بقلم// زيد يحيى المحبشي*
عندما يشعر الإنسان بأن اختلاف فكره مع فكر الآخر, يعني اختلاف ذاته مع ذات الآخر, ويعني نفي فكره لفكر الآخر,حينها يصبح الفكر مشكلة بدلاً من أن يكون نعمة وغنى وثراء، وسبباً للتخاصم والصراع والتنازع بدلاً من أن يكون مدعاة للتسامح والتعاون والتواصل، وذريعة لتدخل الخارج وعبثيته بالداخل لتمرير أجندته ومصالحه بدلاً من أن يكون مدعاة لتدعيم أركان الوحدة الوطنية بواحة التعدد والتنوع والاحترام المتبادل والعيش المشترك تحت سقف المواطنة المتساوية والوطن الواحد.
تلك إذن هي الضريبة المتوجبة الدفع عندما يسود التحجر الفكري والتعصب الرؤي واحتكار الحق الإلهي في فئة دون سواها, في حين أن التجربة الإنسانية عبر تاريخها العريض علمتنا أن التنوع والتعدد إنما وُجد ليبقى وينمو, باعتباره يشكل اللبنة الأساسية لترسيخ دعائم الوحدة الوطنية في خضم هذا التنوع الذي هو سنة كونية, وأمراً طبيعياً اقتضته ظروف حياة البشر, إذا ما صانته مناهج التفكير الرشيد والحوار البنًّاء وحرمات الأخلاق من مزالق التعصب والغلو وإهدار حرية الآخرين والعدوان عليهم ونشر الفوضى في حياتهم.
المواقف من نظرية التعدد والتنوع في مجتمعاتنا الشرقية صحيح أنها لا تزال في غالبها ملتبسة ومشككة ومقتصرة على التحبيذ والرفض, غير أن الأحداث العاصفة بمجتمعاتنا في العقدين الأخيرين حولَّتها إلى منحى آخر أكثر خطورة, حيث بدأت تتجه وإن على نطاق محدود نحو الاندفاع والهجوم والتخوين وعدم الإقرار بالرأي والرأي الآخر, والباعث على الاستغراب هنا إتيان هذه المواقف البعيدة كل البعد عن روح وسماحة الإسلام من أشخاص يفترض فيهم التنوير والمعرفة ويشار إليهم بالبنان أمثال الفيلسوف الإيراني آية الله محمد تقي مصباح يزدي, تلميذ الخميني والطباطبائي والأب الروحي والمرجع الفكري لأحمدي نجاد, وصاحب المؤلفات الكثيرة في الفلسفة الإسلامية والمقارنة والإلهيات والأخلاق والعقيدة, وأحد الذين لعبوا أدواراً محورية في اندلاع الثورة الإسلامية وترسيخ دعائمها, ناهيك عن مزاملته لكوكبة من المفكرين المتنورين والمنفتحين على النظريات الحديثة في العلوم الإنسانية أمثال محمد علي بهشتي وهاشمي رافسنجاني ومرتضى مطهري.
فهو لا يزال يرفض وبتشددٍ كبير نظرية التعدد معتبراً إياها أخطر نظرية على الإسلام ولذا فهي نظرية شيطانية, لأنها حسب اعتقاده تبيح لمعتنقها أن يضع الشرك والإسلام على حدٍ سواء.
الخطير في الأمر أنه لا يقف عند حدود النظرية ومناقشتها علمياً بل يتعداها ليحاكم أصحابها ومن يتبنونها فهم "منتحلوا الإسلام" و"من يريدون التخلص من الدين والأحكام الدينية" فهم "منافقون لا يؤمنون باليوم الآخر" وإنما آمنوا بهذه النظرية "لأهداف سياسية".
هذا الخلط الممجوج بين النظرية ومن يؤمن بها ومحاولة البحث في النوايا وتحميل الأشياء ما لا تحتمل وتسطيح المفاهيم يعكس في حقيقته نوع من التعمية والتشويه والنقد اللا منهجي بهدف تجييش الجماهير ضد التعدد والتنوع دون أن يتاح لهم إبداء الرأي تجاهه ليكون لهم حق الخيار النابع من القناعة الذاتية وليس من الوصاية المشوهة التي مارسها ويمارسها يزدي, والتي كان لها القسط الأوفر فيما وصلت إليه إيران اليوم من فوضى باتت تهدد باندلاع ثورة تصحيحية جديدة كتلك التي شهدتها في عام 1979.
في هذه الوقفة السريعة سنحاول مقاربة حقيقة المنهج المتشدد لدى يزدي والعائد بجذوره إلى ما قبل الثورة الإسلامية والذي بات اليوم يجد له الكثير من الأنصار خصوصاً بعد وصول أحمدي نجاد إلى الحكم وتمكن أقصى اليمين المتشدد بقيادة يزدي من طرح نفسه بقوة وبسط نفوذه على أهم مفاصل الدولة واقترابه أكثر من أي وقت مضى من تحقيق أفكاره المتشددة بالتوازي مع اقتراب مرشد الثورة من أفكار اليمين وتراجع نفوذ رجل البراجماتية والاعتدال في الثورة الإيرانية "رافسنجاني" لصالح صعود نجم يزدي وسط تزايد المخاوف من أن تصبح أفكار يزدي موضع التطبيق إذا صحت التوقعات بخلافته لخامنئي في حال شغور منصب الولي الفقيه بما لذلك من تداعيات غير محمودة العواقب على الفكر الشيعي الإثنا عشري وعلى الثورة الإيرانية التي حاولت أن تجمع بين الأفكار الدينية والجمهورية فيما عُرف بالجمهورية الإسلامية كما سماها الخميني والديمقراطية الإسلامية كما سماها خامنئي والتي تجمع وإن كان دون نجاح كبير بين الانتخابات الشعبية مع وجود قدر من الوصاية لرجال الدين في حين أدى تحول سلطة مؤسسة ولاية الفقيه إلى سلطة مطلقة في السنوات الأخيرة إلى دق أجراس الخطر وسط تصاعد المخاوف من إجهاز تيار يزدي على الجمهورية والثورة الإسلامية وقياداتها بعد أن أجهز نجاد على سمعتها في الداخل والخارج وحينها ستعود إيران رسمياً إلى القرون الوسطى وقتها سيترحم الإيرانيون والعالم على حُكمي الخميني وخامنئي.
الجيل الثالث للثورة الإسلامية
لعبت أحاديث الاختراق الأميركي لإيران والتي راجت بصورة غير مسبوقة في العام 2003 وعاودت الظهور اليوم على خلفية الأحداث المصاحبة للانتخابات الرئاسية الأخيرة، دوراً محورياً في سحب المحافظين البساط نهائيا من تحت أقدام الإصلاحيين وإفساح المجال لبروز الجيل الثالث للثورة الإسلامية بزعامة رجل الدين المتشدد مصباح يزدي إلى جانب الإصلاحيين والمحافظين.
