زيد يحيى المحبشي
"علينا ألاّ نترك الصومال وحدها".
كلمات بسيطة أراد من خلالها وزير خارجية تركيا تأكيد أن رعاية بلاده للمؤتمر الدولي الذي انعقد بمدينة اسطنبول خلال الفترة 21- 23 أيار/ مايو 2010 بدعم من الأمم المتحدة, لن تكون مجرد محطة عابرة لتبادل القبلات والتحايا الدبلوماسية, بل نقطة انطلاق عملية لتحريك الملف الصومالي, وتسليط الأضواء على الأزمة الإنسانية العاصفة بهذا البلد, والتي تُعد الأسوأ من نوعها عالمياً, في العصر الحديث, بعد أن أكلت الحروب الأهلية في العقدين الأخيرين معالم حضارته, واستنزفت كل مرافقه الحيوية والعامة, وموارده الطبيعية, بصورة عجزت معها كل المحاولات الإقليمية والدولية عن إعادة الأمل والأمن والاستقرار إلى أبناء الصومال؛ فهل ستنجح تركيا حيث فشل غيرها؟
المؤتمر ليس الأول من نوعه، بل سبقته مؤتمرات كثيرة, لم يجن الشعب الصومالي منها سوى الضجيج الإعلامي والشعارات الفضفاضة.
وهنا تكتسب الرعاية التركية لهذا المؤتمر أهميتها, فيما يتعلق بالانتقال من الوعود إلى التنفيذ, وصولاً إلى كسر جدار اللامبالاة العربية والدولية, وسط تساؤل الصوماليين المتابعين باهتمام كبير للدور التركي في كسر الحصار الظالم المفروض على غزة, عمّا إذا كانت تلك المواقف المشرفة للقيادة التركية, ستنعكس ايجابياً على المشهد الصومالي, من خلال تحويل العواطف والوعود المتمخضة عن مؤتمر اسطنبول إلى تنفيذ البرامج والمشروعات الموعودة على ارض الواقع، لاسيما وأن المؤتمر قد نجح في دق جرس الإنذار الدولي لخطورة الوضع في الصومال, ولضرورة ربط الحل السياسي فيه بحل المشكلة الاقتصادية, وإعادة اللحمة الوطنية, حتى يخرج من أزمته المركبة, وإبداء الاهتمام الدولي الصادق بمشاكله.
في هذه القراءة السريعة سنحاول تسليط الضوء على الأزمة الصومالية بأبعادها المختلفة, واستشراف آفاق الدور التركي في حلحلة عقدها, وتداعياته الآنية والمستقبلية على صعيد الأجندة المتنافسة والمتصادمة في هذا البلد, والتي لا تزال تحول دون وضع حد للمأساة الصومالية, بعد أن تمازجت فيها العوامل الداخلية بالعوامل الإقليمية والدولية, بصورة لم يعد معها ممكناً حل الأزمة دون أخذ تلك العوامل بالحسبان, وهو ما يشي بمدى عمقها وتعقدها؛ فهل يفلح العطار التركي في إصلاح ما أفسدته الأطماع الإقليمية والدولية في هذا البلد؟
الأزمة الصومالية
صحيح أن الصراع على السلطة السبب الرئيسي للحرب الدامية العاصفة بهذا البلد, منذ سقوط نظام محمد سياد بري عام 1991؛ لكنه ليس الوحيد, خصوصاً وأننا أمام أزمة يتداخل فيها البعد الداخلي بمفرداته المختلفة مع البعد الخارجي بصورة متلازمة, نظراً للأهمية الموقعية والجيوسياسية التي يتمتع بها هذا البلد.
