بقلم زيد يحيى المحبشي
يتفرد الصراع العربي- الإسرائيلي بصورة عامة والصراع الفلسطيني- الإسرائيلي بصورة خاصة، عن سائر الصراعات الكونية المزمنة التي عرفتها البشرية في العقود العشرة الماضية، باحتوائه على وقود صراعي يشبه إلى حد التطابق ذلك الموجود في المفاعلات الذرية، الذي لا ينطفئ لهيبه إلا عندما ينتهي الأجل وتحين الساعة، أي أن فيه من عوامل الصراع والتصادم ما يكفي لاستمراره إلى نهاية التاريخ، وهذا الكلام ليس من قبيل المبالغة والتهويل، بل هو عين الحقيقة كما تشهد بذلك الوقائع الميدانية, وما ترتب عليها من إشكاليات وأزمات, بات حلها مندرجاً في خانة المستحيل, بفعل العامل الزمني والتعقيدات الإقليمية والدولية, الملقية بظلالها على هذا الصراع, والمتحولة مع مرور الوقت إلى أحد أهم عوامل الحسم لجدلية السلام سلباً أو إيجاباً.
إذن فنحن أمام صراع هو الأطول من نوعه في تاريخ البشرية والأكثر تعقيداً وخطورة، صراع استغرق حتى الآن قرناً من الزمن, وربما يستغرق قرناً آخر قبل التوصل إلى حلول مرضية وعادلة وشاملة ودائمة, بدلالة تحدِّيه في قرنه الأول عامل الزمن وعصر الاستعمار وتعدد الأقطاب والقطبية الثنائية والقطبية الأميركية الأحادية والعولمة وعالم ما بعد 11 أيلول/ سبتمبر 2001, وبالتالي تلّونه وتشكّله مع كل عصر وزمان، بصورة أصبح معها إحباط خطوات الحل السلمي وجهود السلام, سهلاً قدر سهولة تهديد حياة مريض بنكسة قلبية دامية بينما هو لم يغادر بعد غرفة الإنعاش!!.
اليوم وبعد مرور قرن كامل من الصراع و62 عاماً من قيام الدولة العبرية على أرض فلسطين المحتلة وعقدين من التفاوض العقيم وبالتوازي مع بدء جولة تفاوضية جديدة يعلق عليها أطرافها الكثير من الآمال والطموحات, نجدنا في حاجة للوقوف لحظة تأمل ومراجعة للسلام المنشود بإشكالياته واستحقاقاته ومواقف وأهداف أطرافه وقضاياه والمعالجات المطروحة والمختمرة في عالم الغيب على أمل الخروج برؤية واقعية تحاكي حاضر ومستقبل عملية التسوية وإمكانيات نجاحها من عدمه.
عملية التسوية.. إشكاليات لا تنتهي
المتأمل في مسارات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يخلُص إلى حقيقة واحدة هي "أن الجنون هو الثابت الوحيد في تاريخ الدولة العبرية المتحول من إحلال شعب وافد مكان شعب مقيم إلى تغيير خريطة الشرق الأوسط برمتها"، وسط تزايد عمليات الهضم والقضم للحقوق الفلسطينية المشروعة, كشعب واقع تحت الاحتلال ومشرد عن أرضه, وتزايد الصلف والعنف وإرهاب الدولة العبرية واستمرار تهربها من استحقاقات السلام ومن الواجبات المتوجبة عليها, كجهة إحتلالية أولاً وكدولة عضو في الأمم المتحدة ثانياً، ملزمة بمراعات المعاهدات والمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان في الحرب والسلم وبتنفيذ قرارات الشرعية الدولية الخاصة بإنهاء الصراع سلمياً في إطار منظومة متكاملة من الحقوق والواجبات.
والثابت أن افتقار الشرعية الدولية لقوة التنفيذ للقرارات الصادرة عنها قد أسهم بقصد أو بغير قصد في توفير مظلة من الشرعية لاستمرار الاحتلال في سياسة الهضم والقضم, مدعمة برعاية أميركية كاملة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً منذ اللحظة الأولى لنشأة الكيان الإسرائيلي, وبالتالي إعطاء الاحتلال بوليصة التأمين اللازمة للاستمرار في التهرب من استحقاقات وضريبة السلام الدائم والنتيجة طبعاً المزيد من تعميق هوة الصراع, وخلق المزيد من أجواء التناقض والتعارض والاضطراب على الأرض الواحدة.
الشعب الفلسطيني اليوم بات يعيش وفق شروط لم تعد مقبولة إقليمياً ودولياً كما بات للصراع العديد من التداعيات الإقليمية والدولية المؤثرة في عملية السلام سلباً وإيجاباً, وهو وضع كارثي بكل المقاييس ما كُنا لنصل إليه لولا استمرار الاحتلال في رفض حلول التسوية الدائمة وإصراره على التمسك باستراتيجية الحد الأعلى من المطالب التعجيزية كي يقبل بالحد الأدنى من المطالب الفلسطينية التي لم تعد تتجاوز حلم الدولة والعيش بأمن وسلام وكرامة إلى جانب الدولة العبرية, كأمر واقعي لم يعد بالإمكان تغييره مستنداً في ذلك إلى قائمة طويلة من القرارات الأممية كقرار التقسيم المشئوم رقم 181 لعام 1947 والقرار 242 لعام 1967 وغيرها من القرارات التي لا زالت حبراً على ورق وشاهد عيان على غياب العدالة الدولية وسط بحرٍ آسنٍ من ازدواجية المعايير الدولية وسياسة الكيل بمكيالين واستمرار لغة التسويف والمماطلة وغياب الجدية العملية لجعل خيار الدولتين مشروعاً مشتركاً ومخرجاً وحيداً لتحقيق أكبر قدر من مصالح طرفي الصراع.
المناداة بخيار الدولتين ليست بنت يومها بل تعود بجذورها إلى العام 1937 وتكرّست في العام 1947 وتم وضع أول إطار عملي في اتفاقية كامب ديفيد المصرية - الإسرائيلية لعام 1979 المنادية بفصل الأراضي الفلسطينية عن دولة الاحتلال وبموجبها قرر العرب التخلي عن إدارة عملية السلام وتسليم معظم أوراقها لأميركا وبموجبها قررت منظمة التحرير الفلسطينية في بيان الجزائر لعام 1988 الاعتراف بالقرار الأممي 242 وبحل الدولتين والقبول بدولة أصغر بكثير من مساحة فلسطين التاريخية لا تتجاوز مساحتها 22 بالمائة مقابل التسليم للاحتلال بـ 78 بالمائة.
هذه الأمور شكلت مقدمة لانطلاق عملية السلام من مدينة مدريد 1991 دون إغفال حل الدولتين وتوقيع اتفاقية أوسلو 1993 المعترف بموجبها رئيس حكومة الاحتلال إسحاق رابين بمنظمة التحرير لأول مرة وبمبدأ حل الدولتين, ومع ذلك فهو لم يوافق سوى على منح سلطة ذاتية للفلسطينيين - لا تتعدى صلاحياتها إدارة شؤون السكان المحليين الحياتية فقط - شملت في العام 2000 نحو 42 بالمائة من أراضي الضفة وقطاع غزة(2005) وترحيل قضايا الخلاف الرئيسية إلى الحل النهائي, ومن حينها بدأت المشكلة بالتوازي مع استمرار التفاوض واستمرار سيل الاتفاقات دون إحراز أي تقدم بل تحولت المفاوضات إلى معادلة صفرية بامتياز, طوال الـ17 عاماً الماضية بدءاً بأوسلو 1993 ومروراً بالمفاوضات غير المباشرة (أيار/مايو- آب/أغسطس 2010) وانتهاءً بالمفاوضات المباشرة المنطلقة في 2 أيلول/ سبتمبر 2010 تحت رعاية أوباما شخصياً بفعل مشكلات الحل الدائم بما فيها من تعقيد.
إذن فإشكالية التسوية الحقيقية ليست في التوصل إلى اتفاق سلام وما أكثر الاتفاقات الموقعة، بل في عدم توفر الشجاعة والقدرة على التنفيذ وعدم توافر قوة التحفيز الدولية المحايدة وسط بيئة سياسية تعتبر كل تنازل خيانة وغياب القابلية والاستعداد لدى حكومات الاحتلال المتعاقبة ولدى الأطراف الفلسطينية والأطراف الإقليمية والدولية المعنية للالتزام بالاتفاقات الموقعة أو قبول الخيارات الأخرى المطروحة والذي كانت نتيجته على الدوام حصول البدايات وعدم حصول النهايات وعودة المفاوضات مع كل جولة تفاوضية جديدة إلى المربع الأول تكون الأولوية فيها للتساؤل عما إذا كان ممكناً قبول ما جرى الاتفاق عليه سابقاً أم لا؟
قائمة طويلة من الإشكاليات المطروحة اليوم على طاولة المفاوضات وكلها ألغام موقوتة ومواد سريعة الاشتعال من قبيل: القدس الشرقية، المستوطنات، الترتيبات الأمنية، حق العودة، ملامح وطبيعة الدولة الموعودة، الحدود، طبيعة وإمكانية تبادل الأراضي، ناهيك عن الملفات المتداخلة كالمياه والموارد الطبيعية والبيئة والكهرباء والتجارة والنقد والتداخل السكاني والعمالة والتنمية المستقبلية .. إلخ.
