بقلم/ زيد يحيى المحبشي
منذ سنوات والأمة الإسلامية منقسمة على
نفسها حول أهم فريضة من فرائض الإسلام وهي تحديد دخول وخروج شهر رمضان المبارك بعد
أن صار للسياسة دورها في هذا الانقسام المقيت والمزري فهل سيكون رمضان هذا العام بعيداً
عن آفة ولعنة الساسة لنشهد ولو لمرة واحدة صوماً موحداً يلملم شتات الأمة المكلومة؟!..
لا أعتقد ذلك، فما نشهده اليوم من انقسامات وصراعات على كل الأصعدة لا يبشر بخير
...
في هذه الوقفة التأملية لن نتطرق لدور السياسة
والساسة في تحديد دخول شهر الله بعد أن فقدنا الأمل في توحدهم .. بل سنكتفي بتقديم
قراءة سريعة ومتواضعة لموقف الشريعة المحمدية وموقف علماء الفلك من تحديد ولادة هلال
الشهر الكريم لعلّها تقود إلى توحيد المنقسم السياسي ..
** الرؤية الشرعية
يقول الله سبحانه وتعالى: (ونزلنا عليك
الكتاب "تبياناً" "لكل شيئ" وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين) .. والملاحظ
في الآية الكريمة أن كلمة "تبياناً" أتت منكرة – أي مجردة من أحرف التعريف
(ال) – والتنكير في الخطاب القرآني كما هو متعارفٌ عليه لدى علماء اللغة يعني أن الخطاب
موجه للعموم وليس للخصوص وفي الكلمة التالية "لكل شيئ" توضيح لا جدال فيه
.. ما نجد مداليله في قوله تعالى: (يسألونك عن الأهلة قل هي "مواقيت" للناس
"و" الحج ) فقد وردت كلمت "مواقيت" منكرة وهذا يعني أنها للعموم
وليس للخصوص لأن الله لم يقصر ذلك على فريضة "الحج" حصراً بل جعل "الحج"
عطفاً على "مواقيت للناس" أي لكي يسترشد بها الناس في معرفة دخول الأشهر
القمرية عموماً وشهر رمضان منها.
لقد جعل سبحانه وتعالى فرائض الإسلام من
صلاة وصيام وحج مرتبطة بأشياء حسية يشترك في معرفتها كل من أحسن المراقبة لتلك العلامات،
وكلها متعلقة بالشمس والقمر .. وجعل الأهلة "مواقيت" يُعرف بها بداية العقود
ونهايتها، إذا رُبِطَت بالأشهر القمرية، كما هي مواقيت ركنين من أركان الإسلام، وهي
الصوم والحج.
وسنة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم هي
الفصل في هذا، والتي أولت اهتماماً كبيراً بدخول وخروج شهر الصيام، لأنه من أهم الأشهر،
لما يترتب عليه من أداء فريضة الصيام التي افترضها الله على أمة محمد مرة واحدة من
كل عام وجعلها في المرتبة الثالثة في قائمة أركان الإسلام بعد الشهادتين والصلاة لما
لها من أهمية كبيرة في البناء الروحاني الإنساني واختصها لذاته عكس بقية الأركان (الصيام
لي وأنا أجزي به).
لهذا لا غرابة أن نجد الشريعة المحمدية
حريصة أشد الحرص على توضيح وتبيين هذه الفريضة بأتم بيان وربط دخولها وخروجها بالأهلة
كما هو واضحٌ في آية المواقيت، حيث جعل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الرؤية
شرطاً في تحديد ولادة هلال الشهر القمري.
والمشكلة هنا لا علاقة لها بموقف السنة
النبوية من تحديد ولادة الشهر القمري المشروطة بالرؤية المجردة، بل بما حدث من خلاف
كبير حول شرط الرؤية وماهيتها بين علماء المسلمين في القرون التالية للحقبة المحمدية:
فهناك من قال بأن الرؤية بالعين المجردة فقط؟ .. وهناك من أفسح المجال في حال تعذر
الرؤية المجردة لإمكانية الاعتماد على الحسابات الفلكية لإثبات ولادة الهلال القمري
.. وهناك من أجاز الرؤية بالمناظير المكبرة (المراصد الفلكية) بالنظر إلى ما شهده العالم
من تقدم تكنولوجي كبير .. ومنهم من رأى جواز استخدام الأقمار الصناعية لتحديد ولادة
الهلال القمري.
وبعيداً عن الاختلاف المتواصل لعلماء المسلمين
حول الوسيلة الأنجع والاسلم لتحديد ولادة الهلال القمري .. فقد حفلت السنة المحمدية
بالكثير من الأحاديث الدالة على الرؤية وأبرزها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا
رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غُم عليكم فأقدروا له) كما في رواية البخاري
ومسلم وفي لفظ: (لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غُم عليكم فأكملوا
العدة ثلاثين) وهو حديث متفق عليه وفي رواية مسلم: (فأقدروا ثلاثين) وفي رواية مسلم
والبخاري: (فصوموا ثلاثين يوماً) وفي رواية عبدالله بن عباس: (صوموا لرؤيته وأفطروا
لرؤيته فإن حال بينكم وبينه سحاب فكملوا العدة ولا تستقبلوا الشهر إستقبالاً).
هذه الأحاديث وغيرها الكثير تصب في خانة
واحدة هي الاعتماد على الرؤية المجردة لا الحسابات الفلكية ولا حسابات الحاسب الآلي
.. والسر في اشتراط الرسول الأكرم للرؤية المجردة دون سواها ما أورده صاحب التاج المذهب
لأحكام المذهب من أحاديث نبوية توضيحية منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنا أمةٌ
أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر كذا وكذا ثلاثاً حتى ذكر تسعاً وعشرين) وفي بعضها: (لا
تصوموا حتى تروه .. ) إلى أخره.
ومعنى: (لا نكتب ولا نحسب) أي أننا لا نعتمد
لعبادتنا الحساب والكتابة وإنما نعتمد على ما أمرنا الصادق المصدوق طاعة لله سبحانه
واعتقادا منا أنه الحق.
ويذهب فريق من علماء الإسلام إلى أنه صلى
الله عليه وآله وسلم لو أجاز العمل بالحسابات الفلكية لأصبح ذلك تكليفاً على جميع المسلمين
في تحديد دخول الأشهر القمرية.
ومعلومً أن أكثرية الأمة على عهد رسول الله
أمية ولذا سيكون في اقرار العمل بالحسابات الفلكية تعسير ومشقة كبيرة على المسلمين
في حين أن الإسلام دين يسر ألم يقل صلى الله عليه وآله: (بعثة بالشريعة السهلة السمحاء),
ويقول: (يسروا ولا تعسروا قربوا ولا تنفروا) ..
صحيح أن تحفظ الرسول الأكرم على مسألة الحسابات
الفلكية كان لمصلحة عموم المسلمين لأن غالبيتهم على عهده لا تجيد الكتابة .. لكن بالعودة
الى القرآن الكريم المبتدأ تنزيله بالحض على القراءة وما يترتب عليها من كتابة والخاتم
تنزيله بالنهي عن الظلم، فهذا يعني أن الإسلام دين "العلم والعدل" وعليه
يمكن تفسير توجيه الرسول الأكرم على أنه توجيه وقتي إلى أن يأتي من الأمة الإسلامية
أجيالٌ تفقه علم الكتابة والقراءة وما يترتب على ذلك من علوم فلكية لا سيما وأن الحسابات
الفلكية كما أثبت العلم الحديث فيها شيئ من الواقعية.
** الرؤية الفلكية
تعميماً للفائدة نورد هنا نبذة مختصرة عن
رؤية علماء الفلك حول تحديد ولادة الهلال القمري إجتزئناها من دراسة مطولة للشيخ محمد
أديب قبيسي نشرها موقع السيد العلامة محمد حسين فضل الله رحمة الله تغشاه في شهر رجب
عام 1425 هـ ..
الولادة الفلكية للهلال القمري تتم عندما
يقع مركز الشمس والأرض والقمر بينهما على خط وهمي واحد يقال له: "لحظة الإقتران"
أو "فترة المحاق".