واللافت هنا، رغم كثرة المؤتمرات الدولية ومحاولات الوساطة وعمليات التسوية, أنها ظلت مقتصرة على البعد الأمني, وإهمال الأبعاد الأخرى, باستثناء بارقة أمل وحيدة بعثتها جيبوتي في العام 2008, عندما تمكنت من جمع الفرقاء الصوماليين على طاولة الحوار, وتوقيعهم اتفاق سلام أثمر في كانون الثاني/ يناير 2009 تشكيل حكومة فيدرالية انتقالية برئاسة شيخ شريف شيخ أحمد, وسط وعود دولية بدعمها مادياً ومعنوياً, لكنها لم تتعدَّ الحبر الذي كتبت به, وهو ما جعل هذه الحكومة شبه مشلولة؛ نظراً لتخلي المجتمع الدولي عنها, ولعجز إمكانياتها عن تأمين الخدمات الحياتية الضرورية لمواطنيها, وعجزها عن بسط نفوذها وفرض الأمن والاستقرار, في وقت بدت فيه سلطتها مقتصرة على أحياء محدودة من العاصمة الصومالية (مقديشو), فيما تسيطر المعارضة الصومالية (حركة الشباب والحزب الإسلامي والجناح المتشدد في جماعة أهل السنة) على الجنوب, إلى جانب إقليم بونت لاند وجمهورية أرض الصومال(الواقعتان على التوالي في شمال شرق وشمال غرب الصومال), اللتين أعلنتا استقلالهما دون الاعتراف الدولي بهما, بالتوازي مع بروز الخلاف بين أجنحة الحكومة الفيدرالية واستفحال داء القرصنة ووباء "القاعدة".
هذه الأمور مجتمعة خلقت رزمة من التحديات, وجدت الحكومة الفيدرالية نفسها عاجزة عن حلحلتها, مطالبة المجتمع الدولي بمساعدتها والحيلولة دون سقوطها, منها على سبيل المثال:
- التحديات الأمنية: في مقدمتها غياب الأمن والاستقرار بسبب محدودية القدرات الأمنية. ورغم ذلك فقد تمكنت الحكومة الفيدرالية من شق جماعة أهل السنة, عبر استمالة الجناح المعتدل ومحاولة دمج عناصره بالقوات المسلحة الصومالية لمجابهة حركة الشباب والحزب الإسلامي ومنحه خمس وزارات و3 قنصليات و3 مندوبين في السفارات الصومالية بالخارج, وتجنيد 7000 صومالي ضمن الشرطة الصومالية, وتدريب آلاف الصوماليين, لإمساك زمام الأمور من جديد, ناهيك عن تلقي الدعم اللوجستي من كينيا وقوات حفظ السلام الأفريقية, في إطار الاستعداد لاستعادة مقديشو, مع التشديد على أن قضية الأمن يجب أن تصبح أولوية لكن دون إغفال العوامل الأخرى.
في حين شكّل تنظيم القاعدة التحدي الأمني الأكثر خطورة على الصومال وجواره وعلى الأمن والسلم الدوليين, يليه وباء القرصنة البحرية من حيث الخطورة والتي ما كانت لتزدهر, لولا الفقر المدقع, وغياب مؤسسات الدولة الفعالة، وتوجه المجتمع الدولي إلى الاهتمام بـ"القاعدة" والقرصنة دون وجود معالجات عملية لأصل المشكلة. ومعلومٌ للجميع أن حل هذه المشكلة ليس موضوعاً أمنياً فقط , إنما يمر عبر إرساء الاستقرار السياسي وتحسين الظروف الاقتصادية في الصومال.
- التحديات الإنسانية: أدت الصراعات الدامية في الأعوام الثلاثة الأخيرة إلى حصد أرواح 21 ألف إنسان صومالي وتشريد 1.5 مليون ووجود نحو 3.7 ملايين إنسان بحاجة ماسة للمساعدات الإنسانية العاجلة, في حين اقتصرت مساعدات برنامج الغذاء العالمي على 700 ألف صومالي شهرياً كجزء من الإنفاق الدولي البالغ 8 مليارات دولار, المقدمة إلى الصومال في العقدين الأخيرين على شكل مساعدات متنوعة منها معونات إنسانية.
ومكمن الخطورة هنا وقوع المساعدات الدولية فريسة للمقاولين الفاسدين من موظفي المنظمة الدولية, على خلفية فضيحة قيامهم بتحويل هذه المساعدات إلى حركة الشباب, بالتوازي مع انكشاف حقيقة اللامبالاة الدولية, وليس آخرها عدم الوفاء بالوعود المقدمة في مؤتمر قمة بروكسل للمانحين التي انعقدت في نيسان/ ابريل 2009 والمتمخض عنه وعود أوربية بتقديم 213 ملايين دولار لم تتسلم منها الحكومة الصومالية دولاراً واحداً حتى الآن.