وهي مجتمعة بحسب إدارة أوباما قد قُتلت بحثاً ودرساً كما كشفت المراجعة التفصيلية عن وجود مسائل يمكن التقدم فيها ومسائل لازالت بحاجة إلى المزيد من المحاججة والمجادلة لكي يجري تركيز الجهد الأميركي والدولي عليها وهي ترى أيضاً أن ظروف وشروط السلام قد نضجت وأن هناك من عوامل التقارب ما يكفي للجلوس على الطاولة وجهاً لوجه والتوجه إلى وضع جداول التنفيذ معاً!!.
والمهم هنا هو إطلاق إدارة أوباما بعض التلميحات حول عقدها العزم للضغط باتجاه التوصل إلى اتفاق سلام خلال عام واحد (أيلول/ سبتمبر 2010- أيلول/ سبتمبر 2011) يتوج عهد أوباما بكامب ديفيد ثالثة تحقق وعد الدولة وتعيد ترميم الثقة في الشارع العربي بالمخلص الأميركي بعد عقود من الخيبات والإحباطات.
المفاوضات المباشرة.. آمالها وآلامها
صحيح أن طرفي الصراع وفقاً للمواقف المعلنة متمسكان بعدم أحقية اللجوء إلى الشروط المسبقة أياً كان نوعها أو موضوعها أو هدفها لكن المتابع لمسارات المفاوضات غير المباشرة وما سجلته من فشل ذريع باعتراف طرفيها - رغم المحاولات الأميركية للإيحاء بأن شيئاً ما قد تغير سواء فيما يتعلق بالظروف أو النضوج السياسي أو بتهيؤ البيئة للانتقال إلى المفاوضات المباشرة- يلمس جلياً ظهور الشروط الإسرائيلية المسبقة لاسيما فيما يتعلق باستئناف الأنشطة الاستيطانية بعد انتهاء فترة التجميد المؤقت(26 أيلول/سبتمبر 2010 ) وتزايد التلميحات الأميركية بإمكانية استمرار التفاوض في ظل استمرار البناء الاستيطاني والاكتفاء بإبداء الاستعداد للمساعدة في تجديد فترة التجميد والإشادة بدور واشنطن السابق في هذا المجال وتمكنها حسب رسالة أوباما إلى أبو مازن في 17 تموز/ يوليو 2010 من خفض وتيرة الاستيطان خلال السنوات الثلاث الماضية أكثر من أي وقتٍ مضى, وتمسك نتنياهو بربط حق العودة بحق الدولة وربط التقدم في المفاوضات بوقف السلطة الفلسطينية كل النشاطات المعادية لإسرائيل في المحاكم الدولية والأمم المتحدة وغيرها المتعلقة بتقرير جولدستون والرصاص المصبوب وأسطول الحرية والتحقيق الدولي.
المؤشرات الأولية - بحسب الكاتب اللبناني خليل حسين - تؤكد حقيقية " ذهاب الاحتلال إلى المفاوضات للاستماع إلى المطالب الفلسطينية لكن ليس بالضرورة تفهمها وتلبيتها بل للعمل على إنتاج مواقف تفاوضية سرعان ما تتحول إلى واقع يلغي المطالب السابقة وتتحدد اُطر جديدة فيها الكثير من التنازلات"، وهي الأسس التي طبعت جداول المفاوضات بشقيها المضمر والمعلن خلال عقدين من الزمن، فهل ستتبدل الأمور والقضايا والمسائل والأجواء في هذه الجولة المقدر لها عاماً من الزمن؟ لاسيما وأنها تنطلق هذه المرة بجدول زمني ربما سيكون الأطول من نوعه في عالم التفاوض وعالم النزاعات الإقليمية والدولية رغم تأطير خطة أوباما الجديدة جولاته بعام واحد للتوصل إلى اتفاق مبدئي إطاري يضمن الإقرار بخيار الدولتين لا التسوية الدائمة لأن مناقشة أدوات التنفيذ الخاصة بقضايا الحل النهائي قد تم ترحيلها عن قصد إلى السنوات العشر اللاحقة وهو ما يعني إمكانية استهلاك عملية الحسم قرناً أخر قياساً بموضوعات الحل الدائم وطريقة الاحتلال في إدارة النقاش حولها وفرض الشروط وقياساً بتباين المواقف حول الهدف الرئيسي لهذه المفاوضات.
أولاً: المواقف والأهداف
من العوامل المهمة الدافعة بكل الأطراف للذهاب إلى مائدة المفاوضات المباشرة والتوافق على التمسك بها وعلى تناولها كل القضايا الخلافية أنها " تريحها من الذهاب إلى الخيارات الأخرى المترتبة على فشل المفاوضات وهذا الخوف من الفشل يخفف عنهم صعوبة اتخاذ قرارات في خيارات الكل يدرك صعوبة تحققها" والأهم من ذلك كله إدراك إدارة أوباما أن هذه هي "لحظة الحسم التفاوضي في ظل قيادة عربية وفلسطينية قادرة على العطاء والتعامل المرن مع القضايا التفاوضية الصعبة" وأن "التفاوض المباشر وليس التدويل يظل المخرج الوحيد لإنقاذ عملية السلام" مؤكدة على لسان ديفيد هيل "مستشار ميتشيل" أن "نتنياهو قادرٌ على التوصل إلى سلام دائم مع الفلسطينيين وأن واشنطن ترى فيه شريكاً قوياً وملتزماً بالعملية السلمية".
نتنياهو هو الأخر – حسب الإعلام الإسرائيلي - باتت لديه قناعة بضرورة التعاون مع إدارة أوباما في التقدم نحو التسوية والإيحاء بأنه على عكس مواقف اليمين ومنها حزب الليكود يوافق على الانسحاب من 90 بالمائة من الضفة بل ولديه الاستعداد لرفع هذه النسبة إلى ما هو أكثر من ذلك خلال المفاوضات ما يعني وجود شبه توافق إعلامي على الأقل هذه المرة على خيار الدولتين عززته إدارة أوباما بالتأكيد على أنها الأكثر إلتزاماً بإقامة الدولة الفلسطينية باعتبارها المدخل الوحيد للسلام في الشرق الأوسط وبضرورة التفاوض دون قيود أو شروط مسبقة وإبداء عزمها لممارسة الضغوط لجعل المفاوضات أكثر جِدِّية ودفعها نحو نتائج مثمرة.
- الموقف الفلسطيني:
يطالب الطرف المفاوض بضرورة الوقف التام للاستيطان كشرط لتحقيق السلام - وهو الشرط الذي تم تغافله منذ أوسلو 1993- وبوجود مرجعية قانونية وسياسية توافق على إقامة الدولة الفلسطينية في حدود 1967 بما فيها المبادرة العربية وخريطة الطريق وقرارات الشرعية الدولية المتضمنة إقامة دولة قابلة للحياة ذات أراضي متصلة وحدود دائمة عاصمتها القدس الشرقية, فيما تصر الأطراف المعارضة على التمسك بحدود هدنة 1949 ورفض الاعتراف بيهودية الكيان وانسحاب المحتل من كامل أراضي الضفة والقدس والتمسك بالمقاومة وبحق العودة.
على أن الورقة الوحيدة المتبقية لدى المفاوض الفلسطيني والعربي من أوراق المساومة والضغط وهي "التهديد بالتوجه إلى المؤسسات الدولية للحصول على قرار أممي يقضي بإقامة الدولة الفلسطينية من جانب واحد وفقاً للقرار (1515) الصادر قبل ثماني سنوات", وهو ما ترفضه واشنطن جملة وتفصيلاً, الأمر الذي أدى إلى تولُّد المخاوف من تعمد الاحتلال "إضاعة الوقت" كالعادة وتحويل المفاوضات إلى ورقة داخلية لإطالة عمر حكومة نتنياهو دون الاهتمام بالتوصل إلى نتائج ملموسة ومحددة في ظل عدم تطابق وجهات النظر حول الهدف العام لهذه المفاوضات وعدم وجود ما يؤكد مصداقية هذا الخيار وصِدقِية الاحتلال في التعامل معه من منظور الحقوق والاستحقاقات التي عليه أن يقوم بها بصفته سلطة احتلال, ناهيك عن غياب الجدية الأميركية واستمرار تعاملها مع المفاوض الفلسطيني ليس كطرف سياسي له قدره واحترامه بل كملاكم ضعيف يمكن حصره في الزاوية ليتلقى المزيد من اللكمات دون اعتراض وإلا فإن المساعدات ستُحجب عنه ولذا فهو أكثر قابلية للتراجع عن شروطه قياساً بالجانب الإسرائيلي المتصلب على طول الخط.
على مستوى الأهداف: هناك رغبة عربية جامحة لإنجاح المفاوضات بأي ثمن لأنها ستخفف من فكرة الوطن البديل في الأردن ومن الامتداد السكاني تجاه سيناء المصرية، وهناك اعتقاد فلسطيني بأن الاكتفاء بدولة صغيرة سيفقدهم اهتمام العالم لذا فهم يأملون من وراء المفاوضات تحقيق ولو حد أدنى من الانجاز لعلى وعسى أن تتبدل معها العديد من المعطيات والمتغيرات بما يمكنهم من تحقيق أهدافهم وأحلامهم ليقارنوا بعدها بين وضعهم في ظل الدولة أو بدون الدولة وفي نفس الوقت يحافظوا على التأييد الدولي المتوقف حسب اعتقادهم أيضاً على تحرير أكبر قدر ممكن من وطنهم التاريخي.
