اليمن وإيران .. حاضر مثقل بالتاريخ
زيد يحيى المحبشي
منذ الوهلة الأولى لظهور حركة التمرد "الحوثية" بصعدة في حزيران/ يونيو 2004, تكشّفت العديد من الحقائق حول مصادر التمويل والتسليح والأهداف والمطالب المؤدلجة والمتناقضة في ذات الوقت, مثيرة في طريقها تساؤلات لم يعد بالإمكان تجاهلها, لاسيما فيما يتعلق بالأسباب الدافعة بهذه الجماعة إلى الواجهة, بالصورة التي أضحت معها واحدة من أكثر التحديات الداخلية تعقيداً وخطورة على حاضر ومستقبل اليمن.
إن قراءة سريعة لخلفية الصراعات المحلية التي شهدتها اليمن في مراحلها التاريخية المختلفة, توحي بأنها في غالبها كانت تتخذ طابع الصراع الديني والظلم الاجتماعي, فيما كانت محركاتها خارجية بامتياز,لأهداف لا تمت للدين والظلم الاجتماعي بصلة, ما يشي بأن التمرد الحوثي اليوم مجرد أداة, تم اختيارها بعناية فائقة للقيام, بدور محدد ضمن سيناريو قديم متجدد, غايته تقسيم اليمن وتفكيكه وإبقائه في متوالية التجزئة ومحرقة الصراعات الداخلية, وتحويل مثيري الفتن الداخلية إلى بيادق وأداة سياسية بيد المخططات الكبيرة, الرامية في طابعها العام إلى إعادة إنتاج واقع إقليمي جديد, انطلاقاً من اليمن هذه المرة, بعد أن تسنى لهم ذلك في العراق,على أن هؤلاء والجهات الواقفة ورائهم قد غفلوا حقيقة في غاية الأهمية, هي أن التدخل في شؤون الأخرين لا يجلب سوى الخيبة والفشل.
لم يعد سراً، إن إيران تحاول أن توجد لها موطئ قدم في المنطقة، وهو أمرٌ لا يخفيه المسؤولون الإيرانيون الذين يعتقدون بدور أكبر لبلادهم في قضايا المنطقة، غير أن المشكلة أن هذه الطموحات الإيرانية في بعض الاحيان تصطدم بمصالح شعوب المنطقة، ولعل الشعب اليمني أحد المتضررين من هذه السياسة الإيرانية فيما له صلة بدعم متمردين يساهمون في زيادة معاناته.
حاضر مثقل بالتاريخ
تاريخياً كان موقع اليمن الجيوإستراتيجي أحد الاسباب التي أدت إلى أن تكون البلاد ساحة للصراعات الدولية وحلبة لتصفية الحسابات الإقليمية, وتعد هذه السمة هي الغالبة في التاريخ اليمني منذ مطلع القرن الأول قبل الميلاد عندما شرع الفرس والروم في اللعب بالورقة الدينية عبر دعم إيران لليهود والرومان للنصارى, كجسر عبور لتحقيق الأغراض التجارية المتمثلة في تجارة البحر الأحمر, والذي كانت نتيجته استيلاء فارس في القرن السادس الميلادي على اليمن.
على أن ظهور الإسلام لم يحد من الأطماع الخارجية بما فيها الطموحات والأطماع الفارسية وبذات اللعبة القديمة المتمثلة في تغذية الصراعات السياسية والدينية- المذهبية والطائفية- إذ شهد العام 816 م ظهور إبراهيم بن موسى الكاظم الملقب بالجزار في المسرح السياسي اليمني, والمتمكن بالتعاون مع بقايا الفرس- الأبناء- من قتل أعيان قبائل خمر وحرف سفيان وصعدة, بتهمة الولاء للدولة العباسية, فسِّير المأمون العباسي للقضاء عليه رجلاً من فارس يدعى محمد بن عبدالحميد الرازي.
وتكمن أهمية حركة الجزار في التمهيد لانخراط الطبريين الزيدية الآتين من فارس في دعوة الهادي يحيى بن الحسين المؤطرة لبروز الدولة الزيدية الأولى باليمن عام 900 م, بالتوازي مع نجاح الناصر الأطروش في إقامة دولة زيدية ثانية بالجيل والديلم من فارس, في حين شهد عهد عبدالله بن حمزة (1187 – 1217م ) قيام فتنة مذهبية بجبال الشرف ترأس حربتها إمامي إثنى عشري فارسي, ما استدع رد ابن حمزة عليه في رسالة مفصلة" في الرد على الإمامي صاحب الشرف" وقيام حرب ضروس.
وفي ظل الدولة الصفوية _ والمنسوب إليها الفضل في الاستقلال بفارس بعد أن كانت دولة تابعة ومفككة , وإعادة إحياء الدور الذي كانت تمارسه قبل الإسلام, وجعل الإثنى عشرية المذهب الرسمي للدولة, لأول مرة منذ انهيار الدولة العباسية - كانت هناك علاقات وثيقة مع الدولة القاسمية باليمن بدأت فصولها بالود وانتهت بالمصادمات العسكرية، وتحديداً في حقبة المتوكل إسماعيل ابن القاسم 1644- 1676م وعباس الثاني الصفوي 1642- 1667م, على خلفية طلب عباس الثاني من المتوكل في العام 1665 مؤازرته في الهجوم على الدولة اليعربية بعمان, المنافسة للتجارة الفارسية, إلا أن المتوكل اعتذر عن ذلك, خوفاً من تغذية اليعاربة لطموحات الانفصال بحضرموت, ما أدى إلى إرسال حملة عسكرية صفوية في 1668م للاستيلاء على المخا انتهت بالفشل.
واللافت هنا قيام الدولة الصفوية في بدايات اشتداد عودها بتصفية زيدية إيران, وكانت الغالبة وقتها, وطمس معالمها بصورة وحشية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً, بالتوازي مع استمرار الصفويين في تغذية التطرف والمغالاة واصطناع الفتن المذهبية في اليمن, ففي عهد المنصور الحسين بن القاسم بن الحسين بن أحمد بن الحسن ( 1726 – 1748م ) ظهر رجلٌ يدعى يوسف العجي الفارسي بصنعاء, مثيراً فتنة كبيرة أدت إلى طرده خلال حكم المهدي عباس بن الحسين (1748 – 1775م).
بعد استقلال شمال اليمن عن الدولة العثمانية قام الإمام يحيى بإرسال ولده الحسين إلى طهران عام 1938 للتشاور حول إقامة علاقات معها, توجت بتبادل التمثيل الدبلوماسي في أواخر عهد الإمام أحمد, في الوقت الذي كانت فيه إيران تسعى إلى ممارسة دور الشرطي على الخليج بالتعاون مع الغرب, ودون إغفال اليمن من حساباتها, بدلالة محاولتها إحباط ثورة 26 سبتمبر, عندما سارعت إلى تقديم الدعم لقوى الرجعية 1963- 1968 ممثلة بمحمد بن الحسين, ومدِّها بالمال والسلاح, وإرسالها عدداً من المرتزقة بقيادة الميجور محمود إلى جبال سفيان وصعدة, وبعد فشل الرجعيين اعترف الشاه محمد رضا بهلوي بالنظام الجمهوري في 9 سبتمبر 1970, لكن علاقات صنعاء وطهران سرعان ما عادت إلى التوتر على خلفية علاقات الشاه بإسرائيل ورفض صنعاء الهيمنة الإيرانية على المنطقة وبالتالي تأييدها الثورة الخمينية.
قيام الثورة الإسلامية في 1979م لم يغير من الصورة شيئا, باستثناء استبدال إستراتيجية الشرطي الإقليمي بإستراتيجية تصدير الثورة, ما أدى إلى طرد السفير الإيراني من صنعاء في ديسمبر 1981 لقيامه بممارسات معادية, وبالتالي إعلان صنعاء وقوفها إلى جانب العراق في حربها مع إيران, لتشهد العلاقات بعد قيام الوحدة تحسناً ملحوظاً قبل أن تعود إلى دائرة التوتر, إثر ظهور حركة التمرد "الحوثية" بصعدة في العام 2004, بالتوازي مع موقف اليمن الرافض للحرب الأميركية على العراق, والذي أثار استياء العديد من القوى الشيعية العراقية ما دفعها إلى دعم ومساندة "الحوثي" .
ما يهمنا من العرض السابق أن لإيران بغض النظر عن هوية وشكل النظام الحاكم, سياسات إقليمية ثابتة, محركاتها المصالح القومية والأوهام التاريخية, الدافعة بها على الدوام إلى توسيع النفوذ في الجوار الجغرافي والهيمنة, وعوامل تغذيتها الأهداف والمصالح الأيديولوجية, المتمثلة في استغلال الحركات الإسلامية والتي كانت ولا زالت تشكل عائقاً كبيراً أمام وجود علاقات إيرانية عربية سلسة.
الورقة "الحوثية" باليمن تظل نموذجاً فاقعاً للدور الإيراني, سواء في مراحل التكوين أو التثوير أو التحفيز والدعم بأشكاله, في خطوة مكشوفة لتسييس وترويض زيدية اليمن, واستغلالهم ضد مؤسسات الدولة, ليسهل على إيران التغلغل وتمرير مشروعها التوسعي في المنطقة, على حساب اليمن وأمنه واستقراره.
لكن ما لا يعرفه الكثير عن الحميمية المفاجئة تجاه زيدية اليمن, هو أن دافعه عائدٌ إلى العداء التاريخي بين الإثنى عشرية والزيدية والاختلافات الفاقعة في الكثير من القضايا الدينية الأصولية والفقهية , والتي دفعت بالكثير من علماء الزيدية إلى نسف وتعرية الكثير من المعتقدات الخرافية للجعفرية, بصورة جعلت من صهر جليد التباينان المذهبية بينهما أمراً مستحيلاً, ولذا تم التوجه إلى استغلال السذاجة الحوثية, أملاً في تحويل مستحيل الأمس إلى ممكن اليوم.
يأتي هذا في سياق مساعي إيران لتوحيد شيعة العالم تحت قيادتها بطوائفهم المختلفة حسب نص المادة 15 من دستورها, والذي بدأته عملياً في العراق, بالتوازي مع غياب أي مشروع عربي مناهض للأسف الشديد, وهذه النقطة تحديداً إحدى مقومات دعائم المشروع التوسعي الإيراني.
شواهد على الطريق
في محاضرة له بمنتدى الأحمر 12 تشرين أول/ اكتوبر 2009 خلُص الدكتور أحمد الدغشي إلى وجود عدة عوامل تداخلت في "الحوثية" تترابط في بعضها وتتناقض في أخرى منها التناقض بين الأيديولوجيا والمنافع المتنافرة وبين البعد السياسي ومذهبية التسييس وبين إعلان الاستقلال والتحرر من ربقة الهيمنة الفكرية والفقهية الوافدة مع الإرتباط ببعض القوى والمؤثرات الإقليمية والخارجية.
وفي حين ينفي الدغشي عن المؤسس الأول لحركة التمرد تهمة التحول إلى مذهب الإثنى عشرية، وبالتالي تصنيفه في خانة الجارودية المتشددة والمتلاقية مع الإثنى عشرية في العديد من النقاط، لكنه لا ينفي تأثره بالأفكار الثورية الخمينية في بعدها العالمي, بدلالة موقفه المعارض لمساندة صنعاء للعراق في حربها مع إيران ومشاركة بعض الرموز الفكرية "الحوثية" في مؤتمر توحيد الشيعة بطهران في 1986، وتقاربها مع الكثير من الأفكار المذهبية الإيرانية، وصولاً إلى مساندة ودعم إيران لمؤسس التمرد الأول في 1997 وما بعدها مقابل التغاضي عن نشر الإثنى عشرية باليمن سواء عبر الوافدين العراقيين أو الإيرانيين خلال عقد التسعينيات من القرن العشرين، والتي مهدت بصورة لافتة لتحول التيار "الحوثي" من حركة فكرية سياسية إلى حركة مسلحة حنينية إلى الماضوية, الأمر الذي جعل من المذهب الزيدي المعروف بتسامحه وانفتاحه وآفاقه العالمية الواسعة الضحية الأولى لصالح أهداف وأجندة خارجية مشبوهة.
ورغم نفي السلطات الإيرانية المتكرر خلال حروب صعدة السابقة أي علاقة لها بحركة التمرد ومساندتها ودعمها، فقد أبرزت الحرب السادسة العديد من الشواهد المؤكدة عكس ذلك تماماً على الأقل فيما يتعلق بتعامل الإعلام الإيراني الرسمي ليس مع أحداث صعدة فحسب، بل ومع الشأن اليمني بملفاته المتعددة والمعقدة بصورة لا تمت للحيادية والموضوعية بصلة بما في ذلك محاولة توظيف أزمة اليمن لتصفية الحسابات الإيرانية مع أميركا ودول الخليج العربي على خلفية الفهم الإيراني المغلوط وغير المبرر لعلاقات اليمن الخارجية ومواقفها القومية.
كل هذا يثير التساؤل عن الخلفية الحقيقية لدخول إيران في اللعبة اليمنية بكل قواها ومعاودتها ممارسة دور الشرطي الإقليمي وإعطاء نفسها حق تقرير ما يجب عمله وما لا يجب عمله على الآخرين.
بالعودة إلى ديناميكية محركات ومنطلقات النظرية التوسعية الإيرانية منذ ما قبل الإسلام وحتى يومنا, يمكننا الوقوف على الدافع الحقيقي لاختيار اليمن كمحطة ثانية بعد العراق لاختبار الأجندة الإيرانية , وهو قيام تلك النظرية على قاعدة أن السيطرة والهيمنة والنفوذ على المنطقة العربية عامة والخليج خاصة, لن يتأتى إلا بالسيطرة وفرض النفوذ على اليمن.
ومعلومٌ أن لإيران طموح قديم متجدد في الوصول إلى البحر الأحمر وخلق تمدد شيعي يجد له مكاناً في تقسيم اليمن، ثم ينتقل إلى توسع أكبر ليشمل السيطرة على جنوب وشرق الجزيرة العربية متعانقاً مع الهيمنة الشيعية بالعراق, بما يضمن في خاتمة المطاف سهولة التغلغل الإيراني داخل البؤر المتوترة بالشرق الأوسط والتحكم في أوراقها, في سباق مع الزمن للتأكيد على أنها أصبحت رقماً شيعياً وقوة إقليميةً لم يعد بالإمكان تجاوزها.
وفي هذا السياق نشر موقع المحرر العربي بتاريخ 24 كانون الأول/ ديسمبر 2006 عدة وثائق صادرة عن الدائرة السياسية لمنظمة بدر التابعة لتيار عبدالعزيز الحكيم بالعراق, وسنكتفي هنا بالوقوف على وثيقتين منها ممهورة بتوقيع الحكيم بتاريخ 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 2006, تضمنت الأولى الحديث عن إنجازات شيعة العراق والتحالفات التي عقدتها دول عربية عدة مع أميركا لتغيير معالم الخارطة السياسية للعراق والمنطقة بهدف تهديد وجود الشيعة وكيانهم ومستقبلهم في الشرق الأوسط والقضاء على مخططاتهم وأهدافهم المصيرية خالصة إلى ضرورة التوجه للترويج إعلامياً لمظالم الشيعة، وهو ما تم تفصيله في الوثيقة الثانية الصادرة بناءاً على توجيه خامنئي على خلفية إنعقاد مؤتمر شيعي موسع بـ"قم" تم فيه الدعوة لإنشاء منظمة المؤتمر الشيعي العالمية مقرها إيران وفروعها في كافة أنحاء العالم ومهمتها دراسة وتحليل الوضع الإقليمي الراهن والاستفادة من التجربة الشيعية العراقية وتعميمها على السعودية واليمن والأردن ومصر والكويت والإمارات والبحرين والهند وباكستان وأفغانستان وبناء قوات عسكرية غير نظامية لكافة الأحزاب والمنظمات الشيعية بالعالم، وتخصيص ميزانية خاصة لتجهيزها وتسليحها وتهيئتها لدعم وإسناد الشيعة في السعودية واليمن والأردن , ودعم متطلبات المؤتمر الإدارية والإعلامية والعسكرية, من خلال إنشاء صندوق مالي عالمي مرتبط برئاسة المؤتمر وتفتح له فروع في أنحاء العالم, تكون موارده من الأموال التي تجمعها الحكومات العرفية وتبرعات التجار وزكاة الخمس, وتشكيل لجنة متابعة مركزية لتنسيق الجهود في كافة الدول وتقويم أعمالها ومتابعة الدول والسلطات والأحزاب وشن حرب شاملة ضدها في كافة المجالات!!.
لذا لم يكن من قبيل المصادفة أن يشكل هذا التوجه الخطير واحدة من أهم القضايا الخلافية التي طفت على السطح بين الإصلاحيين والمحافظين في الإنتخابات الرئاسية الإيرانية الأخيرة؛ من ذلك اعتبار محمد خاتمي تصدير الثورة من خلال إرسال السلاح والفوضى إلى الدول الأخرى مخالفاً لمبادئ الثورة ولا يخدم المصالح الإيرانية وتوجيه كروبي وموسوي خلال حملتهما الانتخابية انتقادات لاذعة لإدارة نجاد بسبب دعمها للحركات الدينية خارج إيران.
إذن فما تواجهه اليمن اليوم ليس سوى خديعة كبرى واجهتها مذهبية وخلفياتها سياسية تآمرية ترمي إلى استنساخ السيناريو العراقي بصورة تضمن عدم بقاء اليمن موحداً وقوياً وناهضاً وداعماً لقضايا أمته، وفاعلاً في محيطه العربي والإقليمي وصولاً إلى إدخاله في آتون لعبة لا ناقة له فيها ولا جمل وساحة مجابهه إقليمية - دولية لتصفية حسابات الآخرين.
وفي هذا مدعاةٌ لوجوب الاصطفاف الوطني أكثر من أي وقت مضى وتراص الصفوف لوأد الفتنة المذهبية والجهوية والقاعدية، ومنع التدخلات الخارجية تحت أي مسمى كان كون المستهدف ليس شخص رئيس الدولة ولا الحزب الحاكم بل اليمن ككل.
Developed by www.ssc4it.com
مدونة شخصية تهتم بنشر بعضاً من كتابات ودراسات وخواطر وأبحاث واقتباسات الباحث والكاتب زيد يحيى حسن المحبشي
Translate
الاثنين، 4 يناير 2010
الثلاثاء، 29 ديسمبر 2009
الأجندة المتصارعة في القرن الإفريقي
زيد يحيى المحبشي
منذ قديم الزمان ومنطقة القرن الإفريقي حاضرة بقوة في أجندة الأطماع الدولية الاستعمارية, ولذا كانت ولازالت واحدة من أكثر المناطق سخونة على ظهر البسيطة وسط غياب التوازنات وتسيُّد الفوضى الإقليمية وهي الضريبة الطبيعية لاستحقاقات لعنة الجغرافيا الجاعلة من هذه المنطقة بمثابة مجمع الأمن الإقليمي وبوابة العبور الوحيدة نحو عمق القارة السمراء والعالم باعتبارها تطل على البحر الأحمر وخليج عدن والمحيط الهندي وتتحكم في طريق الملاحة البحرية بين الشرق والغرب بشقيها العسكري والاقتصادي ، حيث بوابة الدموع- مضيق باب المندب- في حين مثّل اكتشاف النفط في الخليج العربي والنفط الإفريقي الواعد عاملاً إضافياً ومبرراً كافياً لدخول لاعبين جدد على الخط لمزاحمة أوربا في مناطق نفوذها التقليدي ولكل واحد منهم أسبابه وممارساته وسياساته وطموحاته لتمكين نفوذه وفرض أجندته .
هذا التسابق المحموم على المنطقة وصل ذروته في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة وبروز ما بات يعرف باللعبة الكبرى فيما يتعلق بإقامة مشروعي الشرق الأوسط الكبير والقرن الإفريقي الكبير وكلاهما مكملان لبعضهما البعض كون القاسم المشترك بينهما الرغبة الجامحة في إعادة تشكيل وترتيب خارطة التوازنات والتحالفات الإقليمية على ضوء المعطيات والتحولات الميدانية التي شهدتها منطقتي الشرق الأوسط وشرق إفريقيا خلال العقدين الأخيرين حيث قضايا الصراع مازالت في معظم دولهما ساخنة ومرشحة للمزيد من التعقيد والتناسل والتفريخ خصوصاً دول شرق إفريقيا بما تموج به من أزمات داخلية وصراعات حدودية وعرقية وطائفية وتدفق مخيف للسلاح وتزايد حالات الانفصال والأعمال الإرهابية ناهيك عن الصراعات الخفية الناشبة على أطراف ونقاط التماس العربي الإفريقي بين الإسلام والمسيحية ما بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 وما صاحبها من تنامي لدور القوى الإسلامية المتطرفة وتزايد العمليات الإرهابية للقاعدة وبروز إيران كلاعب رئيسي في القرن الإفريقي بالتوازي مع تراجع النفوذ الأوربي لصالح تعاظم الوجود الأميركي والإسرائيلي .
الصورة بمفرداتها المتنافرة والمتصادمة شكلت بيئة مناسبة لتبلور المشاريع الدولية والإقليمية بما لها من تفاعلات وتأثيرات بدت بصماتها واضحة فيما تشهده المنطقة من تحولات إستراتيجية عميقة قد ترسم ملامحها للعقد القادم، ولاشك بأن اهتمام وسائل الإعلام والمراكز البحثية الغربية المتزايد خلال السنوات الأخيرة بالمنطقة لم يأتي من فراغ بل هو إيحاء مباشر للتأكيد على أن ما يجري ليس سوى مقدمات لتحولات وترتيبات ما تخدم واضعيها ولا تخدم المنطقة وشعوبها بما لذلك من آثار كارثية على منظومة الأمن القومي الإفريقي والعربي على حد سواء.
يأتي هذا التحول في وقت لم يعد التأثير الإسرائيلي فيه على السياسة الأميركية مقتصراً على القضية الفلسطينية ومنطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بل تعداها منذ زمن مبكر إلى البحر الأحمر والقرن الإفريقي لتكتمل بذلك دائرة التدويل للممرات المائية ومنابع نهر النيل والفاشية الإسلامية والأزمات المتناسلة من رحم التدخلات الخارجية وتنور مشاريع التغيير وأجندة الصراعات في ظل ما نشهده من تحولات وتقاطعات للمصالح الإقليمية والدولية وغياب فاقع لأي معيار ناظم لوجود أية قوة إقليمية قادرة على إعادة التوازن والأمن والاستقرار .
في هذه الوقفة السريعة سنحاول مقاربة السيناريوهات المحتملة لطبيعة هذا الصراع واحتمالات المواجهة أو التوافق وتحديداً فيما يتعلق بالمشاريع ذات التأثير المباشر على المنطقة كالأميركي والإسرائيلي والإيراني على هناك مشاريع منافسة كالصيني والأوربي والروسي لكنها تظل فرعية وذات تأثير منخفض كما أنها بشكل أو بأخر مشاريع تابعة في قوة التأثير على ديناميكية تفاعل المشاريع الرئيسية .
تجدر الإشارة أيضا إلى أن هناك توافق عجيب فيما يتعلق بتنامي ظاهرة القرصنة والإبقاء على حالة الفوضى والصراع ولكن في حدود تحول دون خروج الأمور عن السيطرة وكذا فيما يتعلق بحدود النفوذ والوجود ومساعي السيطرة على القرن الإفريقي والبحر الأحمر وباب المندب والمياه الإقليمية للمنطقة والاستفراد بثرواتها الطبيعية لكن ذلك يبد على النقيض تماما فيما يتعلق بالإرهاب والجماعات الإسلامية والقاعدة والتوازنات والتحالفات التي يجب أن تكون عليها المنطقة .
الأجندة الأميركية
لم تشغل المنطقة لسنوات طويلة حيزاً كبيراً في دائرة اهتمامات السياسة الأميركية الخارجية رغم وجودها القديم بهذه المنطقة حيث لم تكن تجد في النفوذ الفرنسي أو البريطاني تهديداً مباشراً لمصالحها لاسيما وأن النفوذ البريطاني ظل منساقاً ومتناغماً على طول الخط مع التوجهات الأميركية, غير أن انتهاء الحرب الباردة وسقوط القطبية الثنائية وبروز القطب الواحد فعودة تعدد الأقطاب مؤخراً وما صاحب ذلك من فشل ذريع للتدخل الأميركي المباشر على أكثر من صعيد دولي وانحسار نفوذه الكوني وظهور فاعلين دوليين وإقليميين لم يعد ممكنا تجاوزهم أو تجاهلهم وبروز مفاعيل جديدة لازمات لم تكن متوقعة بما فيها القاعدة والقرصنة وتنامي العداء واتساع رقعة الرأي العام المناهض للسياسات الأميركية، بما خلفته من مآسي وكوارث لم يعد بالإمكان حلحلتها ناهيك عن تداعياتها السلبية على المصالح الأميركية كل هذا كان مبرراً كافياً لتغيير بوصلة وأدوات التعاطي الأميركي ولكن بما يتلاءم وانجاز مشاريعه الكونية التي عجز عن تحقيقها بالتدخل العسكري المباشر أملاً في إعادة الوهج إلى القطبية الأحادية .
عوامل عديدة أدت إلى هذا التحول الطارئ أهمها: ازدياد أهمية المرتكزات الإستراتيجية التي تقوم عليها العلاقات الأميركية الإفريقية في عصر العولمة بما يتناغم مع محددات القرن الإفريقي الثابتة كالموقع والثروة وخطوط التجارة بما لها من أهمية في منظومة السياسة الكونية الأميركية، ناهيك عن تغير الرؤية الأميركية حيال الأزمات والصراعات التي تعاني منها المنطقة وإدراكها أهمية التركيز على المدخل السياسي والعسكري بما يخدم مصالحها الحيوية في منطقة القرن والبحيرات العظمى مستفيدة من فشل وإخفاق التركيز الأوربي على المدخل الاقتصادي والتنموي.
المشروع الأميركي في طابعه العام يطمح إلى حماية خطوط التجارة البحرية عبر المحيط الهندي والبحر الأحمر والوصول إلى مناطق الثروة ومصادر الطاقة ومحاصرة النظم غير الموالية واحتوائها ومحاربة التطرف والأصولية والحد من انتشار الأسلحة ودعم الأنظمة المتبنية للتصور الأميركي حيال الإرهاب خصوصاً وأن هذه المنطقة من المناطق التي تتكاثر فيها التهديدات لمصالح أميركا وحلفائها بصورة جعلتها ضمن الإستراتيجية الخاصة بالاحتواء خلال المرحلة المقبلة(2009 – 2015) .
آلية التنفيذ
مثلت عملية تفجير سفارتي أميركا في نيروبي ودار السلام في آب/ أغسطس 1998 وما صاحبها من ضربات عسكرية أميركية لمصنع الشفاء السوداني بدعوى استخدامه في صناعة أسلحة كيميائية لصالح ابن لادن نقلة نوعية على صعيد تزايد الاهتمام الأميركي بهذه المنطقة والمتعاظم بصورة لافتة ما بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 وما تمخض عنها من توجه نحو محاربة ما يسمى بالإرهاب ووضع السودان والصومال واليمن على قمة المرحلة الثانية لهذه الحرب بدعوى أنها توفر ملاذات آمنة للقاعدة وعناصرها الفارين من أفغانستان وبالتالي إنشاء قاعدة عسكرية أميركية في جيبوتي في حزيران/ يونيو 2003 وطرح مبادرة مكافحة الإرهاب في شرق إفريقيا وتأكيد مركزيتها في محاربة الإرهاب.
كل ذلك لم يكن سوى مقدمة لما هو اكبر من القاعدة والإرهاب وهو ما بدا واضحاً مع نهاية العام 2004م عندما أطلق البيت الأبيض مشروع القرن الإفريقي الكبير بالتزامن مع إعلان مشروع الشرق الأوسط الكبير والكشف عن التوجه لإنشاء القيادة العسكرية المركزية "آفريكوم" في شباط/ فبراير 2007م لتولي مهام على مستوى القارة الإفريقية باستثناء مصر, تمهيداً للانفراد الأميركي برقعة الشطرنج للشرق الأوسط والقرن الإفريقي والبحر الأحمر والبحيرات العظمى وهو طموح قائم ومستمر بغض النظر عن هوية حكام البيت الأبيض .
القرن الإفريقي الكبير في خضم الأحداث العاصفة بالمنطقة والسعي الأميركي المتواصل لاستغلالها لصالح أهدافه الإستراتيجية يبدو أنه سيكون من أكثر الساحات الكونية سخونة في العقد المقبل إذ من المتوقع حسب المصادر الأميركية أن يضم دول القرن الإفريقي التقليدية: جيبوتي والصومال وإثيوبيا وإريتريا وجنوب السودان بعد فصله المتوقع في استفتاء العام 2011 إلى جانب دول البحيرات العظمى: كينيا وأوغندا وتنزانيا والكونغو الديمقراطية وراوندا وبورندي .
القرن الإفريقي الكبير
في طابعه العام يحمل أبعاداً تتعدى توفير قاعدة إمدادات خلفية لمشاريع أميركا في الشرق الأوسط إلى إعادة ترتيب المنطقة بما ينسجم مع المصالح الأميركية الإستراتيجية في إفريقيا والشرق الأوسط وبما يكمِّل صورة الشرق الأوسط الكبير فيما يتعلق بخارطة النفط والغاز والإرهاب التي هي واحدة في مبانيها ومعانيها سواء في الشرق الأوسط أو أوراسيا أو شرق إفريقيا في حين نجد أن الإرهاب مجرد عامل تابع فيما النفط وهو الأساس في قائمة الاستثمارات الأميركية المستقبلية عامل مستقل والرهان هنا على النفط الإفريقي باعتباره المخزون الأكبر عالميا لاسيما في المنطقة الممتدة من السودان إلى سواحل كينيا وهو المحركة الأساسي لهذا المشروع.
في التفاصيل يطمح المشروع إلى الربط بين المناطق الحيوية ذات البعد الجيواستراتيجي كشرق إفريقيا والبحيرات العظمى بما يضمن الهيمنة على التفاعلات المستقبلية في هذا الجزء الهام من العالم على خلفية النجاح الأميركي النسبي في التركيز على المدخل السياسي والعسكري على حساب الفشل الاقتصادي والتنموي الأوربي بالتوازي مع توحد المخاوف الأميركية والأوربية من تنامي العلاقات الصينية الإفريقية ودخول إيران كلاعب أساسي وما ترتب على ذلك من تخفيف لحدة التنافس الأميركي- الأوربي في السنوات الأخيرة لصالح أميركا وتدعيم مواقفها في صراع الكبار وتحقيق رغبتها في الانفراد بالنفط الإفريقي ومحاصرة الإرهاب والدول المارقة كإيران وإريتريا ما بعد 2007 والرغبة في إقامة منطقة تحوي مجموعة المصالح الإستراتيجية الأميركية وتؤمنها .
المشروع الأميركي في بدايات ظهوره سعى إلى تحقيق هدفين هما: زيادة قدرات المنطقة في مجال إدارة الأزمات وحل الصراعات وتحسين الأمن الغذائي وهو ذات الطموح للمشروع الأوربي حيال شرق إفريقيا في 2006م لكنهما أصيبا بالفشل الذريع, ما دفع واشنطن إلى ابتكار آليات جديدة لتحقيق طموحاتها وأهدافها والتي صارت تستهدف إنشاء بنية تحتية لمصلحة شركات التعدين والنفط والصناعات العسكرية الأميركية والإسرائيلية وضمان الانفراد بالنفط باعتباره البديل المستقبلي لنفط الخليج العربي وبحر قزوين المهدد بالنضوب ومحاصرة نمو النفوذ الصيني والإيراني وخلق مناطق نفوذ تحقق المصالح الأميركية لاسيما وأن القرن والبحيرات لا يمكن فصلهما عن مجمل المصالح الأميركية في المنطقة برمتها .
الخطوط العريضة لمشروع القرن الإفريقي الكبير صحيح أنها متمحورة حول المصالح السياسية والعسكرية والاقتصادية بدرجة أساسية وقد حصلت واشنطن على الكثير من الامتيازات في هذا المجال لكن غير صحيح أن المشروع سيصيب في صالح شعوب المنطقة بدلالة عدم مغايرة محركاته الخفية لذلك الذي شاهدناه في الشرق الأوسط الكبير ما يعني أن الغاية من المشروعين تكميل عملية التقسيم الكانتوي للمنطقتين وإعادة رسم التوازنات الإقليمية وفقاً للمحددات الطائفية والعرقية في إطار إعادة النظر في تقسيمات اتفاقية سايكس بيكو وهو ما يكشف سر النزاعات العرقية والدينية التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الأخيرة والتي كان لأميركا وإسرائيل الدور الرئيسي في تأجيجها لاسيما تلك الناشبة بين المسيحية والإسلام .
ومعلومٌ أن دول منطقة القرن والبحيرات إما ذات أغلبية مسلمة كجيبوتي والصومال أو أغلبية مسيحية كأوغندا وكينيا أو مختلطة كأثيوبيا وتنزانيا وإريتريا كما تشكل قبائل التوتسي المسيحية امتداداً تداخلياً في معظم دول البحيرات ولها مساعي حثيثة لتحجيم قبائل الهوتو المسلمة التي بدأت تتراجع بصورة كبيرة أمام التوتسي بفعل الدعم الأميركي والإسرائيلي في وقت تشير فيه الإحصاءات إلى أن غالبية الصراعات المحلية ذات بعد ديني .
إذن فهناك مساعي واضحة لتغليب الكفة المسيحية على الكفة الإسلامية في منطقة القرن الإفريقي الكبير بدلالة ما نلاحظه من تحيز أميركي وغربي إلى جانب المسيحيين ورفع ممنهج لوتيرة الربط بين الإرهاب والإسلام رغم ذهاب الدراسات الغربية إلى أن المسيحيين كانوا أكثر تنفيذاً للعمليات الإرهابية وليس المسلمين كما هو الحال جيش الرب في أوغندا وهذا بدوره منسحب على أعمال القرصنة التي تم ربطها عن قصد مؤخراً بالإسلام وسط بروز المخاوف من توجه القوى الإسلامية الصومالية في حال استتب لها الأمر وتمكنت من إعادة توحيد الصومال تحت رايتها نحو تشكيل محور إسلامي ضاغط مع القوى الإسلامية السودانية على إثيوبيا الحليف الاستراتيجي لأميركا وإسرائيل والقائم عليها مزاد الرهان في إشراع الأبواب المؤصدة أمام المشروع الأميركي إلى جانب كينيا كما الرهان أيضا في قيادة الحرب بالوكالة على الإرهاب الإسلامي في شرق إفريقيا والحرب على الدول المارقة وتسهيل أي تحرك أميركي محتمل في حال تهديد المصالح الأميركية بالمنطقة والأهم ضمان أمن إسرائيل في مواجهة أي احتمالات مستقبلية لفرض قيود على مضايق البحر الأحمر والملاحة فيه .
قاعدة آفريكوم
عوامل عديدة أدت إلى التوجه لإنشائها وجعل إحدى دول القرن الإفريقي المقر الرئيسي لها أهمها: فشل التدخل العسكري في الصومال وفشل التدخل بالوكالة أيضا عبر إثيوبيا وتمكن إيران من تحويل نقاط الإخفاق الأميركية إلى مكاسب سواء فيما يتعلق بنسج علاقات وطيدة مع السودان أو متنامية مع اريتريا وعدد من الفصائل الإسلامية الصومالية بالتوازي مع تنامي أعمال القرصنة وظاهرة الإرهاب الدولي في الصحراء الإفريقية ومخاوف تحول الصومال إلى قاعدة إستراتيجية للقاعدة بعد محاصرتها في باكستان في الوقت الذي انصب فيه اهتمام إدارة أوباما على أفغانستان ومحور باكستان- الهند- إيران باعتباره المدخل الرئيسي لإحكام القبضة على شرق وجنوب آسيا وقاعدة الانطلاق لمحاصرة القاعدة والقوى الإسلامية المتطرفة مع بروز العديد من العوائق الحائلة دون ذلك والمنتجة بصورة أو بأخرى تداعيات كارثية بدت علاماتها واضحة في تزايد عنف القاعدة وأخواتها ونجاحها في نقل عناصرها إلى منطقة القرن والبحيرات العظمى وبناء قواعد هناك وسط رغبة جامحة لتحويل موريتانيا إلى قاعدة إنطلاق والسودان والصومال مع احتمال ضم اليمن إلى قاعدة مواجهة قادمة استعدادا لعرقلة المشروع الأميركي الإفريقي .