الجدل الواسع المصاحب للثورة الإسلامية منذ بداياتها الأولى حول شرعية مؤسسة ولاية الفقيه سواء فيما يتعلق بالبنية الدينية التاريخية أو فيما يتعلق بالجذور التاريخية للثورة الإسلامية كحدث تاريخي جماعي, شكل كابحاً جدياً بات يعيق استمرارية التماهي الشفاف بين مؤسسة ولاية الفقيه والتراث الشيعي التقليدي وبينها وبين الثورة الإيرانية لاسيما وأن ولاية الفقيه لم تفلح حتى الآن في الحصول على إجماع مراجع التقليد الكبار لإضفاء الشرعية الدينية الكاملة عليها.
وباستثناء حقبة الخميني المتمكن حينها من تأمين غطاء شرعي لحكومة ولاية الفقيه لكن ذلك لم يرقى أبداً إلى مرتبة الشرعية الدينية الكاملة حيث بقيت شرعيتها براغماتية أكثر منها دينية مستتبة, وهو ما بدا واضحاً بعد رحيل الخميني 1989 وصعود خامنئي وإسقاط شرط المرجعية الدينية والفصل رسمياً بين المرجعية الدينية والسياسة في مؤسسة ولاية الفقيه تحت ضغط مقاومة مؤسسة المرجعية الأصولية التقليدية بالتوازي مع انفراد ولاية الفقيه بالسلطة المطلقة وتلاشي التوازن فيما بينها وبين الإرادة السياسية للغالبية الشعبية رغم أنهما معاً يشكلان المصدر الرئيسي لأمن واستقرار شرعية الجمهورية الإسلامية وبالتالي إسقاط الشراكة الكاملة للمؤسسات السياسية والمدنية المعبرة عن الإرادة الشعبية باستثناء منحها حرية نسبية مقننة وموضوعة طبعاً تحت الوصاية المباشرة لولاية الفقيه والذي كانت نتيجته المزيد من الإرباك للمؤسسات المنتخبة مباشرة من الشعب ومؤسسة ولاية الفقيه ووضع شرعية الأخيرة على المحك بعد أن صارت الإرادة الشعبية إرادة قاصرة ومسلوبة الحق في أن تكون شريكاً كاملاً في بناء الدولة رغم أنها من صنع الثورة على خلفية بروز ما بات يعرف بالأصولية الشيعية الجديدة المعبر عنها بولاية الفقيه المطلقة وبروز الدولة المنفصلة عن المجتمع السياسي والمتعالية عليه والمتماهية مع ذاتها بما ينطوي عليه هذا التماهي من خطر إلغاء دور الجماعة لمجتمع سياسي متحرك - يشكل ضمانة شرعية وتاريخية حيوية للنظام - وتحويله إلى حقل سياسي محاصر وملحق بدولة غاصبة لحق المجتمع ولحق الغائب على أيدي المحافظين الجدد بزعامة يزدي وجنتي وبني فئتهم إذا صح التعبير.
لمع نجم يزدي في أوج قوة الإصلاحيين وهيمنتهم على السلطتين التنفيذية والتشريعية وتحديداً بعد وصول خاتمي إلى رئاسة الدولة ومن حينها اشتهر بمعارضته الشديدة للحركة الإصلاحية ونعت منتسبيها بمن يريد إحياء الكفر الشاهنشاهي – حسب تعبيره – واتهامها بالسعي لتحويل إيران إلى دولة على النمط الغربي ومن حينها تمكن من طرح أفكاره ونفسه بقوة مستغلاً انفراده بمنبر خطبة الجمعة بطهران طوال فترة خاتمي وتحويله إلى منبر سياسي للهجوم وتوزيع فتاوى القتل والتصفية وصكوك التكفير ضد كل من يخالفه وقاعدة انطلاق لشحذ همم المحافظين وهو ما أثمر فيما بعد عن استعادة أقصى اليمين السيطرة على كافة مفاصل الدولة ليقوى ساعدهم بصورة لافتة بعد وصول نجاد إلى رئاسة الدولة وجنوح هذه الدولة بشدة نحو التطرف وإفساحها المجال أمام مريدي يزدي ليقوموا بأدوار مهمة داخل إدارة نجاد وداخل السلطة القضائية والحرس الثوري والباسيج..الخ.
تنازع وتصادم أم ترف تنظيري؟
صحيح أن الدكتور علي شريعتي أحد أهم ملهمي الثورة الإسلامية الإيرانية والمفكر الشيعي المنفتح والمجدد والداعية القوي للوحدة الإسلامية والتعالي على الخلافات المذهبية خصوصاً مع السنة حتى اتهم بخيانة المذهب الشيعي وأول مفكر شيعي يدافع عن الدولة العثمانية ويهاجم الدولة الصفوية لأنها ناصبت الأولى العداء وتحالفت مع الغرب ضدها وحرفت المذهب الشيعي، وأول من أرسى قاعدة التواصل الإيجابي القائم على الاحترام المتبادل والنقد الموضوعي في إطار التعدد والتنوع، لكن غير صحيح أن أفكاره قد وجدت طريقها في بلورة هوية النظام الإيراني الوليد بصورة كلية في ظل بروز مفكرين أمثال يزدي وجنتي وبالتالي ظهور ثلاث نظريات بات تحكم إيران اليوم وتتحكم في مسارها ومصيرها.
على أن ما يحسب لشريعتي هو النجاح غير المسبوق في كسر الجمود والتحجر الفكري في التراث الشيعي التقليدي وإفساح المجال لظهور العديد من رواد التنوير الإحيائي من مثقفين وعلماء بما بات يُعرف بالحركة الإصلاحية وبالتالي خروج جدلية الأصالة والمعاصرة إلى حيز الوجود داخل إيران ولذا لم يكن غريباً أن تلاقي أفكاره موقفاً متشنجاً من يزدي حيث وقف ضد أطروحاته الناقدة للتيار الديني وللسلوكيات المجتمعية المتصلة بالدين ورفضها جملةً وتفصيلاً تحت مبرر إظهار الحق وتعرية أفكار شريعتي المنحرفة وإعلان حرب شعواء عليه في حياته وبعد مماته ما لبثت أن امتدت ألسنتها لتطال قائمة طويلة من رواد الحركة الإصلاحية بقيادة محمد خاتمي ومهدي كروبي ومير حسين موسوي وحركة المعتدلين بقيادة رافسنجاني وحسن روحاني.
التنازع الفكري والرؤى بقسميه الديني والسياسي بعد مرور ثلاثة عقود من عمر الثورة الإيرانية متمحورٌ في ثلاث نظريات رئيسية قاسمها المشترك ضرورة حفظ النظام السياسي وإيصال أهداف الثورة إلى العالم وإن اختلفت أساليب التصدير وهذه النقطة تحديداً كانت ولا زالت تُشكل بؤرة الصراع المركزية التي كادت أن تنفجر في أكثر من مرة لولا تدخل المرشد في اللحظات الأخيرة غير أن ما نشهده اليوم من صراع يشي بأن العصا السحرية للمرشد قد فقدت الكثير من مصداقيتها وقدرتها ومفعولها ما يضع إيران أكثر من أي وقت مضى على كف عفريت نظراً لاستفحال داء التنازع بين النظريات الثلاث وخروجه عن حدود السيطرة.