- الموقف الإسرائيلي:
هناك اعتقاد سائد بأن التفاوض في كل مرة يؤول إلى الصفر لا إلى صفقة يكسب منها الطرفان من تقسيم أخر للأملاك التي رسمها الانتداب البريطاني والاعتقاد بأن أوباما الجائع إلى انجاز دبلوماسي يُحسب لإدارته والملجوم بمؤيدي نتنياهو في الكونجرس, سيكتفي بتسوية مرحلية يتم فرضها على الجانب الفلسطيني كأمر واقع, بما يسمح للاحتلال بمواصلة سياسته القائمة على أسرلة وتهويد كامل القدس وتسريع الاستيطان وجدار الفصل العنصري ونظام المعازل وإتاحة أطول مدة ممكنة لتغيير الخرائط الجغرافية على الأرض بما ينسف أي أمل لإقامة الدولة الموعودة وانتزاع أكبر قدر ممكن من التنازلات الفلسطينية والعربية, بعد النجاح في إقناع المفاوض الفلسطيني بأنه غير قادر على الوصول إلى حقوقه المشروعة إلا بالتفاوض وبأي ظرفٍ كان واقتناع الاحتلال ومحاولة إقناعه الآخرين بأن المفاوض الفلسطيني غير قادر على انتزاع أي موقف أو وعد لا تريده إسرائيل.
على مستولى الحلول: اقتناع الاحتلال وإدارة أوباما أيضاً بأن الحلول يجب أن تكون متعلقة بآثار حرب 1967 وليس بالعودة إلى حدود 1967 لأن ذلك لم يعد ممكناً وتالياً حصر معالجات ملف الاستيطان بالأنشطة العشوائية بعد العام 2001 وليس بآثار حربي 1948 و 1967 مع إمكانية التبادل للأراضي في ضوء الوقائع الميدانية وخطوط الانتداب البريطاني وربط الانسحاب من الضفة دون القدس الشرقية بالسلام الشامل والإصرار على مواصلة حصار غزة حتى تغير حماس من إستراتيجيتها مع الاكتفاء بالإشارة إلى طلب أبو مازن والتأكيد على أنه قد تحقق بشكل كبير.
على مستوى الأهداف: هناك رغبة جامحة لدى الاحتلال للتخلص من عبء السيطرة على الفلسطينيين لما تثيره من دعاوى دولية عن التمييز العنصري تجعل الاحتلال أمام اختبار صعب للبت بين الهوية اليهودية ونظام الحكم الديمقراطي, لذا فهو يرى أن إقامة دولة فلسطينية بالمواصفات الأمنية الإسرائيلية سيحل معضلة التداخل السكاني التي ليس لها حل لا عسكرياً ولا بالترحيل القسري كما أن ذلك سينقذ الاحتلال من حملة الإدانة والمقاطعة الدولية المتصاعدة ويقطع الطريق على مساعي تدويل القضية الفلسطينية وفي ذات الوقت يضمن لنتنياهو توظيف التفاوض في صراعه الداخلي لإطالة أمد حكومته دون إحراز أي تقدم ملموس ومحدد لأنه سينسف ائتلافه الحكومي ويخلق الكثير من المشاكل لإسرائيل .
نجاح الاحتلال في جعل المفاوضات بلا شروط مسبقة وبلا مرجعية وبلا آلية تطبيق مُلزمة ومن دون ضمانات حقيقية أو دور دولي وأميركي فاعل أو التزام إسرائيلي بالقانون الدولي والقرارات الأممية, يعنى التوقيع على بياض لإعطاء الاحتلال الغطاء السياسي والقانوني اللازم للاستمرار في سياسته وللتهرب من استحقاقات السلام معززاً بشماعة الانقسام الفلسطيني والتمزق العربي وتوظيف المفاوضات لتعميق هذا الانقسام والتمزق باعتباره واحداً من أهم منجزات إسرائيل الأمنية والتشديد على ضرورة بناء وترقية مؤسسات السلطة الفلسطينية من أسفل إلى أعلى بما يتناسب مع مستوى الدولة الموعودة والذي رغم الخطة الشاملة التي أعلنتها حكومة فياض في 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2009 لإقامة مؤسسات الدولة خلال عامين فما نجده هو عدم إيفاء الإدارة الأميركية حتى الآن بوعودها للمساعدة والإخلال بوعدها فيما يتعلق بتجميد الاستيطان تحت ذريعة مراعاة أولويات الحكومات الإسرائيلية بما فيها المخاوف من دفع التقدم في ملف الاستيطان نحو مواجهة داخلية مع المستوطنين من غير أن يُحل الصراع.
ثانياً: خطة أوباما للسلام:
حرصت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة "كوندا ليزا رايس" على انجاز مشروع لاتفاقية تسوية قبل انتهاء ولاية بوش وتسليمها لإدارة أوباما قبل مغادرتها الوزارة وهي وإن كانت لازالت محاطة بالكثير من الألغاز والتكتم لكنها في طابعها العام لا تخرج عن مضامين اتفاقية كامب ديفيد الثاني لعام 2000 الموقعة في عهد بيل كلينتون, والمبدي يومها كلاً من أيهود باراك وياسر عرفات الاستعداد للتعاون معها ووصول المفاوضات بينهما إلى مخطط تقسيم القدس وملف السيادة وبموجبها أتت خارطة الطريق لعام 2003 وتحفظات شارون ووعد بوش 2004 وتوصيات أنابوليس 2007 وكلها تم أخذها بالحسبان من قبل إدارة أوباما مع إجراء بعض التعديلات اللازمة لإتمام ما بدأته الإدارات السابقة والإعلان عن احتلال السلام في الشرق الأوسط الأولوية في العهد الجديد معززاً بتعيين جورج ميتشيل بعد يوم واحد من تسلم أوباما السلطة مبعوثاً خاصاً للسلام في الشرق الأوسط, المبادر بدوره إلى بذل كل المساعي لتقريب وجهات النظر دون الوصول إلى نتيجة ملموسة باستثناء إخراج مسرحية التجميد الجزئي للاستيطان لمدة 10 أشهر مشروطاً بتدشين مفاوضات غير مباشرة لمدة أربعة أشهر تكون مقدمة لمفاوضات مباشرة, مدعمة بإخراج عدة توافقات أميركية - إسرائيلية حتى تنجح المفاوضات وتبدو وكأنها قد حققت تقدم يمكن الإعلان عنه أو على أقل تقدير يمكن أن يشكل مقدمة لاتفاق إطاري أولي يتم توقيعه في حديقة البيت الأبيض ويُسجل كإنجاز تاريخي لإدارة أوباما ولميتشيل الذي سيكون من الصعب عليه وعلى إدارته التسليم بالفشل.
هذه التوافقات شملت الإقرار بضرورة دفع المفاوضات نحو إقامة الدولة الفلسطينية خلال لقاء أوباما- نتنياهو في تموز/ يوليو الماضي وتسليم الأخير خريطة تفصيلية لمناطق في الضفة الغربية لإدارة أوباما قال إن حكومته ستسلمها تدريجياً للسلطة الفلسطينية خلال المرحلة الانتقالية لإقامة الدولة الموعودة, وإيجاد تخريجه جديدة لإشكالية الاستيطان ما بعد انتهاء فترة التجميد قضت بالتوافق بعد مفاوضات مطولة بين وزير استخبارات الاحتلال "دان مريدور ودينس روس" على تقسيم المستوطنات إلى نوعين, يشمل الأول: مستوطنات يُفترض أن تبقى جزءً من إسرائيل بعد التسوية وهي الكتل الكبيرة المتاخمة لخطوط هدنة 1949 (الخط الأخضر) وهذه توافق واشنطن على استئناف البناء فيها بحلول نهاية التجميد معززاً بالإعلان عن مشروع يقضي ببناء 20 ألف وحدة استيطانية بدءاً من تشرين الأول/ أكتوبر 2010 وحتى العام 2020، أما الثاني فيشمل: مستوطنات يُفترض الانسحاب منها في إطار اتفاق سلام دائم لأنها بُنيت في الأساس لغرض التفاوض بعد عام 2001 وعددها 250 مستوطنة عشوائية ومعزولة وذات كثافة سكانية خفيفة وهذه تصر واشنطن على تجميد الاستيطان فيها, والمهم في هذه التخريجة هو إصرار نتنياهو على أن تتم دون الإعلان الرسمي عنها وهو بذلك يكون قد ضمن سلفا تهدئة واشنطن والسلطة الفلسطينية وعدم إغضاب اليمين الإسرائيلي في الائتلاف الحاكم.
هذه المقدمات تم تتويجها بمفاوضات مطولة بين إدارة أوباما ممثلة بـ"دنيس روس ودان شابير وديفيد هيل وجورج ميتشيل" وبين تل أبيب ممثلة بقادة المنظمة اليهودية بواشنطن قبل الكشف عن خطة أوباما الجديدة نهاية آب/ أغسطس الماضي والتي تحمل عنوان " الاتفاق الآن، أما السلام فلاحقاً " والمتضمنة إطلاق مفاوضات تتعلق بالدولة الفلسطينية وكيفية إخراجها وإعلانها خلال عام تفاوضي واحد (أيلول 2010- أيلول 2011) يجري خلاله طاقمي التفاوض الفلسطيني والإسرائيلي مباحثات مكثفة وأكثر جدية في كل من واشنطن والقاهرة وفلسطين المحتلة والأردن وعقد لقاءات دورية بين نتنياهو وأبو مازن اقترح الأول عقدها كل أسبوعين لتذليل العقبات التي تعترض لجان التفاوض وقيام واشنطن بإرسال " دنيس روس وديفيد هيل وجورج ميتشيل" إلى المنطقة للمساعدة وزيارة أوباما لإسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة خلال عام التفاوض لضمان تأييدهما تسوية مؤلمة تكون مدخلاً لسلامٍ دائم.