المبررات الأميركية السابقة تظل في حقيقتها ثانوية لسبب بسيط هو تزايد الاعتماد الأميركي على مصادر الطاقة الإفريقية وزيادة الضغوط على قوات كينتكوم واريوكوم نتيجة الحرب الدائرة في العراق وأفغانستان ولذا لم يكن أمام البيت الأبيض من خيار لتخفيف الضغط على قواته العاملة في أفغانستان والعراق سوى التوجه إلى إنشاء قيادة آفريكوم المركزية مستفيداً من وجود قاعدة له في جيبوتي لاسيما وان قوانينها لا تعارض الوجود الأجنبي على أراضيها كما لأميركا تواجد عسكري بحري وجوي قُبالة السواحل الصومالية ناهيك عن النجاح في استغلال أزمات المنطقة لصالح الحصول على امتيازات خاصة شملت الموافقات الصريحة بشأن إنشاء قواعد عسكرية أو تكثيف التواجد العسكري وكله سيصب في النهاية لصالح وضع اللبنة الأولى لمشروع القرن الإفريقي الكبير .
إنشاء القيادة من ناحية أخرى يشكل انعطافة مهمة على صعيد الاهتمام الأميركي بإفريقيا عموما والقرن الإفريقي خاصة ومنحه وزن اكبر بسبب تنامي حاجة أميركا للنفط الإفريقي وهي أيضا خطوة ضرورية في سياق الحرب الوقائية ضد القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي والحيلولة دون حصول القاعدة على ملآذات آمنة في القرن الإفريقي والبحيرات العظمى حيث تشعر واشنطن أن هذه المنطقة تشكل قاعدة خلفية للقاعدة والمصدر الرئيسي للتهديدات المحتملة مستقبلاً للمصالح الأميركية .
اللافت هنا انسجام هذا التوجه مع مساعي بناء قاعدة النفوذ الجديدة لتكتمل بذلك الصورة مع ما يجري في الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا ولذا لم يكن من قبيل المصادفة أن يتزامن هذا التوجه مع إعلان واشنطن إلغاء منظومة الدفاع الصاروخي من شرق أوربا في حين أن التحركات الأميركية في السنوات الأخيرة لم تكن سوى مقدمة لتأسيس وضع جديد وإحداث جنية من التوازنات داخل إفريقيا بالتوازي مع تكثيف الوجود العسكري وتشكيل قيادة فرعية ضمن القيادة الوسطى الممتدة من آسيا الوسطى إلى القرن الإفريقي بغرض تنسيق العمليات ضد الإرهاب كما هو حال القوات المشتركة في القرن الإفريقي تمهيداً لإخراج قيادة آفريكوم إلى حيز الوجود وبذلك تكون أميركا قد ضمنت تدويل الأزمات والبحار وخصوصاً البحر الأحمر وخليج عدن وقناة السويس وباب المندب إلى جانب ضمان تدويل منابع مياه نهر النيل وتهيئة البيئة لتمرير أجندتها وتهيئة المناخ السياسي العام لأي مواجهة محتملة مع إيران سواء كانت مباشرة أو بالوكالة عبر إسرائيل وضمان الاستجابة الفورية والتدخل السريع في أوقات الأزمات والاهم من هذا وذاك ضمان الانفراد بتدوير لعبة التنافس القائمة بما يحقق مصالحها الإستراتيجية الآنية والمستقبلية .
الأجندة الإسرائيلية
الاهتمام الإسرائيلي بمنطقة القرن الإفريقي والبحيرات العظمى منسجم كليةً مع الاهتمام الأميركي كون هذه المنطقة تشكل أهم موقع استراتيجي من الناحية الأمنية منذ ولادة الدولة العبرية ونقطة الارتكاز لتحقيق الاتصال بوسط وجنوب إفريقيا وتحقيق مصالح إسرائيل الاقتصادية والأمنية ولذا نجدها شديدة الحرص على إيجاد عمق لها في البحر الأحمر والقرن الإفريقي بما في ذلك إنشاء قواعد عسكرية في بعض دوله كإريتريا بما يتيح لها رصد أي نشاط عسكري عربي ضدها واستخدام التفوق الإسرائيلي لكسر أي حصار عربي مستقبلاً ضد إسرائيل وسفنها في البحر الأحمر ومدخله الجنوبي وكسر دائرة العزلة العربية على إسرائيل وبالتالي ضمان الاتصال والأمن للخطوط البحرية العسكرية والتجارية من المحيط الهندي إلى البحر الأبيض المتوسط والحيلولة دون أن يكون البحر الأحمر بحراً عربياً خالصاً.
استخدمت إسرائيل العديد من الأساليب لتمرير أجندتها مستغلة وجود أقليات يهودية في منطقة القرن الإفريقي بما لها من دور في تغذية الصراعات العرقية والطائفية والحدودية وتوظيفها لصالح السياسات الإسرائيلية واللعب على المتناقضات الفجة واستغلال كل الثغرات حتى يبقى قادة الأقليات الحاكمة في المنطقة مرتبطين بتل أبيب وسياساتها كما استغلت علاقاتها مع إثيوبيا وإريتريا على سبيل المثال ضد السودان واليمن إلى جانب دعمها طموحات الانفصال كما في بونت لاند الصومالية ومحاولة استغلالها الحرب الدائرة هناك للفوز بتأجير ميناء بربرة أو على الأقل الفوز بتعهد إقليم صوماليا لاند بتقديم تسهيلات وامتيازات لاستخدام الميناء ناهيك عن مساعيها الدءوبة للحيلولة دون وجود حكومات قوية خاصة ذات التوجه العربي أو الإسلامي والترويج لوجود علاقات وثيقة بين الإسلاميين والقاعدة والقراصنة وتشكيل ورقة ضغط على السودان ومصر من خلال مساعي تدويل منابع نهر النيل وضرب القوى الإسلامية واستكمال مخطط نقل يهود الفلاشا من المنطقة وسط رغبة جامحة في السيطرة والتغلغل الكامل في شؤون دول شرق إفريقيا والبحر الأحمر وتأمين نطاق الأمن الحيوي الجنوبي لإسرائيل حيث المدخل الجنوبي للبحر الأحمر واكتساب وسيلة ضغط جديدة على الدول العربية لدفعها نحو التطبيع المجاني والسلام الاقتصادي والانخراط في المواجهة المحتملة مع إيران.
الأجندة الإيرانية
لإيران طموح قديم في الوصول إلى البحر الأحمر والقرن الإفريقي ولذا لم يكن غريباً أن يحتل هذا الطموح مكانة خاصة في قائمة اهتمامات السياسة الإيرانية الخارجية في السنوات الأخيرة وتحديداً ما بعد وصول محمود أحمدي نجاد إلى الحكم في 2005م وما صاحب ذلك من توجه ممنهج لنقل الحرب من مضيق هرمز والخليج العربي إلى خليج عدن وباب المندب بدلالة خروج التدخل الإيراني في الشؤون الداخلية للمنطقة من دائرة السرية والمراوغة إلى دائرة العلن والتدخل المباشر بما ينسجم وتوسيع نطاق ما أسمته طهران "الجهاد البحري" باعتباره يشكل المدخل الرئيسي لإستراتيجية السيطرة على الممرات المائية تحسباً لأي انفجار محتمل مع الغرب حول ملفها النووي ناهيك عن طموحات فتح ممرات بحرية وبرية تسهل الوصول إلى مناطق الأزمات في الشرق الأوسط عبر تأمين وجود إيراني قريب من هذه المناطق وتوفير أوراق ضغط جديدة للمساومة في الشرق الأوسط .
أسباب عديدة أدت إلى تسليط الضوء على المشروع الإيراني في المنطقة المتغول على خلفية مفاعيل التدخل الأميركي المباشر ما بعد حربي الخليج الثانية والثالثة بما لهما من إفرازات على صعيد الجدل العربي الرسمي حول المشروع الإيراني وخطورته على المنطقة والتحولات السياسية الخارجية لإيران القائمة على التدخل المباشر وسط غياب فاقع لأي مشروع أفرو - عربي متفق عليه- مؤثر ومكافئ- والاكتفاء في كثير من الأحيان بدور المتأثر في حين أتاحت الإخفاقات الأميركية في منطقة القرن الإفريقي والبحيرات العظمى على خلفية عدم وفاء واشنطن بالتزاماتها تجاه حلفائها هناك لطهران فرصة طالما حلُمت بها لنسج علاقات اقتصادية وسياسية وأمنية خصوصاً مع السودان واريتريا وبعض الفصائل الصومالية الإسلامية وغيرها و تعزيز وجودها العسكري البحري في البحر الأحمر وخليج عدن وقُبالة السواحل الصومالية تحت ذريعة محاربة القرصنة إلى جانب وجود قاعدة عسكرية إيرانية في ميناء عصب الاريتري والقيام بتهريب الأسلحة إلى الحركات المتمردة في اليمن والصومال وتسهيل نقل عناصر القاعدة من أفغانستان إلى جنوب اليمن وكذا تدريب عناصر التمرد الحوثي بمعسكر دنقللو الاريتري وإلحاحها المتكرر على صنعاء لتدوير وتنشيط ميناء ميدي..الخ .
كل هذا إن دل على شيء فهو يدل على أن إيران بدأت من الناحية العملية بنقل معركتها إلى منطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر ما دفع العديد من المراقبين للنشاط الإيراني غير الطبيعي مؤخراً في المنطقة إلى الجزم بأن البحر الأحمر مرشح في المرحلة المقبلة ليكون حلبة جديدة لمواجهات مسلحة إقليمية دولية بما لذلك من تداعيات كارثية على الصومال والسودان واليمن وربما دول افريقية أخرى على خلفية الحراك الإيراني غير المسبوق لفتح جبهات جديدة في القرن الإفريقي خصوصاً وأن الاتفاقية الأمنية الإسرائيلية الأميركية المبرمة قبل مغادرة بوش الابن البيت الأبيض بستة أشهر – منتصف 2008 - قد بدأت سريانها من خلال إستراتيجية جديدة يتم رسمها في البحر الأحمر والمحيط الهندي حيث الصراع الدولي المحتمل لسبب بسيط هو قيام تلك الاتفاقية على منهجية تجزئة الأمن الاستراتيجي لمنطقة البحر الأحمر وهو ما تتحسب له إيران جيداً كما تدرك بأن هذا ليس سوى مقدمة لحصارها بحرياً في وقت باتت فيه تعاني شبه عزلة عربية وإسلامية ودولية، بدلالة إقدامها في منتصف نوفمبر الماضي على تعزيز قواتها البحرية المتواجدة في البحر الأحمر وخليج عدن بالأسطول الرابع .
الأجندة الإيرانية في إطارها العام ترمي إلى تعقيد حياة الأميركيين في الجزيرة العربية والقرن الإفريقي وإحباط المخطط الغربي لتشديد الحصار البحري عليها في مياه الشرق الأوسط وإيجاد قاعدة انطلاق نحو شرق إفريقيا حيث تدور حروب مكملة لما يجري في العراق وأفغانستان وصولا إلى خلق إستراتيجية أمنية إقليمية تضطلع فيها إيران بدور المهيمن الطارد لأي وجود قوي من قبل أية قوة اقليمية أخرى وبالتالي جر أميركا إلى طاولة مفاوضات جديدة.
غير أن الصورة مختلفة تماما في إطارها الخفي كون إيران مدركة تماماً بأن المنطقة بأسرها مقدمة على تغييرات شاملة بما فيها إعادة تشكيل التحالفات والتوازنات ومحاولات الدفع بمشروعي الشرق الأوسط الكبير والقرن الإفريقي الكبير إلى الأمام ولذا فهي أمام خيارات لم يعد بالإمكان استبعادها من قائمة التعاطي الدبلوماسي والسياسي مع قضايا المنطقة بما فيها التدخل المباشر في سباق مع الزمن لإثبات كينونتها وحضورها وأنها صارت فاعلاً إقليمياً ودولياً لم يعد ممكنا تجاوزه في التوازنات المتوحرة في رحم المرحلة المقبلة ولو كان ذلك على حساب علاقاتها مع دول المنطقة وشعوبها وأمنها واستقرارها مادام وأنه في خاتمة المطاف سيضمن لها فرض أجندتها على طاولة لعبة الكبار.
التحرك الإيراني لفرض أجندته يأتي في سياق إستراتيجية واسعة يتداخل فيها الإقليمي بالدولي ولذا لا تأخذنا الدهشة أمام ما نشاهده من توافق غريب وعجيب بين الأجندة الأميركية والإسرائيلية والإيرانية وشراكة إستراتيجية واضحة على تفكيك واقع المنطقة في شكل تغيير في الخرائط السياسية من جهة وعن طريق الدمج الكتلوي المعتمد أساساً على التناقضات المذهبية والطائفية والعرقية وصولاً إلى حافة التصادم الذي ينتهي بالتقسيم والتفتيت والاحتراب والتشرذم وهو الدافع الحقيقي طبعاً للتدخل الإيراني في شؤون المنطقة المستمد قوته ليس من القدرة على فعل التدخل في المحيط الخارجي وإنما من صلب الشراكة القائمة بين الأجندات الثلاثة .
المصادر
- أحمد إبراهيم, الدور الإسرائيلي في إشعال حرب الصومال , الجزيرة نت , 7 كانون الثاني/يناير 2007.
- رداد السلامي, الصراع العالمي على القرن الإفريقي واليمن, موقع التغييرنت , 13 تشرين الأول /اكتوبر2009.
- سامي السيد أحمد محمد, القرن الإفريقي..صراع دولي على النفط والجغرافيا ,معهد البحوث والدراسات الإفريقية.
- د.عبدالكريم العجمي الزياني, القرن الإفريقي , موقع اللواء الأخضر – ليبيا .
- فؤاد معمر, القرن الإفريقي الكبير .. مشروع أميركي لحرب جديدة في إفريقيا, مركز الناطور للدراسات , 11 تشرين الثاني/نوفمبر2009.
- نجيب اليافعي, الإستراتيجية الدائمة لإيران في النفوذ باتجاه الممرات المائية والنفط , صحيفة الأهالي اليمنية , 27 تشرين الأول/أكتوبر 2009.
- د.أبا الحكم, التصعيد في صعدة .. بداية تفكيك المنطقة , موقع شبكة البصرة , 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2009 .
- الوجود الأميركي في القرن الإفريقي , ندوة علمية, مركز الراصد للدراسات السياسية والإستراتيجية , 31 أيار/ مايو 2009.
- الصراع في القرن الإفريقي, ملف خاص, موقع موسوعة مقاتل من الصحراء.
منذ قديم الزمان ومنطقة القرن الإفريقي حاضرة بقوة في أجندة الأطماع الدولية الاستعمارية, ولذا كانت ولازالت واحدة من أكثر المناطق سخونة على ظهر البسيطة وسط غياب التوازنات وتسيُّد الفوضى الإقليمية وهي الضريبة الطبيعية لاستحقاقات لعنة الجغرافيا الجاعلة من هذه المنطقة بمثابة مجمع الأمن الإقليمي وبوابة العبور الوحيدة نحو عمق القارة السمراء والعالم باعتبارها تطل على البحر الأحمر وخليج عدن والمحيط الهندي وتتحكم في طريق الملاحة البحرية بين الشرق والغرب بشقيها العسكري والاقتصادي ، حيث بوابة الدموع- مضيق باب المندب- في حين مثّل اكتشاف النفط في الخليج العربي والنفط الإفريقي الواعد عاملاً إضافياً ومبرراً كافياً لدخول لاعبين جدد على الخط لمزاحمة أوربا في مناطق نفوذها التقليدي ولكل واحد منهم أسبابه وممارساته وسياساته وطموحاته لتمكين نفوذه وفرض أجندته .
هذا التسابق المحموم على المنطقة وصل ذروته في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة وبروز ما بات يعرف باللعبة الكبرى فيما يتعلق بإقامة مشروعي الشرق الأوسط الكبير والقرن الإفريقي الكبير وكلاهما مكملان لبعضهما البعض كون القاسم المشترك بينهما الرغبة الجامحة في إعادة تشكيل وترتيب خارطة التوازنات والتحالفات الإقليمية على ضوء المعطيات والتحولات الميدانية التي شهدتها منطقتي الشرق الأوسط وشرق إفريقيا خلال العقدين الأخيرين حيث قضايا الصراع مازالت في معظم دولهما ساخنة ومرشحة للمزيد من التعقيد والتناسل والتفريخ خصوصاً دول شرق إفريقيا بما تموج به من أزمات داخلية وصراعات حدودية وعرقية وطائفية وتدفق مخيف للسلاح وتزايد حالات الانفصال والأعمال الإرهابية ناهيك عن الصراعات الخفية الناشبة على أطراف ونقاط التماس العربي الإفريقي بين الإسلام والمسيحية ما بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 وما صاحبها من تنامي لدور القوى الإسلامية المتطرفة وتزايد العمليات الإرهابية للقاعدة وبروز إيران كلاعب رئيسي في القرن الإفريقي بالتوازي مع تراجع النفوذ الأوربي لصالح تعاظم الوجود الأميركي والإسرائيلي .
الصورة بمفرداتها المتنافرة والمتصادمة شكلت بيئة مناسبة لتبلور المشاريع الدولية والإقليمية بما لها من تفاعلات وتأثيرات بدت بصماتها واضحة فيما تشهده المنطقة من تحولات إستراتيجية عميقة قد ترسم ملامحها للعقد القادم، ولاشك بأن اهتمام وسائل الإعلام والمراكز البحثية الغربية المتزايد خلال السنوات الأخيرة بالمنطقة لم يأتي من فراغ بل هو إيحاء مباشر للتأكيد على أن ما يجري ليس سوى مقدمات لتحولات وترتيبات ما تخدم واضعيها ولا تخدم المنطقة وشعوبها بما لذلك من آثار كارثية على منظومة الأمن القومي الإفريقي والعربي على حد سواء.
يأتي هذا التحول في وقت لم يعد التأثير الإسرائيلي فيه على السياسة الأميركية مقتصراً على القضية الفلسطينية ومنطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بل تعداها منذ زمن مبكر إلى البحر الأحمر والقرن الإفريقي لتكتمل بذلك دائرة التدويل للممرات المائية ومنابع نهر النيل والفاشية الإسلامية والأزمات المتناسلة من رحم التدخلات الخارجية وتنور مشاريع التغيير وأجندة الصراعات في ظل ما نشهده من تحولات وتقاطعات للمصالح الإقليمية والدولية وغياب فاقع لأي معيار ناظم لوجود أية قوة إقليمية قادرة على إعادة التوازن والأمن والاستقرار .
في هذه الوقفة السريعة سنحاول مقاربة السيناريوهات المحتملة لطبيعة هذا الصراع واحتمالات المواجهة أو التوافق وتحديداً فيما يتعلق بالمشاريع ذات التأثير المباشر على المنطقة كالأميركي والإسرائيلي والإيراني على هناك مشاريع منافسة كالصيني والأوربي والروسي لكنها تظل فرعية وذات تأثير منخفض كما أنها بشكل أو بأخر مشاريع تابعة في قوة التأثير على ديناميكية تفاعل المشاريع الرئيسية .
تجدر الإشارة أيضا إلى أن هناك توافق عجيب فيما يتعلق بتنامي ظاهرة القرصنة والإبقاء على حالة الفوضى والصراع ولكن في حدود تحول دون خروج الأمور عن السيطرة وكذا فيما يتعلق بحدود النفوذ والوجود ومساعي السيطرة على القرن الإفريقي والبحر الأحمر وباب المندب والمياه الإقليمية للمنطقة والاستفراد بثرواتها الطبيعية لكن ذلك يبد على النقيض تماما فيما يتعلق بالإرهاب والجماعات الإسلامية والقاعدة والتوازنات والتحالفات التي يجب أن تكون عليها المنطقة .
الأجندة الأميركية
لم تشغل المنطقة لسنوات طويلة حيزاً كبيراً في دائرة اهتمامات السياسة الأميركية الخارجية رغم وجودها القديم بهذه المنطقة حيث لم تكن تجد في النفوذ الفرنسي أو البريطاني تهديداً مباشراً لمصالحها لاسيما وأن النفوذ البريطاني ظل منساقاً ومتناغماً على طول الخط مع التوجهات الأميركية, غير أن انتهاء الحرب الباردة وسقوط القطبية الثنائية وبروز القطب الواحد فعودة تعدد الأقطاب مؤخراً وما صاحب ذلك من فشل ذريع للتدخل الأميركي المباشر على أكثر من صعيد دولي وانحسار نفوذه الكوني وظهور فاعلين دوليين وإقليميين لم يعد ممكنا تجاوزهم أو تجاهلهم وبروز مفاعيل جديدة لازمات لم تكن متوقعة بما فيها القاعدة والقرصنة وتنامي العداء واتساع رقعة الرأي العام المناهض للسياسات الأميركية، بما خلفته من مآسي وكوارث لم يعد بالإمكان حلحلتها ناهيك عن تداعياتها السلبية على المصالح الأميركية كل هذا كان مبرراً كافياً لتغيير بوصلة وأدوات التعاطي الأميركي ولكن بما يتلاءم وانجاز مشاريعه الكونية التي عجز عن تحقيقها بالتدخل العسكري المباشر أملاً في إعادة الوهج إلى القطبية الأحادية .
عوامل عديدة أدت إلى هذا التحول الطارئ أهمها: ازدياد أهمية المرتكزات الإستراتيجية التي تقوم عليها العلاقات الأميركية الإفريقية في عصر العولمة بما يتناغم مع محددات القرن الإفريقي الثابتة كالموقع والثروة وخطوط التجارة بما لها من أهمية في منظومة السياسة الكونية الأميركية، ناهيك عن تغير الرؤية الأميركية حيال الأزمات والصراعات التي تعاني منها المنطقة وإدراكها أهمية التركيز على المدخل السياسي والعسكري بما يخدم مصالحها الحيوية في منطقة القرن والبحيرات العظمى مستفيدة من فشل وإخفاق التركيز الأوربي على المدخل الاقتصادي والتنموي.
المشروع الأميركي في طابعه العام يطمح إلى حماية خطوط التجارة البحرية عبر المحيط الهندي والبحر الأحمر والوصول إلى مناطق الثروة ومصادر الطاقة ومحاصرة النظم غير الموالية واحتوائها ومحاربة التطرف والأصولية والحد من انتشار الأسلحة ودعم الأنظمة المتبنية للتصور الأميركي حيال الإرهاب خصوصاً وأن هذه المنطقة من المناطق التي تتكاثر فيها التهديدات لمصالح أميركا وحلفائها بصورة جعلتها ضمن الإستراتيجية الخاصة بالاحتواء خلال المرحلة المقبلة(2009 – 2015) .
آلية التنفيذ
مثلت عملية تفجير سفارتي أميركا في نيروبي ودار السلام في آب/ أغسطس 1998 وما صاحبها من ضربات عسكرية أميركية لمصنع الشفاء السوداني بدعوى استخدامه في صناعة أسلحة كيميائية لصالح ابن لادن نقلة نوعية على صعيد تزايد الاهتمام الأميركي بهذه المنطقة والمتعاظم بصورة لافتة ما بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 وما تمخض عنها من توجه نحو محاربة ما يسمى بالإرهاب ووضع السودان والصومال واليمن على قمة المرحلة الثانية لهذه الحرب بدعوى أنها توفر ملاذات آمنة للقاعدة وعناصرها الفارين من أفغانستان وبالتالي إنشاء قاعدة عسكرية أميركية في جيبوتي في حزيران/ يونيو 2003 وطرح مبادرة مكافحة الإرهاب في شرق إفريقيا وتأكيد مركزيتها في محاربة الإرهاب.
كل ذلك لم يكن سوى مقدمة لما هو اكبر من القاعدة والإرهاب وهو ما بدا واضحاً مع نهاية العام 2004م عندما أطلق البيت الأبيض مشروع القرن الإفريقي الكبير بالتزامن مع إعلان مشروع الشرق الأوسط الكبير والكشف عن التوجه لإنشاء القيادة العسكرية المركزية "آفريكوم" في شباط/ فبراير 2007م لتولي مهام على مستوى القارة الإفريقية باستثناء مصر, تمهيداً للانفراد الأميركي برقعة الشطرنج للشرق الأوسط والقرن الإفريقي والبحر الأحمر والبحيرات العظمى وهو طموح قائم ومستمر بغض النظر عن هوية حكام البيت الأبيض .
القرن الإفريقي الكبير في خضم الأحداث العاصفة بالمنطقة والسعي الأميركي المتواصل لاستغلالها لصالح أهدافه الإستراتيجية يبدو أنه سيكون من أكثر الساحات الكونية سخونة في العقد المقبل إذ من المتوقع حسب المصادر الأميركية أن يضم دول القرن الإفريقي التقليدية: جيبوتي والصومال وإثيوبيا وإريتريا وجنوب السودان بعد فصله المتوقع في استفتاء العام 2011 إلى جانب دول البحيرات العظمى: كينيا وأوغندا وتنزانيا والكونغو الديمقراطية وراوندا وبورندي .
القرن الإفريقي الكبير
في طابعه العام يحمل أبعاداً تتعدى توفير قاعدة إمدادات خلفية لمشاريع أميركا في الشرق الأوسط إلى إعادة ترتيب المنطقة بما ينسجم مع المصالح الأميركية الإستراتيجية في إفريقيا والشرق الأوسط وبما يكمِّل صورة الشرق الأوسط الكبير فيما يتعلق بخارطة النفط والغاز والإرهاب التي هي واحدة في مبانيها ومعانيها سواء في الشرق الأوسط أو أوراسيا أو شرق إفريقيا في حين نجد أن الإرهاب مجرد عامل تابع فيما النفط وهو الأساس في قائمة الاستثمارات الأميركية المستقبلية عامل مستقل والرهان هنا على النفط الإفريقي باعتباره المخزون الأكبر عالميا لاسيما في المنطقة الممتدة من السودان إلى سواحل كينيا وهو المحركة الأساسي لهذا المشروع.
في التفاصيل يطمح المشروع إلى الربط بين المناطق الحيوية ذات البعد الجيواستراتيجي كشرق إفريقيا والبحيرات العظمى بما يضمن الهيمنة على التفاعلات المستقبلية في هذا الجزء الهام من العالم على خلفية النجاح الأميركي النسبي في التركيز على المدخل السياسي والعسكري على حساب الفشل الاقتصادي والتنموي الأوربي بالتوازي مع توحد المخاوف الأميركية والأوربية من تنامي العلاقات الصينية الإفريقية ودخول إيران كلاعب أساسي وما ترتب على ذلك من تخفيف لحدة التنافس الأميركي- الأوربي في السنوات الأخيرة لصالح أميركا وتدعيم مواقفها في صراع الكبار وتحقيق رغبتها في الانفراد بالنفط الإفريقي ومحاصرة الإرهاب والدول المارقة كإيران وإريتريا ما بعد 2007 والرغبة في إقامة منطقة تحوي مجموعة المصالح الإستراتيجية الأميركية وتؤمنها .
المشروع الأميركي في بدايات ظهوره سعى إلى تحقيق هدفين هما: زيادة قدرات المنطقة في مجال إدارة الأزمات وحل الصراعات وتحسين الأمن الغذائي وهو ذات الطموح للمشروع الأوربي حيال شرق إفريقيا في 2006م لكنهما أصيبا بالفشل الذريع, ما دفع واشنطن إلى ابتكار آليات جديدة لتحقيق طموحاتها وأهدافها والتي صارت تستهدف إنشاء بنية تحتية لمصلحة شركات التعدين والنفط والصناعات العسكرية الأميركية والإسرائيلية وضمان الانفراد بالنفط باعتباره البديل المستقبلي لنفط الخليج العربي وبحر قزوين المهدد بالنضوب ومحاصرة نمو النفوذ الصيني والإيراني وخلق مناطق نفوذ تحقق المصالح الأميركية لاسيما وأن القرن والبحيرات لا يمكن فصلهما عن مجمل المصالح الأميركية في المنطقة برمتها .
الخطوط العريضة لمشروع القرن الإفريقي الكبير صحيح أنها متمحورة حول المصالح السياسية والعسكرية والاقتصادية بدرجة أساسية وقد حصلت واشنطن على الكثير من الامتيازات في هذا المجال لكن غير صحيح أن المشروع سيصيب في صالح شعوب المنطقة بدلالة عدم مغايرة محركاته الخفية لذلك الذي شاهدناه في الشرق الأوسط الكبير ما يعني أن الغاية من المشروعين تكميل عملية التقسيم الكانتوي للمنطقتين وإعادة رسم التوازنات الإقليمية وفقاً للمحددات الطائفية والعرقية في إطار إعادة النظر في تقسيمات اتفاقية سايكس بيكو وهو ما يكشف سر النزاعات العرقية والدينية التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الأخيرة والتي كان لأميركا وإسرائيل الدور الرئيسي في تأجيجها لاسيما تلك الناشبة بين المسيحية والإسلام .
ومعلومٌ أن دول منطقة القرن والبحيرات إما ذات أغلبية مسلمة كجيبوتي والصومال أو أغلبية مسيحية كأوغندا وكينيا أو مختلطة كأثيوبيا وتنزانيا وإريتريا كما تشكل قبائل التوتسي المسيحية امتداداً تداخلياً في معظم دول البحيرات ولها مساعي حثيثة لتحجيم قبائل الهوتو المسلمة التي بدأت تتراجع بصورة كبيرة أمام التوتسي بفعل الدعم الأميركي والإسرائيلي في وقت تشير فيه الإحصاءات إلى أن غالبية الصراعات المحلية ذات بعد ديني .
إذن فهناك مساعي واضحة لتغليب الكفة المسيحية على الكفة الإسلامية في منطقة القرن الإفريقي الكبير بدلالة ما نلاحظه من تحيز أميركي وغربي إلى جانب المسيحيين ورفع ممنهج لوتيرة الربط بين الإرهاب والإسلام رغم ذهاب الدراسات الغربية إلى أن المسيحيين كانوا أكثر تنفيذاً للعمليات الإرهابية وليس المسلمين كما هو الحال جيش الرب في أوغندا وهذا بدوره منسحب على أعمال القرصنة التي تم ربطها عن قصد مؤخراً بالإسلام وسط بروز المخاوف من توجه القوى الإسلامية الصومالية في حال استتب لها الأمر وتمكنت من إعادة توحيد الصومال تحت رايتها نحو تشكيل محور إسلامي ضاغط مع القوى الإسلامية السودانية على إثيوبيا الحليف الاستراتيجي لأميركا وإسرائيل والقائم عليها مزاد الرهان في إشراع الأبواب المؤصدة أمام المشروع الأميركي إلى جانب كينيا كما الرهان أيضا في قيادة الحرب بالوكالة على الإرهاب الإسلامي في شرق إفريقيا والحرب على الدول المارقة وتسهيل أي تحرك أميركي محتمل في حال تهديد المصالح الأميركية بالمنطقة والأهم ضمان أمن إسرائيل في مواجهة أي احتمالات مستقبلية لفرض قيود على مضايق البحر الأحمر والملاحة فيه .
قاعدة آفريكوم
عوامل عديدة أدت إلى التوجه لإنشائها وجعل إحدى دول القرن الإفريقي المقر الرئيسي لها أهمها: فشل التدخل العسكري في الصومال وفشل التدخل بالوكالة أيضا عبر إثيوبيا وتمكن إيران من تحويل نقاط الإخفاق الأميركية إلى مكاسب سواء فيما يتعلق بنسج علاقات وطيدة مع السودان أو متنامية مع اريتريا وعدد من الفصائل الإسلامية الصومالية بالتوازي مع تنامي أعمال القرصنة وظاهرة الإرهاب الدولي في الصحراء الإفريقية ومخاوف تحول الصومال إلى قاعدة إستراتيجية للقاعدة بعد محاصرتها في باكستان في الوقت الذي انصب فيه اهتمام إدارة أوباما على أفغانستان ومحور باكستان- الهند- إيران باعتباره المدخل الرئيسي لإحكام القبضة على شرق وجنوب آسيا وقاعدة الانطلاق لمحاصرة القاعدة والقوى الإسلامية المتطرفة مع بروز العديد من العوائق الحائلة دون ذلك والمنتجة بصورة أو بأخرى تداعيات كارثية بدت علاماتها واضحة في تزايد عنف القاعدة وأخواتها ونجاحها في نقل عناصرها إلى منطقة القرن والبحيرات العظمى وبناء قواعد هناك وسط رغبة جامحة لتحويل موريتانيا إلى قاعدة إنطلاق والسودان والصومال مع احتمال ضم اليمن إلى قاعدة مواجهة قادمة استعدادا لعرقلة المشروع الأميركي الإفريقي .
المبررات الأميركية السابقة تظل في حقيقتها ثانوية لسبب بسيط هو تزايد الاعتماد الأميركي على مصادر الطاقة الإفريقية وزيادة الضغوط على قوات كينتكوم واريوكوم نتيجة الحرب الدائرة في العراق وأفغانستان ولذا لم يكن أمام البيت الأبيض من خيار لتخفيف الضغط على قواته العاملة في أفغانستان والعراق سوى التوجه إلى إنشاء قيادة آفريكوم المركزية مستفيداً من وجود قاعدة له في جيبوتي لاسيما وان قوانينها لا تعارض الوجود الأجنبي على أراضيها كما لأميركا تواجد عسكري بحري وجوي قُبالة السواحل الصومالية ناهيك عن النجاح في استغلال أزمات المنطقة لصالح الحصول على امتيازات خاصة شملت الموافقات الصريحة بشأن إنشاء قواعد عسكرية أو تكثيف التواجد العسكري وكله سيصب في النهاية لصالح وضع اللبنة الأولى لمشروع القرن الإفريقي الكبير .
إنشاء القيادة من ناحية أخرى يشكل انعطافة مهمة على صعيد الاهتمام الأميركي بإفريقيا عموما والقرن الإفريقي خاصة ومنحه وزن اكبر بسبب تنامي حاجة أميركا للنفط الإفريقي وهي أيضا خطوة ضرورية في سياق الحرب الوقائية ضد القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي والحيلولة دون حصول القاعدة على ملآذات آمنة في القرن الإفريقي والبحيرات العظمى حيث تشعر واشنطن أن هذه المنطقة تشكل قاعدة خلفية للقاعدة والمصدر الرئيسي للتهديدات المحتملة مستقبلاً للمصالح الأميركية .
اللافت هنا انسجام هذا التوجه مع مساعي بناء قاعدة النفوذ الجديدة لتكتمل بذلك الصورة مع ما يجري في الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا ولذا لم يكن من قبيل المصادفة أن يتزامن هذا التوجه مع إعلان واشنطن إلغاء منظومة الدفاع الصاروخي من شرق أوربا في حين أن التحركات الأميركية في السنوات الأخيرة لم تكن سوى مقدمة لتأسيس وضع جديد وإحداث جنية من التوازنات داخل إفريقيا بالتوازي مع تكثيف الوجود العسكري وتشكيل قيادة فرعية ضمن القيادة الوسطى الممتدة من آسيا الوسطى إلى القرن الإفريقي بغرض تنسيق العمليات ضد الإرهاب كما هو حال القوات المشتركة في القرن الإفريقي تمهيداً لإخراج قيادة آفريكوم إلى حيز الوجود وبذلك تكون أميركا قد ضمنت تدويل الأزمات والبحار وخصوصاً البحر الأحمر وخليج عدن وقناة السويس وباب المندب إلى جانب ضمان تدويل منابع مياه نهر النيل وتهيئة البيئة لتمرير أجندتها وتهيئة المناخ السياسي العام لأي مواجهة محتملة مع إيران سواء كانت مباشرة أو بالوكالة عبر إسرائيل وضمان الاستجابة الفورية والتدخل السريع في أوقات الأزمات والاهم من هذا وذاك ضمان الانفراد بتدوير لعبة التنافس القائمة بما يحقق مصالحها الإستراتيجية الآنية والمستقبلية .
الأجندة الإسرائيلية
الاهتمام الإسرائيلي بمنطقة القرن الإفريقي والبحيرات العظمى منسجم كليةً مع الاهتمام الأميركي كون هذه المنطقة تشكل أهم موقع استراتيجي من الناحية الأمنية منذ ولادة الدولة العبرية ونقطة الارتكاز لتحقيق الاتصال بوسط وجنوب إفريقيا وتحقيق مصالح إسرائيل الاقتصادية والأمنية ولذا نجدها شديدة الحرص على إيجاد عمق لها في البحر الأحمر والقرن الإفريقي بما في ذلك إنشاء قواعد عسكرية في بعض دوله كإريتريا بما يتيح لها رصد أي نشاط عسكري عربي ضدها واستخدام التفوق الإسرائيلي لكسر أي حصار عربي مستقبلاً ضد إسرائيل وسفنها في البحر الأحمر ومدخله الجنوبي وكسر دائرة العزلة العربية على إسرائيل وبالتالي ضمان الاتصال والأمن للخطوط البحرية العسكرية والتجارية من المحيط الهندي إلى البحر الأبيض المتوسط والحيلولة دون أن يكون البحر الأحمر بحراً عربياً خالصاً.