- الحركة الإصلاحية:
تتحرك في إطار رفض الانتظام في نسق رؤى واحد مهادن ونمطي داعية إلى احترام التعدد والتباين والاختلاف والدعوة لفصل الدين عن السياسة في مؤسسة ولاية الفقيه ولذا نجدها تركز على دور الشعب المحوري في انتخاب الولي الفقيه وتحويل ولاية الفقيه إلى وكالة الفقيه وتقليص صلاحيات الولي الفقيه وجعلها محدودة في إطار الدستور ومسؤوليته عن أعماله أمام الشعب ومعارضة تقديسه وإعادة حاكميه النظام الإسلامي إلى الشعب وليس إلى الله وعدم وجود تعارض بين الحكومة الإسلامية والديمقراطية والدعوة لتنظيم الحياة السياسية على أساس المؤسسات والأحزاب وتطبيق سيادة القانون على الجميع دون تمييز مع ضرورة احترام المراجع الدينية لإرادة الشعب.
كما تعتقد بأن العلاقة مع الغرب وأميركا تحديداً تقوم على مبدأ المصلحة باعتبار أن الفقه السياسي به مساحة تكفي للتحرك لتحقيق مصلحة قومية أو مذهبية في إطار ظروف اضطرارية ولو كان على حساب ثوابت قومية أو مذهبية وعليه إذا كانت العلاقة مع أميركا تشكل خطراً على إيران ينبغي الابتعاد عنه فذلك نظرية سياسية وإدارية وليست نظرية شرعية مع تغليب الاستفتاء الشعبي لحل هذه المعضلة وتغليب الحوار بدل القطيعة والتصادم.
- الحركة المحافظة:
تقوم نظريتها على النسق الرؤي الأحادي وقداسة ولاية الفقيه كونها تستمد شرعيتها من الله والولي الغائب ولذا نجدها تركز على ثانوية دور الشعب في انتخاب الولي الفقيه والصلاحيات المطلقة له والتي تضعه فوق القانون والدستور وعدم مسؤوليته عن أعماله أمام الشعب وإنما أمام الله فقط واستمداد مشروعية النظام من الله ووجود تعارض بين الحكومة الإسلامية والديمقراطية وعدم مأسسة المشاركة السياسية على أساس حزبي.
وإجمالاً فهي ترى في الدعوة للحوار مع أميركا والغرب أو فصل الدين عن السياسة أو إقرار وكالة الفقيه بدل ولاية الفقيه عوامل فتنة تضر النظام ولا تفيد أصحابها متسائلة لماذا يرفض ولاية الفقيه من قبلها في عهد الخميني؟ في حين تعتقد أن الخلاف مع أميركا ديني أكثر منه سياسي وإداري.
- حركة أقصى اليمين:
رغم مشاركتها المحافظين في كل ما ذهبوا إليه إلا أنها وجدت في صراعهم مع الإصلاحيين فرصة ذهبية لترسيخ زعامتها الجديدة القائمة على حكومة الولي الفقيه العالمية الممهدة لظهور دولة الولي الغائب وليس على ما هو قائم اليوم وهو ما دفع خاتمي في آب/أغسطس 2006 إلى التحذير من خطورتها ليس على النظام وقادته فحسب بل وعلى ولاية الفقيه والمرشد ذاته وعلى الدستور الإيراني تمهيداً لإقصاء الإصلاحيين والمحافظين معاً إذا ما أخذت زمام المبادرة بأيديها.
الأُحادية في فكر يزدي
التعدد والتنوع حق يكفله المؤمنون لمنتقديهم إذ ليس من العدل أن تكون لك حرية القول والحكم بما تشاء ووفق رؤيتك الخاصة التي هي في الحقيقة ممارسة عملية لنظرية التعدد في حين أنك تمنع الآخرين من ممارسة هذا الحق وهو ما يثير التساؤل عن جدوى العقلانية الفلسفية التي يمتلكها يزدي وما هي الحال التي سيكون عليها موقف السلفويين واللادنيين إذا كان هذا موقف رجل دين تتوسم فيه الاستنارة وهو من يقرأ لكانط ونيتشه وهيجل؟ خصوصاً وأن معارضته لمخالفيه تجاوزت المختلفين معه في المذهب والعقيدة إلى بني جلدته من المذهب الشيعي الذي يدين به ورفاق دربه في الدراسة والثورة ما نجد حقيقته في كثرة الفتاوى والاتهامات الصادرة عنه ضد كل من يخالف فكره ومن معارضي ولاية الفقيه وقرارات مرشد الثورة ومعارضي حكومة نجاد, وسط إجماع المصادر الإيرانية بمختلف أطيافها على وصف توجهاته باليمينية الشديدة الرجعية.
أولاً: من حيث التنظير
يزدي مدافع شرس عن ولاية الفقيه وحكومة الولي الفقيه وحاكميتها المستمدة من الله مباشرة وليس من الشعب باعتبار الولي الفقيه حاكماً ينوب عن الله وعن الغائب لذا لا يجوز اختياره عن طريق الشعب مباشرة في حين أن البيعة أو الانتخاب من قبل مجلس خبراء القيادة – المنتخب من الشعب والذي يشكل يزدي أحد أعضائه- مسألة ثانوية تكميلية وليست أساسية, أي مجرد بيعة مشروطة بحق الولاية الإلهية وليس بحق الإرادة الشعبية كون الأخيرة مرتبطة بالانجذاب نحو الديمقراطية وعليه فطاعة الولي الفقيه من طاعة الغائب التي هي من طاعة الله ما يجعل الخروج عليه ومعارضته نوع من أنواع الشرك بالله رغم حداثة مصطلح ولاية الفقيه وتصادمه مع التراث التقليدي لدى الشيعة الإثنا عشرية وعدم إيمان غالبية شيعة العراق والخليج به.
إحلال مذهب الأنسنة والأصالة محل ولاية الفقيه هو الأخر من شأنه حسب تعبير يزدي مقارنة القضايا الأخلاقية في الإسلام بالقيم السائدة في المجتمعات الغربية في حين أن الأصالة لله وليس للإنسان العاجز عن إدراك حاجاته الحيوية والمشدود بطبيعته إلى حاجاته المادية الملحة التي هي أدنى قيمة من حاجاته المعنوية الوجودية وعليه فأنسنة الإنسان لن يكتب لها البقاء إلا في حال إيمان المجتمع بها وما يترتب على ذلك من تغريب وانجذاب لا منطقي للديمقراطية الأميركية الرافضة لكل القيود وهو ما يرفضه الإسلام جملة وتفصيلاً.