هذه الأمور مجتمعة دفعت بالشعب الصومالي إلى التشكيك بمدى جدِّية المجتمع الدولي لمساعدتهم للخروج من النفق المظلم الذي يعيشونه.
- التحديات السياسية: اقتصار الاهتمام الدولي على الدعم السياسي للحكومة الفيدرالية, والتي نجدها بعد مرور عام ونصف من تشكلها, تعيش وسط تخبط سياسي مزرٍ, حال حتى الآن دون نجاح محاولاتها لإنجاز المصالحة الوطنية على خلفية قرار الرئيس الصومالي الشهر الماضي بعزل رئيس حكومته وحظوة هذه الخطوة بتأييد المبعوث الأممي إلى الصومال, رغم عدم دستوريتها, ثم تراجع الرئيس الصومالي عن قراره قبل يوم واحد من انعقاد مؤتمر اسطنبول, الأمر الذي أضرّ بمصداقيته ومصداقية الأمم المتحدة, وعمق من هوة الشراكة والمصالحة الوطنية.
إذن، ما يريده الشعب الصومالي من المجتمع الدولي وتركيا على وجه الخصوص هو: مساعدته على تحقيق المصالحة الوطنية والتخفيف من معاناته والحفاظ على وحدته وأمنه واستقراره والحيلولة دون سقوط حكومته المؤقتة.
الدور التركي
النجاحات التي سجلتها تركيا في المصالحة وعمليات الوساطة بالشرق الأوسط, تركت بصماتها مباشرة على المشهد الصومالي, وبداية الغيث النجاح في تحويل مؤتمر اسطنبول إلى فرصة استثنائية للمجتمع الدولي لإظهار التضامن السياسي مع الشعب الصومالي, وإرسال بارقة أمل دولية بأنهم ليسوا وحدهم وأن لديهم أصدقاء حقيقيين على استعداد لإحداث تغيير في بلدهم المنكوب, لاسيما وأن تركيا قد تمكنت من حشد نحو 55 دولة أوربية وأميركية وأفريقية وشرق أوسطية و12 منظمة ووكالة إقليمية ودولية و70 من رجال الأعمال الصوماليين, والأهم من هذا نجاحها في جمع الصومال واريتريا -الحاضن الإقليمي للحزب الإسلامي الصومالي- على طاولة واحدة, وكذا مشاركة رئيس إقليم بونت لاند الانفصالي لأول مرة, وهو ما يعكس مدى الاهتمام التركي بالمأساة الصومالية, ومدى الجدية في التوجه لإعادة الإعمار وإعادة السلام والاستقرار إلى الصومال, وتأكيد العزم التركي لمواصلة جهوده في هذا المجال, ودعوته المجتمع الدولي للعمل معاً, من أجل دعم الصومال, وعدم تركه وحيداً.
محاور مؤتمر اسطنبول غطت الأزمة الصومالية بأبعادها المختلفة, إلى جانب بحث قضية القرصنة البحرية المزدهرة قُبالة السواحل الصومالية, والمسيئة إلى سمعة وطبيعة هذا الشعب المسالم, ومع ذلك فهو لم يكن مؤتمراً للمانحين, بقدر ما كان معنياً بالعمل على تفعيل القدرات الصومالية الداخلية, ودعم الاقتصاد الصومالي وتشجيع قطاعه الخاص, من أجل تحريك التنمية, ودعم حكومته الفيدرالية وتطوير مشاريع الإعمار, وتأكيد حاجة هذا البلد إلى جهود دولية طويلة الأمد لمساعدته على تجاوز أزمته, وطبعاً دون تقديم مساعدات مالية جديدة عكس المؤتمرات الدولية السابقة, في حين انفردت فرنسا بدعوة الحكومة الصومالية لتعزيز الحوار مع سلطات إقليم بونت لاند وجمهورية أرض الصومال, وحثها على توسيع قاعدة المشاركة السياسية, لكن دون استيعاب حركات التمرد المسئولة عن أعمال وحشية! وبالتالي توصل المشاركين إلى حقيقة واحدة مفادها أن "المصالحة الوطنية الصومالية مرهونة بتوفير مزيد من الدعم الدولي".