استخدمت إسرائيل العديد من الأساليب لتمرير أجندتها مستغلة وجود أقليات يهودية في منطقة القرن الإفريقي بما لها من دور في تغذية الصراعات العرقية والطائفية والحدودية وتوظيفها لصالح السياسات الإسرائيلية واللعب على المتناقضات الفجة واستغلال كل الثغرات حتى يبقى قادة الأقليات الحاكمة في المنطقة مرتبطين بتل أبيب وسياساتها كما استغلت علاقاتها مع إثيوبيا وإريتريا على سبيل المثال ضد السودان واليمن إلى جانب دعمها طموحات الانفصال كما في بونت لاند الصومالية ومحاولة استغلالها الحرب الدائرة هناك للفوز بتأجير ميناء بربرة أو على الأقل الفوز بتعهد إقليم صوماليا لاند بتقديم تسهيلات وامتيازات لاستخدام الميناء ناهيك عن مساعيها الدءوبة للحيلولة دون وجود حكومات قوية خاصة ذات التوجه العربي أو الإسلامي والترويج لوجود علاقات وثيقة بين الإسلاميين والقاعدة والقراصنة وتشكيل ورقة ضغط على السودان ومصر من خلال مساعي تدويل منابع نهر النيل وضرب القوى الإسلامية واستكمال مخطط نقل يهود الفلاشا من المنطقة وسط رغبة جامحة في السيطرة والتغلغل الكامل في شؤون دول شرق إفريقيا والبحر الأحمر وتأمين نطاق الأمن الحيوي الجنوبي لإسرائيل حيث المدخل الجنوبي للبحر الأحمر واكتساب وسيلة ضغط جديدة على الدول العربية لدفعها نحو التطبيع المجاني والسلام الاقتصادي والانخراط في المواجهة المحتملة مع إيران.
الأجندة الإيرانية
لإيران طموح قديم في الوصول إلى البحر الأحمر والقرن الإفريقي ولذا لم يكن غريباً أن يحتل هذا الطموح مكانة خاصة في قائمة اهتمامات السياسة الإيرانية الخارجية في السنوات الأخيرة وتحديداً ما بعد وصول محمود أحمدي نجاد إلى الحكم في 2005م وما صاحب ذلك من توجه ممنهج لنقل الحرب من مضيق هرمز والخليج العربي إلى خليج عدن وباب المندب بدلالة خروج التدخل الإيراني في الشؤون الداخلية للمنطقة من دائرة السرية والمراوغة إلى دائرة العلن والتدخل المباشر بما ينسجم وتوسيع نطاق ما أسمته طهران "الجهاد البحري" باعتباره يشكل المدخل الرئيسي لإستراتيجية السيطرة على الممرات المائية تحسباً لأي انفجار محتمل مع الغرب حول ملفها النووي ناهيك عن طموحات فتح ممرات بحرية وبرية تسهل الوصول إلى مناطق الأزمات في الشرق الأوسط عبر تأمين وجود إيراني قريب من هذه المناطق وتوفير أوراق ضغط جديدة للمساومة في الشرق الأوسط .
أسباب عديدة أدت إلى تسليط الضوء على المشروع الإيراني في المنطقة المتغول على خلفية مفاعيل التدخل الأميركي المباشر ما بعد حربي الخليج الثانية والثالثة بما لهما من إفرازات على صعيد الجدل العربي الرسمي حول المشروع الإيراني وخطورته على المنطقة والتحولات السياسية الخارجية لإيران القائمة على التدخل المباشر وسط غياب فاقع لأي مشروع أفرو - عربي متفق عليه- مؤثر ومكافئ- والاكتفاء في كثير من الأحيان بدور المتأثر في حين أتاحت الإخفاقات الأميركية في منطقة القرن الإفريقي والبحيرات العظمى على خلفية عدم وفاء واشنطن بالتزاماتها تجاه حلفائها هناك لطهران فرصة طالما حلُمت بها لنسج علاقات اقتصادية وسياسية وأمنية خصوصاً مع السودان واريتريا وبعض الفصائل الصومالية الإسلامية وغيرها و تعزيز وجودها العسكري البحري في البحر الأحمر وخليج عدن وقُبالة السواحل الصومالية تحت ذريعة محاربة القرصنة إلى جانب وجود قاعدة عسكرية إيرانية في ميناء عصب الاريتري والقيام بتهريب الأسلحة إلى الحركات المتمردة في اليمن والصومال وتسهيل نقل عناصر القاعدة من أفغانستان إلى جنوب اليمن وكذا تدريب عناصر التمرد الحوثي بمعسكر دنقللو الاريتري وإلحاحها المتكرر على صنعاء لتدوير وتنشيط ميناء ميدي..الخ .
كل هذا إن دل على شيء فهو يدل على أن إيران بدأت من الناحية العملية بنقل معركتها إلى منطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر ما دفع العديد من المراقبين للنشاط الإيراني غير الطبيعي مؤخراً في المنطقة إلى الجزم بأن البحر الأحمر مرشح في المرحلة المقبلة ليكون حلبة جديدة لمواجهات مسلحة إقليمية دولية بما لذلك من تداعيات كارثية على الصومال والسودان واليمن وربما دول افريقية أخرى على خلفية الحراك الإيراني غير المسبوق لفتح جبهات جديدة في القرن الإفريقي خصوصاً وأن الاتفاقية الأمنية الإسرائيلية الأميركية المبرمة قبل مغادرة بوش الابن البيت الأبيض بستة أشهر – منتصف 2008 - قد بدأت سريانها من خلال إستراتيجية جديدة يتم رسمها في البحر الأحمر والمحيط الهندي حيث الصراع الدولي المحتمل لسبب بسيط هو قيام تلك الاتفاقية على منهجية تجزئة الأمن الاستراتيجي لمنطقة البحر الأحمر وهو ما تتحسب له إيران جيداً كما تدرك بأن هذا ليس سوى مقدمة لحصارها بحرياً في وقت باتت فيه تعاني شبه عزلة عربية وإسلامية ودولية، بدلالة إقدامها في منتصف نوفمبر الماضي على تعزيز قواتها البحرية المتواجدة في البحر الأحمر وخليج عدن بالأسطول الرابع .
الأجندة الإيرانية في إطارها العام ترمي إلى تعقيد حياة الأميركيين في الجزيرة العربية والقرن الإفريقي وإحباط المخطط الغربي لتشديد الحصار البحري عليها في مياه الشرق الأوسط وإيجاد قاعدة انطلاق نحو شرق إفريقيا حيث تدور حروب مكملة لما يجري في العراق وأفغانستان وصولا إلى خلق إستراتيجية أمنية إقليمية تضطلع فيها إيران بدور المهيمن الطارد لأي وجود قوي من قبل أية قوة اقليمية أخرى وبالتالي جر أميركا إلى طاولة مفاوضات جديدة.
غير أن الصورة مختلفة تماما في إطارها الخفي كون إيران مدركة تماماً بأن المنطقة بأسرها مقدمة على تغييرات شاملة بما فيها إعادة تشكيل التحالفات والتوازنات ومحاولات الدفع بمشروعي الشرق الأوسط الكبير والقرن الإفريقي الكبير إلى الأمام ولذا فهي أمام خيارات لم يعد بالإمكان استبعادها من قائمة التعاطي الدبلوماسي والسياسي مع قضايا المنطقة بما فيها التدخل المباشر في سباق مع الزمن لإثبات كينونتها وحضورها وأنها صارت فاعلاً إقليمياً ودولياً لم يعد ممكنا تجاوزه في التوازنات المتوحرة في رحم المرحلة المقبلة ولو كان ذلك على حساب علاقاتها مع دول المنطقة وشعوبها وأمنها واستقرارها مادام وأنه في خاتمة المطاف سيضمن لها فرض أجندتها على طاولة لعبة الكبار.
التحرك الإيراني لفرض أجندته يأتي في سياق إستراتيجية واسعة يتداخل فيها الإقليمي بالدولي ولذا لا تأخذنا الدهشة أمام ما نشاهده من توافق غريب وعجيب بين الأجندة الأميركية والإسرائيلية والإيرانية وشراكة إستراتيجية واضحة على تفكيك واقع المنطقة في شكل تغيير في الخرائط السياسية من جهة وعن طريق الدمج الكتلوي المعتمد أساساً على التناقضات المذهبية والطائفية والعرقية وصولاً إلى حافة التصادم الذي ينتهي بالتقسيم والتفتيت والاحتراب والتشرذم وهو الدافع الحقيقي طبعاً للتدخل الإيراني في شؤون المنطقة المستمد قوته ليس من القدرة على فعل التدخل في المحيط الخارجي وإنما من صلب الشراكة القائمة بين الأجندات الثلاثة .
المصادر
- أحمد إبراهيم, الدور الإسرائيلي في إشعال حرب الصومال , الجزيرة نت , 7 كانون الثاني/يناير 2007.
- رداد السلامي, الصراع العالمي على القرن الإفريقي واليمن, موقع التغييرنت , 13 تشرين الأول /اكتوبر2009.
- سامي السيد أحمد محمد, القرن الإفريقي..صراع دولي على النفط والجغرافيا ,معهد البحوث والدراسات الإفريقية.
- د.عبدالكريم العجمي الزياني, القرن الإفريقي , موقع اللواء الأخضر – ليبيا .
- فؤاد معمر, القرن الإفريقي الكبير .. مشروع أميركي لحرب جديدة في إفريقيا, مركز الناطور للدراسات , 11 تشرين الثاني/نوفمبر2009.
- نجيب اليافعي, الإستراتيجية الدائمة لإيران في النفوذ باتجاه الممرات المائية والنفط , صحيفة الأهالي اليمنية , 27 تشرين الأول/أكتوبر 2009.
- د.أبا الحكم, التصعيد في صعدة .. بداية تفكيك المنطقة , موقع شبكة البصرة , 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2009 .
- الوجود الأميركي في القرن الإفريقي , ندوة علمية, مركز الراصد للدراسات السياسية والإستراتيجية , 31 أيار/ مايو 2009.
- الصراع في القرن الإفريقي, ملف خاص, موقع موسوعة مقاتل من الصحراء.
الأربعاء، 19 أغسطس 2009
هل كان اليمن موحد تاريخياً
بقلم// زيد يحيى المحبشي
وحدة اليمن أرضاً وإنساناً من المسلمات الثابتة ثبوت وجود الشعب اليمني والأرض اليمنية منذ أن تمكن يعرب بن قحطان الجد الجامع لهذا الشعب من إقامة أول وحدة يعربية يمانية في الألف الخامسة قبل الميلاد، ومن حينها شكلت الوحدة الهدف الجامع لكافة ملوك وأمراء اليمن سواء في التاريخ القديم أو الوسيط أو الحديث والسمة الغالبة على تاريخ هذا الشعب والقاعدة العاكسة جوهر الإرادة اليمنية الطامحة دوماً إلى التوحد والاتحاد باعتبار ذلك من عوامل القوة في مواجهة أخطار الطبيعة وتطويعها لصالح الإنسان اليمني ومواجهة الأطماع الخارجية بعناوينها المختلفة.
وفي الاتجاه الأخرى شكلت حالة التجزئة والانشطار التي شابت اليمن في بعض المراحل التاريخية على مر العصور ظاهرة استثنائية وعابرة فرضتها ظروف استثنائية وصنعتها إرادة غير يمنية أي أنها لم تكن في يوم من الأيام أمراً طبيعياً بل ظاهرة غريبة ودخيلة على اليمن وشعبه وتاريخه الوحدوي المشرق.
ورغم ما صاحب ذلك من جدل عقيم حول ما إذا كانت الوحدة القاعدة والتجزئة الاستثناء أم العكس؟ فما نجده من خلال قراءتنا السريعة لتاريخ اليمن الوحدوي منذ الألف الخامسة قبل الميلادي وحتى استعادة اليمن عافيته والتئام جسده الواحد في 22 أيار/ مايو 1990 هو تأكيد حقيقة أن فترات التوحد كانت على الدوام الأطول زمنياً وكانت على الدوام عامل أمان واستقرار وانتعاش اقتصادي وفكري وحضاري ليس لليمن فحسب بل ولمحيطها الإقليمي في حين كانت فترات التجزئة قصيرة جداً, كما أن ما شهدته اليمن من ممالك ودول متعددة سواء قبل الإسلام أو بعد استقلال اليمن عن الدولة العباسية وصولاً إلى العام 1914 إنما كان تعدد وتنوع يثير قاعدة التوحد ويعززها لسببين هما: استمرار بقاء التواصل والاتصال الثقافي والمعيشي, ناهيك عن حرية تنقل الناس, فيما بينها وعدم تجاوز سقف الاختلاف المستوى السياسي دون أن يتعداه إلى المستويات الأخرى سواء كانت اقتصادية أو ثقافية أو اجتماعية, وهو ما حافظ على وحدة الشعب ووحدة خصائصه ,كما لم تشهد تلك الفترة وجود حدود سياسية مرسومة بالمعنى المتعارف عليه بين الدول.
منذ العام 1914 بدأت مرحلة جديدة في التاريخ اليمني عندما شرع الانجليز والعثمانيين في تقسيم مناطق نفوذهما وترسيم الحدود بينهما وهو ما مثل سابقة خطيرة على صعيد التجزئة السياسية لأول مرة في تاريخ هذا الشعب والمتعمقة بصورة أكبر عقب رفض الإمام يحيى استلام المناطق الجنوبية التي كانت تحت نفوذ الأتراك إثر انسحابهم من شمال اليمن في العام 1919 وصولاً إلى الاعتراف بالتجزئة كسياسة أمر واقع عندما وقع الإمام في 1934 معاهدة اعتراف وصداقة مع الإنجليز تضمنت الإبقاء على الوضع القائم بالمناطق الجنوبية والشرقية كما هو لأربعة عقود قادمة من تاريخه ومن حينها بدأ الجدل وبدأت مفاهيم الجنوب والشمال تشق طريقها إلى المشهد السياسي.
إن ما تمر به اليمن اليوم هو في حقيقته اجترار شائه واستنساخ مشوهه غايته نسف الصفحة المشرقة لتاريخ اليمن الواحد في أرضه وإنسانه وخواصه الثقافية والحضارية والنفسية والسلوكية الواحدة الموحدة منذ سبعة آلاف سنة.
كل هذا يضعنا أمام سؤال محوري ومصيري هو: هل كانت اليمن فعلاً مجزأة تاريخياً؟, بدلاً من: هل كانت اليمن موحدة تاريخياً؟ ورغم أن الصيغة الأخيرة غير قابلة للشك والتشكيك عكس الصيغة الأولى إلا أن ما شهدته من رواج وجدل ترفي في أوساط الحالمين بعودة عهود السلاطين وعهود الرجعية والتخلف دفعنا إلى هذه القراءة السريعة لتاريخ اليمن الموحد بغية إزالة اللبس والتشكيك وتأكيداً لحقيقة انتصار الصوت الوحدوي في كافة مراحل التاريخ اليمني على الأصوات النشّازة لدعاة الفتنة والتجزئة.
الوحدة اليمنية قبل الإسلام
ذكرت اليمن في الكثير من الكتب القديمة كالتوراة وكتب مؤرخي الإغريق واليونان ووصفت باليمن السعيد ولم يوصف أي بلد غيرها بهذا، ووصفها القرآن الكريم بالجنة والبلدة الطيبة، ولم يصف أي بلد سواها بهذا, وخصها بسورتي سبأ والأحقاف ولم تكن سبأ سوى مملكة اليمن القديمة وهو تعبير لغوي مجازي المقصود منه السلطة اليمنية والشعب اليمني وحضارته الضاربة التي قامت بسبأ مأرب وأحقاف حضرموت.
وسبأ والأحقاف أسماء لمناطق يمانية وفي القصص القرآني نال اليمن ورجاله نصيباً كبيراً منها كأصحاب الجنة وقصص الأخدود والفيل وأبرهة وإرم ذات العماد وذو القرنين السيار وملكة سبأ والسيل العرم وقوم تبع.
وعندما أسلم أهل اليمن طواعية خصهم الله بسورة النصر فيما قال الرسول وهو يستقبل وفودهم [جاءكم أهل اليمن ....]. هكذا تحدث القرآن والرسول الخاتم عن أهل اليمن ومملكة سبأ في إطار منطق الوحدة وليس منطق التجزئة وعن مكانة هذا البلد ودوره الحضاري قبل مجيء الرسول الخاتم على أن هذا الدور وتلك المكانة لم تأتي من فراغ بل كان هناك شعب عظيم وقادة كبار استطاعوا توحيد أيادي سبأ منذ فجر التاريخ في كيان حضاري موحد توفرت له كل أسباب القوة والازدهار بما جعله يصل إلى مستوى تنظيم نفسه في نظم سياسية قوية فرضت نفسها على قبائل الجزيرة العربية وما وراءها من الأمم وما كان لها أن تصل إلى هذا المستوى لو لم تكن موحدة أرضاً وإنساناً في وقت تعاقبت على حكم اليمن العديد من الممالك هي معين وسبأ وحمير وفي فلكها أوسان وقتبان وحضرموت.. إلخ.
وهذه الممالك هي التي تم العثور على آثار تدل عليها والبالغة نحو 5 آلاف نقش أثري كلها تخلص إلى حقيقة واحدة هي اشتراك القادة الكبار لهذه الدول في مساعي تحقيق الوحدة اليمنية والحفاظ عليها، وان بين كل وحدة وأخرى فترات من الضعف والتفكك العابرة, كما تم تحقيق نوعين من الوحدة في تلك العهود, الأول: وحدة شاملة ضمت اليمن والجزيرة العربية وما وراءها من الأمم وأبرز قادتها يعرب وسبأ والحارث الرائش وذو القرنين وكرب آل وتر وغيرهم والثانية وحدة وطنية اقتصرت على اليمن أو الجزء الأكبر منه كما هو حال دولة حضرموت وأوسان وحبان وسمعي حاشد قبل الإسلام , والرسوليين والصليحيين في التاريخ الوسيط.... وفي كليهما فقد كان لتوحد اليمن أهمية كبيرة في استقرار وأمن الجزيرة العربية والعكس في حالة التفرق والتشرذم وهذه الحقيقة لا تزال السمة الغالبة إلى يومنا كون اليمن المركز الرئيسي للأمن والاستقرار الإقليمي نظراً لأهميتها الموقعية والجيوسياسية.
وإجمالاً فقد مرَّ اليمن قبل ظهور الإسلام بمرحلتين هما المرحلة المشرقة واستمرت من القرن 15 قبل الميلاد وحتى العام 115 ق. م وهي مرحلة الدولة السبئية والمرحلة المظلمة واستمرت من 50 ق. م وحتى القرن السادس الميلادي وهي مرحلة الدولة الحميرية وذلك بسبب وقوعها تحت تأثير الأطماع الخارجية كالبطالسة اليونان والرومان والأحباش والفرس..
الممالك القديمة الكبرى
- معين: وهو اللقب الثاني لعبد شمس بن يشجب بن يعرب إلى جانب لقب الشهرة سبأ الأكبر ومعين وسبأ من أعظم دول العهد القديم وبينهما تداخل كبير، ظهرت معين من الجوف في نحو 4000- 900 ق. م وقد عثر على نصب تذكاري بابلي ذُكرت فيه معين وصِلاتها بمملكة بابل يعود تاريخه إلى 3750 ق. م وما يهمنا هنا أن هذه الدولة كانت دولة تجارة وفتح اقتصادي وسلام وفي عهدها تحققت وحدة اليمن والجزيرة ووصل نفوذها الاقتصادي إلى حوض البحر الأبيض المتوسط وإليها يعود فضل اكتشاف فنون الملاحة البحرية وكان نظام الحكم فيها ملكي وراثي معتدل واستشاري على أن تدخل الملك فيها اقتصر على المسائل العليا المتعلقة بحقوق الملك والشعب فقط.
- سبأ: مؤسسها سبأ الأكبر بن يشجب بن يعرب ومرت بمرحلتين هما: سبأ الأولى وكانت معاصرة للحضارة السومرية في بلاد الرافدين وقد عثر على وثائق سومرية تعود إلى الفترة 5000- 3500 ق. م تكلمت عن وجود علاقات ربطتها بمملكة سبأ الأولى السابقة لظهور معين, وسبأ الثانية قامت خلال الفترة 950- 115 ق. م واستطاعت القضاء على معين والحلول مكانها وكانت دولة حروب وفتح وكانت لها صلات مع ملوك آشور وأكثر ملوك سبأ كانوا من موحدي اليمن والجزيرة العربية و ينقسم عهد سبأ إلى مرحلتين هما: مرحلة المكارب 850- 620 ق. م وفي عهدهم تم الجمع بين الحكم والكهانة والرياسة الدينية, فمرحلة الملوك 610- 115 ق. م وإجمالاً فقد لاقت سبأ مقاومة عنيفة من ملوك وأمراء الإقطاع الذين اصطدمت سياسة توسع سبأ بمصالحهم واستقلالهم, على أن النظام فيها كان ديني أكثر منه سياسي.
- حمير: تعود نسبتها إلى حمير بن سبأ, قامت خلال الفترة 115 ق. م- 525 م ويسمى عهدها بعهد التبابعة وفي عهدها تطورت الألقاب الرسمية للملوك تبعاً لتوسع نفوذ الدولة وشهدت بعض فتراتها توحد اليمن والجزيرة وإجمالاً فقد كانت سبأ المملكة وحمير الملوك والدولة وكان بينها وبين ملوك سبأ وكهلان تنافس وتداخل ,لا صراع وتنافر وكل منهما كان يسعى لتوحيد اليمن تحت نفوذه بشتى الوسائل من تحالفات ومعاهدات واندماجات وحروب.
صانعو الوحدة قبل الإسلام
زخرت مرحلة ما قبل ظهور الإسلام بالعديد من عمالقة التوحيد منهم على سبيل المثال:
- يعرب بن قحطان في نحو 5700- 5000 ق. م: وهو الجد الجامع لكل اليمنيين والعرب وأول الملوك في التاريخ القديم وأول من أقام دولة يمانية موحدة وعاصمتها صنعاء دامت من بعده قرابة 500 سنة.
وإسمه يمان أو يمن أو يامن حسب الهمداني وبه سميت اليمن وكونه أول من اشتق وحذف واختصر وأوجز وأعرب في كلامه لقب بيعرب ومن حينها ظهر اسم العرب وفي هذا يقول بن أبي الحديد في الجزء الثاني من شرح نهج البلاغة ص 495 "إن يعرب أول من أقام دولة يمانية عربية في التاريخ القديم، أي وحدّ القبائل القحطانية وكانت قد تكاثرت وانتشرت وانتقلت إلى أطوار الحضارة بما جعلهم يقيمون دولتهم".
- عبد شمس - سبأ الأكبر- بن يشجب بن يعرب نحو 3750- 3500 ق. م: وهو أول من أعاد وحدة اليمن الطبيعية مع الجزيرة العربية واهتم بالزراعة والري والتجارة وأكثر من الغزو وأسس الإمبراطورية السبئية بعهديها المعيني والسبئي وكان يمارس السلطة بواسطة ممثلين عن الشعب من ثلاث طبقات هي المزود والأقيال والأذواء.
- عبد شمس وايل – سبأ الثاني- بن وائل بن الغوث نحو 2750 ق. م: وهو ثالث الموحدين وإليه يعود فضل إنشاء سد مأرب ومن بعده ظلت اليمن موحدة في عهد خلفائه.
- تبع ذي مرائد- الرائد تبع الأكبر- نحو 2150 ق. م: وهو الموحد الرابع وبقيت اليمن موحدة في عهد ابنه شمر ذو الجناحين الأول والملك الصعب ذو القرنين السيار وهو تبع بن تبع الأقرن بن شمر يرعش بن إفريقيس وبقيت اليمن موحدة إلى أن وصل إلى الحكم الملك شدد بن قيس بن صيفي في نحو 1500 ق. م .. وصولاً إلى أخر الموحدين قبل الإسلام وهو سيف بن ذي يزن 575-596م.
وفي المحصلة فما يهمنا هنا هو إشتهار هذا العهد بالكثير من العمالقة الذين استطاعوا أن يوحدوا اليمن والجزيرة وأن يفرضوا أنفسهم على غيرهم من الأمم وبين كل وحدة وأخرى فترة ضعف ووهن وتشرذم لكنها ظلت في الحدود السياسية دون أن تطال الجوانب الأخرى كما كان هناك تنافس بين ملوك اليمن في تلك الحقبة ترك بصماته على المنطقة ولذا كان من الطبيعي أن يجتمع باجتماع ملوك اليمن وتوحدهم العرب ويفترقون لتفرقهم.
مظاهر الوحدة
- وحدة الأرض والإنسان: بإجماع المؤرخين ظلت اليمن في مساحتها الطبيعية وحدة لا تتجزأ منذ أن سكنها نبي الله نوح وحتى منتصف العقد الثالث من القرن العشرين مع عدم ورود أي ذكر لشمال أو جنوب وعليه يحدد المؤرخون مساحتها الطبيعية بالقسم الجنوبي من شبه الجزيرة العربية والذي يشمل اليوم الجمهورية اليمنية وسلطنة عمان والجزء الأعظم من جنوب العربية السعودية وهي الأرض التي أخذت مسماها من الملك يمن بن قحطان الملقب بيعرب - وقحطان ليس الأب المباشر ليعرب بل بينهما نحو ثلاثة آلاف سنة- وسمي شعبها باليمنيين ودولتها باليمن ومن ذرية هذا الملك تناسلت قبائل العرب قاطبة يقول ابن هشام "ان يعرب بن قحطان سمي يمناً وبه سميت اليمن" ويضيف ابن منظور "وهو أبو اليمن كلهم".
ولا زالت القبائل اليمنية عبر العصور تحتفظ بأنسابها وأصولها وفروعها المكونة فيما بينها نسيجاً اجتماعياً واحداً ناهيك عن التجانس في العادات والتقاليد والقيم والأهداف والهموم والطموحات والتطلعات.
- الوحدة الاقتصادية والحضارية: من الأمور اللافتة إدراك الممالك اليمنية المبكر لمساوئ تعدد الكيانات القبلية ذات النفوذ المحلي والكيانات الإقطاعية لما لها من ضرر على وحدة اليمن فحاولت تلافي ذلك عبر إقامة روابط اجتماعية على أسس اقتصادية قُسمت بموجبها قبائل اليمن إلى وحدات مجمعة زراعية وصناعية ومهنية... وربطت بينها بروابط العمل والإنتاج بدلاً من أواصل القرابة والدم أي أن تلك الممالك فضلت ربط القبائل بالروابط الدينية والاجتماعية والاقتصادية لا رابطة الدم والنسب وعلى أساسه برز ما يسمى بالعمل الجماعي التعاوني, هذا وقد تعددت صور الحضارات القديمة ما نجد دلالته في آثارها ونقوشها وفي وضع أسس السدود وإنشاء المحافد والمدن والقصور والمدرجات الزراعية والمعابد وشبكات الري والصهاريج والحاميات التجارية والمنارات, كما أقامت مستوطنات حضارية في مختلف المناطق وسنت ما يستلزمها من التشريعات والتنظيمات... على أن الطابع العام للنظام السائد قبل الإسلام هو النظام الإقطاعي, لكنه كان أقرب إلى التعاونيات الجماعية, فيما كانت الحياة الاجتماعية تتسم بالطابع القبلي مع هيمنة واضحة للسلطة الدينية.
كما شهدت تلك الفترة حضارة إنسانية رفيعة من أبرز مظاهرها اللغة السبئية القديمة والخط المسند, كما أظهرت الآثار والنقوش المنتشرة في أنحاء اليمن تشابهاً وتجانساً كبيراً بين أسماء الأوائل في السكن ومحال الإقامة.
- الوحدة السياسية: ضم اليمن عدداً من مراكز القوى الساعي كل منها إلى مد النفوذ والاستقطاب على سائر المجال الحيوي لليمن، في وقت كانت الوحدة فيه تمثل قوة وسلاح في وجوه الأعداء وغضب الطبيعة وغالباً ما كان يصحبها نظم سياسية شوروية تعطي للشعب حق المشاركة الفعلية في صناعة القرار سواء عبر اتحادات مجالس القبائل أو المجالس الاستشارية (المسود).
ومن مظاهر الوحدة السياسية أيضاً الأسماء والمسميات التي أطلقت على الأماكن والتعاريف الفنية منها المحفد والمخلاف حيث أطلق الأول على القصور والقلاع المحصنة والثاني على الأقاليم وهي تسميات إدارية, ويعد يعرب أول من قسم جزيرة العرب إلى ولايات وجعل على كل منها والي فيما كان سبأ بن حمير أول من وضع التقسيمات الإدارية فجعل المحفد مسمى للناحية أو المديرية عليها أمير والمخلاف مسمى للإقليم عليه قيل, وحسب الهمداني فإن عدد المخاليف وصلت إلى 30 مخلاف يمني سُمي كلٌ منها بمن سكنه من ملوك حمير وكهلان المتغلبين في عصورهم وهو ما جعل أسماء أماكن سُكنة الممالك اليمنية القديمة وأسماء أعلامها ومشاهيرها متشابهة ومتجانسة.
العوامل المؤثرة على وحدة اليمن
يأتي في مقدمتها نزعات التسيد والاستئثار بالسلطة إلى جانب العوائق الطبيعية والنزعات السياسية وجماعات المصالح والضغط خصوصاً أمراء الإقطاع مع دخول العامل الخارجي منذ النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد وتحديداً في 24 ق. م عندما حاول الرومان احتلال اليمن ومن بعدهم الأحباش والبطالسة اليونان والفرس وما أوجده هذا التنافس الحاد على اليمن من صراع وتعصب أيديولوجي وفكري لازالت اليمن تكتوي بناره إلى يومنا..ناهيك عن ضعف بعض ملوك تلك الحقبة وخلودهم إلى الترف والاسترخاء وتخليهم عن القيم السياسية لبناء الأسرة والمجتمع والفرد وهو ما جعل القرون السبعة المستبقة ظهور الإسلام نقطة مظلمة في تاريخ اليمن القديم باستثناء فترات متقطعة منها.
الوحدة اليمنية في عهد الإسلام
أتى الإسلام واليمن في ذروة الانقسام والتشرذم والتمزق والحروب ما جعل أبنائه يسارعون إلى اعتناق هذا الدين طواعية لأنهم وجدوا فيه الطريقة المثلى لاستعادة وحدتهم وبالفعل تمكن الرسول الخاتم من توحيد أبناء اليمن والقضاء على الطبقات وحكومات الأقاليم والأقيال فأرسل إلها رجالاً كثيرين ليسوا جميعاً حُكاماً أو ولاة بقدر ما كانوا يحققون التوعية بالإسلام وتحقيق سيادة الدولة المركزية وبالتالي التعامل مع اليمن كوحدة إدارية وسياسية متكاملة وهكذا ظل التعامل بعهد الرسول والخلفاء الراشدين والعهد الأموي وشطراً من العهد العباسي إلى أن شهدت اليمن قيام أول إمارة مستقلة في عهد المأمون العباسي.
واللافت هنا أنه رغم نجاح الرسول في معالجة الصراع والتعصب الأيديولوجي والفكري الذي ساد اليمن قبل ظهور الإسلام, لكن ذلك سرعان ما عاد إلى الواجهة تحت مسميات آخر مع نهاية عهد الخلفاء الراشدين وما صاحبه من صراع وتعصب أيديولوجي وفكري بين العلويين والأمويين وبين الأمويين والعباسيين والعلوية والإسماعيلية وغيرها, فكان اليمن وشعبه الأكثر تأثراً وإكتواءاً بمياسيمها إلى يومنا وهو ما حال دون توحد اليمن بعدها باستثناء فترات متقطعة ولعقود, كما أتاح ذلك فسحة وفرصة ذهبية للأطماع الخارجية في اليمن كالعثمانيين والفرس والجراكسة والأيوبيين،والفاطميين والمماليك والاستعمار الغربي وما بينهما شهدت اليمن العديد من الإمارات والممالك والدول كانت تتوسع وتنكمش حسب الظروف الداخلية والخارجية وشخصية الحكام.
صانعو الوحدة في العصر الوسيط
- محمد بن عبدالله بن زياد: وهو أول الموحدين في العصر الوسيط لمعظم أجزاء اليمن وأول من أقام إمارة يمنية مستقلة عن العباسيين في عام 819م /207هـ واستمرت نحو 200 عام وتوحدت اليمن في عهده لمدة ثلاثة عقود ومما ساعده على ذلك تحقيقه لبعض الإصلاحات العمرانية والثقافية ومن بعده تمكن حسين سلامه مولى بني زياد من توحيد اليمن لفترة قصيرة وامتد سلطانه من الشحر إلى مكة المكرمة.
- علي بن مهدي الحميري: تمكن في 1159 م من القضاء على الدولة النجاحية في تهامة وإخضاع معظم أجزاء اليمن وإقامة نظام قريب من الاشتراكية وهو ما أثار القوى الإقطاعية ضده وبالتالي التحالف مع الأيوبيين لإسقاط دولته في 1173م.
وبالفعل استطاع الأيوبيين بالتعاون مع أمراء الإقطاع المحليين من السيطرة على اليمن وتوحيده تحت حكمهم باستثناء القسم الأعلى الواقع تحت نفوذ الأئمة.
- علي بن الفضل الخنفري 889- 914م: كان هدفه توحيد اليمن وقد اشتملت دولته على أغلب أجزاء اليمن لكن ذلك لم يدم سوى 17 عاماً ومما ساعده على ذلك نجاحه في إسقاط إمارات الإقطاعيين.
- عمر بن علي بن رسول 1230- 1455م: أحد أشهر موحدي اليمن بعد الإسلام واستمرت في عهد خلفائه قرابة 93 سنة ووصل نفوذه الأدبي إلى عمان شرقاً والحجاز غرباً.
- علي محمد الصليحي 1048- 1150م: ثاني الموحدين لليمن بكاملها بعد بني رسول واستمرت كذلك إلى آخر عهد الملكة سيدة بنت أحمد الصليحي ومما ساعده على توحيد اليمن حينها أخذه أمراء الإقطاع وإسكانهم العاصمة صنعاء ليكونوا تحت رقابته المباشرة هذا وقد أمتد نفوذه الأدبي إلى الحجاز.
- المتوكل إسماعيل بن القاسم 1654- 1686: وهو آخر الموحدين في العصر الوسيط.
مما سبق نجد أن تعدد الدول وتداخلها واستعانة بعضها بالقوى الخارجية قد أدى في خاتمة المطاف إلى إنهاكها وضعفها وكون العامل الاقتصادي في طبيعته من العوامل القابلة للتفجير في أية لحظة فإننا نلحظ جلياً أهمية تعامل الدول اليمنية المتعاقبة والمتداخلة مع أمراء الإقطاع باعتباره من العوامل الحاسمة في توحيد اليمن وأمنه واستقراره في حال نجح ملوك تلك الدول في تحجيم الإقطاعيين وتقليص نفوذهم والعكس في حالة الفشل وهو ما نجد دلالته في السمات العامة لفترات التوحد والتي حملت معها الأمان والاستقرار والانتعاش الاقتصادي النسبي والرضا الجماهيري كما هو حال الدولة الصليحية والدولة الرسولية.
على أن هذا التعدد والتباين بين تلك الدول ظل محصوراً في الجانب السياسي من منطلق التسابق إلى توسيع النفوذ والسيطرة على كامل الأرض اليمنية أو معظم أجزائها لكن تحوله إلى صراع أسري داخل الدولة ذاتها كما هو حال الأئمة والنجاحيين والعبيديين وغيرهم وأحياناً فكري وأيديولوجي أوجد ظروفاً سيئة أتاحت للخارج فرصة ذهبية للتدخل وفرض الأجندة المعادية لليمن ووحدته, وصولاً إلى فرض الإنجليز والعثمانيين في 1914 م التجزئة السياسية على اليمنيين كأمر واقع لأول مرة في تاريخ اليمن ومن حينها برزت مسميات الشمال والجنوب.
عوامل كثيرة ساهمت في تكريس ظاهرة التجزئة في الثقافة اليمنية في مقدمتها سياسة الاستعمار البريطاني والحكم الإمامي والتي مثلت العقبة الكبرى أمام استعادة اليمن وحدته وهو ما أدى إلى توحد هدفي ثورتي سبتمبر وأكتوبر للتخلص من الاستعمار والإمامة تمهيداً لإعادة التحام الجسد اليمني وبغض النظر عن العوامل التي حالت دون التوحد بعد الثورة فقد مثل انتخاب علي عبدالله صالح في 17 يوليو 1978 لرئاسة ما كان يسمى بالجمهورية العربية اليمنية نقطة فارقة في تاريخ اليمن الوحدوي ومن حينها أضحت ثقافة الوحدة الثقافة المقروءة ولغة التفاهم والحوار الوحيدة والأقوى من الأيديولوجيات الدخيلة ومن الطائفية والمناطقية وبالتالي سيرورة حلم الأمس القريب حقيقة اليوم في 22 مايو 1990.