يزدي يعارض بشدة مبدأ الجمهورية الإسلامية مؤكداً بالمقابل على ضرورة قيام الحكومة الإسلامية العالمية, والأكثر إثارة تأكيده على أن بمقدور الولي الفقيه تعطيل بعض أحكام الشريعة كالحج والعمرة انطلاقاً من صلاحياته المطلقة المستمدة من الله مباشرة وحق الطاعة المطلقة له والتي لا يقصرها يزدي على البلد المتمتع بولاية الفقيه بل يعممها على المسلمين المقيمين في الدول الإسلامية الأخرى بصرف النظر عما إذا كانوا قد بايعوا الولي الفقيه على الولاية أم لم يفعلوا كون بيعة أكثرية الأمة في البلد المقيم بها حجة على الآخرين وكل هذا ليس سوى تمهيد لإدارة شؤون جميع المسلمين وصولاً إلى تحقيق الهدف الإلهي من الحكومة الإسلامية وهو وحدة الأمة الإسلامية تحت راية حكومة العدل العالمية!!.
حركة يزدي حركة ماضوية بامتياز تسبح في عالم من الفنتازيا الخيالية المغردة خارج سرب الواقع المعاصر شأنها شأن غيرها من الحركات الأصولية المتشددة ما نجد حقيقته في عدة نقاط يعتقد الكاتب السعودي الشيعي حسن مصطفى أنها تشكل عصارة فكر المدرسة اليزدية أهمها:
- أن التعددية إنما وضعت كمقابل للوحدانية ولذا فهي سبباً للتشظي والتبعثر والنزاع ومن يقول بذلك فهو خارج عن التوحيد ووحدة الكلمة ومثير للشبهات الرامية إلى خلخلة الإسلام وإرباك المفاهيم الدينية وجعلها عرضة للتغريب الفكري ولسيطرة الغرب عليهم.
- صعوبة الخروج على النسق الحاكم باعتبار طبيعة الأنساق الحاكمة تخلق وتنتج ثقافتها الذاتية التناسخية وتجعل من مريديها عبيداً وخدماً لها وأي خروج عليها يعني انقلاباً وتدميراً لانتظامها وتهديداً لمصالحها ومن يقول بذلك فهو مارق ومخرب ومنتحل للإسلام.
- التوجس والخيفة الزائدين مما يحدثه الانفتاح والتعدد من تداعيات لا يمكن السيطرة عليها أو استيعابها ما يجعل من سد الذرائع مواجهة إستباقية وقائية ضد أي تداع محتمل.
- عدم القدرة على الإجابة عن الأسئلة الجديدة من قبيل علاقة التعددية بالحاكمية والحكومة الدينية وأساس الفقه والأحكام الشرعية والتي لم ولن تحسم لأنها تتعدد بتعدد قراءاتها.
- أن معنى التعدد هو فك احتكار السلطة وتوزيع الحقيقة على عدة ثيمات لا تلغي أي منها الأخرى وبالتالي ستتفكك جميع السلطات المركزية المتعلقة بالدين والمستمدة قوتها من الحكومة الأحادية وتنهار كل مكتسباتها والمصالح التي أسست عليها وهو ما لا يقبله أي صاحب سلطة.
ثانياً: من حيث المواقف
لم يوفر يزدي أحداً من رواد التنوير ودعاة الإصلاح علماء كانوا أم مثقفين إلى درجة تسببه في أحيان كثيرة بالإحراج للنظام الحاكم ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
- مهاجمته دعاة التعدد الفكري والرؤي أمثال مجتهد شبستري ومصطفى مليكان وعبدالكريم سروش ووصفهم بمنتحلي الإسلام.
- بعثه برسالة إلى المرشد في كانون الثاني/ ديسمبر 2000 يطالبه فيها بتنفيذ حكم الإعدام في حق الإصلاحي هاشم أكبر غنجي ورجل الدين أحمد قابل كما أصدر فتاوى بتصفية عدد من الكُتاب والصحفيين والمنتسبين للحركة الإصلاحية جسدياً بواسطة الباسيج.
- اتهام قائمة طويلة من المسئولين الإيرانيين في حزيران/ يونيو 2003 بالتخابر والتعاون وإقامة علاقات سرية مع أميركا وتسهيل دخول الجواسيس الأميركيين إلى إيران وتسهيل سيطرة الشركات الأميركية على الاقتصاد الإيراني.
- توجيه رسائل بين الحين والآخر إلى رافسنجاني تحمل توقيع مجموعة من طلاب وعلماء الدين المقربين من يزدي تتهمه بالتساوم وموالاة الغرب وكنز الثروات وانتقاد مواقفه السياسية والاجتماعية إلا أن رافسنجاني لا يزال حتى الآن يفضل عدم الرد عكس خاتمي - وهو من ناله حصة الأسد من هجوم يزدي - الذي يفضل انتقاد مواقف يزدي وتياره والتحذير من خطورتهم على مستقبل إيران والثورة الإسلامية والعيش المشترك .
- تصريحه كذا مرة بأن اعتراف البعض بولاية الفقيه إنما هو من باب المجاملة للخميني أو لرجال التقليد وعلماء الدين رغم أنها تمثل سيادة الإسلام والضمانة الوحيدة لتحقيق العدل والتقدم وبالتالي فالخارج عليها مشرك وكافر وهو بذلك يرى أن شيعة إيران قبل عام 1979 كانوا مشركين إضافة إلى الجزء الأكبر من الشيعة خارج إيران ما نجد دلالته في فتواه الصادرة في تموز/ يوليو 2009 المعتبر فيها من يخالف الولي الفقيه مشركاً بالله لأنه يريد مصدراً آخر للشريعة غير الله متهماً المعارضة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2009 بالسعي لإضعاف سلطة ولاية الفقيه وتغيير الدستور وحذف ولاية الفقيه.
- إصدار فتوى في حزيران/ يونيو 2009 أباح فيها تصفية مير حسين موسوي ومهدي كروبي وأخرى بجواز تزوير الانتخابات الرئاسية لصالح نجاد معتبراً في فتوى ثالثة في آب/ أغسطس 2009 أن طاعة نجاد من طاعة الله وذلك في معرض رده على رفض المعارضة الاعتراف بشرعيته وشرعية الانتخابات الرئاسية واعتراضهم على إقرار المرشد لنتائجها وتنصيبه نجاد لولاية ثانية.
اللافت في كل ما سبق أنه مع كل ضجة يثيرها يزدي في المشهد الإيراني يسارع المرشد إلى الدفاع عنه باستماتة منقطعة النظير ولعلى هذا بحد ذاته كان كافياً لدق أجراس الخطر مما يحمله يزدي لإيران مستقبلاً إذا ما تهيأت له فرصة الوثوب على منصب ولاية الفقيه.
المصادر:
- حسن الصفار، التعددية والحرية في الإسلام، دار البيان العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1990.
- حسن فتحي القشاوي، مصباح يزدي: زرقاوي الشيعة الحالم بخلافة خامنئي، موقع القدس المحدودة، 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 2009.
- حسن مصطفى، الإسلاميون وتعدد القراءات: المصباح اليزدي نموذجاً، موقع الوحدة الإسلامية، 27 نيسان/ أبريل 2004.
- رفعت رستم الضيقة، ولاية الفقيه: أزمة الشرعية المزدوجة، السفير اللبنانية، 16- 17 كانون الثاني/ يناير 2010.
- مصباح يزدي، صلاحيات الولي الفقيه فيما وراء الحدود، مجلة حكومت إسلامي، خريف 1996.
- محمد السعيد عبدالمؤمن، الحرب الباردة بين إيران والولايات المتحدة، موقع إيلاف السعودي, 2003.
- ظاهرة مصباح يزدي ومخاوف التيارات الإصلاحية والمعتدلة، موقع صحيفة الوقت الإيرانية، 31 آب/ أغسطس 2006.
Al-mahbashi@maktoob.com
مدونة شخصية تهتم بنشر بعضاً من كتابات ودراسات وخواطر وأبحاث واقتباسات الباحث والكاتب زيد يحيى حسن المحبشي
Translate
الثلاثاء، 13 أبريل 2010
الانتخابات السودانية إلى أين؟
--------------------------------------------------------------------------------
بقلم // زيد يحيى المحبشي
تكتسب الانتخابات العامة في السودان أهمية كبيرة, يتوقف عليها تحديد مستقبل بلد لا يزال مصيره مجهولاً ومفتوحاً على كافة الاحتمالات, لا سيما وأنها تأتي بعد انقطاع دام 24 عاماً على إجراء اخر انتخابات في عام 1986, شهدت البلاد خلالها الكثير من المتغيرات والأحداث والتحديات والمؤامرات, كانت معها محاولات البحث عن مواقف متقاربة بين أطيافه الداخلية ومعالجات مؤتلفة ومخارج مضمونة لأزماته المتناسلة وصولاً إلى بر الأمان وتحقيقاً لسودان مستقر وموحد ومزدهر, أمر في غاية الصعوبة والتعقيد في بلدٍ لم يشهد يوماً من الاستقرار منذ استقلاله عام 1956.
ومن هنا تأتي أهمية هذه الانتخابات والتي يعلق عليها الكثير في الداخل والخارج أمالاً عريضة لترسيخ الاستقرار والتداول السلمي للسلطة بعيداً عن العنف والإعتساف, باعتبارها الآلية الناجزة لإنفاذ التحول الديمقراطي, بعد مرور 42 عاماً (1968 _ 2010) من النظم الشمولية و21 عاماً (1989 _ 2010) من القبض السلطوي وما صاحبها من ضغوط دولية على نظام البشير تركت بصماتها في تفجير العديد من الأزمات المهددة بتشظي هذا البلد أو إعادته إلى مرحلة الاستعمار, في حين لا يزال النظام يراهن على ترابط آلية المصالحات واتفاقيات السلام والتحول الديمقراطي والطفرة النفطية ووحدة كيان البلد لمواجهة الضغوط الخارجية والسيناريوهات الداخلية النازعة إلى الإنفصال.
محطات انتخابية
خاض السودان في تاريخه الحديث خمس انتخابات رئيسية لاختيار أعضاء البرلمان الوطني وثمان انتخابات فرعية, غير أن الانتخابات الحالية مختلفة كلية عن سابقاتها من حيث الأهداف والمقاصد والتحديات والتعقيدات والتداعيات المترتبة عليها, خصوصاً وأنها تجري على ستة مستويات وبثلاثة أنظمة انتخابية مختلفة بالتزامن, يختار من خلالها الشعب رئيس الجمهورية ورئيس حكومة الجنوب وحكام الولايات الـ25 والبرلمان الوطني والبرلمان الجنوبي وبرلمانات الولايات, وبالتالي تصويت الناخبين البالغ عددهم 16 مليوناً في الشمال ثمان مرات وفي الجنوب 12 مرة وعلى مدى ثلاثة أيام 11-13 أبريل, وهي مسالة معقدة للغاية في الدول المتقدمة التي تكاد الأمية فيها شبه منعدمة, فكيف سيكون الحال في بلد كالسودان يعد الأكبر مساحة على مستوى أفريقيا وتصل فيها نسبة الأمية إلى 85% وسط انعدام الإمكانيات لسيطرة أجهزة الدولة على الأوضاع خلال الانتخابات, في ظل القلاقل والاضطرابات المستمرة والمتجددة في الجنوب ودارفور وكردفان, ناهيك عن الجدل المحتدم بين القوى السياسية وتقاذف الاتهامات حول نزاهة الانتخابات من عدمه بالتوازي مع تعالي أصوات المقاطعة والانسحاب بعد فشل مطالب التأجيل أو الإلغاء لهذا الاستحقاق.
فيما يتعلق بالأنظمة الانتخابية تستخدم الانتخابات النظام المختلط أي الأغلبية المطلقة 50% زائد واحد لفوز رئيس الدولة ورئيس حكومة الجنوب والأغلبية البسيطة لاختيار حكام الولايات، وبالتالي فالسودان دائرة واحدة فيما يتعلق برئيس الجمهورية والجنوب بولاياته العشر دائرة واحدة فيما يتعلق برئيس حكومته والولاية دائرة جغرافية لاختيار الوالي.
على صعيد البرلمانيات تم توزيع مقاعدها بمختلف مستوياتها بواقع60% دوائر جغرافية و25% تمثيل نسبي للمرأة و15% تمثيل نسبي لقوائم الأحزاب ومعلوم أن البرلمان الوطني مكون من 450 مقعداً منها 270 مقعداً جغرافية و112 محجوزة للنساء و68 لقوائم الأحزاب التي يتجاوز عددها 31 حزباً متنافساً, لكن الفاعلة منها لا تتجاوز الستة أحزاب, في حين يضم برلمان الجنوب 170 مقعداً بينما تم تحديد 48 مقعداً للولايات قد تزيد أو تنقص تبعاً لتعداد كل ولاية.
واللافت هنا اكتساب هذه الانتخابات لدعم أميركا والاتحاد الأوربي لأول مرة خارج إطار العمل الإنساني, سواء كان مادياً أو فنياً أو سياسياً, نظراً لأهمية هذه الانتخابات على صعيد تهيئة الأجواء لاستفتاء تقرير مصير الجنوب, المتوقع إجرائه في كانون الثاني/ يناير 2011, وإقرار البرلمان المنتخب لأول دستور دائم للبلاد, بعد مرور خمس سنوات من المرحلة الانتقالية وتقاسم السلطة والثروة بين المؤتمر الوطني في الشمال والحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب, بموجب اتفاقية نيفاشا للسلام الشامل بين الشمال والجنوب المبرمة في 9 كانون الثاني/ يناير 2005 والتي بموجبها تم وضع حد لنحو 22 عاماً من الحرب الأهلية.
ومعلوم أن اتفاقية السلام الشامل المنجزة حينها بناءاً على وساطة أميركية ركزت على مسألتين هما إجراء انتخابات عامة واستفتاء الجنوب من ضمن عدة مبادئ على رأسها التحول الديمقراطي لإحلال سلام حقيقي وطوي المرحلة الانتقالية والتوصل إلى صيغة عادلة لاقتسام السلطة والثروة والتأكيد على أهمية دور الرقابة المحلية والإقليمية والدولية في ضمان نزاهة الانتخابات, على أن الأهم ربط الاتفاقية إجراء الانتخابات بإجراء الاستفتاء, ولعل هذا هو السبب الحقيقي من وراء الدعم الأميركي والإصرار الغربي على إجراء الانتخابات في موعدها وبالتالي سحب الحركة الشعبية لمرشحها الرئاسي وانقسام المعارضة على نفسها.
كما أن الأحزاب الملوحة اليوم بالمقاطعة أو الانسحاب هي ذاتها التي قاطعت انتخابات 1996 و2000 الرئاسية والبرلمانية، وفضّلت بالتالي الانكفاء على نفسها بعد أن كانت متصدرة المشهد السياسي والحكم قبل ثورة الإنقاذ التي قادتها الجبهة القومية الإسلامية بزعامة عمر البشير وحسن الترابي وذلك في عام 1989, ما جعلها تراهن اليوم على إسقاط نظام البشير الذي تصفه بالبوليسي, وهو رهان يعكس عدم ثقتها وخوفها الدائم من هذا النظام مقابل تزايد ثقة النظام بنجاحه في الانتخابات واستمراره في السلطة والحصول على التفويض الشعبي اللازم, ومن ثم عودة هذه الأحزاب إلى التخفي ثانية.
سيناريوهات ملغومة
بعد مرور عام من الجدل الداخلي على إجراء الانتخابات من عدمه, وبالنظر إلى جوهر الخلاف, فالملاحظ اقتصاره على الجانب الإجرائي دون التركيز على أصل المشكلة, وهي: "كيف يمكن إجراء انتخابات وطنية شاملة, دون أن يكون هناك إجماع وطني, على عمل مشترك", ذلك أن المعارضة لا تريد أن تمنح الحكومة شرعية الاستمرار من خلال التحكم في مفوضية الانتخابات والسيطرة على مراكز النفوذ والحكومة لا تريد أن تجد نفسها في وضع تهتز فيه سلطتها والإقرار بأن دورها قد انتهى.
إذن فمشكلة هذا البلد تكمن أساساً في غياب التوافق الوطني الذي يقرر فيه الجميع أنهم يريدون العيش في إطار دولة موحدة قبل التفكير في تحديد الوسائل التي يحكمون بها بلادهم.
وهو ما يجعل من المرحلة المقبلة مليئة بالكثير من الألغام والأزمات والصراعات على نتائج الانتخابات خصوصاً وأن الحراك الأميركي حتى الآن لا يزال عاجزاً عن إزالة عوامل التوتر من الأجواء السياسية رغم نجاحه في شق صفوف المعارضة, ومما يزيد الوضع تعقيداً أن اتفاق التسوية بشأن دارفور لم يدخل بعد مرحلة التنفيذ, في حين لا يزال اتفاق السلام مع الجنوب ناقصاً ومحاطاً بالكثير من التباينات السياسية, بالتوازي مع توجه الحركة الشعبية إلى تركيز كل مواردها ومناوراتها للفوز بمقاعد تقودها إلى تشكيل حكومة دولة الجنوب المستقلة.
وهذا يعني في مجمله أن الوضع السوداني مفتوح منذ الآن على انتخابات مشكوك فيها, فضلاً عن أنه مفتوح على طلاق بين الشمال والجنوب والذي سيكون هذه المرة بائناً بينونة كبرى.
وتبقى نقطة التلاقي الوحيدة بين السودانيين وهي الاقتناع بفداحة تجدد الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب إذا تجددت وهو مستبعد طبعاً, وفداحة استمرار الكارثة في دارفور, وما يترتب على الحرب والكارثة معاً من تداعيات تضع هذا البلد على أعتاب حقبة تاريخية جديدة, لن تنفع معها مساحيق التجميل, في بلد يدل كل شيء فيه على أنه يعيش في أزمة حقيقية تستدعي ضرورة العمل لتمكينه من تجاوزها بأقل الأضرار والخسائر, وفي مقدمتها انقسامه إلى شطرين بعد عهد قصير من تجربة سودان واحد بنظامين, وما لذلك من استحقاقات ومقتضيات كل واحدٍ منها كفيل بإشعال فتيل حرب جديدة قطعاً ستكون معها الحرب الأهلية المريرة التي مر بها السودان مجرد نزهة قصيرة.
وعموماً تشير التوقعات إلى فوز البشير بالأغلبية المريحة في الجولة الأولى وفشل رهانات المعارضة على إجراء جولة ثانية, تقف فيها خلف الصادق المهدي لمواجهة البشير, والذي يبدو أنه سيكون أكبر الخاسرين في الانتخابات الرئاسية.
والملاحظ هنا أخذ الانتخابات الرئاسية طابعاً قومياً تتلاشى فيه القبيلة أو قد تزدوج فيه الانتماءات عكس انتخابات حكام الولايات في بلد لا زالت القبيلة تلعب فيه دوراً محورياً.
ومن التوقعات أيضاً تراجع شعبية حزب الأمة القومي في دارفور لصالح المؤتمر الشعبي والذي يعد في نظر الكثير من المحللين الوجه الأخر لحركة العدل والمساواة، وبالتالي استفادة الشعبي من انشقاقه عن حليفه البشير ووضوح موقفه منذ البداية حول المشاركة في الانتخابات وهو ما يجعله متصدراً لقائمة الرابحين في هذه الانتخابات على الصعيد الولائي والتشريعي مقابل خسارة المؤتمر الوطني لبعض الولايات والحصول على مقاعد مقبولة في البرلمانيات تعوض خسارته في ولاة الولايات وعدم حصوله على الأغلبية المطلقة في الرئاسيات وكل هذا سيمكن المؤتمر الوطني من الانفراد بالمشهد السياسي في الشمال والتحكم الكلي في آلية إعادة رسم المعادلة السياسية الشمالية بصورة تتيح له حرية التحرك والمناورة على صعيد استفتاء الجنوب وإكمال مشروع المصالحات واتفاقيات السلام في الشمال ومواجهة الضغوط الدولية وفي مقدمتها مذكرة الاعتقال الصادرة بحق البشير.
لكن في بلد كالسودان لا تحكمه الولاءات السياسية وحدها بل هناك الولاءات القبلية والمناطقية وولاءات المصالح وما أكثرها, كل هذا يجعل من عامل المفاجآت سيد الموقف والثابت الوحيد في هذا البلد, وهذا لا يعفي قادته من الإقرار بأن الانتخابات بكل عيوبها تظل مصلحة جماعية وضرورية لقيادة البلاد إلى مستقبل أفضل تسوده روح التفاوض والحوار الوطني والعيش المشترك وليس الصراع وما لم تستوعب قواه السياسية هذه المعادلة فإن نُذر أزمة عاصفة تلوح في الأفق, كما أن نزوع بعض أطيافه إلى الكمال على افتراض حسن النية, نزوع مشروع, لكن أين هو الكمال في تجارب العالم الديمقراطية على مدى التاريخ العريض, إذن فما يشهده السودان اليوم تجربة متقدمة وخطوة للأمام تبدو ضرورية لأهميتها في تكريس المصالحات وتعزيز الوحدة الوطنية ووضع الأمور على سكة الحلول وإعادة بناء الثقة.