المثير في الأمر, اقتصار تركيز خطة أوباما على جعل هدف عام التفاوض متعلق بالدولة الفلسطينية وكيفية إخراجها وإعلانها وتوجيه الاهتمام لمسألتي الحدود والأمن لضمان اختتام عام التفاوض بتوقيع أطرافه اتفاقية إطارية أولية تُقر بخيار الدولتين كمخرج وحيد للسلام الدائم تتبعها مرحلة انتقالية من عشر سنوات لحسم باقي القضايا العالقة المتعلقة بالوضع الدائم.
وواشنطن بذلك تعتقد أن وجود اتفاقية إطارية أولية تضمن قيام الدولة الفلسطينية, سيحقق صِِدقِية الوعد الأميركي ويعيد ثقة العرب بالإدارة الأميركية ويحول المفاوضات بعد تحقق الكينونة الفلسطينية في صورة دولة إلى مستوى تفاوضي جديد على مستوى دولة وأخرى, حينها قد تختلف معالجة القضايا العالقة الأخرى ولا يهم بعدها أن يطول زمن التفاوض ما دامت الكينونة الفلسطينية قد تحققت وما دامت واشنطن تملك الحق الحصري لتحديد من أفشل المفاوضات.
والأكثر إثارة, هو مصاحبة الضغط الأميركي غير المسبوق لإطلاق المفاوضات برفض موازي لأي محاولة عربية لتدويل القضية الفلسطينية في حال فشلت وأنفذ العرب تهديدهم بتدويل القضية, وواشنطن بذلك تدرك مدى خطورة التدويل في تمكين العرب من إعادة تجميع أوراق القوة والضغط المتساقطة على طاولة المفاوضات وتمكينهم من المناورة السياسية في أي مفاوضات مستقبلية على قاعدة رفض أي مشاركة مالم تكن مرجعيتها إنهاء الاحتلال وتطبيق القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية, والذي سيعني حينها تقوية تيار الممانعة العربية وخلق الكثير من المشاكل لإسرائيل وللسياسة الأميركية بالمنطقة ولقوى الاعتدال العربي على حدٍ سواء.
من هنا أتى التحذير الأميركي من أن البديل للمفاوضات هو زيادة التطرف على الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني وزيادة تعقيدات عملية التسوية كلما طالت المشكلة ومما يعزز ذلك وجود عناصر رسمية وغير رسمية بالمنطقة ترمي إلى نشر الاضطرابات والحروب لتخريب العملية السلمية مهما كلف الأمر ولذا فقطع التفاوض واستمرار تقاذف الاتهامات من شأنه زيادة توقعات الصدامات الفلسطينية الداخلية ومع إسرائيل وتهيئة البيئة لشن إسرائيل حروباً جديدة من أجل الأمن على حزب الله وحماس وإيران عكس الاستمرار في التفاوض .
نتائج مابعد المغامرة التفاوضية
تشي جولات المفاوضات المباشرة حتى الآن بأننا أمام مغامرة تفاوضية مرصودة على تداعيات كبيرة لاسيما وأن الإدارة الأميركية المفترض بها ممارسة دور الوسيط النزيه والمحايد وممارسة ضغوط متوازنة على أطراف الصراع على اعتبار أنها تهدف من وراء هذه المفاوضات الدفع نحو إمكانية فتح الباب أمام العملية السلمية على المسارين السوري واللبناني, لكنها رغم الضجيج الإعلامي الكبير, لم تُصدر - حتى الآن - أي احتجاج رسمي أو مواقف يُعتد بها على الشروط الإسرائيلية التعجيزية حول المفاوضات والتسوية ولا على مواصلة الاحتلال الاستيطان وفي هذا دلالة واضحة على أن هذه المفاوضات قد جرى الإعداد لها باكراً لتحقيق أغراض أخرى لا تتصل بالضرورة بعملية السلام بقدر ما هي متصلة بتحقيق سياسة أميركية وإسرائيلية تتعلق بإعداد شروط خاصة للعملية السلمية تُسهّل فرض شروط الاحتلال التعجيزية سواء ما كان منها متصلاً بمواصفات الدولة الفلسطينية المنزوعة السلاح والاعتراف بيهودية الكيان وعدم أحقية هذه الدولة بإبرام اتفاقات أمنية مع أي دولة أخرى وبسط الاحتلال سيطرته على حدودها مع الأردن ومصر وإسقاط حق العودة والانفراد بالقدس أو ما كان متصلاً بربط تمديد فترة التجميد الجزئي للاستيطان ثلاثة أشهر أخرى بالاعتراف بيهودية الكيان وليس الإيقاف الكامل كما يطالب المفاوض الفلسطيني المعتقد بدوره أنه عاجز عن التسليم بيهودية الكيان في غياب أي تسوية عادلة وشاملة تتصل بالمقدسات واللاجئين وحدود الدولة الموعودة أو ما كان متصلاً بإصرار الاحتلال على جعل الأولوية لحسم إشكالية الترتيبات الأمنية الإسرائيلية قبل الانتقال إلى مناقشة ترسيم حدود الدولة الموعودة وتوقيع الاتفاقية الإطارية للسلام.
والحقيقة أن ما يطمح إليه الاحتلال على الدوام هو إنجاز ما أسماه نتنياهو في كتابه "مكان تحت الشمس" بـ "سلام الردع" والذي يعني بكل بساطة "جعل أي تسويات سلمية منوطة بقدرة الكيان على ردع الطرف الثاني عند خرقها وشن حرب جديدة عليه".
لذا فكل التوقعات من المفاوضات المتجددة لا تتجاوز حسب المحلل السياسي لصحيفة "هآرتس" آلوف بن "الصفر" لأن "غالبية جمهور الاحتلال لا يهمه الفلسطينيين وإنما يكتفي بالتهدئة الأمنية وقلائل هم المعنيون بالعملية السياسية وهم يعتقدون أن نتنياهو غير جدي في المفاوضات ويريد كسب الوقت فقط من خلال مفاوضات واهية".
إذن فنحن أمام مفاوضات عبثية ومحكومة بالفشل مسبقاً بل وستكون أسوأ من سابقاتها فهي غير محكومة حتى بمرجعية يتم تجاوزها من حكومات الاحتلال كما كان في السابق أي لا يحكمها شيء وهي تفتقر لغطاء عرب الممانعة أي أن ثمة بيئة سياسية عربية غير ملائمة لانطلاقها في حين أن التغطية تتطلب شروطاً ووقائع إضافية في غير ساحة عربية مشتعلة أو مهيأة لذلك كالعراق ولبنان وغزة مثلاً.
وكل هذا يعزز من توقعات انتهاء هذه المفاوضات إلى "صفر كبير" مع مرتبة الشرف, مصحوباً بآثار كارثية غير محمودة العواقب على المنطقة لعلى من أخطرها: تعزيز هوة الانقسام داخل الصف الفلسطيني وحشر المفاوض الفلسطيني والدول العربية الداعمة في مأزق تفاوضي صعب بل وقاتل وتوسيع الهوة بين عرب الاعتدال وعرب الممانعة وإعطاء الاحتلال الضوء الأخضر لرفع الستار عن المشهد الأخير للهيكل المزعوم وصرف الجهود العربية نحو موضوعات أخرى كإيران أو بعض التنظيمات الموصوفة في الأدبيات الغربية والأميركية بالإرهابية أو ضمان الصمت العربي بعد ضمان رفع وتيرة التطبيع الجماعي مع الاحتلال على أي عدوان إسرائيلي جديد في لبنان أو غزة أو إيران بالتوازي مع استمرار الضغط الإقليمي والدولي على السلطة الفلسطينية لضمان استمرارها في المفاوضات.
وفي المحصلة فالمطلوب بحسب الكاتب اللبناني عبدالوهاب بدر خان "مفاوضات غير فاشلة وغير ناجحة في آن، لأن الفشل يفاقم صعوبات محمود عباس، فيما النجاح يطيح بحكومة نتنياهو، والمطلوب تحسين نوعي للأوضاع، مفاوضات تعزز من وضع السلطة الفلسطينية مع الحفاظ على الانقسام بين الضفة والقطاع، والمطلوب عدم حسم ملفات الحل النهائي، فلا إسرائيل جاهزة للسلام، ولا المفاوض الفلسطيني يستند إلى سلطة تغطي كل مناطقه وجميع شعبه، والمطلوب معاودة توسيع الاستيطان، لقاء إزالة بعض الحواجز وإتاحة بعض التسهيلات، لكن مع مواصلة إذلال المواطنين الفلسطينيين وإهدار كرامتهم وهدم البيوت وإنفاذ قرارات الإبعاد واستمرار حصار غزة، كما أن المطلوب فلسطينياً وعربياً عدم المساهمة في الحملات الدولية المتعلقة باتهام إسرائيل بجرائم حرب وقرصنة وجرائم ضد الإنسانية" .