ا لمصادر:
- محمد ناصر ناصر حسن هادي, عمالقة الوحدة اليمنية في التاريخ القديم والحديث , مركز عبادي,ط1 , 2001.
- محمد سالم شجاب, الوحدة والثورات اليمنية عبر العصور , ط1 , 2007.
- القاضي عبدالله الشماحي, اليمن الإنسان والحضارة , منشورات المدينة- بيروت,ط3 ,1985.
- محمد يحيى الحداد,التاريخ العام لليمن, ج1-4, منشورات المدينة-بيروت, ط1, 1986م.
- سلطان أحمد عمر, نظرة في تطور المجتمع اليمني, دار الطليعة , ط1 , شباط1970.
- حسن قاضي, متى تجزأت اليمن؟ بدلاً من: متى توحدت اليمن؟,مجلة الحكمة,إتحاد الأدباء والكتاب-صنعاء, العدد149,سبتمبر1987.
- د.أحمد الأصبحي ,قراءة في تاريخ اليمن الوحدوي,ورقة عمل – ندوة الوحدة اليمنية في عامها ألـ 17 , معهد الميثاق 20 أيار/مايو2007.
- د. عبدالعزيز الشعيبي, الخلفية التاريخية للوحدة اليمنية,ندوة الوحدة اليمنية,المرجع السابق.
وحدة اليمن أرضاً وإنساناً من المسلمات الثابتة ثبوت وجود الشعب اليمني والأرض اليمنية منذ أن تمكن يعرب بن قحطان الجد الجامع لهذا الشعب من إقامة أول وحدة يعربية يمانية في الألف الخامسة قبل الميلاد، ومن حينها شكلت الوحدة الهدف الجامع لكافة ملوك وأمراء اليمن سواء في التاريخ القديم أو الوسيط أو الحديث والسمة الغالبة على تاريخ هذا الشعب والقاعدة العاكسة جوهر الإرادة اليمنية الطامحة دوماً إلى التوحد والاتحاد باعتبار ذلك من عوامل القوة في مواجهة أخطار الطبيعة وتطويعها لصالح الإنسان اليمني ومواجهة الأطماع الخارجية بعناوينها المختلفة.
وفي الاتجاه الأخرى شكلت حالة التجزئة والانشطار التي شابت اليمن في بعض المراحل التاريخية على مر العصور ظاهرة استثنائية وعابرة فرضتها ظروف استثنائية وصنعتها إرادة غير يمنية أي أنها لم تكن في يوم من الأيام أمراً طبيعياً بل ظاهرة غريبة ودخيلة على اليمن وشعبه وتاريخه الوحدوي المشرق.
ورغم ما صاحب ذلك من جدل عقيم حول ما إذا كانت الوحدة القاعدة والتجزئة الاستثناء أم العكس؟ فما نجده من خلال قراءتنا السريعة لتاريخ اليمن الوحدوي منذ الألف الخامسة قبل الميلادي وحتى استعادة اليمن عافيته والتئام جسده الواحد في 22 أيار/ مايو 1990 هو تأكيد حقيقة أن فترات التوحد كانت على الدوام الأطول زمنياً وكانت على الدوام عامل أمان واستقرار وانتعاش اقتصادي وفكري وحضاري ليس لليمن فحسب بل ولمحيطها الإقليمي في حين كانت فترات التجزئة قصيرة جداً, كما أن ما شهدته اليمن من ممالك ودول متعددة سواء قبل الإسلام أو بعد استقلال اليمن عن الدولة العباسية وصولاً إلى العام 1914 إنما كان تعدد وتنوع يثير قاعدة التوحد ويعززها لسببين هما: استمرار بقاء التواصل والاتصال الثقافي والمعيشي, ناهيك عن حرية تنقل الناس, فيما بينها وعدم تجاوز سقف الاختلاف المستوى السياسي دون أن يتعداه إلى المستويات الأخرى سواء كانت اقتصادية أو ثقافية أو اجتماعية, وهو ما حافظ على وحدة الشعب ووحدة خصائصه ,كما لم تشهد تلك الفترة وجود حدود سياسية مرسومة بالمعنى المتعارف عليه بين الدول.
منذ العام 1914 بدأت مرحلة جديدة في التاريخ اليمني عندما شرع الانجليز والعثمانيين في تقسيم مناطق نفوذهما وترسيم الحدود بينهما وهو ما مثل سابقة خطيرة على صعيد التجزئة السياسية لأول مرة في تاريخ هذا الشعب والمتعمقة بصورة أكبر عقب رفض الإمام يحيى استلام المناطق الجنوبية التي كانت تحت نفوذ الأتراك إثر انسحابهم من شمال اليمن في العام 1919 وصولاً إلى الاعتراف بالتجزئة كسياسة أمر واقع عندما وقع الإمام في 1934 معاهدة اعتراف وصداقة مع الإنجليز تضمنت الإبقاء على الوضع القائم بالمناطق الجنوبية والشرقية كما هو لأربعة عقود قادمة من تاريخه ومن حينها بدأ الجدل وبدأت مفاهيم الجنوب والشمال تشق طريقها إلى المشهد السياسي.
إن ما تمر به اليمن اليوم هو في حقيقته اجترار شائه واستنساخ مشوهه غايته نسف الصفحة المشرقة لتاريخ اليمن الواحد في أرضه وإنسانه وخواصه الثقافية والحضارية والنفسية والسلوكية الواحدة الموحدة منذ سبعة آلاف سنة.
كل هذا يضعنا أمام سؤال محوري ومصيري هو: هل كانت اليمن فعلاً مجزأة تاريخياً؟, بدلاً من: هل كانت اليمن موحدة تاريخياً؟ ورغم أن الصيغة الأخيرة غير قابلة للشك والتشكيك عكس الصيغة الأولى إلا أن ما شهدته من رواج وجدل ترفي في أوساط الحالمين بعودة عهود السلاطين وعهود الرجعية والتخلف دفعنا إلى هذه القراءة السريعة لتاريخ اليمن الموحد بغية إزالة اللبس والتشكيك وتأكيداً لحقيقة انتصار الصوت الوحدوي في كافة مراحل التاريخ اليمني على الأصوات النشّازة لدعاة الفتنة والتجزئة.
الوحدة اليمنية قبل الإسلام
ذكرت اليمن في الكثير من الكتب القديمة كالتوراة وكتب مؤرخي الإغريق واليونان ووصفت باليمن السعيد ولم يوصف أي بلد غيرها بهذا، ووصفها القرآن الكريم بالجنة والبلدة الطيبة، ولم يصف أي بلد سواها بهذا, وخصها بسورتي سبأ والأحقاف ولم تكن سبأ سوى مملكة اليمن القديمة وهو تعبير لغوي مجازي المقصود منه السلطة اليمنية والشعب اليمني وحضارته الضاربة التي قامت بسبأ مأرب وأحقاف حضرموت.
وسبأ والأحقاف أسماء لمناطق يمانية وفي القصص القرآني نال اليمن ورجاله نصيباً كبيراً منها كأصحاب الجنة وقصص الأخدود والفيل وأبرهة وإرم ذات العماد وذو القرنين السيار وملكة سبأ والسيل العرم وقوم تبع.
وعندما أسلم أهل اليمن طواعية خصهم الله بسورة النصر فيما قال الرسول وهو يستقبل وفودهم [جاءكم أهل اليمن ....]. هكذا تحدث القرآن والرسول الخاتم عن أهل اليمن ومملكة سبأ في إطار منطق الوحدة وليس منطق التجزئة وعن مكانة هذا البلد ودوره الحضاري قبل مجيء الرسول الخاتم على أن هذا الدور وتلك المكانة لم تأتي من فراغ بل كان هناك شعب عظيم وقادة كبار استطاعوا توحيد أيادي سبأ منذ فجر التاريخ في كيان حضاري موحد توفرت له كل أسباب القوة والازدهار بما جعله يصل إلى مستوى تنظيم نفسه في نظم سياسية قوية فرضت نفسها على قبائل الجزيرة العربية وما وراءها من الأمم وما كان لها أن تصل إلى هذا المستوى لو لم تكن موحدة أرضاً وإنساناً في وقت تعاقبت على حكم اليمن العديد من الممالك هي معين وسبأ وحمير وفي فلكها أوسان وقتبان وحضرموت.. إلخ.
وهذه الممالك هي التي تم العثور على آثار تدل عليها والبالغة نحو 5 آلاف نقش أثري كلها تخلص إلى حقيقة واحدة هي اشتراك القادة الكبار لهذه الدول في مساعي تحقيق الوحدة اليمنية والحفاظ عليها، وان بين كل وحدة وأخرى فترات من الضعف والتفكك العابرة, كما تم تحقيق نوعين من الوحدة في تلك العهود, الأول: وحدة شاملة ضمت اليمن والجزيرة العربية وما وراءها من الأمم وأبرز قادتها يعرب وسبأ والحارث الرائش وذو القرنين وكرب آل وتر وغيرهم والثانية وحدة وطنية اقتصرت على اليمن أو الجزء الأكبر منه كما هو حال دولة حضرموت وأوسان وحبان وسمعي حاشد قبل الإسلام , والرسوليين والصليحيين في التاريخ الوسيط.... وفي كليهما فقد كان لتوحد اليمن أهمية كبيرة في استقرار وأمن الجزيرة العربية والعكس في حالة التفرق والتشرذم وهذه الحقيقة لا تزال السمة الغالبة إلى يومنا كون اليمن المركز الرئيسي للأمن والاستقرار الإقليمي نظراً لأهميتها الموقعية والجيوسياسية.
وإجمالاً فقد مرَّ اليمن قبل ظهور الإسلام بمرحلتين هما المرحلة المشرقة واستمرت من القرن 15 قبل الميلاد وحتى العام 115 ق. م وهي مرحلة الدولة السبئية والمرحلة المظلمة واستمرت من 50 ق. م وحتى القرن السادس الميلادي وهي مرحلة الدولة الحميرية وذلك بسبب وقوعها تحت تأثير الأطماع الخارجية كالبطالسة اليونان والرومان والأحباش والفرس..
الممالك القديمة الكبرى
- معين: وهو اللقب الثاني لعبد شمس بن يشجب بن يعرب إلى جانب لقب الشهرة سبأ الأكبر ومعين وسبأ من أعظم دول العهد القديم وبينهما تداخل كبير، ظهرت معين من الجوف في نحو 4000- 900 ق. م وقد عثر على نصب تذكاري بابلي ذُكرت فيه معين وصِلاتها بمملكة بابل يعود تاريخه إلى 3750 ق. م وما يهمنا هنا أن هذه الدولة كانت دولة تجارة وفتح اقتصادي وسلام وفي عهدها تحققت وحدة اليمن والجزيرة ووصل نفوذها الاقتصادي إلى حوض البحر الأبيض المتوسط وإليها يعود فضل اكتشاف فنون الملاحة البحرية وكان نظام الحكم فيها ملكي وراثي معتدل واستشاري على أن تدخل الملك فيها اقتصر على المسائل العليا المتعلقة بحقوق الملك والشعب فقط.
- سبأ: مؤسسها سبأ الأكبر بن يشجب بن يعرب ومرت بمرحلتين هما: سبأ الأولى وكانت معاصرة للحضارة السومرية في بلاد الرافدين وقد عثر على وثائق سومرية تعود إلى الفترة 5000- 3500 ق. م تكلمت عن وجود علاقات ربطتها بمملكة سبأ الأولى السابقة لظهور معين, وسبأ الثانية قامت خلال الفترة 950- 115 ق. م واستطاعت القضاء على معين والحلول مكانها وكانت دولة حروب وفتح وكانت لها صلات مع ملوك آشور وأكثر ملوك سبأ كانوا من موحدي اليمن والجزيرة العربية و ينقسم عهد سبأ إلى مرحلتين هما: مرحلة المكارب 850- 620 ق. م وفي عهدهم تم الجمع بين الحكم والكهانة والرياسة الدينية, فمرحلة الملوك 610- 115 ق. م وإجمالاً فقد لاقت سبأ مقاومة عنيفة من ملوك وأمراء الإقطاع الذين اصطدمت سياسة توسع سبأ بمصالحهم واستقلالهم, على أن النظام فيها كان ديني أكثر منه سياسي.
- حمير: تعود نسبتها إلى حمير بن سبأ, قامت خلال الفترة 115 ق. م- 525 م ويسمى عهدها بعهد التبابعة وفي عهدها تطورت الألقاب الرسمية للملوك تبعاً لتوسع نفوذ الدولة وشهدت بعض فتراتها توحد اليمن والجزيرة وإجمالاً فقد كانت سبأ المملكة وحمير الملوك والدولة وكان بينها وبين ملوك سبأ وكهلان تنافس وتداخل ,لا صراع وتنافر وكل منهما كان يسعى لتوحيد اليمن تحت نفوذه بشتى الوسائل من تحالفات ومعاهدات واندماجات وحروب.
صانعو الوحدة قبل الإسلام
زخرت مرحلة ما قبل ظهور الإسلام بالعديد من عمالقة التوحيد منهم على سبيل المثال:
- يعرب بن قحطان في نحو 5700- 5000 ق. م: وهو الجد الجامع لكل اليمنيين والعرب وأول الملوك في التاريخ القديم وأول من أقام دولة يمانية موحدة وعاصمتها صنعاء دامت من بعده قرابة 500 سنة.
وإسمه يمان أو يمن أو يامن حسب الهمداني وبه سميت اليمن وكونه أول من اشتق وحذف واختصر وأوجز وأعرب في كلامه لقب بيعرب ومن حينها ظهر اسم العرب وفي هذا يقول بن أبي الحديد في الجزء الثاني من شرح نهج البلاغة ص 495 "إن يعرب أول من أقام دولة يمانية عربية في التاريخ القديم، أي وحدّ القبائل القحطانية وكانت قد تكاثرت وانتشرت وانتقلت إلى أطوار الحضارة بما جعلهم يقيمون دولتهم".
- عبد شمس - سبأ الأكبر- بن يشجب بن يعرب نحو 3750- 3500 ق. م: وهو أول من أعاد وحدة اليمن الطبيعية مع الجزيرة العربية واهتم بالزراعة والري والتجارة وأكثر من الغزو وأسس الإمبراطورية السبئية بعهديها المعيني والسبئي وكان يمارس السلطة بواسطة ممثلين عن الشعب من ثلاث طبقات هي المزود والأقيال والأذواء.
- عبد شمس وايل – سبأ الثاني- بن وائل بن الغوث نحو 2750 ق. م: وهو ثالث الموحدين وإليه يعود فضل إنشاء سد مأرب ومن بعده ظلت اليمن موحدة في عهد خلفائه.
- تبع ذي مرائد- الرائد تبع الأكبر- نحو 2150 ق. م: وهو الموحد الرابع وبقيت اليمن موحدة في عهد ابنه شمر ذو الجناحين الأول والملك الصعب ذو القرنين السيار وهو تبع بن تبع الأقرن بن شمر يرعش بن إفريقيس وبقيت اليمن موحدة إلى أن وصل إلى الحكم الملك شدد بن قيس بن صيفي في نحو 1500 ق. م .. وصولاً إلى أخر الموحدين قبل الإسلام وهو سيف بن ذي يزن 575-596م.
وفي المحصلة فما يهمنا هنا هو إشتهار هذا العهد بالكثير من العمالقة الذين استطاعوا أن يوحدوا اليمن والجزيرة وأن يفرضوا أنفسهم على غيرهم من الأمم وبين كل وحدة وأخرى فترة ضعف ووهن وتشرذم لكنها ظلت في الحدود السياسية دون أن تطال الجوانب الأخرى كما كان هناك تنافس بين ملوك اليمن في تلك الحقبة ترك بصماته على المنطقة ولذا كان من الطبيعي أن يجتمع باجتماع ملوك اليمن وتوحدهم العرب ويفترقون لتفرقهم.
مظاهر الوحدة
- وحدة الأرض والإنسان: بإجماع المؤرخين ظلت اليمن في مساحتها الطبيعية وحدة لا تتجزأ منذ أن سكنها نبي الله نوح وحتى منتصف العقد الثالث من القرن العشرين مع عدم ورود أي ذكر لشمال أو جنوب وعليه يحدد المؤرخون مساحتها الطبيعية بالقسم الجنوبي من شبه الجزيرة العربية والذي يشمل اليوم الجمهورية اليمنية وسلطنة عمان والجزء الأعظم من جنوب العربية السعودية وهي الأرض التي أخذت مسماها من الملك يمن بن قحطان الملقب بيعرب - وقحطان ليس الأب المباشر ليعرب بل بينهما نحو ثلاثة آلاف سنة- وسمي شعبها باليمنيين ودولتها باليمن ومن ذرية هذا الملك تناسلت قبائل العرب قاطبة يقول ابن هشام "ان يعرب بن قحطان سمي يمناً وبه سميت اليمن" ويضيف ابن منظور "وهو أبو اليمن كلهم".
ولا زالت القبائل اليمنية عبر العصور تحتفظ بأنسابها وأصولها وفروعها المكونة فيما بينها نسيجاً اجتماعياً واحداً ناهيك عن التجانس في العادات والتقاليد والقيم والأهداف والهموم والطموحات والتطلعات.
- الوحدة الاقتصادية والحضارية: من الأمور اللافتة إدراك الممالك اليمنية المبكر لمساوئ تعدد الكيانات القبلية ذات النفوذ المحلي والكيانات الإقطاعية لما لها من ضرر على وحدة اليمن فحاولت تلافي ذلك عبر إقامة روابط اجتماعية على أسس اقتصادية قُسمت بموجبها قبائل اليمن إلى وحدات مجمعة زراعية وصناعية ومهنية... وربطت بينها بروابط العمل والإنتاج بدلاً من أواصل القرابة والدم أي أن تلك الممالك فضلت ربط القبائل بالروابط الدينية والاجتماعية والاقتصادية لا رابطة الدم والنسب وعلى أساسه برز ما يسمى بالعمل الجماعي التعاوني, هذا وقد تعددت صور الحضارات القديمة ما نجد دلالته في آثارها ونقوشها وفي وضع أسس السدود وإنشاء المحافد والمدن والقصور والمدرجات الزراعية والمعابد وشبكات الري والصهاريج والحاميات التجارية والمنارات, كما أقامت مستوطنات حضارية في مختلف المناطق وسنت ما يستلزمها من التشريعات والتنظيمات... على أن الطابع العام للنظام السائد قبل الإسلام هو النظام الإقطاعي, لكنه كان أقرب إلى التعاونيات الجماعية, فيما كانت الحياة الاجتماعية تتسم بالطابع القبلي مع هيمنة واضحة للسلطة الدينية.
كما شهدت تلك الفترة حضارة إنسانية رفيعة من أبرز مظاهرها اللغة السبئية القديمة والخط المسند, كما أظهرت الآثار والنقوش المنتشرة في أنحاء اليمن تشابهاً وتجانساً كبيراً بين أسماء الأوائل في السكن ومحال الإقامة.
- الوحدة السياسية: ضم اليمن عدداً من مراكز القوى الساعي كل منها إلى مد النفوذ والاستقطاب على سائر المجال الحيوي لليمن، في وقت كانت الوحدة فيه تمثل قوة وسلاح في وجوه الأعداء وغضب الطبيعة وغالباً ما كان يصحبها نظم سياسية شوروية تعطي للشعب حق المشاركة الفعلية في صناعة القرار سواء عبر اتحادات مجالس القبائل أو المجالس الاستشارية (المسود).
ومن مظاهر الوحدة السياسية أيضاً الأسماء والمسميات التي أطلقت على الأماكن والتعاريف الفنية منها المحفد والمخلاف حيث أطلق الأول على القصور والقلاع المحصنة والثاني على الأقاليم وهي تسميات إدارية, ويعد يعرب أول من قسم جزيرة العرب إلى ولايات وجعل على كل منها والي فيما كان سبأ بن حمير أول من وضع التقسيمات الإدارية فجعل المحفد مسمى للناحية أو المديرية عليها أمير والمخلاف مسمى للإقليم عليه قيل, وحسب الهمداني فإن عدد المخاليف وصلت إلى 30 مخلاف يمني سُمي كلٌ منها بمن سكنه من ملوك حمير وكهلان المتغلبين في عصورهم وهو ما جعل أسماء أماكن سُكنة الممالك اليمنية القديمة وأسماء أعلامها ومشاهيرها متشابهة ومتجانسة.
العوامل المؤثرة على وحدة اليمن
يأتي في مقدمتها نزعات التسيد والاستئثار بالسلطة إلى جانب العوائق الطبيعية والنزعات السياسية وجماعات المصالح والضغط خصوصاً أمراء الإقطاع مع دخول العامل الخارجي منذ النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد وتحديداً في 24 ق. م عندما حاول الرومان احتلال اليمن ومن بعدهم الأحباش والبطالسة اليونان والفرس وما أوجده هذا التنافس الحاد على اليمن من صراع وتعصب أيديولوجي وفكري لازالت اليمن تكتوي بناره إلى يومنا..ناهيك عن ضعف بعض ملوك تلك الحقبة وخلودهم إلى الترف والاسترخاء وتخليهم عن القيم السياسية لبناء الأسرة والمجتمع والفرد وهو ما جعل القرون السبعة المستبقة ظهور الإسلام نقطة مظلمة في تاريخ اليمن القديم باستثناء فترات متقطعة منها.
الوحدة اليمنية في عهد الإسلام
أتى الإسلام واليمن في ذروة الانقسام والتشرذم والتمزق والحروب ما جعل أبنائه يسارعون إلى اعتناق هذا الدين طواعية لأنهم وجدوا فيه الطريقة المثلى لاستعادة وحدتهم وبالفعل تمكن الرسول الخاتم من توحيد أبناء اليمن والقضاء على الطبقات وحكومات الأقاليم والأقيال فأرسل إلها رجالاً كثيرين ليسوا جميعاً حُكاماً أو ولاة بقدر ما كانوا يحققون التوعية بالإسلام وتحقيق سيادة الدولة المركزية وبالتالي التعامل مع اليمن كوحدة إدارية وسياسية متكاملة وهكذا ظل التعامل بعهد الرسول والخلفاء الراشدين والعهد الأموي وشطراً من العهد العباسي إلى أن شهدت اليمن قيام أول إمارة مستقلة في عهد المأمون العباسي.
واللافت هنا أنه رغم نجاح الرسول في معالجة الصراع والتعصب الأيديولوجي والفكري الذي ساد اليمن قبل ظهور الإسلام, لكن ذلك سرعان ما عاد إلى الواجهة تحت مسميات آخر مع نهاية عهد الخلفاء الراشدين وما صاحبه من صراع وتعصب أيديولوجي وفكري بين العلويين والأمويين وبين الأمويين والعباسيين والعلوية والإسماعيلية وغيرها, فكان اليمن وشعبه الأكثر تأثراً وإكتواءاً بمياسيمها إلى يومنا وهو ما حال دون توحد اليمن بعدها باستثناء فترات متقطعة ولعقود, كما أتاح ذلك فسحة وفرصة ذهبية للأطماع الخارجية في اليمن كالعثمانيين والفرس والجراكسة والأيوبيين،والفاطميين والمماليك والاستعمار الغربي وما بينهما شهدت اليمن العديد من الإمارات والممالك والدول كانت تتوسع وتنكمش حسب الظروف الداخلية والخارجية وشخصية الحكام.
صانعو الوحدة في العصر الوسيط
- محمد بن عبدالله بن زياد: وهو أول الموحدين في العصر الوسيط لمعظم أجزاء اليمن وأول من أقام إمارة يمنية مستقلة عن العباسيين في عام 819م /207هـ واستمرت نحو 200 عام وتوحدت اليمن في عهده لمدة ثلاثة عقود ومما ساعده على ذلك تحقيقه لبعض الإصلاحات العمرانية والثقافية ومن بعده تمكن حسين سلامه مولى بني زياد من توحيد اليمن لفترة قصيرة وامتد سلطانه من الشحر إلى مكة المكرمة.
- علي بن مهدي الحميري: تمكن في 1159 م من القضاء على الدولة النجاحية في تهامة وإخضاع معظم أجزاء اليمن وإقامة نظام قريب من الاشتراكية وهو ما أثار القوى الإقطاعية ضده وبالتالي التحالف مع الأيوبيين لإسقاط دولته في 1173م.
وبالفعل استطاع الأيوبيين بالتعاون مع أمراء الإقطاع المحليين من السيطرة على اليمن وتوحيده تحت حكمهم باستثناء القسم الأعلى الواقع تحت نفوذ الأئمة.
- علي بن الفضل الخنفري 889- 914م: كان هدفه توحيد اليمن وقد اشتملت دولته على أغلب أجزاء اليمن لكن ذلك لم يدم سوى 17 عاماً ومما ساعده على ذلك نجاحه في إسقاط إمارات الإقطاعيين.
- عمر بن علي بن رسول 1230- 1455م: أحد أشهر موحدي اليمن بعد الإسلام واستمرت في عهد خلفائه قرابة 93 سنة ووصل نفوذه الأدبي إلى عمان شرقاً والحجاز غرباً.
- علي محمد الصليحي 1048- 1150م: ثاني الموحدين لليمن بكاملها بعد بني رسول واستمرت كذلك إلى آخر عهد الملكة سيدة بنت أحمد الصليحي ومما ساعده على توحيد اليمن حينها أخذه أمراء الإقطاع وإسكانهم العاصمة صنعاء ليكونوا تحت رقابته المباشرة هذا وقد أمتد نفوذه الأدبي إلى الحجاز.
- المتوكل إسماعيل بن القاسم 1654- 1686: وهو آخر الموحدين في العصر الوسيط.
مما سبق نجد أن تعدد الدول وتداخلها واستعانة بعضها بالقوى الخارجية قد أدى في خاتمة المطاف إلى إنهاكها وضعفها وكون العامل الاقتصادي في طبيعته من العوامل القابلة للتفجير في أية لحظة فإننا نلحظ جلياً أهمية تعامل الدول اليمنية المتعاقبة والمتداخلة مع أمراء الإقطاع باعتباره من العوامل الحاسمة في توحيد اليمن وأمنه واستقراره في حال نجح ملوك تلك الدول في تحجيم الإقطاعيين وتقليص نفوذهم والعكس في حالة الفشل وهو ما نجد دلالته في السمات العامة لفترات التوحد والتي حملت معها الأمان والاستقرار والانتعاش الاقتصادي النسبي والرضا الجماهيري كما هو حال الدولة الصليحية والدولة الرسولية.
على أن هذا التعدد والتباين بين تلك الدول ظل محصوراً في الجانب السياسي من منطلق التسابق إلى توسيع النفوذ والسيطرة على كامل الأرض اليمنية أو معظم أجزائها لكن تحوله إلى صراع أسري داخل الدولة ذاتها كما هو حال الأئمة والنجاحيين والعبيديين وغيرهم وأحياناً فكري وأيديولوجي أوجد ظروفاً سيئة أتاحت للخارج فرصة ذهبية للتدخل وفرض الأجندة المعادية لليمن ووحدته, وصولاً إلى فرض الإنجليز والعثمانيين في 1914 م التجزئة السياسية على اليمنيين كأمر واقع لأول مرة في تاريخ اليمن ومن حينها برزت مسميات الشمال والجنوب.
عوامل كثيرة ساهمت في تكريس ظاهرة التجزئة في الثقافة اليمنية في مقدمتها سياسة الاستعمار البريطاني والحكم الإمامي والتي مثلت العقبة الكبرى أمام استعادة اليمن وحدته وهو ما أدى إلى توحد هدفي ثورتي سبتمبر وأكتوبر للتخلص من الاستعمار والإمامة تمهيداً لإعادة التحام الجسد اليمني وبغض النظر عن العوامل التي حالت دون التوحد بعد الثورة فقد مثل انتخاب علي عبدالله صالح في 17 يوليو 1978 لرئاسة ما كان يسمى بالجمهورية العربية اليمنية نقطة فارقة في تاريخ اليمن الوحدوي ومن حينها أضحت ثقافة الوحدة الثقافة المقروءة ولغة التفاهم والحوار الوحيدة والأقوى من الأيديولوجيات الدخيلة ومن الطائفية والمناطقية وبالتالي سيرورة حلم الأمس القريب حقيقة اليوم في 22 مايو 1990.
ا لمصادر:
- محمد ناصر ناصر حسن هادي, عمالقة الوحدة اليمنية في التاريخ القديم والحديث , مركز عبادي,ط1 , 2001.
- محمد سالم شجاب, الوحدة والثورات اليمنية عبر العصور , ط1 , 2007.
- القاضي عبدالله الشماحي, اليمن الإنسان والحضارة , منشورات المدينة- بيروت,ط3 ,1985.
- محمد يحيى الحداد,التاريخ العام لليمن, ج1-4, منشورات المدينة-بيروت, ط1, 1986م.
- سلطان أحمد عمر, نظرة في تطور المجتمع اليمني, دار الطليعة , ط1 , شباط1970.
- حسن قاضي, متى تجزأت اليمن؟ بدلاً من: متى توحدت اليمن؟,مجلة الحكمة,إتحاد الأدباء والكتاب-صنعاء, العدد149,سبتمبر1987.
- د.أحمد الأصبحي ,قراءة في تاريخ اليمن الوحدوي,ورقة عمل – ندوة الوحدة اليمنية في عامها ألـ 17 , معهد الميثاق 20 أيار/مايو2007.
- د. عبدالعزيز الشعيبي, الخلفية التاريخية للوحدة اليمنية,ندوة الوحدة اليمنية,المرجع السابق.
السبت، 11 يوليو 2009
لاءات نتنياهو ورهانات العرب
زيد يحيى المحبشي 10 يوليو, 2009
بعد مرور 75 يوماً على توليه رئاسة حكومة الاحتلال الإسرائيلي في31 آذار/ مارس الماضي و10 أيام من توجيه أوباما رسالته التصالحية إلى العرب والمسلمين من على منبر جامعة القاهرة في 4 حزيران/ يونيو الماضي, قرر نتنياهو في 14 حزيران/ يونيو الماضي الإفصاح عن رؤيته التي طال انتظارها عربياً ودولياً, إزاء عملية السلام بالمنطقة عموماً وفلسطين المحتلة على وجه التحديد, بالتزامن طبعاً مع الذكرى الثانية للانقلاب في غزة ومن على منبر جامعة مئير بار إيلان اللاهوتية التي تخرج منها إيجال عامير قاتل إسحاق رابين وباروخ جولدشتاين مهندس مجزرة الحرم الإبراهيمي , وفي وقت تمر فيه المنطقة بحالة من الركود السياسي عنوانها تقطيع الوقت انتظاراً لما قد تفرزه عجلة الحوار الأميركي الإيراني حول الملف النووي والتي سيتم بموجبها تحديد المفاصل التي ستحكم ضوابط الواقع القائم فيما يتعلق بما يجب عمله تجاه عملية السلام تبعاً لمؤشرات واتجاهات البوصلة الإقليمية والدولية على حدٍ سواء.
خطاب نتنياهو في إطاره العام اقتصر على العموميات مفسحاً المجال للمناورات السياسية حول التفاصيل والتي ستخضع للمزيد من اللعب على الخطوط الداخلية- إسرائيل وفلسطين- والخارجية -إقليمياً ودولياً- طبعاً فيما عدا الخطوط الحمراء لأن الموقف فيها نهائي وحتمي وغير قابل للمساومة والمناورة.
نتنياهو بدا أكثر وضوحاً وهو يستحضر المخاوف الإسرائيلية المتراكمة على عكس أوباما الذي بدا أكثر ضبابية ولذا نجده وهو يرسم رؤية ائتلافه الحاكم حريصاً كل الحرص على عدم التصادم مع أوباما ولكن دون الموافقة أو الرفض النهائي لأطروحات واشنطن حول عملية السلام وحل الدولتين وتجميد المستوطنات وهي خطوة ذكية وغمزة خفيفة وشقية جعلت أوباما في مقدمة المرحبين بها.
صحيح أن هذه الخطوة لم تأتِ بجديد باستثناء فتحها المجال لإمكانية استئناف المفاوضات خصوصاً وأنها لم تتعدى حدود عالم الخُدع في مجال العلاقات العامة لكنها رغم ذلك أتاحت لنتنياهو اصطياد 3 عصافير بطلقة واحدة هي ثناء أميركا وإجماع إسرائيلي نادر من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وإقناع كتلة الليكود بأن شيئاً لم يحدث بل مجرد تقليد للمحافظين الجدد في حين بدا المشهد الفلسطيني والعربي رغم مسارعته لرفض أجندة نتنياهو في أسوأ حالات الانقسام والتشتت.
نتنياهو نجح أيضاً في إعادة خلط كل الأوراق عندما طرح مقاربة توازي بين الضغط الدولي لجهة القبول بحل الدولتين وتجميد المستوطنات وبين حاجة كيانه للاعتراف بشرعيته كوطن يهودي، وبين مطالبة المجتمع الدولي بالضغط على الفلسطينيين والعرب للقبول بذلك بصورة توازي ضغطه الحالي على إسرائيل، في محاولة منه لإقناع الجميع بأهمية الربط السلس بين المصالح الإسرائيلية والخطر الإيراني الماثل أمام إسرائيل والمنطقة وبين المستوطنات وضرورة قيام المجتمع الدولي بدور بناء وإيجابي تجاه الخطر الإيراني وعملية السلام بالشرق الأوسط يؤكد التزامه بأمن إسرائيل والضغط على العرب للدخول الفوري في التطبيع وتدشين مرحلة السلام الاقتصادي دون قيد أو شرط كخطوة أولى لتخفيف العزلة عن الفلسطينيين والسير الجدي في عملية السلام.
قراءة في المضامين
إسرائيل وجود استعماري مصطنع وهجين بدأ بالبرج والسور وترسخ بهما وينتهي بهما, نصف الحقيقة، نعم للدولة الفلسطينية تعني لا للدولة اليهودية والعكس صحيح نعم للدولة اليهودية تعني لا للدولة الفلسطينية، كل الحقيقة، إذن ليس من قبيل المفارقة أن نجد نتنياهو وهو يستحضر مواقف كيانه المتراكمة والمتناثرة وإبرازها في قالب جديد ظاهره الرغبة في السلام والاستقرار وباطنه التأكيد على طلائعية وقيمية المشروع الاستيطاني والحق التاريخي والامتداد التراثي اليهودي دون الاكتفاء بمجرد الوجود والاعتراف به كما كان يطالب بذلك حزب العمل بل والتطلع إلى إقرار كوني بحق يهودي تاريخي مزيف في أرض فلسطين التاريخية يحفظ المستقبل عبر التطبيع مع الحاضر ويُشرع الأبواب أمام الإقرار بحق اليهود في أن تكون لهم دولتهم اليهودية الخالصة النقية على أرضهم التاريخية (أرض 48)، ولكن مع إضافة يهودا و السامرة (الضفة الغربية في إطار ما يسمى بالحل الإقليمي).
نتنياهو واليمين الصهيوني وجد نفسه اليوم مضطراً لقبول مستحيل الأمس أملاً في احتواء ما يمر به الكيان من مشاكل أيديولوجية تهدده بالعودة إلى حياة الشتات والتيه ثانية ولكن هذه المرة بشروط تدخل في باب المساومات واللعب على الخطوط الداخلية والخارجية بما يضمن ليس تقريب الحل بل التمييع والابتذال للقضية الفلسطينية برمتها من خلال إيجاد منافذ تخدم الأساطير الخرافية للدولة اليهودية وتفيد من أي تغيير إقليمي ودولي لتحويلها إلى حقائق تاريخية.
إذن فإشارته إلى حل الدولتين والدولة الفلسطينية أمر لا يستحق الوقوف أمامه طالما وأن الهدف تحويل التاريخ الخرافي اليهودي إلى حقائق ومسلمات وجودية تاريخية وهو ما أتاح لنتنياهو نقل ائتلافه المأزوم إلى ائتلاف يمثل روح الجمهور اليهودي برمته وما لم يرتكب حماقات تهدم ما بناه خلال المرحلة المقبلة فإنه سيعيش مرحلة ازدهار ذهبية وفي اعتقاده فهذه هي السياسة السليمة المطلوبة راهنا ليبقى ارتكاب الحماقات حق حصري على العرب.