وبالعودة إلى الدور التركي الذي تميز بالتعهد بتدريب الجهاز الأمني الصومالي ودعمه فعلياً وإبداء الاستعداد للمساهمة في تحريك مياه المصالحة الوطنية عبر الحوار مع جميع الأطراف الإقليمية والداخلية والتوسط لتسوية مشاكل الصومال مع جيرانه وفي مقدمتهم اريتريا, حيث نجحت عملياً في جمع اريتريا والصومال على هامش مؤتمر اسطنبول لأول مرة, تمخض عنه ثمار ايجابية, لمست من خلالها تركيا أن وساطتها مقبولة, وأنها تملك أرضاً خصبة وواعدة تضاف إلى الرصيد التركي المتألق ما حدا بوزير الخارجية التركي إلى القول بكل ثقة: "إن الجمع بين خصمين علنيين يعد اختراقه.. لقد نجحنا في الجمع بين الجانبين وجهاً لوجه، وأصبح بإمكان الصومال الإعراب عن مخاوفه".
الدور التركي المتنامي في الصومال يأتي في إطار مشروع الانفتاح التركي على أفريقيا, والذي تم تدشينه في العام 1998 وأخذ مساراته التطبيقية في العام 2007 الذي أعلنته تركيا عاماً لأفريقيا, والذي بموجبه قررت تركيا لأول مرة منذ تأسيس دولتها الحديثة 1923 نقل الاهتمام ومساعي التوسط إلى القارة الأفريقية, بعد أن ظلت سياستها واهتماماتها لعقود متجهة نحو الغرب الأوربي, وهو ما أحدث أصداءً واسعة لإمكانية لعبها دورًا فعّالاً في أفريقيا المثقلة بالهموم والأزمات, وفتح أمامها آفاقا رحبة.
ولذا كانت شديدة الحرص على تأكيد أن مؤتمر اسطنبول الأخير ليس سوى نافذة من نوافذ إستراتيجية مد اليد إلى أفريقيا, والتي تسعى تركيا من خلالها إلى المواءمة بين المنهج المتفائل للقضايا بدلاً من المواقف التي توجهها الأزمات, وبين مبادئ دبلوماسية السلام الوقائية والاستباقية, الهادفة إلى اتخاذ التدابير قبل حدوث الأزمات وتصاعدها إلى مستويات حرجة, وصولاً إلى ترسيخ قاعدة "الأمن للجميع" والحوار السياسي عالي المستوى والتعاون والترابط الاقتصادي وتعايش الثقافات المتعددة والتمسك بسياسة خارجية متعددة الأطراف وتوظيف علاقاتها مع اللاعبين الدوليين لتكون مكملة وليست منافسة أو بديلة, وبالتالي خلق دبلوماسية متوازنة تمنحها دوراً أكثر فاعلية إقليمياً ودولياً؛ ما يجعل منها لاعباً مهماً في لعبة التوازنات والتناقضات الإقليمية, وشريكاً فاعلاًً في رسم بعض السياسات الإقليمية, وعاملاً حاسماً ومكملاً للأمن الإقليمي, المتزايدة أهميته بصورة واضحة عقب توتر العلاقات التركية ـ "الإسرائيلية" في الأعوام الثلاثة الأخيرة.
وهو ما يستدعي من الدول العربية ذات التأثير مراقبة هذا الدور المتصاعد في أفريقيا والصومال تحديداً والسعي إلى تدعيمه ببناء تحالفات جديدة من شأنها المساهمة في تأسيس أمن إقليمي يقوم وفق إستراتيجية "المنفعة المتبادلة" لما فيه صالح شعوب المنطقة, وتزداد أهمية ذلك في الصومال التي تكاد التجربة العربية فيها تقارب "الصفر" في وقت أصبحت فيه تركيا صوتاً مسموعاً في أفريقيا, وربما مفيداً للعرب لإعادة تقييم حساباتهم ليس تجاه أفريقيا فحسب, بل والصومال إن هُم أحسنوا توظيف الدور التركي لصالح قضايا الأمة العربية بدلاً من الرهانات غير المجدية على القاطرة الغربية والأميركية التي لم تجلب لنا سوى الخراب والدمار.
Al-mahbashi@maktoob.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق