صحيفة السياسية: إجلال العمراني
في الحياة اليومية لجميع بلدان العالم، يعاني شعوبها العديد من الضغوطات والأزمات العابرة، التي يعتقد أدعياء حقوق الإنسان أنها ستجعلهم عُرضة للأزمات النفسية، رغم حرص بلدانهم على توفير كافة احتياجاتهم المادية والمعنوية، وإشعارهم بالراحة والأمان.
في اليمن الوضع مغاير تماماً، ولا عجب، بعد سبع سنوات من العدوان السعودي الإماراتي الأكثر قذارة في تاريخ الصراعات البشرية، وما خلفه من تداعيات كارثية، وضغوطات وأزمات غير محمودة العواقب، تسببت مجتمعة في الحاق صدمات واضطرابات نفسية بشريحة عريضة من اليمنيين، وخصوصاً في أوساط النساء والأطفال، لكن من يهتم لضحايا حرب اليمن المنسية في هذا العالم المنافق.
عند مرورك في الشوارع اليمنية تجد شباباً وشيوخاً بملابس رثة، وجسم نحيف، تملئُهُ الأوساخ، وشَعرٍ مُجعد، وعندما تقترب منه، تجده يهمهم بكلمات غير مفهومة، وعند سماع أصوات الطائرات يصرخ بأعلى صوته: “قد جوا، قد جوا، اهربوا”، ويطلق لسيقانه العنان، في سباق مع الريح، بحثاً عن مكانٍ يتوارى فيه، رغم علمه بأن العدوان لا محرمات ولا مقدسات في قاموسه العبري العفن.
في احدى شوارع صنعاء، تجد شاباً في الأربعين، تبدو عليه الاناقة والنظافة والاهتمام، وفجأة يصرخ، ويسب بأبشع الالفاظ، وعندما تسأل عنه، يخبرونك بأنه يعاني من الهيجان العقلي، والتأزم النفسي، إما بسبب رُهاب أصوات الطائرات والانفجارات، أو بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية وانقطاع المرتبات، أو بسبب تدمير العدوان منزله أو مقر عمله، أو بسبب استشهاد أو إصابة أحد أحبته.
سبع سنوات من المعاناة بسبب العدوان الجائر، وما ألحقه من اضرار نفسية وعقلية وعاطفية ووجدانية، طالت أكثر من 20 % من سكان اليمن، في بلد يفتقر لأبسط مقومات الحياة، بعد أن دمر العدوان كل مقومات الحياة، وأمعن بصورة ممنهج في تدمير المرافق الصحية، كي يضمن موت من نجى من نيران غاراته الهستيرية.
ورغم عدم توافر بيانات كافية عن الوضع العام للصحة النفسية في اليمن، والتي كان لها حصة الأسد من تداعيات العدوان الغاشم على بلادنا، خصوصاً مع محدودية المشافي المختصة بهكذا نوع من الأمراض، والارتفاع الجنوني في الأدوية المستخدمة لعلاجها، ومنع العدوان دخولها، ما تسبب في انعدامها في بعض الفترات، ومع ذلك تتحدث الأرقام المتاحة عن ارتفاع مهول في معدلات الانتحار في العام الأول من العدوان بنسبة 40.5 % عما كان عليه الوضع قبل العدوان، ومعاناة الكثير من السكان من التبعات السلبية النفسية والاجتماعية والعاطفية، لهكذا منحى خطير.
وتحدثت وزارة الصحة اليمنية في العام 2014 عن مليون ونصف مصاب بالأمراض النفسية، بينهم نحو 500 ألف مريض ذهني، وارتفع العدد بعد العدوان بنسبة 25 %، وحاجة 80 % من اليمنيين إلى دعم نفسي، بحسب موقع خيوط نقلاً عن اخصائيين نفسيين في تقرير له بتاريخ 3 فبراير 2021.
الوضع في اليمن جد خطير، فإما أن تموت جوعاً، أو ينتهي بك المطاف بأحد مشافي ومصحات الأمراض النفسية والعصبية، ووفقاً للطبيب النفسي “ماجد سيف”، فقد ازدادت حالات المرضى النفسيين خلال سنوات العدوان بنسبة 30 %.
وتُعدّ النساء والأطفال الفئة الأكثر عُرضة للإصابة بسبب ضغوط الحياة اليومية، والصدمات الشديدة نتيجة الانفجارات وأصوات الطائرات، في بلدٍ مستوى الرعاية النفسية فيه سيئ للغاية، بحسب استشاري الطب النفسي والإدمان في مستشفى الأمل للأمراض النفسية بصنعاء، الدكتور “سامي العربي” في مقابلة مع صحيفة “عُمان” بتاريخ 28 سبتمبر 2020.
مدير مستشفى الأمل الدكتور “سامي الشرعبي”، هو الأخر يؤكد في حديث لموقع منصتي بتاريخ 10 أكتوبر 2020 تسجيل ارتفاع كبير في حالات الإصابة بالأمراض النفسية والعصبية خلال الفترة الأخيرة، وصلت إلى 200 %، مع بروز حالات مرضية تسبب بها العدوان والأوضاع الصحية والاقتصادية الراهنة، منها: كرب ما بعد الصدمة، والاكتئاب الشديد، والقلق، والرُهاب.