واللافت هنا توقف نتنياهو خلال الـ75 يوماً الأولى من حكومته عند تقرير العميد أودي ديكل رئيس قسم التخطيط الاستراتيجي في إدارة أولمرت والذي كان له دور كبير في حسم تردده لما تضمنه من خلاصة مهمة لمسارات التفاوض في المراحل السابقة أكدت له عدة حقائق منها:
1- غياب الشريك الفلسطيني القادر على توقيع اتفاق الحل النهائي: إذ كلما تم الاقتراب من أفق الحسم النهائي بدأ هذا الأفق في التباعد أي كلما كانت هناك محاولة للوصول إلى نقطة الحسم تنتهي بالضرورة في غياب الشريك الفلسطيني القادر على توقيع الحل النهائي ولذا فهو قلق لاعتقاده بأن الجانب الفلسطيني بعد كل جولة يحرز حقوقاً مستقبلية وكل تنازل إسرائيلي يسجل ويتحول إلى نقطة البداية في الجولة التالية، ومطمئن أيضاً لأن الفلسطينيين غير قادرين على توقيع اتفاق لإنهاء الصراع لذا فهم يعفونه من الحاجة لمواجهة القرارات الصعبة والأزمات الداخلية أي أن السماء لن تسقط والدولة الفلسطينية لن تقوم.
2- مرور قضية نزع سلاح الدولة الفلسطينية بعملية تآكل: حيث سبق لعرفات الموافقة على نزعه بالكامل في العام 1995 كما وافق عباس على عدم توقيع معاهدات عسكرية خارجية وعدم تخزين السلاح وتقييد الأجهزة الأمنية ووقف المقاومة المسلحة لكن الخلاف حول الغلاف الجوي والبري والبحري لتناقضه مع السيادة وهو ما ركز عليه نتنياهو كونه لم يبحث في خارطة الطريق بل ورد في تحفظات كيانه المرسلة لواشنطن في حين تتضمن الفقرة (ب) من الخارطة تشكيل الدولة الفلسطينية ضمن حدود مؤقتة بما يقتضيه ذلك من حقوق سيادية في الحماية والدفاع والتعامل الدولي معها على هذا الأساس.
ما يعني أن ذلك سيكون حينها لغماً مؤرقاً لاسيما وأن الاحتلال ليس في وارد الانسحاب إلى حدود 4 حزيران/ يونيو 67 كما دعت القرارات الدولية بدلالة عدم تطرق نتنياهو للحدود المستقبلية للدولة الموعودة.
في التفاصيل ما يريده نتنياهو واضح إلى حد بعيد، صحيح أنه أثار الانطباع بإمكانية القيام بكل شيء لكنه لن يفعل أي شيء، وعد لكنه لم يعد بالتنفيذ.
الدولة الموعودة ستكون نتاج مفاوضات شاقة ومعقدة لكن بعد تحقيق شروطه المنظور إليها فلسطينياً على أنها تعجيزية وتحتاج إلى ألف عام قبل أن تجد فلسطينياً واحداً يوافق عليها فأي دولة تلك التي يريدها نتنياهو إذن؟.
- أرض فلسطين أرض يهودية وعلى الفلسطينيين أولاً الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية للشعب اليهودي, طبعاً منظمة التحرير الفلسطينية سبق لها الاعتراف بيهودية الكيان عام 1993 لكن هذا غير كاف خصوصاً بعد إضافة نتنياهو يهودا و السامرة - الضفة الغربية - إلى أراضي 48 باعتبارها أرض أجداده وهو بذلك يريد تأكيد حقيقة أن الفلسطينيين الذين لا زالوا في 48 مجرد ضيوف على أرض يهودية وعلى السلطة الفلسطينية إعطاء الضوء الأخضر لإجلائهم لأن ذلك يهدد أمن إسرائيل كما يريد الاحتفاظ بـ40 بالمائة من أراضي الضفة لأنها أرض يهودية مع طرح أميركا إمكانية تبادل الأراضي لأسباب ديمغرافية وأمنية بنفس الحجم وربما النوعية فيما يتعلق بالضفة.
- لا توقف عن الاستيطان بل مجرد حديث عن مستوطنات عشوائية يمكن التنازل عنها حالياً أو في الحل النهائي فيما يتعلق بتلك التي تم بنائها بعد أوسلو 1993 كما لا حديث عن القدس لأنها ستبقى عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل ولا حديث عن عودة اللاجئين إلى أراضي 1948 لأن عودتهم يناقض استمرار إسرائيل كدولة يهودية مع وضع ثلاثة خيارات هي عودتهم إلى أراضي الدولة المقترحة ومن لم يعد منهم يتم توطينه في الدول المضيفة -والمقصود هنا الأردن ولبنان وغيرها من الدول العربية- ومن تبقى منهم يُوطن في أميركا وكندا واستراليا ودول أخرى مستعدة لاستقبالهم ولا حديث عن حدود إسرائيل لاسيما وأنها لم تحدد في أي وثيقة منذ 1967 بحيث يتأسس الحل على انسحاب من مساحة محدودة فقط من الضفة.
مواصفات الدولة الفلسطينية:
منزوعة السلاح باستثناء قوات أمنية محدودة تعمل تحت الرقابة وليس لها أي حق في إبرام المعاهدات العسكرية، واحتفاظ الاحتلال بغلافها الجوي والبري والبحري للرد على أي تهديدات أمنية من إيران وحزب الله، ناهيك عن الارتباط المباشر وغير المباشر لاقتصادها بإسرائيل, أي أننا سنكون أمام مجرد منطقة صناعية ومحمية مقطعة الأوصال على أرخبيل منزوع السيادة والإدارة والقرار والإرادة وليس أمام دولة بالمعنى المتعارف عليه دولياً وبالمفهوم الأميركي مجرد حكم ذاتي مسلوب الصلاحيات.
ولذا نجد الاحتلال حريصاً كل الحرص في الحديث عن ضمانات عربية – اقتصادية - ودولية – أمنية- بأن هذه الدولة الموعودة ستكون منزوعة السلاح ولن تشكل خطراً مستقبلياً أكثر من حديثه عن حقوق فلسطينية لا أحد يأبه لها.
- استئناف المفاوضات دون شروط مسبقة وبدء العرب بالتطبيع الفوري في كافة المجالات لإثبات حسن النية تجاه الاحتلال تحت إطار السلام الاقتصادي وهو المصيدة القديمة المتجددة لاستجلاب أموال النفط العربي بغية توظيفها في عمليات التوطين وإنعاش الاقتصاد الإسرائيلي وبالتالي جعلها نقطة عبور لتحويل مشروع السلام العربي إلى مبادلة التطبيع بالانسحاب من أجزاء من أراضي 67 وإقامة الدولة الفلسطينية على ما تبقى منها, وهي الضمانات التي قصدها نتنياهو عربياً إلى جانب المطالبة بضمانات أمنية دولية وتحديداً من أميركا فيما يتعلق بإرسال قوات أميركية أو من الأمم المتحدة لتحل محل القوات الإسرائيلية في الإشراف على المعابر وداخل الدولة الفلسطينية مع احتفاظ الاحتلال بوادي الأردن وإعطاء القوات المتواجدة فيه حق الدخول والخروج إلى الدولة الموعودة.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم لمواجهة خطاب نتنياهو الصريح والحتمي والنهائي بما له من رافعات وأثقال وعوامل قوة وضغط تجعل الموازين تصب لصالح كيانه وتحول دون الدخول في مساومات خاسرة,وسؤالنا هو: ماذا لدى العرب والفلسطينيين من أثقال وعوامل قوة وضغط لجعل الموازين في صالحهم خصوصاً بعد ارتضائهم بتجزئة مسارات التفاوض و الحلول وتخليهم عن سلاح المقاومة؟, أم أنهم سيكتفون بالتعويل والرهان على الوسيط الأميركي الذي لم يكن في يوم من الأيام نزيهاً أو محايداً؟.
في حين يقتضي المنطق الاتجاه – وذلك أضعف الإيمان - نحو شد أزر الفلسطينيين ومساعدتهم على إعادة توحيد صفوهم وتوحيد كلمتهم وتشجيعهم على تقديم رؤيتهم الخاصة بهم حول عملية السلام إلى المجتمع الدولي قبل أن تتحول رؤية نتنياهو إلى رافعة أساسية ووحيدة للحل في المرحلة المقبلة.
ومعلوم أن رؤية أوباما تجاه عملية السلام لم تنضج بعد, وما يهمه حالياً هو محاولة تسهيل عقد مؤتمر دولي يكرس التسوية الشاملة على الجبهات المحيطة بالاحتلال و ترك الملف الفلسطيني للمفاوضات الثنائية بعدما تكون كل الدول العربية معنية بالعلاقة والتطبيع مع إسرائيل حصيلة توقيع معاهدات جديدة مع سورية ولبنان تحديداً.
وكل ما تريده واشنطن خلال فترة المؤتمر وما بعده هو تجميد المستوطنات وتسهيل تنقلات الفلسطينيين بالضفة والقطاع في سياق زمني تكون فيه نتائج المفاوضات الثنائية حول القضايا الرئيسية متوقفة على الوقائع الميدانية وعلى مدى قوة الموقع التفاوضي لكل طرف, لسبب بسيط هو طرح أوباما فكرة الدولة الفلسطينية كحلم وهدف دون أن يحدد ملامح هذا الحلم ولا كيفية الوصول إلى ذلك الهدف.. فعلى ما الرهان إذن؟
رابط هذا المقال:http://www.arabvoice.com/modules.php?op=modload&name=News&file=article&sid=1562
بعد مرور 75 يوماً على توليه رئاسة حكومة الاحتلال الإسرائيلي في31 آذار/ مارس الماضي و10 أيام من توجيه أوباما رسالته التصالحية إلى العرب والمسلمين من على منبر جامعة القاهرة في 4 حزيران/ يونيو الماضي, قرر نتنياهو في 14 حزيران/ يونيو الماضي الإفصاح عن رؤيته التي طال انتظارها عربياً ودولياً, إزاء عملية السلام بالمنطقة عموماً وفلسطين المحتلة على وجه التحديد, بالتزامن طبعاً مع الذكرى الثانية للانقلاب في غزة ومن على منبر جامعة مئير بار إيلان اللاهوتية التي تخرج منها إيجال عامير قاتل إسحاق رابين وباروخ جولدشتاين مهندس مجزرة الحرم الإبراهيمي , وفي وقت تمر فيه المنطقة بحالة من الركود السياسي عنوانها تقطيع الوقت انتظاراً لما قد تفرزه عجلة الحوار الأميركي الإيراني حول الملف النووي والتي سيتم بموجبها تحديد المفاصل التي ستحكم ضوابط الواقع القائم فيما يتعلق بما يجب عمله تجاه عملية السلام تبعاً لمؤشرات واتجاهات البوصلة الإقليمية والدولية على حدٍ سواء.
خطاب نتنياهو في إطاره العام اقتصر على العموميات مفسحاً المجال للمناورات السياسية حول التفاصيل والتي ستخضع للمزيد من اللعب على الخطوط الداخلية- إسرائيل وفلسطين- والخارجية -إقليمياً ودولياً- طبعاً فيما عدا الخطوط الحمراء لأن الموقف فيها نهائي وحتمي وغير قابل للمساومة والمناورة.
نتنياهو بدا أكثر وضوحاً وهو يستحضر المخاوف الإسرائيلية المتراكمة على عكس أوباما الذي بدا أكثر ضبابية ولذا نجده وهو يرسم رؤية ائتلافه الحاكم حريصاً كل الحرص على عدم التصادم مع أوباما ولكن دون الموافقة أو الرفض النهائي لأطروحات واشنطن حول عملية السلام وحل الدولتين وتجميد المستوطنات وهي خطوة ذكية وغمزة خفيفة وشقية جعلت أوباما في مقدمة المرحبين بها.
صحيح أن هذه الخطوة لم تأتِ بجديد باستثناء فتحها المجال لإمكانية استئناف المفاوضات خصوصاً وأنها لم تتعدى حدود عالم الخُدع في مجال العلاقات العامة لكنها رغم ذلك أتاحت لنتنياهو اصطياد 3 عصافير بطلقة واحدة هي ثناء أميركا وإجماع إسرائيلي نادر من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وإقناع كتلة الليكود بأن شيئاً لم يحدث بل مجرد تقليد للمحافظين الجدد في حين بدا المشهد الفلسطيني والعربي رغم مسارعته لرفض أجندة نتنياهو في أسوأ حالات الانقسام والتشتت.
نتنياهو نجح أيضاً في إعادة خلط كل الأوراق عندما طرح مقاربة توازي بين الضغط الدولي لجهة القبول بحل الدولتين وتجميد المستوطنات وبين حاجة كيانه للاعتراف بشرعيته كوطن يهودي، وبين مطالبة المجتمع الدولي بالضغط على الفلسطينيين والعرب للقبول بذلك بصورة توازي ضغطه الحالي على إسرائيل، في محاولة منه لإقناع الجميع بأهمية الربط السلس بين المصالح الإسرائيلية والخطر الإيراني الماثل أمام إسرائيل والمنطقة وبين المستوطنات وضرورة قيام المجتمع الدولي بدور بناء وإيجابي تجاه الخطر الإيراني وعملية السلام بالشرق الأوسط يؤكد التزامه بأمن إسرائيل والضغط على العرب للدخول الفوري في التطبيع وتدشين مرحلة السلام الاقتصادي دون قيد أو شرط كخطوة أولى لتخفيف العزلة عن الفلسطينيين والسير الجدي في عملية السلام.
قراءة في المضامين
إسرائيل وجود استعماري مصطنع وهجين بدأ بالبرج والسور وترسخ بهما وينتهي بهما, نصف الحقيقة، نعم للدولة الفلسطينية تعني لا للدولة اليهودية والعكس صحيح نعم للدولة اليهودية تعني لا للدولة الفلسطينية، كل الحقيقة، إذن ليس من قبيل المفارقة أن نجد نتنياهو وهو يستحضر مواقف كيانه المتراكمة والمتناثرة وإبرازها في قالب جديد ظاهره الرغبة في السلام والاستقرار وباطنه التأكيد على طلائعية وقيمية المشروع الاستيطاني والحق التاريخي والامتداد التراثي اليهودي دون الاكتفاء بمجرد الوجود والاعتراف به كما كان يطالب بذلك حزب العمل بل والتطلع إلى إقرار كوني بحق يهودي تاريخي مزيف في أرض فلسطين التاريخية يحفظ المستقبل عبر التطبيع مع الحاضر ويُشرع الأبواب أمام الإقرار بحق اليهود في أن تكون لهم دولتهم اليهودية الخالصة النقية على أرضهم التاريخية (أرض 48)، ولكن مع إضافة يهودا و السامرة (الضفة الغربية في إطار ما يسمى بالحل الإقليمي).
نتنياهو واليمين الصهيوني وجد نفسه اليوم مضطراً لقبول مستحيل الأمس أملاً في احتواء ما يمر به الكيان من مشاكل أيديولوجية تهدده بالعودة إلى حياة الشتات والتيه ثانية ولكن هذه المرة بشروط تدخل في باب المساومات واللعب على الخطوط الداخلية والخارجية بما يضمن ليس تقريب الحل بل التمييع والابتذال للقضية الفلسطينية برمتها من خلال إيجاد منافذ تخدم الأساطير الخرافية للدولة اليهودية وتفيد من أي تغيير إقليمي ودولي لتحويلها إلى حقائق تاريخية.
إذن فإشارته إلى حل الدولتين والدولة الفلسطينية أمر لا يستحق الوقوف أمامه طالما وأن الهدف تحويل التاريخ الخرافي اليهودي إلى حقائق ومسلمات وجودية تاريخية وهو ما أتاح لنتنياهو نقل ائتلافه المأزوم إلى ائتلاف يمثل روح الجمهور اليهودي برمته وما لم يرتكب حماقات تهدم ما بناه خلال المرحلة المقبلة فإنه سيعيش مرحلة ازدهار ذهبية وفي اعتقاده فهذه هي السياسة السليمة المطلوبة راهنا ليبقى ارتكاب الحماقات حق حصري على العرب.
واللافت هنا توقف نتنياهو خلال الـ75 يوماً الأولى من حكومته عند تقرير العميد أودي ديكل رئيس قسم التخطيط الاستراتيجي في إدارة أولمرت والذي كان له دور كبير في حسم تردده لما تضمنه من خلاصة مهمة لمسارات التفاوض في المراحل السابقة أكدت له عدة حقائق منها:
1- غياب الشريك الفلسطيني القادر على توقيع اتفاق الحل النهائي: إذ كلما تم الاقتراب من أفق الحسم النهائي بدأ هذا الأفق في التباعد أي كلما كانت هناك محاولة للوصول إلى نقطة الحسم تنتهي بالضرورة في غياب الشريك الفلسطيني القادر على توقيع الحل النهائي ولذا فهو قلق لاعتقاده بأن الجانب الفلسطيني بعد كل جولة يحرز حقوقاً مستقبلية وكل تنازل إسرائيلي يسجل ويتحول إلى نقطة البداية في الجولة التالية، ومطمئن أيضاً لأن الفلسطينيين غير قادرين على توقيع اتفاق لإنهاء الصراع لذا فهم يعفونه من الحاجة لمواجهة القرارات الصعبة والأزمات الداخلية أي أن السماء لن تسقط والدولة الفلسطينية لن تقوم.
2- مرور قضية نزع سلاح الدولة الفلسطينية بعملية تآكل: حيث سبق لعرفات الموافقة على نزعه بالكامل في العام 1995 كما وافق عباس على عدم توقيع معاهدات عسكرية خارجية وعدم تخزين السلاح وتقييد الأجهزة الأمنية ووقف المقاومة المسلحة لكن الخلاف حول الغلاف الجوي والبري والبحري لتناقضه مع السيادة وهو ما ركز عليه نتنياهو كونه لم يبحث في خارطة الطريق بل ورد في تحفظات كيانه المرسلة لواشنطن في حين تتضمن الفقرة (ب) من الخارطة تشكيل الدولة الفلسطينية ضمن حدود مؤقتة بما يقتضيه ذلك من حقوق سيادية في الحماية والدفاع والتعامل الدولي معها على هذا الأساس.
ما يعني أن ذلك سيكون حينها لغماً مؤرقاً لاسيما وأن الاحتلال ليس في وارد الانسحاب إلى حدود 4 حزيران/ يونيو 67 كما دعت القرارات الدولية بدلالة عدم تطرق نتنياهو للحدود المستقبلية للدولة الموعودة.
في التفاصيل ما يريده نتنياهو واضح إلى حد بعيد، صحيح أنه أثار الانطباع بإمكانية القيام بكل شيء لكنه لن يفعل أي شيء، وعد لكنه لم يعد بالتنفيذ.
الدولة الموعودة ستكون نتاج مفاوضات شاقة ومعقدة لكن بعد تحقيق شروطه المنظور إليها فلسطينياً على أنها تعجيزية وتحتاج إلى ألف عام قبل أن تجد فلسطينياً واحداً يوافق عليها فأي دولة تلك التي يريدها نتنياهو إذن؟.
- أرض فلسطين أرض يهودية وعلى الفلسطينيين أولاً الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية للشعب اليهودي, طبعاً منظمة التحرير الفلسطينية سبق لها الاعتراف بيهودية الكيان عام 1993 لكن هذا غير كاف خصوصاً بعد إضافة نتنياهو يهودا و السامرة - الضفة الغربية - إلى أراضي 48 باعتبارها أرض أجداده وهو بذلك يريد تأكيد حقيقة أن الفلسطينيين الذين لا زالوا في 48 مجرد ضيوف على أرض يهودية وعلى السلطة الفلسطينية إعطاء الضوء الأخضر لإجلائهم لأن ذلك يهدد أمن إسرائيل كما يريد الاحتفاظ بـ40 بالمائة من أراضي الضفة لأنها أرض يهودية مع طرح أميركا إمكانية تبادل الأراضي لأسباب ديمغرافية وأمنية بنفس الحجم وربما النوعية فيما يتعلق بالضفة.
- لا توقف عن الاستيطان بل مجرد حديث عن مستوطنات عشوائية يمكن التنازل عنها حالياً أو في الحل النهائي فيما يتعلق بتلك التي تم بنائها بعد أوسلو 1993 كما لا حديث عن القدس لأنها ستبقى عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل ولا حديث عن عودة اللاجئين إلى أراضي 1948 لأن عودتهم يناقض استمرار إسرائيل كدولة يهودية مع وضع ثلاثة خيارات هي عودتهم إلى أراضي الدولة المقترحة ومن لم يعد منهم يتم توطينه في الدول المضيفة -والمقصود هنا الأردن ولبنان وغيرها من الدول العربية- ومن تبقى منهم يُوطن في أميركا وكندا واستراليا ودول أخرى مستعدة لاستقبالهم ولا حديث عن حدود إسرائيل لاسيما وأنها لم تحدد في أي وثيقة منذ 1967 بحيث يتأسس الحل على انسحاب من مساحة محدودة فقط من الضفة.
مواصفات الدولة الفلسطينية:
منزوعة السلاح باستثناء قوات أمنية محدودة تعمل تحت الرقابة وليس لها أي حق في إبرام المعاهدات العسكرية، واحتفاظ الاحتلال بغلافها الجوي والبري والبحري للرد على أي تهديدات أمنية من إيران وحزب الله، ناهيك عن الارتباط المباشر وغير المباشر لاقتصادها بإسرائيل, أي أننا سنكون أمام مجرد منطقة صناعية ومحمية مقطعة الأوصال على أرخبيل منزوع السيادة والإدارة والقرار والإرادة وليس أمام دولة بالمعنى المتعارف عليه دولياً وبالمفهوم الأميركي مجرد حكم ذاتي مسلوب الصلاحيات.
ولذا نجد الاحتلال حريصاً كل الحرص في الحديث عن ضمانات عربية – اقتصادية - ودولية – أمنية- بأن هذه الدولة الموعودة ستكون منزوعة السلاح ولن تشكل خطراً مستقبلياً أكثر من حديثه عن حقوق فلسطينية لا أحد يأبه لها.
- استئناف المفاوضات دون شروط مسبقة وبدء العرب بالتطبيع الفوري في كافة المجالات لإثبات حسن النية تجاه الاحتلال تحت إطار السلام الاقتصادي وهو المصيدة القديمة المتجددة لاستجلاب أموال النفط العربي بغية توظيفها في عمليات التوطين وإنعاش الاقتصاد الإسرائيلي وبالتالي جعلها نقطة عبور لتحويل مشروع السلام العربي إلى مبادلة التطبيع بالانسحاب من أجزاء من أراضي 67 وإقامة الدولة الفلسطينية على ما تبقى منها, وهي الضمانات التي قصدها نتنياهو عربياً إلى جانب المطالبة بضمانات أمنية دولية وتحديداً من أميركا فيما يتعلق بإرسال قوات أميركية أو من الأمم المتحدة لتحل محل القوات الإسرائيلية في الإشراف على المعابر وداخل الدولة الفلسطينية مع احتفاظ الاحتلال بوادي الأردن وإعطاء القوات المتواجدة فيه حق الدخول والخروج إلى الدولة الموعودة.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم لمواجهة خطاب نتنياهو الصريح والحتمي والنهائي بما له من رافعات وأثقال وعوامل قوة وضغط تجعل الموازين تصب لصالح كيانه وتحول دون الدخول في مساومات خاسرة,وسؤالنا هو: ماذا لدى العرب والفلسطينيين من أثقال وعوامل قوة وضغط لجعل الموازين في صالحهم خصوصاً بعد ارتضائهم بتجزئة مسارات التفاوض و الحلول وتخليهم عن سلاح المقاومة؟, أم أنهم سيكتفون بالتعويل والرهان على الوسيط الأميركي الذي لم يكن في يوم من الأيام نزيهاً أو محايداً؟.
في حين يقتضي المنطق الاتجاه – وذلك أضعف الإيمان - نحو شد أزر الفلسطينيين ومساعدتهم على إعادة توحيد صفوهم وتوحيد كلمتهم وتشجيعهم على تقديم رؤيتهم الخاصة بهم حول عملية السلام إلى المجتمع الدولي قبل أن تتحول رؤية نتنياهو إلى رافعة أساسية ووحيدة للحل في المرحلة المقبلة.
ومعلوم أن رؤية أوباما تجاه عملية السلام لم تنضج بعد, وما يهمه حالياً هو محاولة تسهيل عقد مؤتمر دولي يكرس التسوية الشاملة على الجبهات المحيطة بالاحتلال و ترك الملف الفلسطيني للمفاوضات الثنائية بعدما تكون كل الدول العربية معنية بالعلاقة والتطبيع مع إسرائيل حصيلة توقيع معاهدات جديدة مع سورية ولبنان تحديداً.
وكل ما تريده واشنطن خلال فترة المؤتمر وما بعده هو تجميد المستوطنات وتسهيل تنقلات الفلسطينيين بالضفة والقطاع في سياق زمني تكون فيه نتائج المفاوضات الثنائية حول القضايا الرئيسية متوقفة على الوقائع الميدانية وعلى مدى قوة الموقع التفاوضي لكل طرف, لسبب بسيط هو طرح أوباما فكرة الدولة الفلسطينية كحلم وهدف دون أن يحدد ملامح هذا الحلم ولا كيفية الوصول إلى ذلك الهدف.. فعلى ما الرهان إذن؟
رابط هذا المقال:http://www.arabvoice.com/modules.php?op=modload&name=News&file=article&sid=1562
الاثنين، 15 يونيو 2009
لبنان ما بعد الانتخابات.. رهانات مفتوحة
بقلم //زيد يحيى المحبشي
"لبنان على حاله في المشهد السياسي، لا شيء تغير، ولا واقع تبدل، وحتى الأرقام بقيت على حالها، وعليه لا يمكن البناء على ما حصل لتغيير التوازنات الحساسة القائمة، أو إعادة انتاج المرحلة الآفلة بآليات أخرى" نبيه بري
ثمة انتخابات كثيرة شهدها لبنان، لكن جميعها كانت متشابهة لجهة المحصلة النهائية، على عكس الانتخابات النيابية الأخيرة، في 7 حزيران/ يونيو الجاري والتي بدت الأكثر غرابة في تاريخ لبنان الانتخابي لارتباطها بعدة عوامل وإن لم تشكل سابقة إلا أنها ارتدت هذه المرة خلفيات وأبعاد بدت في ظاهرها مؤسسة لمرحلة مختلفة عما سبقها.
ولذا ليس من قبيل المفارقة أن جميع الأطراف اعتبرتها معركة مصيرية حسب توصيف زعيم الأكثرية النيابية وتيار المستقبل سعد الحريري، وصراع كوني حسب توصيف زعيم التيار الوطني الحر ميشال عون، بدلالة الضجيج الداخلي والاهتمام الدولي والإقليمي غير المسبوق الذي حظيت به كونها مثلت نقطة تحول مفصلية تاريخية بالنسبة للقوى الداخلية فيما يتعلق بمصيرها ومصير مشروعها السياسي وموقعها المستقبلي في السلطة والحياة السياسية, الذي يشكل جزءاً من مشروع حلفائها في الخارج, ومصيري بالنسبة للبنان ومستقبله السياسي في ضوء المتغيرات الإقليمية والدولية الجارية، خصوصاً وأنه بات الأداة الأولى والرئيسية في التأثير على الصراعات والنزاعات الإقليمية وتغذيتها الغربية والبؤرة المركزية في الشرق الأوسط المضطرب ومحاوره المتصادمة نظراً لما يتمتع به هذا البلد من أهمية جيواستراتيجية جعلته في قلب أحداث المنطقة.
لكن حقيقة الأمر مختلفةٌ تماماً، فلبنان الصغير بتركته الكبيرة لم يكن في تاريخه قادراً على حسم موقعه ودوره، وبالتالي لم تكن أي مفردة من مفرداته السياسية حاسمة لجهة نقله من مكان لأخر بشكل حاسم ونهائي، ولعل هذا سر استمراره وبقائه كما هو، لكن هذا الاستمرار لا يشكّل ظاهرة الدولة القابلة للحياة بشكل طبيعي لسبب بسيط هو انعدام التوازن السياسي, الذي كان للتدخل الخارجي دوراً رئيسياً فيه, كما في ربط تطوره السياسي بالتطورات الإقليمية، فكانت نتيجة ذلك انعدام وجود أي تنمية اقتصادية حقيق تُشكّل رافعة أساسية لتنمية سياسية فعَّالة، بل وجدت تنمية سياسية مفاعيلها الرئيسية في ساحة الصراع الإقليمي، وبالتالي بروز ما يسمى بمذهبية الرهان الإنتخابي على الدور الخارجي باعتباره شرطاً ضرورياً للتنمية والازدهار الداخلي.
تاريخياً استخدم فرقاء الداخل شعارات لكسب المعارك السياسية بالنقاط لا بالضربة القاضية، وكان من نتائج هذا التعادل السلبي بروز ما يسمى بالأزمة اللبنانية بصورة لم تعد معها مجرد أزمة طائفية تظهر متواترة من خلال أداء أجهزة الدولة، وإنما أزمة هيكلية تجد مفاعيلها المؤسسية ضمن أجهزة الدولة نفسها, ما يشي بأن مرحلة ما بعد الانتخابات حُبلى بالكثير من التدخلات الخارجية، خصوصاً وأن نتائج الانتخابات أعادة استنساخ الوضع السابق بانقساماته ومساوئه.
إذن لا جديد في المشهد السياسي، فالأكثرية لازالت محتفظة بأرجحيتها النيابية 71 مقعداً من أصل 128 مقعد بواقع 55.47 بالمائة لكنها لم تنجح في تعزيز ذلك على المستوى الشعبي، إذ لم تتجاوز نسبة الأصوات التي حصلت عليها 45.3 بالمائة من أصل مليون ونصف ناخب، بالمقابل المعارضة لازالت على وضعها السابق أقلية برلمانية 57 مقعداً بواقع 44.53 بالمائة وإحرازها الأرجحية الشعبية 54.7 بالمائة ,طائفياً تمكنت المعارضة من حصد الأرجحية الشعبية في الدوائر ذات الغالبية المسيحية بواقع 63.89 بالمائة وعلى مقابل 36.11 بالمائة للموالاة .
وهذا قطعاً لن يغير من المشهد السياسي شيئاً، ولن يقوض النظام ومؤسساته واستقراره ولن يخل بالتوازنات، ولن يمس حكماً, دستوره وسياسته الخارجية، لكن فريقي الصراع هذه المرة سيكونان على تماس مباشر مع رئيس الجمهورية الذي بدوره سيجد نفسه عالقٌ بين أكثرية برلمانية في الحكم وأكثرية شعبية في المعارضة يصعب تجاوزها واتخاذ خيارات وقرارات أساسية بتجاهلها خصوصاً تلك المتعلقة بالأمن والسياسة الخارجية.
لبنان اليوم أمام خيارين كبيرين وحاسمين لرسم هويته ومستقبله السياسي للأربع السنوات المقبلة هما:
1- الاستمرار في خيار التوافق الوطني بين طوائفه ومجموعاته السياسية، وهذا يفترض البقاء على الأسس ذاتها التي حكمت هذا البلد بعد اتفاق الطائف، ويتطلب ذلك إشراك أكثرية القوى السياسية في تشكيلة الحكومة المقبلة، خصوصاً ذات التمثيل السياسي والطائفي.
2- تجاهل منطق التوافق الوطني بهدف إبعاد قوى وأطراف سياسية سبق اتهامها بتعطيل البرلمان المنتهية ولايته، وإعاقة عمل الحكومة الحالية، وشل مؤسسات الدولة، وهذا يعني جر البلد ليس فقط إلى أزمة حكومية أو سياسية، بل أزمة حكم وأزمة وطنية كبرى.
حسابات الربح والخسارة
على عكس انتخابات 2005 والتي كانت نتائجها معروفة سلفاً، خصوصاً في بلد يجعل من النظام التوافقي, الأساس لتأكيد الحفاظ على التوازن العرقي والديني الدقيق, فيما كانت الانتخابات الأخيرة مخالفة لكل التوقعات واستطلاعات الرأي بما شابها من تناقضات حادة لأول مرة.
والملاحظ على قانون 2005 أنه وُضع أساساً بهدف تحجيم الأصوات المناهضة لسورية، إلا أن نتائجه صبت في صالح تيار المستقبل المستفيد حينها من التحالف الرباعي مع الحزب التقدمي الاشتراكي وحزب الله وحركة أمل، ونظراً لما تبع ذلك من تبدُلات في التحالفات وما ترتب عليها من إشكاليات وأزمات, جرى التوافق في اتفاق الدوحة 7 آيار/ مايو2008 على الأخذ بقانون العام 1960 معدلاً، نزولاً عند رغبة الجنرال ميشال عون الهادف من ورائه استعادة مكانته المسيحية النقية، وهو ما عُدَّ صفعة قوية للقوة السنية، لكن الانتخابات الأخيرة أتت على عكس المتوقع، مُعيدةً بذلك الاعتبار للحريري ولتياره السياسي.
وتكمن المشكلة في هذا القانون, وضعه كل فرد لبناني في دائرة انتخابية طائفية خاصة كما هو حال بيروت الثانية ما أدى إلى هز التحالفات القديمة، وبالتالي تغليب قاعدة الطائفة والوفاء الطائفي على قاعدة السياسة كونه يعتمد على نظام القضاء دائرة انتخابية بما يشكل ذلك من ديناميكية اجترارية لاستعادة العصبيات الطائفية والمذهبية والعائلية، وبالتالي حرمان طوائف وأقليات لها ثقلها من التمثيل وانعدام المساواة في توزيع الدوائر جغرافياً والتوزيع الطائفي.
والملاحظ حسب التوزيع الطائفي استئثار السنة بـ27 مقعد ومثلها للشيعة و34 للموارنة و14 للارثوذكس و8 للكاثوليك ومثلها للدروز و 5 للأرمن الارثوذكس و2 للعلويين وواحد لكل من الأرمن الكاثوليك والانجليين والأقليات الأخرى.
أمثلة كثيرة نجدها في الواقع، فالأقليات المسيحية مثلاً رغم تجاوز تعدادها 6 اقليات و 54 ألف نسمة تحصل على مقعد واحد، فيما العلويين الذين لا يتجاوز تعدادهم 25 ألف نسمة لهم مقعدين، المسيحيون في "بنت جبيل" البالغ عددهم 14930 نسمة لم يخصص لهم مقعد، في حين تم تخصيص مقعد للمسيحيين في طرابلس البالغ تعدادهم 5129 نسمة,وكذا الحال بالنسبة لمسلمي دائرة جزين البالغين 12375 نسمة لم يحصلوا على مقعد واحد هناك.
كل هذا يجعل من نظام القائمة النسبية الأنسب للحالة اللبنانية, كون نظام القضاء لا ينتج تنوعاً، وإنما لاعبين كبار يستأثرون بمصير الطوائف كما هو حال تيار الحريري الذي احتكر تمثيل الطائفة السنية، وثنائي حزب الله وأمل اللذين احتكرا الطائفة الشيعية وسط انعدام الزعامات المتعددة، وهو ما انعكس سلباً على المستقلين الذين وجدوا صعوبة بالغة في اختراق الاصطفافات السياسية والطائفية الكبيرة، وهو ما يجعل الحالة اللبنانية في نهاية المطاف غير قابلة لوجود طرف خاسر وهي واحدة من السلبيات الغامضة التي أفرزتها الانتخابات الأخيرة، بما شابها من ولاءات ونفس طائفي ومذهبي غير مسبوق في المشهدين السني والشيعي على عكس الساحة المسيحية التي بدت ولاءاتها منقسمة بين الموالاة والمعارضة.
لكن هذا لم يمنع من نجاح الانتخابات الأخيرة في هذا البلد خصوصاً وأنها لأول مرة تٌجرى في يوم واحد بعد أن كان إجرائها موزعاً على أربعة أيام ، وهو ما يجعل وزير الداخلية الآتي من خارج النادي السياسي والمؤسسة الأمنية وقوى الأمن الداخلي الأبطال الحقيقيين لنجاحها وبشهادة المراقبين الدوليين على رغم حدة التنافس الذي صاحبها والشعارات المثيرة للعصبيات والاستخدام وازدهار سوق النخاسة وبازار المال السياسي والدعم الخارجي الواسع والبراعة في استغلال وسائل الإعلام بعقلية جاهلية صرفة.
على مستوى الكتل والاصطفافات
أفرزت نتائج الانتخابات تباينات كبيرة في حجم الكتل وتمثيل التيارات منها انضمام خمس كتل جديدة إلى البرلمان الجديدة هم: المردة(3) والوطنيين الأحرار (1) والجماعة الإسلامية (1) والحزب الديمقراطي(1) وجبهة العمل الإسلامي(1), ومغادرة كتلتين هما: الكتلة الشعبية بعد أن كان لها سابقاً 5 مقاعد والتجدد الديمقراطي باستثناء فوز مرشح واحد من الكتلة الشعبية هو عاصم عراجي لترشحه على القائمة المنافسة.
كتل حافظت على مكانتها هي القوات اللبنانية (5) القومي (2)، اليسار الديمقراطي (1).
كتل توسع تمثليها النيابي هي: الإصلاح والتغيير انتقلت من 27 مقعد مسحي، الكتائب 5، المستقلون 7، تيار المستقبل 38 منها 22 مقعد سني ، الطاشناق 2، البعث 2.
أربع كتل تراجعت تمثيلها هي: اللقاء الديمقراطي(جنبلاط) من 15 إلى 11، التنمية والتحرير من 15 إلى 13، الوفاء للمقاومة من 14 إلى 12، قرنة شهوان- مسيحية مستقلة- من 5 إلى واحد هو بطرس حرب.
على مستوى الاصطفاف
1- الموالاة: تضم 10 كتل هي: المستقبل 38 مقابل 36 في 2005، اللقاء الديمقراطي 11 مقابل 15، القوات 5 مقابل 6، الكتائب 5 مقابل 2، التكتل الطرابلسي 2 مقابل 4، الجماعة الإسلامية 1، الأحرار 1، زحلة بالقلب 6 مقابل 1، اليسار الديمقراطي 1، مؤيدين 2.
2- المعارضة تضم 10 كتل هي: التيار الوطني الحر 21 مقابل 14 في العام 2005، التنمية والتحرير 13 مقابل 15، الوفاء للمقاومة 12 مقابل 14، الطاشناق 2 مقابل واحد، القومي 2، الكتلة الشعبية (مسيحية) خسرت مقاعدها الخمسة، المردة 4، التنظيم الناصري خسر مقعده الوحيد، البعث 2 مقابل واحد، طلال أرسلان 2. يذكر أن قائمة أرسلان والمردة انظمت إلى تكتل الإصلاح والتغيير كما منح حزب الله مقعداً لجبهة العمل الإسلامي التي يترأسها فتحي يكن.
3- المستقلون: واحد لقائمة ميشال المر و2 لكتلة ميقاتي.
لماذا خسرت المعارضة؟
أدت عدة عوامل إلى خسارة المعارضة غير المتوقعة أبرزها: اختزال المعارضة في تيارين هما حزب الله والتيار الوطني الحر، وعدم تبلور مشروع سياسي واحد يعكس المعارضة بكافة أطيافهاومكوناتها ما أدى إلى ترك حلفائها خارجين التيارين الرئيسيين يواجهون مصيرهم بأنفسهم، وغالباً في موقع الدفاع عن سياسات الحزب والتيار، وبإيجاز لم يكن ينقص المعارضة القوة المالية والسياسية، ولا الإعلام، ولا حماسة الجمهور والتحالفات إلى غيرها من الأمور التي تفوقت فيها الموالاة سواء على صعيد التعاون بين مكوناتها أو الانفتاح على قوى جديدة بصورة أوسع، بل ما ينقص المعارضة المشروع والبرنامج والإدارة وكل ما من شأنه جعلها معارضة وطنية بحق، وليس مجرد تكتلات متجاورة لأهداف سلطوية بعضها يتعارض مع البعض الآخر.
السيناريوهات المحتملة
تميزت الدولة اللبنانية في السنوات الأربع الماضية بالضعف والهشاشة والانقسامات الحادة في ظل سعي أميركا لاستخدامها وتوظيفها كأداة في التأثير على الصراعات والنزاعات الإقليمية، ونظراً إلى لعبة التوازنات الدقيقة التي تُسَيِّر هذا البلد, وتحول دون اتخاذ مواقف سياسية تتجاوز سقف التوافق الوطني, السقف الذي يمكن لقوى المعارضة والموالاة بغض النظر عن الأكثرية والأقلية البرلمانية التحرك تحته، لكن المعطيات الأولية تشير إلى وجود جردة حسابات قاسية في المرجعية الواجب الانطلاق منها لرسم هوية المرحلة المقبلة والمتراوحة بين اتفاقي الطائف والدوحة, في وقت تُصِّر فيه الموالاة على الأول باعتباره تسوية تاريخية على عكس اتفاق الدوحة الذي لا يعدو عن كونه إجراء مرحلي مؤقت ينتهي بزوال مبرراته، فيما ترى المعارضة أن الطائف قد أنجز وظيفته وتآكل فانتفت قدرته على الاستمرارية وبالتالي سيرورة الدوحة القاعدة الأساسية لرسم وتشكيل هوية المرحلة المقبلة خصوصاً فيما يتعلق بالمشاركة السياسية.
يأتي هذا التباين الحاد في وقت يعاني فيه لبنان من غياب الرؤية والمشروع والقوى الاجتماعية الحاملة والقوى الدولية والإقليمية الحاضنة والقوى القادرة على تأمين ديمومة الاستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي تحت ضربات الإفلاس والأزمة المالية العالمية، وهو ما يثير التساؤل عن الأسباب التي منعت الموالاة سابقاً من الحكم وما إذا كانت المتغيرات الخارجية ستصب لصالحها، في حين أن المتغير الوحيد داخلياً الذي تراهن عليه هو شخص رئيس الجمهورية، لكنه ليس جوهرياً, كون العناصر التي عطلت حكمها في السابق في مكان آخر تماماً, بدءاً من سلاح المقاومة وجمهورها وتحالفاتها, وهو ما يشي بأن استعادة الموالاة أكثريتها البرلمانية مؤشراً خطيراً لإعادة تعميم الأزمة والدفع بها إلى مستويات أكثر في حال أصرت على عدم القبول بمنح المعارضة حق المشاركة والثلث الضامن، خصوصاً مع تنامي الحديث في أوساط تيار المستقبل عن الاتجاه نحو منح ميشال سليمان الثلث الضامن مقابل إعطاء المقاومة ضمانات بعدم الحديث عن سلاحها خارج طاولة الحوار الوطني على خلفية المساعي الحثيثة لحصول الموالاة على أكثرية وزارية في الحكومة الجديدة توازي الأكثرية النيابية لتقضي بذلك على الثلث الضامن، وهي معادلة رسمها رئيس الجمهورية بعد البطريك الماروني نصر الله صفير خصوصاً وان عام ميشال سليمان الأول في الحكم معطوباً.
ردود الفعل الأولية تشير إلى عدم استمرار الأزمة القائمة، بل إلى وضع لبنان على مفترقين، إما تجديد اتفاق الدوحة مع أرجحية لصالح الموالاة أو العودة إلى الوضع السابق بما فيه من صدامات لا أحد يعرف كيف ستكون خاتمتها في ضوء المؤشرات وردود الفعل الخارجية.
أسئلة كثيرة تنتظر لبنان وملفات مرحلة تنتظر الحسم أضافت إليها الانتخابات عبئاً جديداً أكثر جسامة وخطورة سواء على صعيد تشكيل الحكومة ومصير الثلث الضامن والمشاركة ووضعية الرئيس سليمان، خصوصاً بعد خسارة مرشحين قيل أنهم محسوبين عليه في عدة مناطق أهمها كسروان وجبيل.
الحكومة المقبلة..
بحسب التركيبة اللبنانية المعقدة لن يستطيع الرابح الحكم بمفرده، ولن يكون وجود الخاسر خارج الحكم مبرراً لتهميشه, وكون الفريقان لا يؤمنان كثيراً بالقواعد الدستورية التي تقوم على مراقبة اداء الحكومة ومحاسبتها في البرلمان ولا بسقوطها عندما تحجب الثقة عنها، لذا لا تكمن الأزمة المنتظرة في سلاح الغالبية البرلمانية، بل في المعادلة القديمة التي رافقت تشكيل الحكومات المتعاقبة والمتجلية هذه المرة في الجدل حول مستوى الشراكة لكلا الفريقين، وتباين المواقف حول الثلث الضامن وموقع التوافق الوطني من ذلك، وفي حال أصر الفريقين على مواقفهما ستكون البلاد على موعد اخر من الازمات المتناسلة .
الموالاة ترفض منح المعارضة الثلث الضامن لكنها لا تمانع مشاركتها في الحكومة الجديدة بشروطها، في ذات الوقت تتمسك المعارضة بالمشاركة والثلث، فيما يرى فريق آخر اعطاء الثلث+ واحد لرئيس الجمهورية، لكن هذا دونه عقبات في اوساط الموالاة، خصوصاً بعد موافقة عون منح الرئيس الثلث+واحد شريطة جعله جزءاً لا يتجزأ من الدستور، وهو ما اثار حفيظة جعجع وجنبلاط.
وفي ما يتعلق بتشكيلة الحكومة هناك عدة سيناريوهات أبرزها:
1- عدم اختلاف الحكومة المقبلة كثيراً عن الحالية باستثناء دخول فرقاء جدد يلعبون دور الوسيط بين الفريقين، وبالتالي فرض هذا الفريق نفسه على الواقع السياسي وتشكيل الحكومة أو عرقلتها تبعاً للمؤشرات الخارجية.
والرهان هنا يتوقف على احتمال توافق جنبلاط وبري والطاشناق وميقاتي للانضمام إلى رئيس الجمهورية وتشكيل كتلة وسطية ثالثة تفرض نفسها على الموالاة والمعارضة, بما يؤدي الى اخراج حكومة وحدة وطنية أو تعزيز مبدأ الحكومة الائتلافية ودور الرئيس التوافقي فيها كشريك فاعل بالمحكم بمنحه الثلث الضامن بالحكومة بما من شأنه في نهاية المطاف اجتراح خروقات كبيرة في مواقف الموالاة والمعارضة تُسهّل تشكيلة الحكومة وتخرج البلد من دوامة المراوحة والشلل والتعطيل.
2- اتجاه الموالاة الى تشكيل حكومة متجانسة دون الثلث المعطل، وهو أمر مستحيل ما يعزز جزم البعض برضوخ الموالاة في النهاية لسياسة الأمر الواقع وهو اشراك المعارضة، والتسليم لها بالثلث الضامن, كون عدم التسليم بذلك يعني العودة إلى المربع الاول قبل اتفاق الدوحة، كما أن التعويل على ولادة الكتلة الوسطية يظل في القاموس السياسي ضرباً من الخيال كون ذلك يتطلب الحصول على رضا كل الاطراف، مالم ستصبح خطراً على دور رئيس الجمهورية نفسه، لاسيما وأن الاطراف المتحمسة لهذا الطرح غير متفقة فيما بينها على تعزيز صلاحيات الرئيس حتى الأن.
3- خيار ثالث يدعو الى تشكيل حكومة تكنوقراط من خارج الاحزاب والتيارات السياسية الحالية خيار قديم أثبت نجاحه لذا أعيد استحضاره لكنه يحتاج إلى معجزة.
4- بقاء الحكومة الحالية كحكومة تصريف اعمال انتظاراً لما قد تفرزه عجلة الحوار الأميركي الإيراني والأميركي السوري.
5- خيار خامس يذهب إلى تعزيز الاتجاه نحو مقاربة سعودية سورية واعادة استنساخ تجربة الحريري الأب وهو يبدو الاقوى من بين الخيارات السابقة بدلالة تغير خطاب الحريري الابن تجاه سلاح حزب الله وتصريحه أكثر من مرة أنه سيزور سورية في حال صار رئيساً للحكومة، ناهيك عن استعجال سورية والسعودية وصول سفيريهما إلى بيروت قبيل الانتخابات بأيام، كما لم تبدِ سورية انزعاجاً بخسارة المعارضة كونها جنبتها مواجهات ومناورات مع إسرائيل.
"لبنان على حاله في المشهد السياسي، لا شيء تغير، ولا واقع تبدل، وحتى الأرقام بقيت على حالها، وعليه لا يمكن البناء على ما حصل لتغيير التوازنات الحساسة القائمة، أو إعادة انتاج المرحلة الآفلة بآليات أخرى" نبيه بري
ثمة انتخابات كثيرة شهدها لبنان، لكن جميعها كانت متشابهة لجهة المحصلة النهائية، على عكس الانتخابات النيابية الأخيرة، في 7 حزيران/ يونيو الجاري والتي بدت الأكثر غرابة في تاريخ لبنان الانتخابي لارتباطها بعدة عوامل وإن لم تشكل سابقة إلا أنها ارتدت هذه المرة خلفيات وأبعاد بدت في ظاهرها مؤسسة لمرحلة مختلفة عما سبقها.
ولذا ليس من قبيل المفارقة أن جميع الأطراف اعتبرتها معركة مصيرية حسب توصيف زعيم الأكثرية النيابية وتيار المستقبل سعد الحريري، وصراع كوني حسب توصيف زعيم التيار الوطني الحر ميشال عون، بدلالة الضجيج الداخلي والاهتمام الدولي والإقليمي غير المسبوق الذي حظيت به كونها مثلت نقطة تحول مفصلية تاريخية بالنسبة للقوى الداخلية فيما يتعلق بمصيرها ومصير مشروعها السياسي وموقعها المستقبلي في السلطة والحياة السياسية, الذي يشكل جزءاً من مشروع حلفائها في الخارج, ومصيري بالنسبة للبنان ومستقبله السياسي في ضوء المتغيرات الإقليمية والدولية الجارية، خصوصاً وأنه بات الأداة الأولى والرئيسية في التأثير على الصراعات والنزاعات الإقليمية وتغذيتها الغربية والبؤرة المركزية في الشرق الأوسط المضطرب ومحاوره المتصادمة نظراً لما يتمتع به هذا البلد من أهمية جيواستراتيجية جعلته في قلب أحداث المنطقة.
لكن حقيقة الأمر مختلفةٌ تماماً، فلبنان الصغير بتركته الكبيرة لم يكن في تاريخه قادراً على حسم موقعه ودوره، وبالتالي لم تكن أي مفردة من مفرداته السياسية حاسمة لجهة نقله من مكان لأخر بشكل حاسم ونهائي، ولعل هذا سر استمراره وبقائه كما هو، لكن هذا الاستمرار لا يشكّل ظاهرة الدولة القابلة للحياة بشكل طبيعي لسبب بسيط هو انعدام التوازن السياسي, الذي كان للتدخل الخارجي دوراً رئيسياً فيه, كما في ربط تطوره السياسي بالتطورات الإقليمية، فكانت نتيجة ذلك انعدام وجود أي تنمية اقتصادية حقيق تُشكّل رافعة أساسية لتنمية سياسية فعَّالة، بل وجدت تنمية سياسية مفاعيلها الرئيسية في ساحة الصراع الإقليمي، وبالتالي بروز ما يسمى بمذهبية الرهان الإنتخابي على الدور الخارجي باعتباره شرطاً ضرورياً للتنمية والازدهار الداخلي.
تاريخياً استخدم فرقاء الداخل شعارات لكسب المعارك السياسية بالنقاط لا بالضربة القاضية، وكان من نتائج هذا التعادل السلبي بروز ما يسمى بالأزمة اللبنانية بصورة لم تعد معها مجرد أزمة طائفية تظهر متواترة من خلال أداء أجهزة الدولة، وإنما أزمة هيكلية تجد مفاعيلها المؤسسية ضمن أجهزة الدولة نفسها, ما يشي بأن مرحلة ما بعد الانتخابات حُبلى بالكثير من التدخلات الخارجية، خصوصاً وأن نتائج الانتخابات أعادة استنساخ الوضع السابق بانقساماته ومساوئه.
إذن لا جديد في المشهد السياسي، فالأكثرية لازالت محتفظة بأرجحيتها النيابية 71 مقعداً من أصل 128 مقعد بواقع 55.47 بالمائة لكنها لم تنجح في تعزيز ذلك على المستوى الشعبي، إذ لم تتجاوز نسبة الأصوات التي حصلت عليها 45.3 بالمائة من أصل مليون ونصف ناخب، بالمقابل المعارضة لازالت على وضعها السابق أقلية برلمانية 57 مقعداً بواقع 44.53 بالمائة وإحرازها الأرجحية الشعبية 54.7 بالمائة ,طائفياً تمكنت المعارضة من حصد الأرجحية الشعبية في الدوائر ذات الغالبية المسيحية بواقع 63.89 بالمائة وعلى مقابل 36.11 بالمائة للموالاة .
وهذا قطعاً لن يغير من المشهد السياسي شيئاً، ولن يقوض النظام ومؤسساته واستقراره ولن يخل بالتوازنات، ولن يمس حكماً, دستوره وسياسته الخارجية، لكن فريقي الصراع هذه المرة سيكونان على تماس مباشر مع رئيس الجمهورية الذي بدوره سيجد نفسه عالقٌ بين أكثرية برلمانية في الحكم وأكثرية شعبية في المعارضة يصعب تجاوزها واتخاذ خيارات وقرارات أساسية بتجاهلها خصوصاً تلك المتعلقة بالأمن والسياسة الخارجية.
لبنان اليوم أمام خيارين كبيرين وحاسمين لرسم هويته ومستقبله السياسي للأربع السنوات المقبلة هما:
1- الاستمرار في خيار التوافق الوطني بين طوائفه ومجموعاته السياسية، وهذا يفترض البقاء على الأسس ذاتها التي حكمت هذا البلد بعد اتفاق الطائف، ويتطلب ذلك إشراك أكثرية القوى السياسية في تشكيلة الحكومة المقبلة، خصوصاً ذات التمثيل السياسي والطائفي.
2- تجاهل منطق التوافق الوطني بهدف إبعاد قوى وأطراف سياسية سبق اتهامها بتعطيل البرلمان المنتهية ولايته، وإعاقة عمل الحكومة الحالية، وشل مؤسسات الدولة، وهذا يعني جر البلد ليس فقط إلى أزمة حكومية أو سياسية، بل أزمة حكم وأزمة وطنية كبرى.
حسابات الربح والخسارة
على عكس انتخابات 2005 والتي كانت نتائجها معروفة سلفاً، خصوصاً في بلد يجعل من النظام التوافقي, الأساس لتأكيد الحفاظ على التوازن العرقي والديني الدقيق, فيما كانت الانتخابات الأخيرة مخالفة لكل التوقعات واستطلاعات الرأي بما شابها من تناقضات حادة لأول مرة.
والملاحظ على قانون 2005 أنه وُضع أساساً بهدف تحجيم الأصوات المناهضة لسورية، إلا أن نتائجه صبت في صالح تيار المستقبل المستفيد حينها من التحالف الرباعي مع الحزب التقدمي الاشتراكي وحزب الله وحركة أمل، ونظراً لما تبع ذلك من تبدُلات في التحالفات وما ترتب عليها من إشكاليات وأزمات, جرى التوافق في اتفاق الدوحة 7 آيار/ مايو2008 على الأخذ بقانون العام 1960 معدلاً، نزولاً عند رغبة الجنرال ميشال عون الهادف من ورائه استعادة مكانته المسيحية النقية، وهو ما عُدَّ صفعة قوية للقوة السنية، لكن الانتخابات الأخيرة أتت على عكس المتوقع، مُعيدةً بذلك الاعتبار للحريري ولتياره السياسي.
وتكمن المشكلة في هذا القانون, وضعه كل فرد لبناني في دائرة انتخابية طائفية خاصة كما هو حال بيروت الثانية ما أدى إلى هز التحالفات القديمة، وبالتالي تغليب قاعدة الطائفة والوفاء الطائفي على قاعدة السياسة كونه يعتمد على نظام القضاء دائرة انتخابية بما يشكل ذلك من ديناميكية اجترارية لاستعادة العصبيات الطائفية والمذهبية والعائلية، وبالتالي حرمان طوائف وأقليات لها ثقلها من التمثيل وانعدام المساواة في توزيع الدوائر جغرافياً والتوزيع الطائفي.
والملاحظ حسب التوزيع الطائفي استئثار السنة بـ27 مقعد ومثلها للشيعة و34 للموارنة و14 للارثوذكس و8 للكاثوليك ومثلها للدروز و 5 للأرمن الارثوذكس و2 للعلويين وواحد لكل من الأرمن الكاثوليك والانجليين والأقليات الأخرى.
أمثلة كثيرة نجدها في الواقع، فالأقليات المسيحية مثلاً رغم تجاوز تعدادها 6 اقليات و 54 ألف نسمة تحصل على مقعد واحد، فيما العلويين الذين لا يتجاوز تعدادهم 25 ألف نسمة لهم مقعدين، المسيحيون في "بنت جبيل" البالغ عددهم 14930 نسمة لم يخصص لهم مقعد، في حين تم تخصيص مقعد للمسيحيين في طرابلس البالغ تعدادهم 5129 نسمة,وكذا الحال بالنسبة لمسلمي دائرة جزين البالغين 12375 نسمة لم يحصلوا على مقعد واحد هناك.
كل هذا يجعل من نظام القائمة النسبية الأنسب للحالة اللبنانية, كون نظام القضاء لا ينتج تنوعاً، وإنما لاعبين كبار يستأثرون بمصير الطوائف كما هو حال تيار الحريري الذي احتكر تمثيل الطائفة السنية، وثنائي حزب الله وأمل اللذين احتكرا الطائفة الشيعية وسط انعدام الزعامات المتعددة، وهو ما انعكس سلباً على المستقلين الذين وجدوا صعوبة بالغة في اختراق الاصطفافات السياسية والطائفية الكبيرة، وهو ما يجعل الحالة اللبنانية في نهاية المطاف غير قابلة لوجود طرف خاسر وهي واحدة من السلبيات الغامضة التي أفرزتها الانتخابات الأخيرة، بما شابها من ولاءات ونفس طائفي ومذهبي غير مسبوق في المشهدين السني والشيعي على عكس الساحة المسيحية التي بدت ولاءاتها منقسمة بين الموالاة والمعارضة.
لكن هذا لم يمنع من نجاح الانتخابات الأخيرة في هذا البلد خصوصاً وأنها لأول مرة تٌجرى في يوم واحد بعد أن كان إجرائها موزعاً على أربعة أيام ، وهو ما يجعل وزير الداخلية الآتي من خارج النادي السياسي والمؤسسة الأمنية وقوى الأمن الداخلي الأبطال الحقيقيين لنجاحها وبشهادة المراقبين الدوليين على رغم حدة التنافس الذي صاحبها والشعارات المثيرة للعصبيات والاستخدام وازدهار سوق النخاسة وبازار المال السياسي والدعم الخارجي الواسع والبراعة في استغلال وسائل الإعلام بعقلية جاهلية صرفة.
على مستوى الكتل والاصطفافات
أفرزت نتائج الانتخابات تباينات كبيرة في حجم الكتل وتمثيل التيارات منها انضمام خمس كتل جديدة إلى البرلمان الجديدة هم: المردة(3) والوطنيين الأحرار (1) والجماعة الإسلامية (1) والحزب الديمقراطي(1) وجبهة العمل الإسلامي(1), ومغادرة كتلتين هما: الكتلة الشعبية بعد أن كان لها سابقاً 5 مقاعد والتجدد الديمقراطي باستثناء فوز مرشح واحد من الكتلة الشعبية هو عاصم عراجي لترشحه على القائمة المنافسة.
كتل حافظت على مكانتها هي القوات اللبنانية (5) القومي (2)، اليسار الديمقراطي (1).
كتل توسع تمثليها النيابي هي: الإصلاح والتغيير انتقلت من 27 مقعد مسحي، الكتائب 5، المستقلون 7، تيار المستقبل 38 منها 22 مقعد سني ، الطاشناق 2، البعث 2.
أربع كتل تراجعت تمثيلها هي: اللقاء الديمقراطي(جنبلاط) من 15 إلى 11، التنمية والتحرير من 15 إلى 13، الوفاء للمقاومة من 14 إلى 12، قرنة شهوان- مسيحية مستقلة- من 5 إلى واحد هو بطرس حرب.
على مستوى الاصطفاف
1- الموالاة: تضم 10 كتل هي: المستقبل 38 مقابل 36 في 2005، اللقاء الديمقراطي 11 مقابل 15، القوات 5 مقابل 6، الكتائب 5 مقابل 2، التكتل الطرابلسي 2 مقابل 4، الجماعة الإسلامية 1، الأحرار 1، زحلة بالقلب 6 مقابل 1، اليسار الديمقراطي 1، مؤيدين 2.
2- المعارضة تضم 10 كتل هي: التيار الوطني الحر 21 مقابل 14 في العام 2005، التنمية والتحرير 13 مقابل 15، الوفاء للمقاومة 12 مقابل 14، الطاشناق 2 مقابل واحد، القومي 2، الكتلة الشعبية (مسيحية) خسرت مقاعدها الخمسة، المردة 4، التنظيم الناصري خسر مقعده الوحيد، البعث 2 مقابل واحد، طلال أرسلان 2. يذكر أن قائمة أرسلان والمردة انظمت إلى تكتل الإصلاح والتغيير كما منح حزب الله مقعداً لجبهة العمل الإسلامي التي يترأسها فتحي يكن.
3- المستقلون: واحد لقائمة ميشال المر و2 لكتلة ميقاتي.
لماذا خسرت المعارضة؟
أدت عدة عوامل إلى خسارة المعارضة غير المتوقعة أبرزها: اختزال المعارضة في تيارين هما حزب الله والتيار الوطني الحر، وعدم تبلور مشروع سياسي واحد يعكس المعارضة بكافة أطيافهاومكوناتها ما أدى إلى ترك حلفائها خارجين التيارين الرئيسيين يواجهون مصيرهم بأنفسهم، وغالباً في موقع الدفاع عن سياسات الحزب والتيار، وبإيجاز لم يكن ينقص المعارضة القوة المالية والسياسية، ولا الإعلام، ولا حماسة الجمهور والتحالفات إلى غيرها من الأمور التي تفوقت فيها الموالاة سواء على صعيد التعاون بين مكوناتها أو الانفتاح على قوى جديدة بصورة أوسع، بل ما ينقص المعارضة المشروع والبرنامج والإدارة وكل ما من شأنه جعلها معارضة وطنية بحق، وليس مجرد تكتلات متجاورة لأهداف سلطوية بعضها يتعارض مع البعض الآخر.
السيناريوهات المحتملة
تميزت الدولة اللبنانية في السنوات الأربع الماضية بالضعف والهشاشة والانقسامات الحادة في ظل سعي أميركا لاستخدامها وتوظيفها كأداة في التأثير على الصراعات والنزاعات الإقليمية، ونظراً إلى لعبة التوازنات الدقيقة التي تُسَيِّر هذا البلد, وتحول دون اتخاذ مواقف سياسية تتجاوز سقف التوافق الوطني, السقف الذي يمكن لقوى المعارضة والموالاة بغض النظر عن الأكثرية والأقلية البرلمانية التحرك تحته، لكن المعطيات الأولية تشير إلى وجود جردة حسابات قاسية في المرجعية الواجب الانطلاق منها لرسم هوية المرحلة المقبلة والمتراوحة بين اتفاقي الطائف والدوحة, في وقت تُصِّر فيه الموالاة على الأول باعتباره تسوية تاريخية على عكس اتفاق الدوحة الذي لا يعدو عن كونه إجراء مرحلي مؤقت ينتهي بزوال مبرراته، فيما ترى المعارضة أن الطائف قد أنجز وظيفته وتآكل فانتفت قدرته على الاستمرارية وبالتالي سيرورة الدوحة القاعدة الأساسية لرسم وتشكيل هوية المرحلة المقبلة خصوصاً فيما يتعلق بالمشاركة السياسية.
يأتي هذا التباين الحاد في وقت يعاني فيه لبنان من غياب الرؤية والمشروع والقوى الاجتماعية الحاملة والقوى الدولية والإقليمية الحاضنة والقوى القادرة على تأمين ديمومة الاستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي تحت ضربات الإفلاس والأزمة المالية العالمية، وهو ما يثير التساؤل عن الأسباب التي منعت الموالاة سابقاً من الحكم وما إذا كانت المتغيرات الخارجية ستصب لصالحها، في حين أن المتغير الوحيد داخلياً الذي تراهن عليه هو شخص رئيس الجمهورية، لكنه ليس جوهرياً, كون العناصر التي عطلت حكمها في السابق في مكان آخر تماماً, بدءاً من سلاح المقاومة وجمهورها وتحالفاتها, وهو ما يشي بأن استعادة الموالاة أكثريتها البرلمانية مؤشراً خطيراً لإعادة تعميم الأزمة والدفع بها إلى مستويات أكثر في حال أصرت على عدم القبول بمنح المعارضة حق المشاركة والثلث الضامن، خصوصاً مع تنامي الحديث في أوساط تيار المستقبل عن الاتجاه نحو منح ميشال سليمان الثلث الضامن مقابل إعطاء المقاومة ضمانات بعدم الحديث عن سلاحها خارج طاولة الحوار الوطني على خلفية المساعي الحثيثة لحصول الموالاة على أكثرية وزارية في الحكومة الجديدة توازي الأكثرية النيابية لتقضي بذلك على الثلث الضامن، وهي معادلة رسمها رئيس الجمهورية بعد البطريك الماروني نصر الله صفير خصوصاً وان عام ميشال سليمان الأول في الحكم معطوباً.
ردود الفعل الأولية تشير إلى عدم استمرار الأزمة القائمة، بل إلى وضع لبنان على مفترقين، إما تجديد اتفاق الدوحة مع أرجحية لصالح الموالاة أو العودة إلى الوضع السابق بما فيه من صدامات لا أحد يعرف كيف ستكون خاتمتها في ضوء المؤشرات وردود الفعل الخارجية.
أسئلة كثيرة تنتظر لبنان وملفات مرحلة تنتظر الحسم أضافت إليها الانتخابات عبئاً جديداً أكثر جسامة وخطورة سواء على صعيد تشكيل الحكومة ومصير الثلث الضامن والمشاركة ووضعية الرئيس سليمان، خصوصاً بعد خسارة مرشحين قيل أنهم محسوبين عليه في عدة مناطق أهمها كسروان وجبيل.
الحكومة المقبلة..
بحسب التركيبة اللبنانية المعقدة لن يستطيع الرابح الحكم بمفرده، ولن يكون وجود الخاسر خارج الحكم مبرراً لتهميشه, وكون الفريقان لا يؤمنان كثيراً بالقواعد الدستورية التي تقوم على مراقبة اداء الحكومة ومحاسبتها في البرلمان ولا بسقوطها عندما تحجب الثقة عنها، لذا لا تكمن الأزمة المنتظرة في سلاح الغالبية البرلمانية، بل في المعادلة القديمة التي رافقت تشكيل الحكومات المتعاقبة والمتجلية هذه المرة في الجدل حول مستوى الشراكة لكلا الفريقين، وتباين المواقف حول الثلث الضامن وموقع التوافق الوطني من ذلك، وفي حال أصر الفريقين على مواقفهما ستكون البلاد على موعد اخر من الازمات المتناسلة .
الموالاة ترفض منح المعارضة الثلث الضامن لكنها لا تمانع مشاركتها في الحكومة الجديدة بشروطها، في ذات الوقت تتمسك المعارضة بالمشاركة والثلث، فيما يرى فريق آخر اعطاء الثلث+ واحد لرئيس الجمهورية، لكن هذا دونه عقبات في اوساط الموالاة، خصوصاً بعد موافقة عون منح الرئيس الثلث+واحد شريطة جعله جزءاً لا يتجزأ من الدستور، وهو ما اثار حفيظة جعجع وجنبلاط.
وفي ما يتعلق بتشكيلة الحكومة هناك عدة سيناريوهات أبرزها:
1- عدم اختلاف الحكومة المقبلة كثيراً عن الحالية باستثناء دخول فرقاء جدد يلعبون دور الوسيط بين الفريقين، وبالتالي فرض هذا الفريق نفسه على الواقع السياسي وتشكيل الحكومة أو عرقلتها تبعاً للمؤشرات الخارجية.
والرهان هنا يتوقف على احتمال توافق جنبلاط وبري والطاشناق وميقاتي للانضمام إلى رئيس الجمهورية وتشكيل كتلة وسطية ثالثة تفرض نفسها على الموالاة والمعارضة, بما يؤدي الى اخراج حكومة وحدة وطنية أو تعزيز مبدأ الحكومة الائتلافية ودور الرئيس التوافقي فيها كشريك فاعل بالمحكم بمنحه الثلث الضامن بالحكومة بما من شأنه في نهاية المطاف اجتراح خروقات كبيرة في مواقف الموالاة والمعارضة تُسهّل تشكيلة الحكومة وتخرج البلد من دوامة المراوحة والشلل والتعطيل.
2- اتجاه الموالاة الى تشكيل حكومة متجانسة دون الثلث المعطل، وهو أمر مستحيل ما يعزز جزم البعض برضوخ الموالاة في النهاية لسياسة الأمر الواقع وهو اشراك المعارضة، والتسليم لها بالثلث الضامن, كون عدم التسليم بذلك يعني العودة إلى المربع الاول قبل اتفاق الدوحة، كما أن التعويل على ولادة الكتلة الوسطية يظل في القاموس السياسي ضرباً من الخيال كون ذلك يتطلب الحصول على رضا كل الاطراف، مالم ستصبح خطراً على دور رئيس الجمهورية نفسه، لاسيما وأن الاطراف المتحمسة لهذا الطرح غير متفقة فيما بينها على تعزيز صلاحيات الرئيس حتى الأن.
3- خيار ثالث يدعو الى تشكيل حكومة تكنوقراط من خارج الاحزاب والتيارات السياسية الحالية خيار قديم أثبت نجاحه لذا أعيد استحضاره لكنه يحتاج إلى معجزة.
4- بقاء الحكومة الحالية كحكومة تصريف اعمال انتظاراً لما قد تفرزه عجلة الحوار الأميركي الإيراني والأميركي السوري.
5- خيار خامس يذهب إلى تعزيز الاتجاه نحو مقاربة سعودية سورية واعادة استنساخ تجربة الحريري الأب وهو يبدو الاقوى من بين الخيارات السابقة بدلالة تغير خطاب الحريري الابن تجاه سلاح حزب الله وتصريحه أكثر من مرة أنه سيزور سورية في حال صار رئيساً للحكومة، ناهيك عن استعجال سورية والسعودية وصول سفيريهما إلى بيروت قبيل الانتخابات بأيام، كما لم تبدِ سورية انزعاجاً بخسارة المعارضة كونها جنبتها مواجهات ومناورات مع إسرائيل.
الأحد، 7 يونيو 2009
كركوك : برمودا العراق الجديد
08 مايو, 2009 م
لرابط : دراسات
بقلم//زيد يحيى المحبشي
قديماً كتب المؤرخ الروماني بلوتارك في مذكراته رسالة إلى الإسكندر الأكبر يخبره فيها بوجود واد من النيران السائلة بالقرب من مياه سوداء متسخة وهو ما صار يعرف اليوم بكركوك المدينة والمحافظة التي أصبحت منذ العام 2400 قبل الميلاد حلبة صراع وساحة تنافس بين القوى الإقليمية الكبرى أي منذ تأسيس مملكة أرافكا بها.
قديماً كان الصراع بين الإمبراطورية الآشورية والبابلية والميدية، وحديثاً بين الأكراد والعرب والأتراك وإيران وإسرائيل وأميركا وما بينهما، نجحت المدينة في أن تكون مدينة للتعايش بين مختلف مكوناتها القومية والعرقية لاسيما في القرن السابع إثر ضمها إلى الحاضنة العربية ، إلا أن الاستعمار الحديث وتحديداً قبل 200 عام عندما نجح الجيش التركي في استخراج النفط منها لاستخدامه في الإضاءة, حولَّها إلى واحدة من أهم وأخطر بؤر التوتر الداخلية والإقليمية والدولية والواصل ذروته اليوم بالتناغم مع تهديد رئيس الحكم الذاتي لإقليم كردستان العراق مسعود بارزاني بضمها رسمياً إلى الإقليم ودفعه قبل أسابيع مئات من البشمركة إلى المدينة على مقربة من فشل الحكومة العراقية في تمرير قانون انتخابات مجالس المحافظات وانفجار ملفات الأكراد في تركيا وسوريا وإيران.
ست سنوات مرت منذ احتلال أميركا للعراق كانت فيها كركوك بعيدة عن نيران الحرب الطائفية فإذا بها فجأة تطفو على السطح كقنبلة موقوتة تشير التفاعلات المحيطة بها إلى صيرورتها عنواناً لصراع قادم عنوانه الرئيسي القوميات وعامل تغذيته الأحلام الكردية المرتفعة وتيرتها بدعم إسرائيلي في بلد هو في الأساس عبارة عن شعوب توافدت وتعايشت عبر آلاف السنين مكونة فيما بينها فلكاً مشحوناً بالقوميات والأديان والمذاهب والأعراق ومتحفاً عقائدياً لا يحتمل بعث أمة دون سواها ، خصوصاً في هذه المرحلة الفارقة من تاريخه المعاصر.
لماذا كركوك؟استمدت كركوك أهميتها من توافر عدة عوامل أكسبتها أهمية استراتيجية خاصة داخلياً وإقليمياً ودولياً أهمها: المخزونات النفطية الهائلة المتجاوزة 10 مليارات برميل من الاحتياطي الخام المحقق إلى جانب اكتشاف مادة اليورانيوم مؤخراً ، ناهيك عن موقعها الجغرافي ذي الأهمية الاستراتيجية, كون المدينة وفقاً لخارطة العام 1957 تقع في قلب العراق ؛ ولذا فهي قريبة من كل العراق حيث يحدها من الشمال أربيل ومن الشمال الغربي الموصل ومن الشرق السليمانية ومن الجنوب ديالي ومن الغرب بغداد وتكريت ، ما يعني أن من يسيطر عليها سيتمكن من التحكم بمصير العراق حاضره ومستقبله الأمر الذي دفع القيادات العراقية المتعاقبة إلى تقطيع أوصالها والتلاعب بتركيبتها الديموغرافية ومن ثم استبدالها بمحافظة التأميم عام 1969 المفضي إلى تدمير قراها وتبديل تركيبتها السكانية تحت ذريعة الهاجس القومي والأمني والخوف من العرقيات غير العربية في شمال العراق بما فيها تلك القاطنة كركوك.
بالعودة إلى التركيبة السكانية للمدينة يمثل الإحصاء الأممي لعام 1957 المعتمد رسمياً اليوم كونه جرى قبل تولي صدام حسين السلطة بما تخلل فترته من عمليات نقل للسكان العرب إلى كركوك حيث يظهر أن سكانها الأكراد يمثلون الثلث فقط بواقع 187593 نسمة وهي النسبة الأعلى في الأطراف والعرب 37 بالمائة بواقع 109620 نسمة والتركمان 28 بالمائة بواقع 83371 نسمة يمثلون النسبة الأعلى بالمركز والسوريان – الكلدان 1605 نسمة ، فيما أظهرت نتائجه على مستوى لواء كركوك أن الأكراد أقل من النصف ، وبالتالي فالأغلبية للعرب والتركمان إلا أن الأكراد بعد الاحتلال الأميركي للعراق قاموا بجلب 600 ألف كردي إليها تحت شعار التكريد وعلى مدى خمس سنوات من الاحتلال لم تكن هناك أي بوادر لاحتمال ظهور الصراع في كركوك فما الذي أدى إلى انفجاره اليوم وما هي دوافع الجهات المغذية له؟
أجندة الصراع الداخليبدا الصراع واضحاً بين سكان كركوك العرب والأكراد حيث يحاول كل منهما تقوية وجوده عن طريق تعزيز وزنه الديموغرافي واستمالة الأقليات التركمانية والآشورية ، وصولاً إلى زج المئات من البشمركة الكردية إلى المدينة في الأشهر الثلاثة الأخيرة ، معززةً بتوجيهات من الطالباني والبارزاني للتهيؤ للاستيلاء عليها وقمع أي مقاومة تعترضها كخطوة أولى لضمها إلى إقليم كردستان بعد النجاح في وضع إطار دستوري يدعم الجهود الميدانية الكردية لضم الإقليم إلى كردستان، وقد تم تضمينه دستور العراق الجديد كما جاء في المادة 140 منه حول المناطق المتنازع عليها وإعلان الأكراد أن كركوك خط أحمر كون المادة 140 تمنحهم الحق في ضمها بموجب نتائج الاستفتاء الذي تضمنته لاسيما بعد إحكامهم القبضة على مجلس المدينة.
التحرك الكردي يأتي بالتناغم مع مشروع برلمان كردستان كان قد تبناه في السابق تضمن تألف محافظة كردستان من المناطق ذات الغالبية الكردية حسب إحصاء عام 1957 أي محافظتي كركوك والتأميم، علماً أن مطالبهم قبل الحرب العالمية الأولى كانت مقتصرة على مدينة السليمانية فقط إلا أن نجاحهم في ضمها عام 1991 فتح شهيتهم نحو كركوك رغم أن نصفها تقريباً اليوم تقع خارج منطقة السيطرة الكردية، ولذا فهم يرون أن ضمها معناه الاحتفاظ بدور حيوي ومؤثر في إدارة الشأن العراقي المنبثق عن الاحتلال الأميركي والمضمن الدستور العراقي من خلال نص قانوني تقدموا به حول المناطق الكردية الشاملة محافظات دهوك وأربيل والسليمانية وكركوك والتأميم وأنحاء كردية في محافظتي ديالي والموصل.
مضامين المادة 140 تكونت من ثلاث مراحل لحل أزمة المناطق المتنازع عليها والمشكل لتنفيذها لجنة خاصة من قبل حكومة المالكي في شباط/ فبراير 2007 تمهيداً لإجراء انتخابات مجالس المحافظات المقررة في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 2008 وهي تطبيع الأوضاع وإجراء إحصاء سكاني في المناطق المتنازع عليها وإجراء استفتاء حول هويتها ومصيرها كان مقرراً قبل 31 كانون الأول/ ديسمبر 2007 ليتم تحت وطأة احتدام الخلافات الداخلية تأجيله ، خصوصاً بعد إقرار البرلمان العراقي مشروع قانون الانتخابات لمجالس المحافظات في 22 تموز/ يوليو 2008 دون مصادقة الطالباني وعادل عبدالمهدي عليه وإرجاعه إلى البرلمان لتعديله بسبب تضمنه فقرات تعيق ضم كردستان لكركوك الأمر الذي جعل الأكراد يصرون على الاستفتاء حول مصير كركوك قبل التوافق على التعديلات الدستورية للقانون في حين يصر العرب والتركمان على التعديلات قبل الاستفتاء وما بينهما وقفت الكتلة الصدرية إلى جانب تنفيذ المادة 140 في حين رأت الأمم المتحدة ضرورة إجراء الانتخابات واستثناء كركوك والتأميم والمناطق المتنازع عليها إلى حين البت في أمرها.
كل هذا يشي بأن الأزمة في طريقها نحو التصاعد وأن الانتخابات المحلية سيكون مصيرها التأجيل شأنها شأن التأجيل المتكرر للاستفتاء في ظل تحذير مجموعة الأزمات الدولية من عواقب وتداعيات الصراع على كركوك في إشعال حرب أهلية طاحنة أو حدوث تدخل عسكري خارجي قد يحولها إلى بؤرة لصراع وحرب إقليمية- دولية, ناصحةً بتأجيل الاستفتاء وتصنيف كركوك منطقة فيدرالية قائمة بذاتها وهو اقتراح لاقى استحسان العرب والتركمان المقترحين بدورهم تقسيمها إلى أربع دوائر انتخابية بواقع 32 بالمائة لكل من العرب والأكراد والتركمان و 4بالمائة للكدو- آشوريين أو الاحتكام إلى تعداد عام 1957 في حين يرى الأكراد أن ذلك مولداً للشكوك حول عدم قناعة العرب والتركمان بشراكتهم في العراق الجديد قد يدفعهم نحو تفضيل الخيار الانفصالي ما لم يتم إشعارهم بالأمان والاطمئنان والمواطنة الكاملة المتمثل في تعجيل الاستفتاء لإثبات حسن النية.
ومع ذلك فقد فات الجميع أنهم بالإجماع قد أقروا المادة 140 اللغم المهدد بتفتيت العراق بغية استغلال الظروف الاستثنائية لتثبيت مصالحهم الطائفية والعرقية على حساب وحدة واستقرار العراق.
أجندة الأطماع الخارجيةكركوك اليوم أشبه ما تكون بمثلث برمودا وبلغة أخرى مثلث الموت القادم في العراق الجديد ، قاعدته الصراعات السكانية الداخلية وضلعاه الأقلمة والتدويل ونقطة التقاطع الثروات المعدنية والأهمية الموقعية بما لها من أبعاد تاريخية مصحوبة بآثار كارثية صارت معها المدينة مرتعاً للتهجير القسري والتعريب تارة والتكريد أخرى ، والاختطافات والاعتقالات في ظل الشحن القومي والعصبوي المنفلت من عقاله والصائرة معه ساحة ساخنة للتجاذبات السياسية بين الدول الكبرى في المنطقة ساعدهم على ذلك ضعف الدولة المركزية العراقية وسيطرة الطائفيين الجدد على مفاصلها المتداعية فيما الجميع يشحذ سكاكينه استعداداً لتقطيع أوصال كركوك لتسهيل التهام قطعة منها.والملاحظ تقاطع محركات الأطراف الداخلية في كركوك وتحديداً العرب والتركمان، حول الخوف من اندفاع الأكراد نحو تحقيق أحلامهم القديمة المتجددة في إقامة دولتهم المستقلة عن العراق بما يترتب على ذلك من تذكية لطموحات الأقليات العراقية الأخرى ناهيك عن الطموحات الطائفية المعلنة من قبل الشيعة لإقامة دولتهم المستقلة أيضاً في جنوب العراق وهو ما يقود في نهاية المطاف إلى تقسيم العراق إلى دويلات متقزمة .
الطموح الأميركي الإسرائيلي منذ الوهلة الأولى أيضاً ركز على ضرورة إقامة نظام فدرالي شكلاً وكونفيدرالي عملياً إلا أنه لا يزال مصطدم بالهواجس القومية والأمنية لدول الجوار وتحديداً تركيا وسوريا وإيران المتفقة في مخاوفها مع عرب وتركمان كركوك حيال الطموحات الكردية والتي من شأنها إشعال الامتدادات الكردية فيها للمطالبة بالحصول على ذات المكاسب التي حققها أكراد العراق ما يعني في خاتمة المطاف توحيد المطالب لأكثر من 30 مليون كردي شتتهم لعنة سايكس بيكو لإقامة دولتهم العرقية الخالصة الأمر الذي قد ينذر بإشعال الشرق الأوسط برمته لاسيما وأن الحلقات المحلية والإقليمية والدولية في طريقها إلى الاكتمال فهل يعني ذلك أن كركوك في طريقها لسلوك خطى فلسطين المحتلة وصولاً إلى جعلها عنواناً للصراعات القادمة في المنطقة لاسيما وأن كل المؤشرات القائمة والمختمرة تصب في اتجاه صيرورتها مجمعاً لصراعات تقارب الانفجار بفعل تداخل وتشابك المحن فيها بشكل أهلَّها لأن تكون محطة ساخنة لبانوراما برمودية شرق أوسطية قادمة وفي نفس الوقت رقماً مهماً وصعباً في استقرار ووحدة العراق والمنطقة برمتها؟.إن قراءة سريعة لمعطيات الأطماع الخارجية المختلفة في كركوك وحولها سواء تلك المتحركة تحت شعار تداخل المصالح والديموغرافيا كما هو حال الموقف التركي المتحرك بدواعي الخوف على مصير التركمان، أو التوجس من تحريك أي نجاح قد يحرزه أكراد العراق في كركوك لثورة قد يقودها حزب العمال الكردستاني التركي بغية تحقيق أكراد تركيا الممثلين أكثر من ثلث سكانها ذات المكاسب أو تلك المتحركة تحت شعار القنبلة الديموغرافية كما هو حال الموقف السوري والإيراني من امتداد نيران الثورة الكردية إلى امتداداتها الخارجية.. فيما كانت تحركات أميركا وإسرائيل تحت غطاء المصالح الاقتصادية والعسكرية الرامي في حقيقته إلى جعل كركوك مفتاح سر وبوابة عبور جديدة نحو الشرق الأوسط الجديد ممثلاً في الخطة الإسرائيلية البديلة والجاري تنفيذها حالياً بعد فشل خطة المحافظين الجدد الأميركان في العراق والمنطقة معززاً بفشل إسرائيلي أميركي ذريع لجعل لبنان بوابة العبور فلم يكن أمامها من سبيل سوى كركوك .
الأجندة التركية يذهب الصحفي التركماني العراقي صبري طرابية إلى أن تقدير التركمان في العراق لا يقل عن مليون نسمة يعيش غالبيتهم في كركوك والتي كانوا دوماً يشكلون الأغلبية فيها، وهو التبرير الدافع بأنقرة إلى مواجهة طموحات أكراد العراق في كركوك والتلويح بالتدخل العسكري لإيقافها ولذا فهي تعتبر كركوك من الخطوط الحمراء التي لا يجب على الأكراد تجاوزها لما يترتب على ذلك من تداعيات قد تطال جنوب شرق تركيا ذات الغالبية الكردية أيضاً وهو ما يهدد في النهاية وحدة الأراضي التركية ما دعاها إلى استباق ذلك بالتلويح بتوجيه ضربات استباقية للاستفتاء حول مصير كركوك.الصراع التركي الكردي على هوية كركوك في حقيقته محكوماً بالاختلافات الشخصية بين قادة الطرفين وهو صراع كان ومازال منذ انهيار الدولة العثمانية وظهور الجمهورية التركية على أنقاضها حيث كان العراق بكامل حدوده الحالية يدخل وحتى العام 1921 ضمن الحدود العثمانية وكان التداخل العرقي في ولاية الموصل وعاصمتها كركوك أكثر وضوحاً.
لكن حدود التنازع لا تقف عند الأبعاد السياسية بل تتعداها إلى الأبعاد الاقتصادية وهو ما قد يُعقِّد الأزمة مستقبلاً ، خصوصاً وأنه في حال ضم كردستان لكركوك ستفقد أنقرة أول منفذ يتم من خلاله تصدير النفط العراقي إلى ميناء جيهان التركي وهو ما دفعها إلى تنظيم مؤتمراً إقليمياً حول كركوك خلال الفترة 15- 16 كانون الثاني/ يناير 2007 عدته كردستان العراق بمثابة أول تدخل سافر في الشأن العراقي في حين اكتفت أنقرة بإجراء رئيس وزراءها أردوغان مؤخراً اتصالاً هاتفياً مع رئيس العراق أبدا خلاله قلقه من مطالب سلطات أكراد كردستان العراق بضم محافظتي التأميم وكركوك مصحوباً بالتهديد العسكري للحيلولة دون حصول ذلك.
ومن الثابت أيضاً وجود مطالب تركية تاريخية لأجزاء من الموصل والسليمانية والتأميم وكانت كركوك محور اهتمامها الأول قبل أن يسيطر عليها الإنجليز وقد قضى قرار عصبة الأمم في 1925 بتبعية الموصل وعاصمتها كركوك للملكة العراقية على إثر ذلك تنازلت تركيا عنها رسمياً في 1926 مقابل الحصول على 10 بالمائة من عائداتها النفطية لمدة 25 عاماً ثم عدلت بعدها إلى سعر مقطوع لمدة واحدة ..كما هددت أنقرة في 1959 بالاستعداد العسكري لاقتحام كركوك وبعد العام 1991 إثر إقامة منطقة أمنه للأكراد في شمال العراق توصلت أنقرة إلى تفاهم مع أميركا على ألا تشمل المنطقة الأمنية كركوك.
إذن فهي جادة اليوم عندما لوحت بالتهديد العسكري لكن ما تداعيات ذلك على تحالفاتها الاستراتيجية مع كل من إسرائيل وأميركا؟ خصوصاً وأنها ترى في الطموحات الكردية تهديداً وجودياً لأمنها القومي؟ وهو شعور تشاركها فيه كل من إيران وسوريا بفعل تواجد القيادات الكردية المناوئة لكل من طهران ودمشق في كردستان العراق في وقت تتصاعد فيه التوترات بين طهران والحركات الكردية الإيرانية على مناطق الحدود مع تركيا والعراق إثر نجاح جماعة بيجاك الكردية الإيرانية بإسقاط مروحية للجيش الإيراني نهاية شباط/ فبراير 2007 م مسنودة من حزب العمال الكردستاني التركي وإسرائيل الأمر الذي أدى إلى فتح ملف أكراد إيران مجدداً بالتزامن مع إشتعال الاضطرابات في المناطق الكردية السورية تحت ذريعة المطالبة بالمواطنة المتساوية والأهم من هذا إعلان حزب العمال الكردستاني التركي مؤخراً عن انتهاء الهدنة التي استمرت خمس سنوات مع الجيش التركي.
الأجندة الإسرائيليةيعتقد الأكراد بأن مطية الوصول إلى طموحاتهم بحاجة إلى دعم خارجي، وهنا يطل البطل الإسرائيلي بقوة بوصفه اللاعب الأساسي والسري في لعبة الأمم الكبرى الراهنة المتمحورة حول الأكراد بعد التوصل إلى قناعة نهاية العام الماضي بعدم جدية أميركا للوقوف في وجه طهران وأنها لن تكون قادرة على تحقيق الاستقرار أو الديمقراطية في العراق، لذا رأت ضرورة التوجه إلى نسج خطة بديلة تضمنت حصر الأضرار التي سببتها الحرب العراقية للموقع الاستراتيجي الإسرائيلي من خلال توسيع علاقاتها القديمة القائمة مع أكراد العراق ونشر وجود إسرائيلي بارز في مناطقهم أولاً لاتخاذه كقاعدة لتنفيذ عملياتها السرية داخل المناطق الكردية في سوريا وإيران ، أملاً في تحقيق ما عجزت عن تحقيقه القوات الأميركية بالسلم والدبلوماسية ووصولاً إلى خلق واقع فيدرالي شكلي وكونفدرالي عملياً في العراق من خلال خلق حرب أهلية يكون فتيلها تغذية النوازع الانفصالية لدى الأكراد لإقامة دولتهم كون الأمر لم يعد مستحيلاً والتكفل بتوفير الضمانات الأميركية وهو ما يسمح في الأخير بفتح الباب واسعاً أمام إسرائيل لنهب ثروات العراق ولم يعد خافياً اليوم وجود الكثير من شركاتها الاستثمارية تحت مسميات متعددة في الشمال العراقي خصوصاً في مجال التنقيب عن النفط و اليورانيوم في كركوك وهو حلم قديم تحرص اليوم على تحقيقه من خلال إعادة تأمين خط أنابيب كركوك- حيفا.
اللعب الإسرائيلي اليوم بالصاعق الكردي العراقي من شأنه إشعال ردود فعل تركية وربما حرباً ما يعني نسف تحالفاً مهماً وتاريخياً يربطهما لاسيما بعد الفشل في إقناع أنقرة بأن المستهدف هو إيران وسوريا وليس تركيا كما أنه قد يضطر أميركا إلى المفاضلة بين كردستان حرة وبين تركيا الحليف الاستراتيجي بما لذلك من خطورة في حال اختارت الخيار الأول لاندفاع تركيا نحو الانفجار وربما توحد الأصوليين في الشرق مع الجيش التركي العلماني ما لم تنجح واشنطن في إيجاد صفقة مرضية حول كركوك لكل الأطراف بعيداً عن الاندفاعات الإسرائيلية الجنونية.
الأجندة الأميركيةفي طابعها العام بعد فشل ضغوطها على القادة العراقيين للتوصل إلى تسوية تسمح بإجراء انتخابات مجالس المحافظات كخطوة أولى تدعم العملية السياسية تمهيداً لإجراء انتخابات عامة لم تخفي خشيتها من أن تستغل الجماعات المسلحة مثل القاعدة والميليشيات الشيعية الجدل المحتدم حول كركوك لتنفيذ مخططات تضر بالمكاسب الأمنية المتحققة مؤخراً حسب زعمها.
كما أن واشنطن تدرك بأن انفصال كركوك وضمها لكردستان من شأنه فتح أبوب من التوتر والانقسام هي في غنى عنها حالياً ، كما أنها ليست في وارد التضحية بثروات كركوك وليست لديها الرغبة في خسارة تركيا وما بينهما تحاول الإمساك بخيوط اللعبة السياسية وهو ما يحتم عليها امتلاك أوراق ضغط إضافية لاستغلالها في الوقت المناسب خصوصاً كركوك الورقة الرابحة في المستقبل القريب والبعيد تجاه تركيا وسوريا وإيران.
إذن فهي تعتمد استراتيجية كسب الوقت إذ الملاحظ أنها عندما تتصاعد الأزمات تقوم باختيار الحل المناسب لمصالحها الخاصة وتحاول تطبيقه وإذا كانت معطيات الواقع لا تقبل ذلك تسعى إلى تغييره وتطويعه وهو المنهج المتبع حالياً حيال ملف كركوك القائم بصورة أساسية على: تأجيل الاستفتاء حولها لإرضاء أنقرة..و تأجيل العملية العسكرية لإرضاء أربيل وجعلها تقبل بتأجيل الاستفتاء على أمل إجرائه لاحقاً.
ومن ثم الحيلولة دون وقوع صراع عربي- كردي- تركي من خلال سيطرة الجيش الأميركي مؤخراً على كل الجسور والممرات الموجودة في كركوك كمقدمة للسيطرة عليها وصولاً إلى خلق واقع جديد يمكنها من استخدام ملف كركوك في المساومات السرية مع أنقرة والزعماء الأكراد والعرب مصحوباً بخطوات ميدانية متسارعة من أجل بناء قاعدة عسكرية جوية في كركوك هي الأهم والأكبر من نوعها في الشرق الأوسط ودفع الشركات الأميركية لتوقيع المزيد من عقود احتكار حق تنقيب وحفر وتوزيع وبيع نفط كركوك.
كلها في نهاية المطاف تقود إلى خلق واقع جديد في هذه المنطقة المنكوبة بحيث لا يكون أمام الأطراف المتصارعة سوى تقديم المزيد من التعاون لواشنطن من أجل الحصول على نصيب أكبر من كعكة كركوك وربما الفتات كون الجزء الأكبر قد أضحى في جيب الشركات الأميركية والإسرائيلية.------------------------------المصادر- تيلي أمين- محامي كردي، كركوك.. مدينة التعايش السلمي، جريدة الزمان العراقية، 13 أيار/ مايو 2004.- رشيد الخيون، كركوك.. رفقاً بالفلك المشحون، جريدة الشرق الأوسط، 30 تموز/ يوليو 2008.- د. مصطفى اللباد، الصراع على كركوك بين التاريخ والمصالح، موقع جريدة الجريدة.- عماد الدبك، الصراع يحتدم في العراق للحصول على نصيب أكبر من كعكة كركوك، موقع شبكة البصرة، 29 كانون الثاني/ يناير 2008.- أكراد العراق: الدستور مقابل المادة 140، الأخبار اللبنانية، 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 2007.- العراق: الصراع على كركوك يعرقل إجراء الانتخابات المحلية، موقع بي. بي. سي، 3 آب/ أغسطس 2008.- محمد أمين، كركوك: برميل بارود يشتعل، موقع مفكرة الإسلام، 6 أيار/ مارس 2007.- الجمل، صراع الذئاب على بقرة كركوك الحلوب، موقع أحرار سوريا، قسم الدراسات والترجمة.- سعد محيو، كركوك أولاً.. كركوك أخيراً، الكفاح العربي، 9 آب/ أغسطس 2008.
هذا المقال من قبل صوت العروبةhttp://www.arabvoice.com/ رابط هذا المفال:http://www.arabvoice.com/modules.php?op=modload&name=News&file=article&sid=14839
قديماً كان الصراع بين الإمبراطورية الآشورية والبابلية والميدية، وحديثاً بين الأكراد والعرب والأتراك وإيران وإسرائيل وأميركا وما بينهما، نجحت المدينة في أن تكون مدينة للتعايش بين مختلف مكوناتها القومية والعرقية لاسيما في القرن السابع إثر ضمها إلى الحاضنة العربية ، إلا أن الاستعمار الحديث وتحديداً قبل 200 عام عندما نجح الجيش التركي في استخراج النفط منها لاستخدامه في الإضاءة, حولَّها إلى واحدة من أهم وأخطر بؤر التوتر الداخلية والإقليمية والدولية والواصل ذروته اليوم بالتناغم مع تهديد رئيس الحكم الذاتي لإقليم كردستان العراق مسعود بارزاني بضمها رسمياً إلى الإقليم ودفعه قبل أسابيع مئات من البشمركة إلى المدينة على مقربة من فشل الحكومة العراقية في تمرير قانون انتخابات مجالس المحافظات وانفجار ملفات الأكراد في تركيا وسوريا وإيران.
ست سنوات مرت منذ احتلال أميركا للعراق كانت فيها كركوك بعيدة عن نيران الحرب الطائفية فإذا بها فجأة تطفو على السطح كقنبلة موقوتة تشير التفاعلات المحيطة بها إلى صيرورتها عنواناً لصراع قادم عنوانه الرئيسي القوميات وعامل تغذيته الأحلام الكردية المرتفعة وتيرتها بدعم إسرائيلي في بلد هو في الأساس عبارة عن شعوب توافدت وتعايشت عبر آلاف السنين مكونة فيما بينها فلكاً مشحوناً بالقوميات والأديان والمذاهب والأعراق ومتحفاً عقائدياً لا يحتمل بعث أمة دون سواها ، خصوصاً في هذه المرحلة الفارقة من تاريخه المعاصر.
لماذا كركوك؟استمدت كركوك أهميتها من توافر عدة عوامل أكسبتها أهمية استراتيجية خاصة داخلياً وإقليمياً ودولياً أهمها: المخزونات النفطية الهائلة المتجاوزة 10 مليارات برميل من الاحتياطي الخام المحقق إلى جانب اكتشاف مادة اليورانيوم مؤخراً ، ناهيك عن موقعها الجغرافي ذي الأهمية الاستراتيجية, كون المدينة وفقاً لخارطة العام 1957 تقع في قلب العراق ؛ ولذا فهي قريبة من كل العراق حيث يحدها من الشمال أربيل ومن الشمال الغربي الموصل ومن الشرق السليمانية ومن الجنوب ديالي ومن الغرب بغداد وتكريت ، ما يعني أن من يسيطر عليها سيتمكن من التحكم بمصير العراق حاضره ومستقبله الأمر الذي دفع القيادات العراقية المتعاقبة إلى تقطيع أوصالها والتلاعب بتركيبتها الديموغرافية ومن ثم استبدالها بمحافظة التأميم عام 1969 المفضي إلى تدمير قراها وتبديل تركيبتها السكانية تحت ذريعة الهاجس القومي والأمني والخوف من العرقيات غير العربية في شمال العراق بما فيها تلك القاطنة كركوك.
بالعودة إلى التركيبة السكانية للمدينة يمثل الإحصاء الأممي لعام 1957 المعتمد رسمياً اليوم كونه جرى قبل تولي صدام حسين السلطة بما تخلل فترته من عمليات نقل للسكان العرب إلى كركوك حيث يظهر أن سكانها الأكراد يمثلون الثلث فقط بواقع 187593 نسمة وهي النسبة الأعلى في الأطراف والعرب 37 بالمائة بواقع 109620 نسمة والتركمان 28 بالمائة بواقع 83371 نسمة يمثلون النسبة الأعلى بالمركز والسوريان – الكلدان 1605 نسمة ، فيما أظهرت نتائجه على مستوى لواء كركوك أن الأكراد أقل من النصف ، وبالتالي فالأغلبية للعرب والتركمان إلا أن الأكراد بعد الاحتلال الأميركي للعراق قاموا بجلب 600 ألف كردي إليها تحت شعار التكريد وعلى مدى خمس سنوات من الاحتلال لم تكن هناك أي بوادر لاحتمال ظهور الصراع في كركوك فما الذي أدى إلى انفجاره اليوم وما هي دوافع الجهات المغذية له؟
أجندة الصراع الداخليبدا الصراع واضحاً بين سكان كركوك العرب والأكراد حيث يحاول كل منهما تقوية وجوده عن طريق تعزيز وزنه الديموغرافي واستمالة الأقليات التركمانية والآشورية ، وصولاً إلى زج المئات من البشمركة الكردية إلى المدينة في الأشهر الثلاثة الأخيرة ، معززةً بتوجيهات من الطالباني والبارزاني للتهيؤ للاستيلاء عليها وقمع أي مقاومة تعترضها كخطوة أولى لضمها إلى إقليم كردستان بعد النجاح في وضع إطار دستوري يدعم الجهود الميدانية الكردية لضم الإقليم إلى كردستان، وقد تم تضمينه دستور العراق الجديد كما جاء في المادة 140 منه حول المناطق المتنازع عليها وإعلان الأكراد أن كركوك خط أحمر كون المادة 140 تمنحهم الحق في ضمها بموجب نتائج الاستفتاء الذي تضمنته لاسيما بعد إحكامهم القبضة على مجلس المدينة.
التحرك الكردي يأتي بالتناغم مع مشروع برلمان كردستان كان قد تبناه في السابق تضمن تألف محافظة كردستان من المناطق ذات الغالبية الكردية حسب إحصاء عام 1957 أي محافظتي كركوك والتأميم، علماً أن مطالبهم قبل الحرب العالمية الأولى كانت مقتصرة على مدينة السليمانية فقط إلا أن نجاحهم في ضمها عام 1991 فتح شهيتهم نحو كركوك رغم أن نصفها تقريباً اليوم تقع خارج منطقة السيطرة الكردية، ولذا فهم يرون أن ضمها معناه الاحتفاظ بدور حيوي ومؤثر في إدارة الشأن العراقي المنبثق عن الاحتلال الأميركي والمضمن الدستور العراقي من خلال نص قانوني تقدموا به حول المناطق الكردية الشاملة محافظات دهوك وأربيل والسليمانية وكركوك والتأميم وأنحاء كردية في محافظتي ديالي والموصل.
مضامين المادة 140 تكونت من ثلاث مراحل لحل أزمة المناطق المتنازع عليها والمشكل لتنفيذها لجنة خاصة من قبل حكومة المالكي في شباط/ فبراير 2007 تمهيداً لإجراء انتخابات مجالس المحافظات المقررة في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 2008 وهي تطبيع الأوضاع وإجراء إحصاء سكاني في المناطق المتنازع عليها وإجراء استفتاء حول هويتها ومصيرها كان مقرراً قبل 31 كانون الأول/ ديسمبر 2007 ليتم تحت وطأة احتدام الخلافات الداخلية تأجيله ، خصوصاً بعد إقرار البرلمان العراقي مشروع قانون الانتخابات لمجالس المحافظات في 22 تموز/ يوليو 2008 دون مصادقة الطالباني وعادل عبدالمهدي عليه وإرجاعه إلى البرلمان لتعديله بسبب تضمنه فقرات تعيق ضم كردستان لكركوك الأمر الذي جعل الأكراد يصرون على الاستفتاء حول مصير كركوك قبل التوافق على التعديلات الدستورية للقانون في حين يصر العرب والتركمان على التعديلات قبل الاستفتاء وما بينهما وقفت الكتلة الصدرية إلى جانب تنفيذ المادة 140 في حين رأت الأمم المتحدة ضرورة إجراء الانتخابات واستثناء كركوك والتأميم والمناطق المتنازع عليها إلى حين البت في أمرها.
كل هذا يشي بأن الأزمة في طريقها نحو التصاعد وأن الانتخابات المحلية سيكون مصيرها التأجيل شأنها شأن التأجيل المتكرر للاستفتاء في ظل تحذير مجموعة الأزمات الدولية من عواقب وتداعيات الصراع على كركوك في إشعال حرب أهلية طاحنة أو حدوث تدخل عسكري خارجي قد يحولها إلى بؤرة لصراع وحرب إقليمية- دولية, ناصحةً بتأجيل الاستفتاء وتصنيف كركوك منطقة فيدرالية قائمة بذاتها وهو اقتراح لاقى استحسان العرب والتركمان المقترحين بدورهم تقسيمها إلى أربع دوائر انتخابية بواقع 32 بالمائة لكل من العرب والأكراد والتركمان و 4بالمائة للكدو- آشوريين أو الاحتكام إلى تعداد عام 1957 في حين يرى الأكراد أن ذلك مولداً للشكوك حول عدم قناعة العرب والتركمان بشراكتهم في العراق الجديد قد يدفعهم نحو تفضيل الخيار الانفصالي ما لم يتم إشعارهم بالأمان والاطمئنان والمواطنة الكاملة المتمثل في تعجيل الاستفتاء لإثبات حسن النية.
ومع ذلك فقد فات الجميع أنهم بالإجماع قد أقروا المادة 140 اللغم المهدد بتفتيت العراق بغية استغلال الظروف الاستثنائية لتثبيت مصالحهم الطائفية والعرقية على حساب وحدة واستقرار العراق.
أجندة الأطماع الخارجيةكركوك اليوم أشبه ما تكون بمثلث برمودا وبلغة أخرى مثلث الموت القادم في العراق الجديد ، قاعدته الصراعات السكانية الداخلية وضلعاه الأقلمة والتدويل ونقطة التقاطع الثروات المعدنية والأهمية الموقعية بما لها من أبعاد تاريخية مصحوبة بآثار كارثية صارت معها المدينة مرتعاً للتهجير القسري والتعريب تارة والتكريد أخرى ، والاختطافات والاعتقالات في ظل الشحن القومي والعصبوي المنفلت من عقاله والصائرة معه ساحة ساخنة للتجاذبات السياسية بين الدول الكبرى في المنطقة ساعدهم على ذلك ضعف الدولة المركزية العراقية وسيطرة الطائفيين الجدد على مفاصلها المتداعية فيما الجميع يشحذ سكاكينه استعداداً لتقطيع أوصال كركوك لتسهيل التهام قطعة منها.والملاحظ تقاطع محركات الأطراف الداخلية في كركوك وتحديداً العرب والتركمان، حول الخوف من اندفاع الأكراد نحو تحقيق أحلامهم القديمة المتجددة في إقامة دولتهم المستقلة عن العراق بما يترتب على ذلك من تذكية لطموحات الأقليات العراقية الأخرى ناهيك عن الطموحات الطائفية المعلنة من قبل الشيعة لإقامة دولتهم المستقلة أيضاً في جنوب العراق وهو ما يقود في نهاية المطاف إلى تقسيم العراق إلى دويلات متقزمة .
الطموح الأميركي الإسرائيلي منذ الوهلة الأولى أيضاً ركز على ضرورة إقامة نظام فدرالي شكلاً وكونفيدرالي عملياً إلا أنه لا يزال مصطدم بالهواجس القومية والأمنية لدول الجوار وتحديداً تركيا وسوريا وإيران المتفقة في مخاوفها مع عرب وتركمان كركوك حيال الطموحات الكردية والتي من شأنها إشعال الامتدادات الكردية فيها للمطالبة بالحصول على ذات المكاسب التي حققها أكراد العراق ما يعني في خاتمة المطاف توحيد المطالب لأكثر من 30 مليون كردي شتتهم لعنة سايكس بيكو لإقامة دولتهم العرقية الخالصة الأمر الذي قد ينذر بإشعال الشرق الأوسط برمته لاسيما وأن الحلقات المحلية والإقليمية والدولية في طريقها إلى الاكتمال فهل يعني ذلك أن كركوك في طريقها لسلوك خطى فلسطين المحتلة وصولاً إلى جعلها عنواناً للصراعات القادمة في المنطقة لاسيما وأن كل المؤشرات القائمة والمختمرة تصب في اتجاه صيرورتها مجمعاً لصراعات تقارب الانفجار بفعل تداخل وتشابك المحن فيها بشكل أهلَّها لأن تكون محطة ساخنة لبانوراما برمودية شرق أوسطية قادمة وفي نفس الوقت رقماً مهماً وصعباً في استقرار ووحدة العراق والمنطقة برمتها؟.إن قراءة سريعة لمعطيات الأطماع الخارجية المختلفة في كركوك وحولها سواء تلك المتحركة تحت شعار تداخل المصالح والديموغرافيا كما هو حال الموقف التركي المتحرك بدواعي الخوف على مصير التركمان، أو التوجس من تحريك أي نجاح قد يحرزه أكراد العراق في كركوك لثورة قد يقودها حزب العمال الكردستاني التركي بغية تحقيق أكراد تركيا الممثلين أكثر من ثلث سكانها ذات المكاسب أو تلك المتحركة تحت شعار القنبلة الديموغرافية كما هو حال الموقف السوري والإيراني من امتداد نيران الثورة الكردية إلى امتداداتها الخارجية.. فيما كانت تحركات أميركا وإسرائيل تحت غطاء المصالح الاقتصادية والعسكرية الرامي في حقيقته إلى جعل كركوك مفتاح سر وبوابة عبور جديدة نحو الشرق الأوسط الجديد ممثلاً في الخطة الإسرائيلية البديلة والجاري تنفيذها حالياً بعد فشل خطة المحافظين الجدد الأميركان في العراق والمنطقة معززاً بفشل إسرائيلي أميركي ذريع لجعل لبنان بوابة العبور فلم يكن أمامها من سبيل سوى كركوك .
الأجندة التركية يذهب الصحفي التركماني العراقي صبري طرابية إلى أن تقدير التركمان في العراق لا يقل عن مليون نسمة يعيش غالبيتهم في كركوك والتي كانوا دوماً يشكلون الأغلبية فيها، وهو التبرير الدافع بأنقرة إلى مواجهة طموحات أكراد العراق في كركوك والتلويح بالتدخل العسكري لإيقافها ولذا فهي تعتبر كركوك من الخطوط الحمراء التي لا يجب على الأكراد تجاوزها لما يترتب على ذلك من تداعيات قد تطال جنوب شرق تركيا ذات الغالبية الكردية أيضاً وهو ما يهدد في النهاية وحدة الأراضي التركية ما دعاها إلى استباق ذلك بالتلويح بتوجيه ضربات استباقية للاستفتاء حول مصير كركوك.الصراع التركي الكردي على هوية كركوك في حقيقته محكوماً بالاختلافات الشخصية بين قادة الطرفين وهو صراع كان ومازال منذ انهيار الدولة العثمانية وظهور الجمهورية التركية على أنقاضها حيث كان العراق بكامل حدوده الحالية يدخل وحتى العام 1921 ضمن الحدود العثمانية وكان التداخل العرقي في ولاية الموصل وعاصمتها كركوك أكثر وضوحاً.