Al-mahbashi@maktoob.com
بقلم // زيد يحيى المحبشي
تكتسب الانتخابات العامة في السودان أهمية كبيرة, يتوقف عليها تحديد مستقبل بلد لا يزال مصيره مجهولاً ومفتوحاً على كافة الاحتمالات, لا سيما وأنها تأتي بعد انقطاع دام 24 عاماً على إجراء اخر انتخابات في عام 1986, شهدت البلاد خلالها الكثير من المتغيرات والأحداث والتحديات والمؤامرات, كانت معها محاولات البحث عن مواقف متقاربة بين أطيافه الداخلية ومعالجات مؤتلفة ومخارج مضمونة لأزماته المتناسلة وصولاً إلى بر الأمان وتحقيقاً لسودان مستقر وموحد ومزدهر, أمر في غاية الصعوبة والتعقيد في بلدٍ لم يشهد يوماً من الاستقرار منذ استقلاله عام 1956.
ومن هنا تأتي أهمية هذه الانتخابات والتي يعلق عليها الكثير في الداخل والخارج أمالاً عريضة لترسيخ الاستقرار والتداول السلمي للسلطة بعيداً عن العنف والإعتساف, باعتبارها الآلية الناجزة لإنفاذ التحول الديمقراطي, بعد مرور 42 عاماً (1968 _ 2010) من النظم الشمولية و21 عاماً (1989 _ 2010) من القبض السلطوي وما صاحبها من ضغوط دولية على نظام البشير تركت بصماتها في تفجير العديد من الأزمات المهددة بتشظي هذا البلد أو إعادته إلى مرحلة الاستعمار, في حين لا يزال النظام يراهن على ترابط آلية المصالحات واتفاقيات السلام والتحول الديمقراطي والطفرة النفطية ووحدة كيان البلد لمواجهة الضغوط الخارجية والسيناريوهات الداخلية النازعة إلى الإنفصال.
محطات انتخابية
خاض السودان في تاريخه الحديث خمس انتخابات رئيسية لاختيار أعضاء البرلمان الوطني وثمان انتخابات فرعية, غير أن الانتخابات الحالية مختلفة كلية عن سابقاتها من حيث الأهداف والمقاصد والتحديات والتعقيدات والتداعيات المترتبة عليها, خصوصاً وأنها تجري على ستة مستويات وبثلاثة أنظمة انتخابية مختلفة بالتزامن, يختار من خلالها الشعب رئيس الجمهورية ورئيس حكومة الجنوب وحكام الولايات الـ25 والبرلمان الوطني والبرلمان الجنوبي وبرلمانات الولايات, وبالتالي تصويت الناخبين البالغ عددهم 16 مليوناً في الشمال ثمان مرات وفي الجنوب 12 مرة وعلى مدى ثلاثة أيام 11-13 أبريل, وهي مسالة معقدة للغاية في الدول المتقدمة التي تكاد الأمية فيها شبه منعدمة, فكيف سيكون الحال في بلد كالسودان يعد الأكبر مساحة على مستوى أفريقيا وتصل فيها نسبة الأمية إلى 85% وسط انعدام الإمكانيات لسيطرة أجهزة الدولة على الأوضاع خلال الانتخابات, في ظل القلاقل والاضطرابات المستمرة والمتجددة في الجنوب ودارفور وكردفان, ناهيك عن الجدل المحتدم بين القوى السياسية وتقاذف الاتهامات حول نزاهة الانتخابات من عدمه بالتوازي مع تعالي أصوات المقاطعة والانسحاب بعد فشل مطالب التأجيل أو الإلغاء لهذا الاستحقاق.
فيما يتعلق بالأنظمة الانتخابية تستخدم الانتخابات النظام المختلط أي الأغلبية المطلقة 50% زائد واحد لفوز رئيس الدولة ورئيس حكومة الجنوب والأغلبية البسيطة لاختيار حكام الولايات، وبالتالي فالسودان دائرة واحدة فيما يتعلق برئيس الجمهورية والجنوب بولاياته العشر دائرة واحدة فيما يتعلق برئيس حكومته والولاية دائرة جغرافية لاختيار الوالي.
على صعيد البرلمانيات تم توزيع مقاعدها بمختلف مستوياتها بواقع60% دوائر جغرافية و25% تمثيل نسبي للمرأة و15% تمثيل نسبي لقوائم الأحزاب ومعلوم أن البرلمان الوطني مكون من 450 مقعداً منها 270 مقعداً جغرافية و112 محجوزة للنساء و68 لقوائم الأحزاب التي يتجاوز عددها 31 حزباً متنافساً, لكن الفاعلة منها لا تتجاوز الستة أحزاب, في حين يضم برلمان الجنوب 170 مقعداً بينما تم تحديد 48 مقعداً للولايات قد تزيد أو تنقص تبعاً لتعداد كل ولاية.
واللافت هنا اكتساب هذه الانتخابات لدعم أميركا والاتحاد الأوربي لأول مرة خارج إطار العمل الإنساني, سواء كان مادياً أو فنياً أو سياسياً, نظراً لأهمية هذه الانتخابات على صعيد تهيئة الأجواء لاستفتاء تقرير مصير الجنوب, المتوقع إجرائه في كانون الثاني/ يناير 2011, وإقرار البرلمان المنتخب لأول دستور دائم للبلاد, بعد مرور خمس سنوات من المرحلة الانتقالية وتقاسم السلطة والثروة بين المؤتمر الوطني في الشمال والحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب, بموجب اتفاقية نيفاشا للسلام الشامل بين الشمال والجنوب المبرمة في 9 كانون الثاني/ يناير 2005 والتي بموجبها تم وضع حد لنحو 22 عاماً من الحرب الأهلية.
ومعلوم أن اتفاقية السلام الشامل المنجزة حينها بناءاً على وساطة أميركية ركزت على مسألتين هما إجراء انتخابات عامة واستفتاء الجنوب من ضمن عدة مبادئ على رأسها التحول الديمقراطي لإحلال سلام حقيقي وطوي المرحلة الانتقالية والتوصل إلى صيغة عادلة لاقتسام السلطة والثروة والتأكيد على أهمية دور الرقابة المحلية والإقليمية والدولية في ضمان نزاهة الانتخابات, على أن الأهم ربط الاتفاقية إجراء الانتخابات بإجراء الاستفتاء, ولعل هذا هو السبب الحقيقي من وراء الدعم الأميركي والإصرار الغربي على إجراء الانتخابات في موعدها وبالتالي سحب الحركة الشعبية لمرشحها الرئاسي وانقسام المعارضة على نفسها.