وذكرت “منظمة الصحة العالمية” أن 1 من كل 5 يمنيين، أو 22 %، ممن يعيشون في منطقة متأثرة بالحرب، يعانون من الاكتئاب، والقلق، واضطراب ما بعد الصدمة، والاضطراب الثنائي القطب أو الفصام، ناهيك عن تزايد حالات الاكتئاب والقلق مع تقدم العمر في أوضاع الصراع، وسجلت محافظات تعز ولحج والحديدة زيادة مرعبة في أعداد الحالات النفسية تجاوزت الـ 300 %، بحسب موقع منصتي في تقرير له بعنوان “الصحة النفسية في اليمن .. الموت الخفي” نشره في 10 أكتوبر 2020.
وسجل العام 2017 زيادة صادمة في عدد الإصابة بالأمراض النفسية والعقلية تراوحت بين 40 – 50 %، والسبب بحسب استشاري الأمراض النفسية والعصبية الدكتور “محمد الخليدي” في مقابلة مع موقع “الخليج أونلاين” بتاريخ 15 أكتوبر 2017: العدوان، وانقطاع المرتبات، وعدم الشعور بالأمان.
وأكدت دراسة أعدتها مؤسسة “التنمية والإرشاد الأسري” في العام 2017 بعنوان “تقدير انتشار الاضطرابات النفسية بين السكان المتضرّرين من الحرب في اليمن” تجاوز النسبة العامة لانتشار الاضطّرابات النفسية بين اليمنيين المتضرّرين من الحرب 19.5 %، وهي من أعلى النسب في العالم.
وخلال الفترة “2014 – 2017″، تحدثت الإحصائيات عن 5455348 إنسان في اليمن، يعانون من الأمراض النفسية والعقلية، 80.5 % من اجمالي الحالات، من الشباب بين 16 الى 30 سنة.
هذه الارقام والاحصائيات عن الحالات المرضية التي تم تسجيلها في المراكز الصحية والمستشفيات فقط، وتُعد الحالات غير المعلنة أكثر بكثير مما تم إعلانه، ما يُنذر بوضع كارثي ومستقبل مظلم.
لم يكن تأثير العدوان على الأصحاء فقط، بل وتسببت غارته الإجرامية في اغلاق المستشفيات، والمراكز الحكومية الخاصة بالأمراض النفسية، لعدم تمكن حكومة الإنقاذ الوطني من توفير النفقات التشغيلية، وعدم قدرت أهالي المرضى على تحمُّل نفقات المشافي، ناهيك عن ارتفاع وغلاء اسعار الأدوية الخاصة بالأمراض النفسية والعصبية، ما أدى الى تفاقم الحالات المرضية، وللأسف فقد اكتفت المنظمات الدولية، ومنها الصحة العالمية، بتقديم دعم نفسي محدود النطاق والجدوى والفاعلية، يستهدف الأصحاء فقط، وفقاً للدكتور “محمد الخليدي”.
وتعاني اليمن من رداءة الخدمات الصحية المتعلقة بالأمراض النفسية، ومحدودية المصحات النفسية، والأخصائيين النفسيين، إذ لا يوجد فيها سوى 13 منشأة نفسية، و35 عيادة خاصة، عبارة عن أقسام وعيادات في مستشفيات عامة وخاصة، أغلبها في مدينة صنعاء، و46 طبيباً نفسياً، بمعدل طبيب لكل 600000 شخص، و130 معالج وأخصّائي، و25 ممرّض بحسب مؤسسة “التنمية والإرشاد الأسري”.
وتحدث أطلس الصحة النفسية لمنظمة الصحة العالمية في العام 2016 عن وجود 3 مستشفيات للصحة النفسية، ووحدة واحدة للطب النفسي في مستشفى عام في اليمن، و40 طبيباً نفسياً، معظمهم في صنعاء، في حين أشار مدير برنامج الصحة النفسية في وزارة الصحة بصنعاء في ديسمبر 2016 إلى وجود 36 طبيباً.
وبحسب احصاءات الجهاز المركزي للإحصاء في 2006: 45 طبيباً نفسياً، بواقع طبيب لكل 500 ألف شخص، وهذا هو نفس الرقم بالنسبة لعدد السكان عام 1980، وخلال أربعة عقود من الزمن زاد عدد الأطباء النفسيين 15 طبياً وطبيبة، ليصبح عددهم في العام 2020، نحو 59 طبيباً، موزعين بشكل غير متساوي على 5 محافظات، فيما 18 محافظة لا يتوفر فيها أطباء للأمراض العقلية والنفسية، وفقاً للاستراتيجية الوطنية للصحة النفسية الصادرة في مارس 2010.
ويمارس 34 طبيباً العمل في صنعاء، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، و11 في تعز، و6 في عدن، و3 في الحديدة، و5 في حضرموت.
ويؤكد استشاري الأمراض النفسية والعقلية، الدكتور “طالب غشام” تخصيص سرير نفسي واحد لكل 200 ألف فرد، وطبيب واحد لكل 500 ألف شخص، بحسب المعهد اليمني لحرية الاعلام في تقرير بعنوان “الصحة النفسية في اليمن .. الكارثة الموقوتة” نشره بتاريخ 8 يناير 2021.
محذراً من تفاقم مشكلة الصحة النفسية، لأنها ستؤدي على المدى البعيد إلى ظهور آلاف من المرضى النفسيين، وبصورة غير متوقعة.
……………….//