لكن حدود التنازع لا تقف عند الأبعاد السياسية بل تتعداها إلى الأبعاد الاقتصادية وهو ما قد يُعقِّد الأزمة مستقبلاً ، خصوصاً وأنه في حال ضم كردستان لكركوك ستفقد أنقرة أول منفذ يتم من خلاله تصدير النفط العراقي إلى ميناء جيهان التركي وهو ما دفعها إلى تنظيم مؤتمراً إقليمياً حول كركوك خلال الفترة 15- 16 كانون الثاني/ يناير 2007 عدته كردستان العراق بمثابة أول تدخل سافر في الشأن العراقي في حين اكتفت أنقرة بإجراء رئيس وزراءها أردوغان مؤخراً اتصالاً هاتفياً مع رئيس العراق أبدا خلاله قلقه من مطالب سلطات أكراد كردستان العراق بضم محافظتي التأميم وكركوك مصحوباً بالتهديد العسكري للحيلولة دون حصول ذلك.
ومن الثابت أيضاً وجود مطالب تركية تاريخية لأجزاء من الموصل والسليمانية والتأميم وكانت كركوك محور اهتمامها الأول قبل أن يسيطر عليها الإنجليز وقد قضى قرار عصبة الأمم في 1925 بتبعية الموصل وعاصمتها كركوك للملكة العراقية على إثر ذلك تنازلت تركيا عنها رسمياً في 1926 مقابل الحصول على 10 بالمائة من عائداتها النفطية لمدة 25 عاماً ثم عدلت بعدها إلى سعر مقطوع لمدة واحدة ..كما هددت أنقرة في 1959 بالاستعداد العسكري لاقتحام كركوك وبعد العام 1991 إثر إقامة منطقة أمنه للأكراد في شمال العراق توصلت أنقرة إلى تفاهم مع أميركا على ألا تشمل المنطقة الأمنية كركوك.
إذن فهي جادة اليوم عندما لوحت بالتهديد العسكري لكن ما تداعيات ذلك على تحالفاتها الاستراتيجية مع كل من إسرائيل وأميركا؟ خصوصاً وأنها ترى في الطموحات الكردية تهديداً وجودياً لأمنها القومي؟ وهو شعور تشاركها فيه كل من إيران وسوريا بفعل تواجد القيادات الكردية المناوئة لكل من طهران ودمشق في كردستان العراق في وقت تتصاعد فيه التوترات بين طهران والحركات الكردية الإيرانية على مناطق الحدود مع تركيا والعراق إثر نجاح جماعة بيجاك الكردية الإيرانية بإسقاط مروحية للجيش الإيراني نهاية شباط/ فبراير 2007 م مسنودة من حزب العمال الكردستاني التركي وإسرائيل الأمر الذي أدى إلى فتح ملف أكراد إيران مجدداً بالتزامن مع إشتعال الاضطرابات في المناطق الكردية السورية تحت ذريعة المطالبة بالمواطنة المتساوية والأهم من هذا إعلان حزب العمال الكردستاني التركي مؤخراً عن انتهاء الهدنة التي استمرت خمس سنوات مع الجيش التركي.
الأجندة الإسرائيليةيعتقد الأكراد بأن مطية الوصول إلى طموحاتهم بحاجة إلى دعم خارجي، وهنا يطل البطل الإسرائيلي بقوة بوصفه اللاعب الأساسي والسري في لعبة الأمم الكبرى الراهنة المتمحورة حول الأكراد بعد التوصل إلى قناعة نهاية العام الماضي بعدم جدية أميركا للوقوف في وجه طهران وأنها لن تكون قادرة على تحقيق الاستقرار أو الديمقراطية في العراق، لذا رأت ضرورة التوجه إلى نسج خطة بديلة تضمنت حصر الأضرار التي سببتها الحرب العراقية للموقع الاستراتيجي الإسرائيلي من خلال توسيع علاقاتها القديمة القائمة مع أكراد العراق ونشر وجود إسرائيلي بارز في مناطقهم أولاً لاتخاذه كقاعدة لتنفيذ عملياتها السرية داخل المناطق الكردية في سوريا وإيران ، أملاً في تحقيق ما عجزت عن تحقيقه القوات الأميركية بالسلم والدبلوماسية ووصولاً إلى خلق واقع فيدرالي شكلي وكونفدرالي عملياً في العراق من خلال خلق حرب أهلية يكون فتيلها تغذية النوازع الانفصالية لدى الأكراد لإقامة دولتهم كون الأمر لم يعد مستحيلاً والتكفل بتوفير الضمانات الأميركية وهو ما يسمح في الأخير بفتح الباب واسعاً أمام إسرائيل لنهب ثروات العراق ولم يعد خافياً اليوم وجود الكثير من شركاتها الاستثمارية تحت مسميات متعددة في الشمال العراقي خصوصاً في مجال التنقيب عن النفط و اليورانيوم في كركوك وهو حلم قديم تحرص اليوم على تحقيقه من خلال إعادة تأمين خط أنابيب كركوك- حيفا.
اللعب الإسرائيلي اليوم بالصاعق الكردي العراقي من شأنه إشعال ردود فعل تركية وربما حرباً ما يعني نسف تحالفاً مهماً وتاريخياً يربطهما لاسيما بعد الفشل في إقناع أنقرة بأن المستهدف هو إيران وسوريا وليس تركيا كما أنه قد يضطر أميركا إلى المفاضلة بين كردستان حرة وبين تركيا الحليف الاستراتيجي بما لذلك من خطورة في حال اختارت الخيار الأول لاندفاع تركيا نحو الانفجار وربما توحد الأصوليين في الشرق مع الجيش التركي العلماني ما لم تنجح واشنطن في إيجاد صفقة مرضية حول كركوك لكل الأطراف بعيداً عن الاندفاعات الإسرائيلية الجنونية.
الأجندة الأميركيةفي طابعها العام بعد فشل ضغوطها على القادة العراقيين للتوصل إلى تسوية تسمح بإجراء انتخابات مجالس المحافظات كخطوة أولى تدعم العملية السياسية تمهيداً لإجراء انتخابات عامة لم تخفي خشيتها من أن تستغل الجماعات المسلحة مثل القاعدة والميليشيات الشيعية الجدل المحتدم حول كركوك لتنفيذ مخططات تضر بالمكاسب الأمنية المتحققة مؤخراً حسب زعمها.
كما أن واشنطن تدرك بأن انفصال كركوك وضمها لكردستان من شأنه فتح أبوب من التوتر والانقسام هي في غنى عنها حالياً ، كما أنها ليست في وارد التضحية بثروات كركوك وليست لديها الرغبة في خسارة تركيا وما بينهما تحاول الإمساك بخيوط اللعبة السياسية وهو ما يحتم عليها امتلاك أوراق ضغط إضافية لاستغلالها في الوقت المناسب خصوصاً كركوك الورقة الرابحة في المستقبل القريب والبعيد تجاه تركيا وسوريا وإيران.
إذن فهي تعتمد استراتيجية كسب الوقت إذ الملاحظ أنها عندما تتصاعد الأزمات تقوم باختيار الحل المناسب لمصالحها الخاصة وتحاول تطبيقه وإذا كانت معطيات الواقع لا تقبل ذلك تسعى إلى تغييره وتطويعه وهو المنهج المتبع حالياً حيال ملف كركوك القائم بصورة أساسية على: تأجيل الاستفتاء حولها لإرضاء أنقرة..و تأجيل العملية العسكرية لإرضاء أربيل وجعلها تقبل بتأجيل الاستفتاء على أمل إجرائه لاحقاً.
ومن ثم الحيلولة دون وقوع صراع عربي- كردي- تركي من خلال سيطرة الجيش الأميركي مؤخراً على كل الجسور والممرات الموجودة في كركوك كمقدمة للسيطرة عليها وصولاً إلى خلق واقع جديد يمكنها من استخدام ملف كركوك في المساومات السرية مع أنقرة والزعماء الأكراد والعرب مصحوباً بخطوات ميدانية متسارعة من أجل بناء قاعدة عسكرية جوية في كركوك هي الأهم والأكبر من نوعها في الشرق الأوسط ودفع الشركات الأميركية لتوقيع المزيد من عقود احتكار حق تنقيب وحفر وتوزيع وبيع نفط كركوك.
كلها في نهاية المطاف تقود إلى خلق واقع جديد في هذه المنطقة المنكوبة بحيث لا يكون أمام الأطراف المتصارعة سوى تقديم المزيد من التعاون لواشنطن من أجل الحصول على نصيب أكبر من كعكة كركوك وربما الفتات كون الجزء الأكبر قد أضحى في جيب الشركات الأميركية والإسرائيلية.------------------------------المصادر- تيلي أمين- محامي كردي، كركوك.. مدينة التعايش السلمي، جريدة الزمان العراقية، 13 أيار/ مايو 2004.- رشيد الخيون، كركوك.. رفقاً بالفلك المشحون، جريدة الشرق الأوسط، 30 تموز/ يوليو 2008.- د. مصطفى اللباد، الصراع على كركوك بين التاريخ والمصالح، موقع جريدة الجريدة.- عماد الدبك، الصراع يحتدم في العراق للحصول على نصيب أكبر من كعكة كركوك، موقع شبكة البصرة، 29 كانون الثاني/ يناير 2008.- أكراد العراق: الدستور مقابل المادة 140، الأخبار اللبنانية، 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 2007.- العراق: الصراع على كركوك يعرقل إجراء الانتخابات المحلية، موقع بي. بي. سي، 3 آب/ أغسطس 2008.- محمد أمين، كركوك: برميل بارود يشتعل، موقع مفكرة الإسلام، 6 أيار/ مارس 2007.- الجمل، صراع الذئاب على بقرة كركوك الحلوب، موقع أحرار سوريا، قسم الدراسات والترجمة.- سعد محيو، كركوك أولاً.. كركوك أخيراً، الكفاح العربي، 9 آب/ أغسطس 2008.
هذا المقال من قبل صوت العروبةhttp://www.arabvoice.com/ رابط هذا المفال:http://www.arabvoice.com/modules.php?op=modload&name=News&file=article&sid=14839
الاحتباس الحراري وشبح الطوفان القادم
بقلم// زيد يحيى المحبشي/ صوت العروب، واشنطن 28 أبريل 2009
منذ مطلع سبعينيات القرن العشرين تحول الأوزون من مجرد غاز يوجد في الغلاف الجوي بكميات قليلة إلى مشكلة مؤرقة إثر اكتشاف العلماء أن المعدل الطبيعي لتركيزه في الغلاف الجوي قد أصبح معرضاً للخطر وتحديداً عام 1985 عندما عُثر على ثقب فوق القارة القطبية الجنوبية قطره نحو 9 كم نتيجة انخفاض كثافة الأوزون عن معدله الطبيعي بنحو 50 في المائة.
وفي مطلع التسعينيات برزت على السطح مشكلة أخرى أكثر خطورة هي الاحتباس الحراري، تاركةً بصماتها في سلسلة من الكوارث الكونية المتسارعة, والفيضانات المدمرة كنتيجة طبيعية لتأثيراتها المختلفة في حدوث الانفلاتات والانقلابات المناخية العنيفة وغير المسبوقة المهددة حاضر البشرية ومستقبلها.إذن نحن أمام ظاهرة رغم ما يلفها من غموض وجدل علمي وسياسي، إلا أن الجميع بات مقتنعاً بأنها تفوق في خطورتها وحجمها أي مشكلة أخرى تهدد العالم، بل وتفوق مشكلة الإرهاب الدولي حسب السير ديفيد كينج كبير مستشاري الحكومة البريطانية العلميين.
ومن المتوقع صيرورة الاحتباس ابتداءً من العام المقبل أكثر جلاءً من خلال تسجيلها درجات حرارة قياسية بعد أن خضعت في العامين الأخيرة لظواهر طبيعية موازية خفّفت من حدتها ما جعل منها قضية القرن بامتياز، مدشنةً بذلك مرحلة انتقالية جديدة من صراع الإنسان المعاصر مع بيئته.
والمثير رغم تحذيرات العلماء من عواقبها الوخيمة، وتصدرها اهتمام المحافل الدولية، انسحاب العديد من الدول وفي مقدمتها أميركا من اتفاقية كيوتو الخاصة بحماية البيئة العالمية والمطالبة بخفض الانبعاث المتسبب في الاحتباس الحراري بحلول العام 2012 بنحو 7 بالمائة عن مستوياته لعام1990، فهل يعني هذا أن زمن وفاق قوى الطبيعة مع الجنس البشري قد انقضى بلا رجعة، وأن الإنسان أصبح عدو محيطه بل وعدو نفسه الأول.
إن ما نعايشه من قيظ قاس وبرد قارص وفيضانات غامرة وجفاف حارق وأعاصير جامحة وحرائق غابات مهلكة وغيرها من الظواهر العنيفة والفجائية والخارجة عن سياقاتها التاريخية تشير إلى أن التفسير الوحيد لكل هذه الفوضى والعذابات هي بفعل احتباس الحرارة داخل غلاف الأرض الجوي و سخونة سطحها بصورة غير اعتيادية كنتيجة طبيعية لممارساتنا الخاطئة والجائرة الدافعة ببعض النظم البيئية إلى إعلان الحرب علينا بعد طول مهادنة في القرون السابقة لعصر الثورة الصناعية
الاحتباس الحراري، دفيئة الأرض، الاحترار العالمي، التغير المناخي، الصوبة - البيوت - الزجاجية الحرارية، مسميات لقضية واحدة هي ارتفاع درجة حرارة الأرض عن معدلها الطبيعي – اختلال التوازن البيئي- نتيجة انبعاث الملوثات في الجو سواء كانت ملوثات طبيعية كالبراكين وحرائق الغابات والملوثات العضوية أو غير طبيعية بسبب نشاط الإنسان واحتراق الوقود الأحفوري كالنفط والغاز الطبيعي والفحم المؤدي بدوره إلى الارتفاع التدريجي لدرجة حرارة الطبقة السفلى من الغلاف الجوي بصورة ملحوظة ومتنامية،
وبمعنى أقرب للفهم: ارتفاع درجة الحرارة في بيئة ما نتيجة تغير في سيلان الطاقة الحرارية من البيئة وإليها حيث تقوم الغازات الدفيئة بالقسط الأكبر من مهمة حبس الأشعة المنبعثة من سطح الأرض وعدم السماح بتسريبها إلى الفضاء الخارجي ما يؤدي إلى حدوث الكثير من التغيرات المناخية الكارثية.
ومعلوم أن الغلاف الجوي أحد أهم ما يميز كوكبنا عن كواكب المجموعة الشمسية الأخرى، ولذا فوجوده وثبات مكوناته يعني استمرار الحياة المتعارف عليها، والعكس في حال شهدت هذه المكونات بعض الإضافات أي اختلال المعادلة البيئية المعتادة كالحرارة والرطوبة والضغط الجوي وأنماط الرياح والمتساقطات المطرية بما لها من تأثيرات هائلة على الأنظمة الحيوية الطبيعية برمتها.
الغلاف الجوي:
غلالة شفافة تحيط بالأرض وتحفظها وتؤمن استمرار الحياة فيها، ويتكون من عدة غازات منها: النيتروجين (الآوزت) بواقع 78 في المائة من الغلاف الجوي حسب الحجم , الأوكسجين 21 بالمائة ,الغازات الخاملة 0.09 بالمائة ,الأرغون 0.93 بالمائة.
غازات الدفيئة: أقل من 1 بالمائة إلا أن زيادة تركيزها ونسبها منذ بدء الثورة الصناعية (1750م) بات يشكل خطراً حقيقياً على المعادلة المناخية الأرضية.
مكوناتها:
ثاني أكسيد الكربون: يشكل نحو 0.035 من حجم الغلاف الجوي
ومع ذلك فهو المتهم الرئيسي في سخونة الأرض بسبب تزايد النشاط الإنساني بعد الثورة الصناعية وتزايد كميات الملوثات المنبعثة عنه ما أدى إلى زيادة متوسط تركيز ثاني أكسيد الكربون في الجو من 275 جزء إلى 380 جزء بالمليون بزيادة 25 بالمائة سنوياً بفعل إزالة وقطع الغابات – مغسلة الكربون – والشعب المرجانية.
وإذا ما استمر هذا الارتفاع بصورته الحالية سيرتفع تركيزه مابين 460 – 560 جزء بالمليون بحلول العام 2100م والأخطر من هذا أن معالجته قد تحتاج إلى قرون.
- الميثان : هو الأخر زاد تركيزه الضعف من 70 جزء إلى 1760 جزء بالمليون بفارق سنوي قدره 0.9 جزء بالمليون ومعدل بقائه في الجو 10 سنوات.
- أكسيد النيتروز: زاد تركيزه من 270 جزء إلى 316 جزء بالمليون بفارق 18 بالمائة عن متوسطه قبل الثورة الصناعية ومعدل بقائه في الجو عشرة آلاف عام.
- مركبات كلوروفلورو كربون : وهي لم تكن موجودة قبل الثورة الصناعية وتكمن خطورتها في خلخلة طبقة الأوزون في حين يزداد تركيزها بواقع 4% سنويا وتحتاج معالجتها إلى 50 - 100 عاماً.. وغيرها من الغازات المتسببة في رفع درجة حرارة الأرض واختلال المعادلة المناخية القائمة على تساوي معدل ما تكتسبه الأرض من طاقة شمسية لما تفقد بالإشعاع الأرضي إلى الفضاء والذي يعني ثبات الاتزان ومعدل حرارة سطح الأرض عند مقدار ثابت هو 15 درجة مئوية،
إلا أن ما حدث بعد ظهور الثورة الصناعية هو تسارع وتيرتها بفعل تجاوز نسب الغازات الدفيئة لمستوياتها الطبيعية الثابتة منذ آلاف السنين، نتيجة زيادة الانبعاثات الملوثة للهواء والمتوقع تجاوز الزيادة لنسبتها الإضافية مع حلول العام 2010م معدل 5.2% عما كانت عليه عام 1990، وهي زيادة فاقت ما يحتاجه الغلاف الجوي للحفاظ على درجة حرارة سطح الأرض ثابتة، ما أدى إلى زيادة مماثلة في درجة حرارة الأرض توازي الزيادة المطردة لتلك الغازات، مما تسبب في حدوث الكثير من الكوارث غير المسبوقة، أي تحولها من نعمة صالحة إلى نقمة طالحة.
ومعلوم أن الطبقة الداخلية للغلاف الجوي بفعل هذه الغازات أضحت محاطة بطبقة عازلة أخرى من الغازات الدفيئة تقوم بعمل زجاج الصوبة مسببة بذلك الاحتباس الحراري المؤثر بدوره على الدورة العادية لتحرك التيارات الهوائية حول الأرض والأمواج في البحار والمحيطات واضطراب مساراتها بما ينذر بكارثة طوفان ثانية حتى ولو تمكن الإنسان من إيقاف كافة الانبعاثات الملوثة للجو اليوم فستظل تأثيراتها المتبقية من النشاطات الإنسانية خلال ال150 عاما الماضية قرونا طويلة قبل أن يتمكن الإنسان من السيطرة على تغيير المناخ.
الظواهر المرتبطة بالاحتباس
بعيدا عن الجدل العلمي المحتدم حول علاقة الاحتباس الحراري بالكوارث البيئية التي نعيشها والتي لا زالت في رحم الغيب وما إذا كانت أسبابها طبيعية أم غير طبيعية تقع على الإنسان مسؤولية كبيرة منها بفعل تزايد الاستهلاك غير الرشيد والمضر بالبيئة وتقلباتها الحاصدة سنويا نحو 150 ألف شخص ناهيك عن الآثار والتداعيات الأخرى العاجزة حتى الآن أرقى الكمبيوترات تطوراً عن التنبؤ بنتائجها البعيدة المدى.
الظواهر المسجلة خلال القرن الماضي
- ارتفاع مستوى المياه في البحار من 0.3-0.7 قدم وارتفاع حرارتها بواقع 0.06 درجة لكل ألف متر سطحية.
- زيادة ارتفاع درجة حرارة سطح الأرض بين 0.4- 0.8 درجة مئوية والهواء بمعدل 1.2 درجة سلزيوس.
- زيادة مواسم الشتاء دفئا وقصر فترتها واخذ الجليد في القطبين وفوق قمم الجبال في الذوبان بشكل ملحوظ وحدوث أعاصير في أماكن لم تكن متوقعة وظهور ما يسمى بالعنف المطري..الخ.
الظواهر المحتملة على المدى البعيد
تخلص البحوث العلمية والتقارير الدولية من خلال قراءتها لما يجري من تقلبات مخيفة إلى وجود الكثير من الآثار المتوقعة والمرجحة جراء ارتفاع الحرارة البسيط والمتوسط بفعل زيادة الغازات الدفيئة ما لم تتدخل القدرة الإلهية في إعادة التوازن الطبيعي إلى دورته العادية، وهي وإن كانت تنبأت استقرائية إلا أنها باتت مجمعة على أن الطوفان بدأ يطلّ برأسه من جديد لعدت مؤشرات منها اختصارا:
1- زيادة معدلات البخر وكميات السحب وتغير توزيعها ونسب وتوقيت سقوط الأمطار والضغط الجوي ومسارات الرياح السائدة، وكلها تؤدي إلى الجفاف والتصحر في مناطق دون أخرى ونقص الموارد المائية ومياه الشرب في بعض المناطق ونماءها في مناطق أخرى والمتوقع أن يصل عدد المعانيين من نقص مياه الشرب بحلول العام 2050م ما بين 5- 8 مليار إنسان واختلال تركيبة المحاصيل الزراعية وتراجع خصوبة الأرض وتفاقم التعرية وانتشار الآفات المرضية وتغير خريطة الإنتاج الغذائي ما يعني حروب ونزاعات إقليمية ضحيتها الأولى الدول الفقيرة.
2- ذوبان أجزاء كبيرة من الثلوج المتراكمة ما يودى إلى ارتفاع مستوى البحر 9 أمتار، وبالتالي غرق الكثير من الجزر الساحلية والمدن المنخفضة وحدوث الانهيارات الصخرية والجليدية وانقراض نحو 20% من الكائنات البرية وذوبان نحو ثلاثة أرباع الثلوج في حلول العام 2050 وتجاوز الخسائر المالية مع حلول العام 2080 أجمالي الناتج المحلي العالمي الأخطر من هذا تجاوز زيادة حرارة الأرض 10.5 درجة بحلول العام 2100 وهي زيادة لم يشهدها تاريخ الأرض منذ عشرة آلاف سنة.
في ظل هذه المعطيات وما تبعها من إجراءات وقائية للحد من انبعاثات الملوثات لازالت رهينة الدول الكبرى وفي مقدمتها الصناعية خصوصا أميركا باعتبارها الباعث الأكبر لهذه السموم في حين أن الحل الوحيد والأكثر فاعلية متمثلاً في العودة إلى الفطرة الإنسانية الأولى المتجسدة في تقليص اعتمادنا على النفط كمصدر أساسي للطاقة غير المتجددة، والاستعاضة عنها بالطاقة المتجددة كالشمس والهواء والأمواج والكتل الحيوية وهي مصادر فاعلة وموثوقة وتحترم البيئة ولا تتطلب منا أي تنازل، بل من شأن ذلك دفعنا نحو عصر جديد من الازدهار الاقتصادي وفرص العمل والتطور التكنولوجي والحماية البيئية.
منذ مطلع سبعينيات القرن العشرين تحول الأوزون من مجرد غاز يوجد في الغلاف الجوي بكميات قليلة إلى مشكلة مؤرقة إثر اكتشاف العلماء أن المعدل الطبيعي لتركيزه في الغلاف الجوي قد أصبح معرضاً للخطر وتحديداً عام 1985 عندما عُثر على ثقب فوق القارة القطبية الجنوبية قطره نحو 9 كم نتيجة انخفاض كثافة الأوزون عن معدله الطبيعي بنحو 50 في المائة.
وفي مطلع التسعينيات برزت على السطح مشكلة أخرى أكثر خطورة هي الاحتباس الحراري، تاركةً بصماتها في سلسلة من الكوارث الكونية المتسارعة, والفيضانات المدمرة كنتيجة طبيعية لتأثيراتها المختلفة في حدوث الانفلاتات والانقلابات المناخية العنيفة وغير المسبوقة المهددة حاضر البشرية ومستقبلها.إذن نحن أمام ظاهرة رغم ما يلفها من غموض وجدل علمي وسياسي، إلا أن الجميع بات مقتنعاً بأنها تفوق في خطورتها وحجمها أي مشكلة أخرى تهدد العالم، بل وتفوق مشكلة الإرهاب الدولي حسب السير ديفيد كينج كبير مستشاري الحكومة البريطانية العلميين.
ومن المتوقع صيرورة الاحتباس ابتداءً من العام المقبل أكثر جلاءً من خلال تسجيلها درجات حرارة قياسية بعد أن خضعت في العامين الأخيرة لظواهر طبيعية موازية خفّفت من حدتها ما جعل منها قضية القرن بامتياز، مدشنةً بذلك مرحلة انتقالية جديدة من صراع الإنسان المعاصر مع بيئته.
والمثير رغم تحذيرات العلماء من عواقبها الوخيمة، وتصدرها اهتمام المحافل الدولية، انسحاب العديد من الدول وفي مقدمتها أميركا من اتفاقية كيوتو الخاصة بحماية البيئة العالمية والمطالبة بخفض الانبعاث المتسبب في الاحتباس الحراري بحلول العام 2012 بنحو 7 بالمائة عن مستوياته لعام1990، فهل يعني هذا أن زمن وفاق قوى الطبيعة مع الجنس البشري قد انقضى بلا رجعة، وأن الإنسان أصبح عدو محيطه بل وعدو نفسه الأول.
إن ما نعايشه من قيظ قاس وبرد قارص وفيضانات غامرة وجفاف حارق وأعاصير جامحة وحرائق غابات مهلكة وغيرها من الظواهر العنيفة والفجائية والخارجة عن سياقاتها التاريخية تشير إلى أن التفسير الوحيد لكل هذه الفوضى والعذابات هي بفعل احتباس الحرارة داخل غلاف الأرض الجوي و سخونة سطحها بصورة غير اعتيادية كنتيجة طبيعية لممارساتنا الخاطئة والجائرة الدافعة ببعض النظم البيئية إلى إعلان الحرب علينا بعد طول مهادنة في القرون السابقة لعصر الثورة الصناعية
الاحتباس الحراري، دفيئة الأرض، الاحترار العالمي، التغير المناخي، الصوبة - البيوت - الزجاجية الحرارية، مسميات لقضية واحدة هي ارتفاع درجة حرارة الأرض عن معدلها الطبيعي – اختلال التوازن البيئي- نتيجة انبعاث الملوثات في الجو سواء كانت ملوثات طبيعية كالبراكين وحرائق الغابات والملوثات العضوية أو غير طبيعية بسبب نشاط الإنسان واحتراق الوقود الأحفوري كالنفط والغاز الطبيعي والفحم المؤدي بدوره إلى الارتفاع التدريجي لدرجة حرارة الطبقة السفلى من الغلاف الجوي بصورة ملحوظة ومتنامية،
وبمعنى أقرب للفهم: ارتفاع درجة الحرارة في بيئة ما نتيجة تغير في سيلان الطاقة الحرارية من البيئة وإليها حيث تقوم الغازات الدفيئة بالقسط الأكبر من مهمة حبس الأشعة المنبعثة من سطح الأرض وعدم السماح بتسريبها إلى الفضاء الخارجي ما يؤدي إلى حدوث الكثير من التغيرات المناخية الكارثية.
ومعلوم أن الغلاف الجوي أحد أهم ما يميز كوكبنا عن كواكب المجموعة الشمسية الأخرى، ولذا فوجوده وثبات مكوناته يعني استمرار الحياة المتعارف عليها، والعكس في حال شهدت هذه المكونات بعض الإضافات أي اختلال المعادلة البيئية المعتادة كالحرارة والرطوبة والضغط الجوي وأنماط الرياح والمتساقطات المطرية بما لها من تأثيرات هائلة على الأنظمة الحيوية الطبيعية برمتها.
الغلاف الجوي:
غلالة شفافة تحيط بالأرض وتحفظها وتؤمن استمرار الحياة فيها، ويتكون من عدة غازات منها: النيتروجين (الآوزت) بواقع 78 في المائة من الغلاف الجوي حسب الحجم , الأوكسجين 21 بالمائة ,الغازات الخاملة 0.09 بالمائة ,الأرغون 0.93 بالمائة.
غازات الدفيئة: أقل من 1 بالمائة إلا أن زيادة تركيزها ونسبها منذ بدء الثورة الصناعية (1750م) بات يشكل خطراً حقيقياً على المعادلة المناخية الأرضية.
مكوناتها:
ثاني أكسيد الكربون: يشكل نحو 0.035 من حجم الغلاف الجوي
ومع ذلك فهو المتهم الرئيسي في سخونة الأرض بسبب تزايد النشاط الإنساني بعد الثورة الصناعية وتزايد كميات الملوثات المنبعثة عنه ما أدى إلى زيادة متوسط تركيز ثاني أكسيد الكربون في الجو من 275 جزء إلى 380 جزء بالمليون بزيادة 25 بالمائة سنوياً بفعل إزالة وقطع الغابات – مغسلة الكربون – والشعب المرجانية.
وإذا ما استمر هذا الارتفاع بصورته الحالية سيرتفع تركيزه مابين 460 – 560 جزء بالمليون بحلول العام 2100م والأخطر من هذا أن معالجته قد تحتاج إلى قرون.
- الميثان : هو الأخر زاد تركيزه الضعف من 70 جزء إلى 1760 جزء بالمليون بفارق سنوي قدره 0.9 جزء بالمليون ومعدل بقائه في الجو 10 سنوات.
- أكسيد النيتروز: زاد تركيزه من 270 جزء إلى 316 جزء بالمليون بفارق 18 بالمائة عن متوسطه قبل الثورة الصناعية ومعدل بقائه في الجو عشرة آلاف عام.
- مركبات كلوروفلورو كربون : وهي لم تكن موجودة قبل الثورة الصناعية وتكمن خطورتها في خلخلة طبقة الأوزون في حين يزداد تركيزها بواقع 4% سنويا وتحتاج معالجتها إلى 50 - 100 عاماً.. وغيرها من الغازات المتسببة في رفع درجة حرارة الأرض واختلال المعادلة المناخية القائمة على تساوي معدل ما تكتسبه الأرض من طاقة شمسية لما تفقد بالإشعاع الأرضي إلى الفضاء والذي يعني ثبات الاتزان ومعدل حرارة سطح الأرض عند مقدار ثابت هو 15 درجة مئوية،
إلا أن ما حدث بعد ظهور الثورة الصناعية هو تسارع وتيرتها بفعل تجاوز نسب الغازات الدفيئة لمستوياتها الطبيعية الثابتة منذ آلاف السنين، نتيجة زيادة الانبعاثات الملوثة للهواء والمتوقع تجاوز الزيادة لنسبتها الإضافية مع حلول العام 2010م معدل 5.2% عما كانت عليه عام 1990، وهي زيادة فاقت ما يحتاجه الغلاف الجوي للحفاظ على درجة حرارة سطح الأرض ثابتة، ما أدى إلى زيادة مماثلة في درجة حرارة الأرض توازي الزيادة المطردة لتلك الغازات، مما تسبب في حدوث الكثير من الكوارث غير المسبوقة، أي تحولها من نعمة صالحة إلى نقمة طالحة.
ومعلوم أن الطبقة الداخلية للغلاف الجوي بفعل هذه الغازات أضحت محاطة بطبقة عازلة أخرى من الغازات الدفيئة تقوم بعمل زجاج الصوبة مسببة بذلك الاحتباس الحراري المؤثر بدوره على الدورة العادية لتحرك التيارات الهوائية حول الأرض والأمواج في البحار والمحيطات واضطراب مساراتها بما ينذر بكارثة طوفان ثانية حتى ولو تمكن الإنسان من إيقاف كافة الانبعاثات الملوثة للجو اليوم فستظل تأثيراتها المتبقية من النشاطات الإنسانية خلال ال150 عاما الماضية قرونا طويلة قبل أن يتمكن الإنسان من السيطرة على تغيير المناخ.
الظواهر المرتبطة بالاحتباس
بعيدا عن الجدل العلمي المحتدم حول علاقة الاحتباس الحراري بالكوارث البيئية التي نعيشها والتي لا زالت في رحم الغيب وما إذا كانت أسبابها طبيعية أم غير طبيعية تقع على الإنسان مسؤولية كبيرة منها بفعل تزايد الاستهلاك غير الرشيد والمضر بالبيئة وتقلباتها الحاصدة سنويا نحو 150 ألف شخص ناهيك عن الآثار والتداعيات الأخرى العاجزة حتى الآن أرقى الكمبيوترات تطوراً عن التنبؤ بنتائجها البعيدة المدى.
الظواهر المسجلة خلال القرن الماضي
- ارتفاع مستوى المياه في البحار من 0.3-0.7 قدم وارتفاع حرارتها بواقع 0.06 درجة لكل ألف متر سطحية.
- زيادة ارتفاع درجة حرارة سطح الأرض بين 0.4- 0.8 درجة مئوية والهواء بمعدل 1.2 درجة سلزيوس.
- زيادة مواسم الشتاء دفئا وقصر فترتها واخذ الجليد في القطبين وفوق قمم الجبال في الذوبان بشكل ملحوظ وحدوث أعاصير في أماكن لم تكن متوقعة وظهور ما يسمى بالعنف المطري..الخ.
الظواهر المحتملة على المدى البعيد
تخلص البحوث العلمية والتقارير الدولية من خلال قراءتها لما يجري من تقلبات مخيفة إلى وجود الكثير من الآثار المتوقعة والمرجحة جراء ارتفاع الحرارة البسيط والمتوسط بفعل زيادة الغازات الدفيئة ما لم تتدخل القدرة الإلهية في إعادة التوازن الطبيعي إلى دورته العادية، وهي وإن كانت تنبأت استقرائية إلا أنها باتت مجمعة على أن الطوفان بدأ يطلّ برأسه من جديد لعدت مؤشرات منها اختصارا:
1- زيادة معدلات البخر وكميات السحب وتغير توزيعها ونسب وتوقيت سقوط الأمطار والضغط الجوي ومسارات الرياح السائدة، وكلها تؤدي إلى الجفاف والتصحر في مناطق دون أخرى ونقص الموارد المائية ومياه الشرب في بعض المناطق ونماءها في مناطق أخرى والمتوقع أن يصل عدد المعانيين من نقص مياه الشرب بحلول العام 2050م ما بين 5- 8 مليار إنسان واختلال تركيبة المحاصيل الزراعية وتراجع خصوبة الأرض وتفاقم التعرية وانتشار الآفات المرضية وتغير خريطة الإنتاج الغذائي ما يعني حروب ونزاعات إقليمية ضحيتها الأولى الدول الفقيرة.
2- ذوبان أجزاء كبيرة من الثلوج المتراكمة ما يودى إلى ارتفاع مستوى البحر 9 أمتار، وبالتالي غرق الكثير من الجزر الساحلية والمدن المنخفضة وحدوث الانهيارات الصخرية والجليدية وانقراض نحو 20% من الكائنات البرية وذوبان نحو ثلاثة أرباع الثلوج في حلول العام 2050 وتجاوز الخسائر المالية مع حلول العام 2080 أجمالي الناتج المحلي العالمي الأخطر من هذا تجاوز زيادة حرارة الأرض 10.5 درجة بحلول العام 2100 وهي زيادة لم يشهدها تاريخ الأرض منذ عشرة آلاف سنة.
في ظل هذه المعطيات وما تبعها من إجراءات وقائية للحد من انبعاثات الملوثات لازالت رهينة الدول الكبرى وفي مقدمتها الصناعية خصوصا أميركا باعتبارها الباعث الأكبر لهذه السموم في حين أن الحل الوحيد والأكثر فاعلية متمثلاً في العودة إلى الفطرة الإنسانية الأولى المتجسدة في تقليص اعتمادنا على النفط كمصدر أساسي للطاقة غير المتجددة، والاستعاضة عنها بالطاقة المتجددة كالشمس والهواء والأمواج والكتل الحيوية وهي مصادر فاعلة وموثوقة وتحترم البيئة ولا تتطلب منا أي تنازل، بل من شأن ذلك دفعنا نحو عصر جديد من الازدهار الاقتصادي وفرص العمل والتطور التكنولوجي والحماية البيئية.
هذا المقال من قبل صوت العروبةhttp://www.arabvoice.com/ رابط هذا المفال:http://www.arabvoice.com/modules.php?op=modload&name=News&file=article&sid=14745
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)