كما أن الأحزاب الملوحة اليوم بالمقاطعة أو الانسحاب هي ذاتها التي قاطعت انتخابات 1996 و2000 الرئاسية والبرلمانية، وفضّلت بالتالي الانكفاء على نفسها بعد أن كانت متصدرة المشهد السياسي والحكم قبل ثورة الإنقاذ التي قادتها الجبهة القومية الإسلامية بزعامة عمر البشير وحسن الترابي وذلك في عام 1989, ما جعلها تراهن اليوم على إسقاط نظام البشير الذي تصفه بالبوليسي, وهو رهان يعكس عدم ثقتها وخوفها الدائم من هذا النظام مقابل تزايد ثقة النظام بنجاحه في الانتخابات واستمراره في السلطة والحصول على التفويض الشعبي اللازم, ومن ثم عودة هذه الأحزاب إلى التخفي ثانية.
سيناريوهات ملغومة
بعد مرور عام من الجدل الداخلي على إجراء الانتخابات من عدمه, وبالنظر إلى جوهر الخلاف, فالملاحظ اقتصاره على الجانب الإجرائي دون التركيز على أصل المشكلة, وهي: "كيف يمكن إجراء انتخابات وطنية شاملة, دون أن يكون هناك إجماع وطني, على عمل مشترك", ذلك أن المعارضة لا تريد أن تمنح الحكومة شرعية الاستمرار من خلال التحكم في مفوضية الانتخابات والسيطرة على مراكز النفوذ والحكومة لا تريد أن تجد نفسها في وضع تهتز فيه سلطتها والإقرار بأن دورها قد انتهى.
إذن فمشكلة هذا البلد تكمن أساساً في غياب التوافق الوطني الذي يقرر فيه الجميع أنهم يريدون العيش في إطار دولة موحدة قبل التفكير في تحديد الوسائل التي يحكمون بها بلادهم.
وهو ما يجعل من المرحلة المقبلة مليئة بالكثير من الألغام والأزمات والصراعات على نتائج الانتخابات خصوصاً وأن الحراك الأميركي حتى الآن لا يزال عاجزاً عن إزالة عوامل التوتر من الأجواء السياسية رغم نجاحه في شق صفوف المعارضة, ومما يزيد الوضع تعقيداً أن اتفاق التسوية بشأن دارفور لم يدخل بعد مرحلة التنفيذ, في حين لا يزال اتفاق السلام مع الجنوب ناقصاً ومحاطاً بالكثير من التباينات السياسية, بالتوازي مع توجه الحركة الشعبية إلى تركيز كل مواردها ومناوراتها للفوز بمقاعد تقودها إلى تشكيل حكومة دولة الجنوب المستقلة.
وهذا يعني في مجمله أن الوضع السوداني مفتوح منذ الآن على انتخابات مشكوك فيها, فضلاً عن أنه مفتوح على طلاق بين الشمال والجنوب والذي سيكون هذه المرة بائناً بينونة كبرى.
وتبقى نقطة التلاقي الوحيدة بين السودانيين وهي الاقتناع بفداحة تجدد الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب إذا تجددت وهو مستبعد طبعاً, وفداحة استمرار الكارثة في دارفور, وما يترتب على الحرب والكارثة معاً من تداعيات تضع هذا البلد على أعتاب حقبة تاريخية جديدة, لن تنفع معها مساحيق التجميل, في بلد يدل كل شيء فيه على أنه يعيش في أزمة حقيقية تستدعي ضرورة العمل لتمكينه من تجاوزها بأقل الأضرار والخسائر, وفي مقدمتها انقسامه إلى شطرين بعد عهد قصير من تجربة سودان واحد بنظامين, وما لذلك من استحقاقات ومقتضيات كل واحدٍ منها كفيل بإشعال فتيل حرب جديدة قطعاً ستكون معها الحرب الأهلية المريرة التي مر بها السودان مجرد نزهة قصيرة.
وعموماً تشير التوقعات إلى فوز البشير بالأغلبية المريحة في الجولة الأولى وفشل رهانات المعارضة على إجراء جولة ثانية, تقف فيها خلف الصادق المهدي لمواجهة البشير, والذي يبدو أنه سيكون أكبر الخاسرين في الانتخابات الرئاسية.
والملاحظ هنا أخذ الانتخابات الرئاسية طابعاً قومياً تتلاشى فيه القبيلة أو قد تزدوج فيه الانتماءات عكس انتخابات حكام الولايات في بلد لا زالت القبيلة تلعب فيه دوراً محورياً.
ومن التوقعات أيضاً تراجع شعبية حزب الأمة القومي في دارفور لصالح المؤتمر الشعبي والذي يعد في نظر الكثير من المحللين الوجه الأخر لحركة العدل والمساواة، وبالتالي استفادة الشعبي من انشقاقه عن حليفه البشير ووضوح موقفه منذ البداية حول المشاركة في الانتخابات وهو ما يجعله متصدراً لقائمة الرابحين في هذه الانتخابات على الصعيد الولائي والتشريعي مقابل خسارة المؤتمر الوطني لبعض الولايات والحصول على مقاعد مقبولة في البرلمانيات تعوض خسارته في ولاة الولايات وعدم حصوله على الأغلبية المطلقة في الرئاسيات وكل هذا سيمكن المؤتمر الوطني من الانفراد بالمشهد السياسي في الشمال والتحكم الكلي في آلية إعادة رسم المعادلة السياسية الشمالية بصورة تتيح له حرية التحرك والمناورة على صعيد استفتاء الجنوب وإكمال مشروع المصالحات واتفاقيات السلام في الشمال ومواجهة الضغوط الدولية وفي مقدمتها مذكرة الاعتقال الصادرة بحق البشير.
لكن في بلد كالسودان لا تحكمه الولاءات السياسية وحدها بل هناك الولاءات القبلية والمناطقية وولاءات المصالح وما أكثرها, كل هذا يجعل من عامل المفاجآت سيد الموقف والثابت الوحيد في هذا البلد, وهذا لا يعفي قادته من الإقرار بأن الانتخابات بكل عيوبها تظل مصلحة جماعية وضرورية لقيادة البلاد إلى مستقبل أفضل تسوده روح التفاوض والحوار الوطني والعيش المشترك وليس الصراع وما لم تستوعب قواه السياسية هذه المعادلة فإن نُذر أزمة عاصفة تلوح في الأفق, كما أن نزوع بعض أطيافه إلى الكمال على افتراض حسن النية, نزوع مشروع, لكن أين هو الكمال في تجارب العالم الديمقراطية على مدى التاريخ العريض, إذن فما يشهده السودان اليوم تجربة متقدمة وخطوة للأمام تبدو ضرورية لأهميتها في تكريس المصالحات وتعزيز الوحدة الوطنية ووضع الأمور على سكة الحلول وإعادة بناء الثقة.
Al-mahbashi@maktoob.com
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)