Al-mahbashi@maktoob.com
يتفرد الصراع العربي- الإسرائيلي بصورة عامة والصراع الفلسطيني- الإسرائيلي بصورة خاصة، عن سائر الصراعات الكونية المزمنة التي عرفتها البشرية في العقود العشرة الماضية، باحتوائه على وقود صراعي يشبه إلى حد التطابق ذلك الموجود في المفاعلات الذرية، الذي لا ينطفئ لهيبه إلا عندما ينتهي الأجل وتحين الساعة، أي أن فيه من عوامل الصراع والتصادم ما يكفي لاستمراره إلى نهاية التاريخ، وهذا الكلام ليس من قبيل المبالغة والتهويل، بل هو عين الحقيقة كما تشهد بذلك الوقائع الميدانية, وما ترتب عليها من إشكاليات وأزمات, بات حلها مندرجاً في خانة المستحيل, بفعل العامل الزمني والتعقيدات الإقليمية والدولية, الملقية بظلالها على هذا الصراع, والمتحولة مع مرور الوقت إلى أحد أهم عوامل الحسم لجدلية السلام سلباً أو إيجاباً.
إذن فنحن أمام صراع هو الأطول من نوعه في تاريخ البشرية والأكثر تعقيداً وخطورة، صراع استغرق حتى الآن قرناً من الزمن, وربما يستغرق قرناً آخر قبل التوصل إلى حلول مرضية وعادلة وشاملة ودائمة, بدلالة تحدِّيه في قرنه الأول عامل الزمن وعصر الاستعمار وتعدد الأقطاب والقطبية الثنائية والقطبية الأميركية الأحادية والعولمة وعالم ما بعد 11 أيلول/ سبتمبر 2001, وبالتالي تلّونه وتشكّله مع كل عصر وزمان، بصورة أصبح معها إحباط خطوات الحل السلمي وجهود السلام, سهلاً قدر سهولة تهديد حياة مريض بنكسة قلبية دامية بينما هو لم يغادر بعد غرفة الإنعاش!!.
اليوم وبعد مرور قرن كامل من الصراع و62 عاماً من قيام الدولة العبرية على أرض فلسطين المحتلة وعقدين من التفاوض العقيم وبالتوازي مع بدء جولة تفاوضية جديدة يعلق عليها أطرافها الكثير من الآمال والطموحات, نجدنا في حاجة للوقوف لحظة تأمل ومراجعة للسلام المنشود بإشكالياته واستحقاقاته ومواقف وأهداف أطرافه وقضاياه والمعالجات المطروحة والمختمرة في عالم الغيب على أمل الخروج برؤية واقعية تحاكي حاضر ومستقبل عملية التسوية وإمكانيات نجاحها من عدمه.
عملية التسوية.. إشكاليات لا تنتهي
المتأمل في مسارات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يخلُص إلى حقيقة واحدة هي "أن الجنون هو الثابت الوحيد في تاريخ الدولة العبرية المتحول من إحلال شعب وافد مكان شعب مقيم إلى تغيير خريطة الشرق الأوسط برمتها"، وسط تزايد عمليات الهضم والقضم للحقوق الفلسطينية المشروعة, كشعب واقع تحت الاحتلال ومشرد عن أرضه, وتزايد الصلف والعنف وإرهاب الدولة العبرية واستمرار تهربها من استحقاقات السلام ومن الواجبات المتوجبة عليها, كجهة إحتلالية أولاً وكدولة عضو في الأمم المتحدة ثانياً، ملزمة بمراعات المعاهدات والمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان في الحرب والسلم وبتنفيذ قرارات الشرعية الدولية الخاصة بإنهاء الصراع سلمياً في إطار منظومة متكاملة من الحقوق والواجبات.
والثابت أن افتقار الشرعية الدولية لقوة التنفيذ للقرارات الصادرة عنها قد أسهم بقصد أو بغير قصد في توفير مظلة من الشرعية لاستمرار الاحتلال في سياسة الهضم والقضم, مدعمة برعاية أميركية كاملة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً منذ اللحظة الأولى لنشأة الكيان الإسرائيلي, وبالتالي إعطاء الاحتلال بوليصة التأمين اللازمة للاستمرار في التهرب من استحقاقات وضريبة السلام الدائم والنتيجة طبعاً المزيد من تعميق هوة الصراع, وخلق المزيد من أجواء التناقض والتعارض والاضطراب على الأرض الواحدة.
الشعب الفلسطيني اليوم بات يعيش وفق شروط لم تعد مقبولة إقليمياً ودولياً كما بات للصراع العديد من التداعيات الإقليمية والدولية المؤثرة في عملية السلام سلباً وإيجاباً, وهو وضع كارثي بكل المقاييس ما كُنا لنصل إليه لولا استمرار الاحتلال في رفض حلول التسوية الدائمة وإصراره على التمسك باستراتيجية الحد الأعلى من المطالب التعجيزية كي يقبل بالحد الأدنى من المطالب الفلسطينية التي لم تعد تتجاوز حلم الدولة والعيش بأمن وسلام وكرامة إلى جانب الدولة العبرية, كأمر واقعي لم يعد بالإمكان تغييره مستنداً في ذلك إلى قائمة طويلة من القرارات الأممية كقرار التقسيم المشئوم رقم 181 لعام 1947 والقرار 242 لعام 1967 وغيرها من القرارات التي لا زالت حبراً على ورق وشاهد عيان على غياب العدالة الدولية وسط بحرٍ آسنٍ من ازدواجية المعايير الدولية وسياسة الكيل بمكيالين واستمرار لغة التسويف والمماطلة وغياب الجدية العملية لجعل خيار الدولتين مشروعاً مشتركاً ومخرجاً وحيداً لتحقيق أكبر قدر من مصالح طرفي الصراع.
المناداة بخيار الدولتين ليست بنت يومها بل تعود بجذورها إلى العام 1937 وتكرّست في العام 1947 وتم وضع أول إطار عملي في اتفاقية كامب ديفيد المصرية - الإسرائيلية لعام 1979 المنادية بفصل الأراضي الفلسطينية عن دولة الاحتلال وبموجبها قرر العرب التخلي عن إدارة عملية السلام وتسليم معظم أوراقها لأميركا وبموجبها قررت منظمة التحرير الفلسطينية في بيان الجزائر لعام 1988 الاعتراف بالقرار الأممي 242 وبحل الدولتين والقبول بدولة أصغر بكثير من مساحة فلسطين التاريخية لا تتجاوز مساحتها 22 بالمائة مقابل التسليم للاحتلال بـ 78 بالمائة.
هذه الأمور شكلت مقدمة لانطلاق عملية السلام من مدينة مدريد 1991 دون إغفال حل الدولتين وتوقيع اتفاقية أوسلو 1993 المعترف بموجبها رئيس حكومة الاحتلال إسحاق رابين بمنظمة التحرير لأول مرة وبمبدأ حل الدولتين, ومع ذلك فهو لم يوافق سوى على منح سلطة ذاتية للفلسطينيين - لا تتعدى صلاحياتها إدارة شؤون السكان المحليين الحياتية فقط - شملت في العام 2000 نحو 42 بالمائة من أراضي الضفة وقطاع غزة(2005) وترحيل قضايا الخلاف الرئيسية إلى الحل النهائي, ومن حينها بدأت المشكلة بالتوازي مع استمرار التفاوض واستمرار سيل الاتفاقات دون إحراز أي تقدم بل تحولت المفاوضات إلى معادلة صفرية بامتياز, طوال الـ17 عاماً الماضية بدءاً بأوسلو 1993 ومروراً بالمفاوضات غير المباشرة (أيار/مايو- آب/أغسطس 2010) وانتهاءً بالمفاوضات المباشرة المنطلقة في 2 أيلول/ سبتمبر 2010 تحت رعاية أوباما شخصياً بفعل مشكلات الحل الدائم بما فيها من تعقيد.
إذن فإشكالية التسوية الحقيقية ليست في التوصل إلى اتفاق سلام وما أكثر الاتفاقات الموقعة، بل في عدم توفر الشجاعة والقدرة على التنفيذ وعدم توافر قوة التحفيز الدولية المحايدة وسط بيئة سياسية تعتبر كل تنازل خيانة وغياب القابلية والاستعداد لدى حكومات الاحتلال المتعاقبة ولدى الأطراف الفلسطينية والأطراف الإقليمية والدولية المعنية للالتزام بالاتفاقات الموقعة أو قبول الخيارات الأخرى المطروحة والذي كانت نتيجته على الدوام حصول البدايات وعدم حصول النهايات وعودة المفاوضات مع كل جولة تفاوضية جديدة إلى المربع الأول تكون الأولوية فيها للتساؤل عما إذا كان ممكناً قبول ما جرى الاتفاق عليه سابقاً أم لا؟
قائمة طويلة من الإشكاليات المطروحة اليوم على طاولة المفاوضات وكلها ألغام موقوتة ومواد سريعة الاشتعال من قبيل: القدس الشرقية، المستوطنات، الترتيبات الأمنية، حق العودة، ملامح وطبيعة الدولة الموعودة، الحدود، طبيعة وإمكانية تبادل الأراضي، ناهيك عن الملفات المتداخلة كالمياه والموارد الطبيعية والبيئة والكهرباء والتجارة والنقد والتداخل السكاني والعمالة والتنمية المستقبلية .. إلخ.
وهي مجتمعة بحسب إدارة أوباما قد قُتلت بحثاً ودرساً كما كشفت المراجعة التفصيلية عن وجود مسائل يمكن التقدم فيها ومسائل لازالت بحاجة إلى المزيد من المحاججة والمجادلة لكي يجري تركيز الجهد الأميركي والدولي عليها وهي ترى أيضاً أن ظروف وشروط السلام قد نضجت وأن هناك من عوامل التقارب ما يكفي للجلوس على الطاولة وجهاً لوجه والتوجه إلى وضع جداول التنفيذ معاً!!.
والمهم هنا هو إطلاق إدارة أوباما بعض التلميحات حول عقدها العزم للضغط باتجاه التوصل إلى اتفاق سلام خلال عام واحد (أيلول/ سبتمبر 2010- أيلول/ سبتمبر 2011) يتوج عهد أوباما بكامب ديفيد ثالثة تحقق وعد الدولة وتعيد ترميم الثقة في الشارع العربي بالمخلص الأميركي بعد عقود من الخيبات والإحباطات.
المفاوضات المباشرة.. آمالها وآلامها
صحيح أن طرفي الصراع وفقاً للمواقف المعلنة متمسكان بعدم أحقية اللجوء إلى الشروط المسبقة أياً كان نوعها أو موضوعها أو هدفها لكن المتابع لمسارات المفاوضات غير المباشرة وما سجلته من فشل ذريع باعتراف طرفيها - رغم المحاولات الأميركية للإيحاء بأن شيئاً ما قد تغير سواء فيما يتعلق بالظروف أو النضوج السياسي أو بتهيؤ البيئة للانتقال إلى المفاوضات المباشرة- يلمس جلياً ظهور الشروط الإسرائيلية المسبقة لاسيما فيما يتعلق باستئناف الأنشطة الاستيطانية بعد انتهاء فترة التجميد المؤقت(26 أيلول/سبتمبر 2010 ) وتزايد التلميحات الأميركية بإمكانية استمرار التفاوض في ظل استمرار البناء الاستيطاني والاكتفاء بإبداء الاستعداد للمساعدة في تجديد فترة التجميد والإشادة بدور واشنطن السابق في هذا المجال وتمكنها حسب رسالة أوباما إلى أبو مازن في 17 تموز/ يوليو 2010 من خفض وتيرة الاستيطان خلال السنوات الثلاث الماضية أكثر من أي وقتٍ مضى, وتمسك نتنياهو بربط حق العودة بحق الدولة وربط التقدم في المفاوضات بوقف السلطة الفلسطينية كل النشاطات المعادية لإسرائيل في المحاكم الدولية والأمم المتحدة وغيرها المتعلقة بتقرير جولدستون والرصاص المصبوب وأسطول الحرية والتحقيق الدولي.
المؤشرات الأولية - بحسب الكاتب اللبناني خليل حسين - تؤكد حقيقية " ذهاب الاحتلال إلى المفاوضات للاستماع إلى المطالب الفلسطينية لكن ليس بالضرورة تفهمها وتلبيتها بل للعمل على إنتاج مواقف تفاوضية سرعان ما تتحول إلى واقع يلغي المطالب السابقة وتتحدد اُطر جديدة فيها الكثير من التنازلات"، وهي الأسس التي طبعت جداول المفاوضات بشقيها المضمر والمعلن خلال عقدين من الزمن، فهل ستتبدل الأمور والقضايا والمسائل والأجواء في هذه الجولة المقدر لها عاماً من الزمن؟ لاسيما وأنها تنطلق هذه المرة بجدول زمني ربما سيكون الأطول من نوعه في عالم التفاوض وعالم النزاعات الإقليمية والدولية رغم تأطير خطة أوباما الجديدة جولاته بعام واحد للتوصل إلى اتفاق مبدئي إطاري يضمن الإقرار بخيار الدولتين لا التسوية الدائمة لأن مناقشة أدوات التنفيذ الخاصة بقضايا الحل النهائي قد تم ترحيلها عن قصد إلى السنوات العشر اللاحقة وهو ما يعني إمكانية استهلاك عملية الحسم قرناً أخر قياساً بموضوعات الحل الدائم وطريقة الاحتلال في إدارة النقاش حولها وفرض الشروط وقياساً بتباين المواقف حول الهدف الرئيسي لهذه المفاوضات.
أولاً: المواقف والأهداف
من العوامل المهمة الدافعة بكل الأطراف للذهاب إلى مائدة المفاوضات المباشرة والتوافق على التمسك بها وعلى تناولها كل القضايا الخلافية أنها " تريحها من الذهاب إلى الخيارات الأخرى المترتبة على فشل المفاوضات وهذا الخوف من الفشل يخفف عنهم صعوبة اتخاذ قرارات في خيارات الكل يدرك صعوبة تحققها" والأهم من ذلك كله إدراك إدارة أوباما أن هذه هي "لحظة الحسم التفاوضي في ظل قيادة عربية وفلسطينية قادرة على العطاء والتعامل المرن مع القضايا التفاوضية الصعبة" وأن "التفاوض المباشر وليس التدويل يظل المخرج الوحيد لإنقاذ عملية السلام" مؤكدة على لسان ديفيد هيل "مستشار ميتشيل" أن "نتنياهو قادرٌ على التوصل إلى سلام دائم مع الفلسطينيين وأن واشنطن ترى فيه شريكاً قوياً وملتزماً بالعملية السلمية".
نتنياهو هو الأخر – حسب الإعلام الإسرائيلي - باتت لديه قناعة بضرورة التعاون مع إدارة أوباما في التقدم نحو التسوية والإيحاء بأنه على عكس مواقف اليمين ومنها حزب الليكود يوافق على الانسحاب من 90 بالمائة من الضفة بل ولديه الاستعداد لرفع هذه النسبة إلى ما هو أكثر من ذلك خلال المفاوضات ما يعني وجود شبه توافق إعلامي على الأقل هذه المرة على خيار الدولتين عززته إدارة أوباما بالتأكيد على أنها الأكثر إلتزاماً بإقامة الدولة الفلسطينية باعتبارها المدخل الوحيد للسلام في الشرق الأوسط وبضرورة التفاوض دون قيود أو شروط مسبقة وإبداء عزمها لممارسة الضغوط لجعل المفاوضات أكثر جِدِّية ودفعها نحو نتائج مثمرة.
- الموقف الفلسطيني:
يطالب الطرف المفاوض بضرورة الوقف التام للاستيطان كشرط لتحقيق السلام - وهو الشرط الذي تم تغافله منذ أوسلو 1993- وبوجود مرجعية قانونية وسياسية توافق على إقامة الدولة الفلسطينية في حدود 1967 بما فيها المبادرة العربية وخريطة الطريق وقرارات الشرعية الدولية المتضمنة إقامة دولة قابلة للحياة ذات أراضي متصلة وحدود دائمة عاصمتها القدس الشرقية, فيما تصر الأطراف المعارضة على التمسك بحدود هدنة 1949 ورفض الاعتراف بيهودية الكيان وانسحاب المحتل من كامل أراضي الضفة والقدس والتمسك بالمقاومة وبحق العودة.
على أن الورقة الوحيدة المتبقية لدى المفاوض الفلسطيني والعربي من أوراق المساومة والضغط وهي "التهديد بالتوجه إلى المؤسسات الدولية للحصول على قرار أممي يقضي بإقامة الدولة الفلسطينية من جانب واحد وفقاً للقرار (1515) الصادر قبل ثماني سنوات", وهو ما ترفضه واشنطن جملة وتفصيلاً, الأمر الذي أدى إلى تولُّد المخاوف من تعمد الاحتلال "إضاعة الوقت" كالعادة وتحويل المفاوضات إلى ورقة داخلية لإطالة عمر حكومة نتنياهو دون الاهتمام بالتوصل إلى نتائج ملموسة ومحددة في ظل عدم تطابق وجهات النظر حول الهدف العام لهذه المفاوضات وعدم وجود ما يؤكد مصداقية هذا الخيار وصِدقِية الاحتلال في التعامل معه من منظور الحقوق والاستحقاقات التي عليه أن يقوم بها بصفته سلطة احتلال, ناهيك عن غياب الجدية الأميركية واستمرار تعاملها مع المفاوض الفلسطيني ليس كطرف سياسي له قدره واحترامه بل كملاكم ضعيف يمكن حصره في الزاوية ليتلقى المزيد من اللكمات دون اعتراض وإلا فإن المساعدات ستُحجب عنه ولذا فهو أكثر قابلية للتراجع عن شروطه قياساً بالجانب الإسرائيلي المتصلب على طول الخط.
على مستوى الأهداف: هناك رغبة عربية جامحة لإنجاح المفاوضات بأي ثمن لأنها ستخفف من فكرة الوطن البديل في الأردن ومن الامتداد السكاني تجاه سيناء المصرية، وهناك اعتقاد فلسطيني بأن الاكتفاء بدولة صغيرة سيفقدهم اهتمام العالم لذا فهم يأملون من وراء المفاوضات تحقيق ولو حد أدنى من الانجاز لعلى وعسى أن تتبدل معها العديد من المعطيات والمتغيرات بما يمكنهم من تحقيق أهدافهم وأحلامهم ليقارنوا بعدها بين وضعهم في ظل الدولة أو بدون الدولة وفي نفس الوقت يحافظوا على التأييد الدولي المتوقف حسب اعتقادهم أيضاً على تحرير أكبر قدر ممكن من وطنهم التاريخي.
- الموقف الإسرائيلي:
هناك اعتقاد سائد بأن التفاوض في كل مرة يؤول إلى الصفر لا إلى صفقة يكسب منها الطرفان من تقسيم أخر للأملاك التي رسمها الانتداب البريطاني والاعتقاد بأن أوباما الجائع إلى انجاز دبلوماسي يُحسب لإدارته والملجوم بمؤيدي نتنياهو في الكونجرس, سيكتفي بتسوية مرحلية يتم فرضها على الجانب الفلسطيني كأمر واقع, بما يسمح للاحتلال بمواصلة سياسته القائمة على أسرلة وتهويد كامل القدس وتسريع الاستيطان وجدار الفصل العنصري ونظام المعازل وإتاحة أطول مدة ممكنة لتغيير الخرائط الجغرافية على الأرض بما ينسف أي أمل لإقامة الدولة الموعودة وانتزاع أكبر قدر ممكن من التنازلات الفلسطينية والعربية, بعد النجاح في إقناع المفاوض الفلسطيني بأنه غير قادر على الوصول إلى حقوقه المشروعة إلا بالتفاوض وبأي ظرفٍ كان واقتناع الاحتلال ومحاولة إقناعه الآخرين بأن المفاوض الفلسطيني غير قادر على انتزاع أي موقف أو وعد لا تريده إسرائيل.
على مستولى الحلول: اقتناع الاحتلال وإدارة أوباما أيضاً بأن الحلول يجب أن تكون متعلقة بآثار حرب 1967 وليس بالعودة إلى حدود 1967 لأن ذلك لم يعد ممكناً وتالياً حصر معالجات ملف الاستيطان بالأنشطة العشوائية بعد العام 2001 وليس بآثار حربي 1948 و 1967 مع إمكانية التبادل للأراضي في ضوء الوقائع الميدانية وخطوط الانتداب البريطاني وربط الانسحاب من الضفة دون القدس الشرقية بالسلام الشامل والإصرار على مواصلة حصار غزة حتى تغير حماس من إستراتيجيتها مع الاكتفاء بالإشارة إلى طلب أبو مازن والتأكيد على أنه قد تحقق بشكل كبير.
على مستوى الأهداف: هناك رغبة جامحة لدى الاحتلال للتخلص من عبء السيطرة على الفلسطينيين لما تثيره من دعاوى دولية عن التمييز العنصري تجعل الاحتلال أمام اختبار صعب للبت بين الهوية اليهودية ونظام الحكم الديمقراطي, لذا فهو يرى أن إقامة دولة فلسطينية بالمواصفات الأمنية الإسرائيلية سيحل معضلة التداخل السكاني التي ليس لها حل لا عسكرياً ولا بالترحيل القسري كما أن ذلك سينقذ الاحتلال من حملة الإدانة والمقاطعة الدولية المتصاعدة ويقطع الطريق على مساعي تدويل القضية الفلسطينية وفي ذات الوقت يضمن لنتنياهو توظيف التفاوض في صراعه الداخلي لإطالة أمد حكومته دون إحراز أي تقدم ملموس ومحدد لأنه سينسف ائتلافه الحكومي ويخلق الكثير من المشاكل لإسرائيل .
نجاح الاحتلال في جعل المفاوضات بلا شروط مسبقة وبلا مرجعية وبلا آلية تطبيق مُلزمة ومن دون ضمانات حقيقية أو دور دولي وأميركي فاعل أو التزام إسرائيلي بالقانون الدولي والقرارات الأممية, يعنى التوقيع على بياض لإعطاء الاحتلال الغطاء السياسي والقانوني اللازم للاستمرار في سياسته وللتهرب من استحقاقات السلام معززاً بشماعة الانقسام الفلسطيني والتمزق العربي وتوظيف المفاوضات لتعميق هذا الانقسام والتمزق باعتباره واحداً من أهم منجزات إسرائيل الأمنية والتشديد على ضرورة بناء وترقية مؤسسات السلطة الفلسطينية من أسفل إلى أعلى بما يتناسب مع مستوى الدولة الموعودة والذي رغم الخطة الشاملة التي أعلنتها حكومة فياض في 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2009 لإقامة مؤسسات الدولة خلال عامين فما نجده هو عدم إيفاء الإدارة الأميركية حتى الآن بوعودها للمساعدة والإخلال بوعدها فيما يتعلق بتجميد الاستيطان تحت ذريعة مراعاة أولويات الحكومات الإسرائيلية بما فيها المخاوف من دفع التقدم في ملف الاستيطان نحو مواجهة داخلية مع المستوطنين من غير أن يُحل الصراع.
ثانياً: خطة أوباما للسلام:
حرصت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة "كوندا ليزا رايس" على انجاز مشروع لاتفاقية تسوية قبل انتهاء ولاية بوش وتسليمها لإدارة أوباما قبل مغادرتها الوزارة وهي وإن كانت لازالت محاطة بالكثير من الألغاز والتكتم لكنها في طابعها العام لا تخرج عن مضامين اتفاقية كامب ديفيد الثاني لعام 2000 الموقعة في عهد بيل كلينتون, والمبدي يومها كلاً من أيهود باراك وياسر عرفات الاستعداد للتعاون معها ووصول المفاوضات بينهما إلى مخطط تقسيم القدس وملف السيادة وبموجبها أتت خارطة الطريق لعام 2003 وتحفظات شارون ووعد بوش 2004 وتوصيات أنابوليس 2007 وكلها تم أخذها بالحسبان من قبل إدارة أوباما مع إجراء بعض التعديلات اللازمة لإتمام ما بدأته الإدارات السابقة والإعلان عن احتلال السلام في الشرق الأوسط الأولوية في العهد الجديد معززاً بتعيين جورج ميتشيل بعد يوم واحد من تسلم أوباما السلطة مبعوثاً خاصاً للسلام في الشرق الأوسط, المبادر بدوره إلى بذل كل المساعي لتقريب وجهات النظر دون الوصول إلى نتيجة ملموسة باستثناء إخراج مسرحية التجميد الجزئي للاستيطان لمدة 10 أشهر مشروطاً بتدشين مفاوضات غير مباشرة لمدة أربعة أشهر تكون مقدمة لمفاوضات مباشرة, مدعمة بإخراج عدة توافقات أميركية - إسرائيلية حتى تنجح المفاوضات وتبدو وكأنها قد حققت تقدم يمكن الإعلان عنه أو على أقل تقدير يمكن أن يشكل مقدمة لاتفاق إطاري أولي يتم توقيعه في حديقة البيت الأبيض ويُسجل كإنجاز تاريخي لإدارة أوباما ولميتشيل الذي سيكون من الصعب عليه وعلى إدارته التسليم بالفشل.
هذه التوافقات شملت الإقرار بضرورة دفع المفاوضات نحو إقامة الدولة الفلسطينية خلال لقاء أوباما- نتنياهو في تموز/ يوليو الماضي وتسليم الأخير خريطة تفصيلية لمناطق في الضفة الغربية لإدارة أوباما قال إن حكومته ستسلمها تدريجياً للسلطة الفلسطينية خلال المرحلة الانتقالية لإقامة الدولة الموعودة, وإيجاد تخريجه جديدة لإشكالية الاستيطان ما بعد انتهاء فترة التجميد قضت بالتوافق بعد مفاوضات مطولة بين وزير استخبارات الاحتلال "دان مريدور ودينس روس" على تقسيم المستوطنات إلى نوعين, يشمل الأول: مستوطنات يُفترض أن تبقى جزءً من إسرائيل بعد التسوية وهي الكتل الكبيرة المتاخمة لخطوط هدنة 1949 (الخط الأخضر) وهذه توافق واشنطن على استئناف البناء فيها بحلول نهاية التجميد معززاً بالإعلان عن مشروع يقضي ببناء 20 ألف وحدة استيطانية بدءاً من تشرين الأول/ أكتوبر 2010 وحتى العام 2020، أما الثاني فيشمل: مستوطنات يُفترض الانسحاب منها في إطار اتفاق سلام دائم لأنها بُنيت في الأساس لغرض التفاوض بعد عام 2001 وعددها 250 مستوطنة عشوائية ومعزولة وذات كثافة سكانية خفيفة وهذه تصر واشنطن على تجميد الاستيطان فيها, والمهم في هذه التخريجة هو إصرار نتنياهو على أن تتم دون الإعلان الرسمي عنها وهو بذلك يكون قد ضمن سلفا تهدئة واشنطن والسلطة الفلسطينية وعدم إغضاب اليمين الإسرائيلي في الائتلاف الحاكم.
هذه المقدمات تم تتويجها بمفاوضات مطولة بين إدارة أوباما ممثلة بـ"دنيس روس ودان شابير وديفيد هيل وجورج ميتشيل" وبين تل أبيب ممثلة بقادة المنظمة اليهودية بواشنطن قبل الكشف عن خطة أوباما الجديدة نهاية آب/ أغسطس الماضي والتي تحمل عنوان " الاتفاق الآن، أما السلام فلاحقاً " والمتضمنة إطلاق مفاوضات تتعلق بالدولة الفلسطينية وكيفية إخراجها وإعلانها خلال عام تفاوضي واحد (أيلول 2010- أيلول 2011) يجري خلاله طاقمي التفاوض الفلسطيني والإسرائيلي مباحثات مكثفة وأكثر جدية في كل من واشنطن والقاهرة وفلسطين المحتلة والأردن وعقد لقاءات دورية بين نتنياهو وأبو مازن اقترح الأول عقدها كل أسبوعين لتذليل العقبات التي تعترض لجان التفاوض وقيام واشنطن بإرسال " دنيس روس وديفيد هيل وجورج ميتشيل" إلى المنطقة للمساعدة وزيارة أوباما لإسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة خلال عام التفاوض لضمان تأييدهما تسوية مؤلمة تكون مدخلاً لسلامٍ دائم.
المثير في الأمر, اقتصار تركيز خطة أوباما على جعل هدف عام التفاوض متعلق بالدولة الفلسطينية وكيفية إخراجها وإعلانها وتوجيه الاهتمام لمسألتي الحدود والأمن لضمان اختتام عام التفاوض بتوقيع أطرافه اتفاقية إطارية أولية تُقر بخيار الدولتين كمخرج وحيد للسلام الدائم تتبعها مرحلة انتقالية من عشر سنوات لحسم باقي القضايا العالقة المتعلقة بالوضع الدائم.
وواشنطن بذلك تعتقد أن وجود اتفاقية إطارية أولية تضمن قيام الدولة الفلسطينية, سيحقق صِِدقِية الوعد الأميركي ويعيد ثقة العرب بالإدارة الأميركية ويحول المفاوضات بعد تحقق الكينونة الفلسطينية في صورة دولة إلى مستوى تفاوضي جديد على مستوى دولة وأخرى, حينها قد تختلف معالجة القضايا العالقة الأخرى ولا يهم بعدها أن يطول زمن التفاوض ما دامت الكينونة الفلسطينية قد تحققت وما دامت واشنطن تملك الحق الحصري لتحديد من أفشل المفاوضات.
والأكثر إثارة, هو مصاحبة الضغط الأميركي غير المسبوق لإطلاق المفاوضات برفض موازي لأي محاولة عربية لتدويل القضية الفلسطينية في حال فشلت وأنفذ العرب تهديدهم بتدويل القضية, وواشنطن بذلك تدرك مدى خطورة التدويل في تمكين العرب من إعادة تجميع أوراق القوة والضغط المتساقطة على طاولة المفاوضات وتمكينهم من المناورة السياسية في أي مفاوضات مستقبلية على قاعدة رفض أي مشاركة مالم تكن مرجعيتها إنهاء الاحتلال وتطبيق القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية, والذي سيعني حينها تقوية تيار الممانعة العربية وخلق الكثير من المشاكل لإسرائيل وللسياسة الأميركية بالمنطقة ولقوى الاعتدال العربي على حدٍ سواء.
من هنا أتى التحذير الأميركي من أن البديل للمفاوضات هو زيادة التطرف على الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني وزيادة تعقيدات عملية التسوية كلما طالت المشكلة ومما يعزز ذلك وجود عناصر رسمية وغير رسمية بالمنطقة ترمي إلى نشر الاضطرابات والحروب لتخريب العملية السلمية مهما كلف الأمر ولذا فقطع التفاوض واستمرار تقاذف الاتهامات من شأنه زيادة توقعات الصدامات الفلسطينية الداخلية ومع إسرائيل وتهيئة البيئة لشن إسرائيل حروباً جديدة من أجل الأمن على حزب الله وحماس وإيران عكس الاستمرار في التفاوض .
نتائج مابعد المغامرة التفاوضية
تشي جولات المفاوضات المباشرة حتى الآن بأننا أمام مغامرة تفاوضية مرصودة على تداعيات كبيرة لاسيما وأن الإدارة الأميركية المفترض بها ممارسة دور الوسيط النزيه والمحايد وممارسة ضغوط متوازنة على أطراف الصراع على اعتبار أنها تهدف من وراء هذه المفاوضات الدفع نحو إمكانية فتح الباب أمام العملية السلمية على المسارين السوري واللبناني, لكنها رغم الضجيج الإعلامي الكبير, لم تُصدر - حتى الآن - أي احتجاج رسمي أو مواقف يُعتد بها على الشروط الإسرائيلية التعجيزية حول المفاوضات والتسوية ولا على مواصلة الاحتلال الاستيطان وفي هذا دلالة واضحة على أن هذه المفاوضات قد جرى الإعداد لها باكراً لتحقيق أغراض أخرى لا تتصل بالضرورة بعملية السلام بقدر ما هي متصلة بتحقيق سياسة أميركية وإسرائيلية تتعلق بإعداد شروط خاصة للعملية السلمية تُسهّل فرض شروط الاحتلال التعجيزية سواء ما كان منها متصلاً بمواصفات الدولة الفلسطينية المنزوعة السلاح والاعتراف بيهودية الكيان وعدم أحقية هذه الدولة بإبرام اتفاقات أمنية مع أي دولة أخرى وبسط الاحتلال سيطرته على حدودها مع الأردن ومصر وإسقاط حق العودة والانفراد بالقدس أو ما كان متصلاً بربط تمديد فترة التجميد الجزئي للاستيطان ثلاثة أشهر أخرى بالاعتراف بيهودية الكيان وليس الإيقاف الكامل كما يطالب المفاوض الفلسطيني المعتقد بدوره أنه عاجز عن التسليم بيهودية الكيان في غياب أي تسوية عادلة وشاملة تتصل بالمقدسات واللاجئين وحدود الدولة الموعودة أو ما كان متصلاً بإصرار الاحتلال على جعل الأولوية لحسم إشكالية الترتيبات الأمنية الإسرائيلية قبل الانتقال إلى مناقشة ترسيم حدود الدولة الموعودة وتوقيع الاتفاقية الإطارية للسلام.
والحقيقة أن ما يطمح إليه الاحتلال على الدوام هو إنجاز ما أسماه نتنياهو في كتابه "مكان تحت الشمس" بـ "سلام الردع" والذي يعني بكل بساطة "جعل أي تسويات سلمية منوطة بقدرة الكيان على ردع الطرف الثاني عند خرقها وشن حرب جديدة عليه".
لذا فكل التوقعات من المفاوضات المتجددة لا تتجاوز حسب المحلل السياسي لصحيفة "هآرتس" آلوف بن "الصفر" لأن "غالبية جمهور الاحتلال لا يهمه الفلسطينيين وإنما يكتفي بالتهدئة الأمنية وقلائل هم المعنيون بالعملية السياسية وهم يعتقدون أن نتنياهو غير جدي في المفاوضات ويريد كسب الوقت فقط من خلال مفاوضات واهية".
إذن فنحن أمام مفاوضات عبثية ومحكومة بالفشل مسبقاً بل وستكون أسوأ من سابقاتها فهي غير محكومة حتى بمرجعية يتم تجاوزها من حكومات الاحتلال كما كان في السابق أي لا يحكمها شيء وهي تفتقر لغطاء عرب الممانعة أي أن ثمة بيئة سياسية عربية غير ملائمة لانطلاقها في حين أن التغطية تتطلب شروطاً ووقائع إضافية في غير ساحة عربية مشتعلة أو مهيأة لذلك كالعراق ولبنان وغزة مثلاً.
وكل هذا يعزز من توقعات انتهاء هذه المفاوضات إلى "صفر كبير" مع مرتبة الشرف, مصحوباً بآثار كارثية غير محمودة العواقب على المنطقة لعلى من أخطرها: تعزيز هوة الانقسام داخل الصف الفلسطيني وحشر المفاوض الفلسطيني والدول العربية الداعمة في مأزق تفاوضي صعب بل وقاتل وتوسيع الهوة بين عرب الاعتدال وعرب الممانعة وإعطاء الاحتلال الضوء الأخضر لرفع الستار عن المشهد الأخير للهيكل المزعوم وصرف الجهود العربية نحو موضوعات أخرى كإيران أو بعض التنظيمات الموصوفة في الأدبيات الغربية والأميركية بالإرهابية أو ضمان الصمت العربي بعد ضمان رفع وتيرة التطبيع الجماعي مع الاحتلال على أي عدوان إسرائيلي جديد في لبنان أو غزة أو إيران بالتوازي مع استمرار الضغط الإقليمي والدولي على السلطة الفلسطينية لضمان استمرارها في المفاوضات.
وفي المحصلة فالمطلوب بحسب الكاتب اللبناني عبدالوهاب بدر خان "مفاوضات غير فاشلة وغير ناجحة في آن، لأن الفشل يفاقم صعوبات محمود عباس، فيما النجاح يطيح بحكومة نتنياهو، والمطلوب تحسين نوعي للأوضاع، مفاوضات تعزز من وضع السلطة الفلسطينية مع الحفاظ على الانقسام بين الضفة والقطاع، والمطلوب عدم حسم ملفات الحل النهائي، فلا إسرائيل جاهزة للسلام، ولا المفاوض الفلسطيني يستند إلى سلطة تغطي كل مناطقه وجميع شعبه، والمطلوب معاودة توسيع الاستيطان، لقاء إزالة بعض الحواجز وإتاحة بعض التسهيلات، لكن مع مواصلة إذلال المواطنين الفلسطينيين وإهدار كرامتهم وهدم البيوت وإنفاذ قرارات الإبعاد واستمرار حصار غزة، كما أن المطلوب فلسطينياً وعربياً عدم المساهمة في الحملات الدولية المتعلقة باتهام إسرائيل بجرائم حرب وقرصنة وجرائم ضد الإنسانية" .
Al-mahbashi@maktoob.com