمة بين المنهج المتفائل للقضايا بدلاً من المواقف التي توجهها الأزمات, وبين مبادئ دبلوماسية السلام الوقائية والاستباقية, الهادفة إلى اتخاذ التدابير قبل حدوث الأزمات وتصاعدها إلى مستويات حرجة, وصولاً إلى ترسيخ قاعدة "الأمن للجميع" والحوار السياسي عالي المستوى والتعاون والترابط الاقتصادي وتعايش الثقافات المتعددة والتمسك بسياسة خارجية متعددة الأطراف وتوظيف علاقاتها مع اللاعبين الدوليين لتكون مكملة وليست منافسة أو بديلة, وبالتالي خلق دبلوماسية متوازنة تمنحها دوراً أكثر فاعلية إقليمياً ودولياً؛ ما يجعل منها لاعباً مهماً في لعبة التوازنات والتناقضات الإقليمية, وشريكاً فاعلاًً في رسم بعض السياسات الإقليمية, وعاملاً حاسماً ومكملاً للأمن الإقليمي, المتزايدة أهميته بصورة واضحة عقب توتر العلاقات التركية ـ "الإسرائيلية" في الأعوام الثلاثة الأخيرة.
وهو ما يستدعي من الدول العربية ذات التأثير مراقبة هذا الدور المتصاعد في أفريقيا والصومال تحديداً والسعي إلى تدعيمه ببناء تحالفات جديدة من شأنها المساهمة في تأسيس أمن إقليمي يقوم وفق إستراتيجية "المنفعة المتبادلة" لما فيه صالح شعوب المنطقة, وتزداد أهمية ذلك في الصومال التي تكاد التجربة العربية فيها تقارب "الصفر" في وقت أصبحت فيه تركيا صوتاً مسموعاً في أفريقيا, وربما مفيداً للعرب لإعادة تقييم حساباتهم ليس تجاه أفريقيا فحسب, بل والصومال إن هُم أحسنوا توظيف الدور التركي لصالح قضايا الأمة العربية بدلاً من الرهانات غير المجدية على القاطرة الغربية والأميركية التي لم تجلب لنا سوى الخراب والدمار.
Al-mahbashi@maktoob.com