حسابات ولادة الهلال القمري"الاقتران"
وإن كانت دقيقة جداً ويقينية بحيث لا يمكن احتمال الخطأ فيها من الناحية الواقعية إذا
رُوعِيت الحسابات بدقة، إلا أن هذا لا يعني أن الهلال القمري يمكن أن يُرى لحظة الولادة،
وهو ما دفع علماء الفلك قديماً وحديثاً إلى وضع معايير معينة وشروط محددة للتنبؤ بإمكانية
الرؤية بعد تحديد لحظة ولادة الهلال القمري.
أولاً: المعايير القديمة: وهي التي تم العمل
بها حتى بداية القرن العشرين الميلادي وأهمها:
(1) معيار الـ 12 درجة: والمقصود به من
الناحية العملية أن رؤية الهلال القمري ممكنة مساء 29 من الشهر القمري إذا كان غروب
القمر متأخراً عن غروب الشمس بمقدار 12 درجة، أي بمقدار 48 دقيقة من الناحية الزمنية
.. وعلى اساس هذا المعيار وضعت الجداول من قبل علماء المسلمين المسماه بالأزياج وأبرزها
زيج الخوارزمي.
(2) معيار انخفاض الشمس: تكون رؤية الهلال
ممكنة إذا كان انخفاض الشمس تحت الأفق الغربي عند غروب القمر يساوي مقداراً معيناً
يبلغ 9 درجات.
هذه المعايير والتعديلات التي جرت عليها
قائمة على علاقة هندسية بين موقع القمر والشمس والمشاهد سواء من حيث الزمان كالمعيار
الأول أو من حيث لمعان ضوء الشمس وأثره في الأفق بعد الغروب كالمعيار الثاني.
ثانياً: المعايير الحديثة: توالت التعديلات
للشروط المقترحة المساعدة على التنبؤ بإمكانية رؤية الهلال وهي في غالبها مبنية على
اعتبارات هندسية وفلكية حتى من قبل علماء فلك العصر الحديث وأهمها:
(1) المنظار الفيزيائي: تمكن الباحث الفرنسي
في المرصد الفلكي للجامعة الأميركية ببيروت(فرانس برون) في العام 1977 من احداث تطور
نوعي في هذا المجال عندما تطرق إليه من منظار فلكي فيزيائي مركزاً على الظروف الحقيقية
والخاصة بالمشاهد والتي لاحظ فيها قدرة العين المجردة على التقاط صور الأجسام الساطعة.
(2) معيار يالوب: اقترح معياراً جديداً
قائماً على المعايير القديمة ولكنه أكثر تطوراً وتعقيداً بالاستفادة من خبرته الطويلة
في مجال الرصد حيث كان يعمل مديراً لمرصد غرينتش ورئيساً للجنة الأزياج التابعة للاتحاد
الفلكي الدولي.
يقوم عمل معيار يالوب على تقسيم إمكانية
الرؤية إلى أربع حالات، لأنه حسب اعتقاده يمكن رؤية الهلال بالمرقب أو بالمنظار فقط
أو بمساعدة ذلك أولاً .. ثم من الممكن رؤية الهلال بالعين المجردة .. وإما يمكن المشاهدة
بالعين المجردة كما في حالات الصحو التام وأخيراً الرؤية بسهولة بالعين المجردة مطلقاً..
وبناءً عليه قام يالو بتحديد ثلاثة عوامل رئيسية لعمل معياره هي:
أ – (عمر الهلال): والمقصود به مقدار الزمن
الممتد بين لحظة الإقتران ولحظة غروب الشمس في منطقة معينة وهذا يختلف من مكان إلى
أخر .. وتشير احصاءات ما يزيد على 50 سنة أن أصغر عمر للهلال تمت رؤيته بالعين المجردة
كان 14 ساعة و48 دقيقة.
ب – (مكوث الهلال): وهو مقدار بقاء الهلال
بعد غروب الشمس، أي الفترة الممتدة بين غروب الشمس وغروب القمر, ومعلومٌ أن أقل مكوث
للقمر تمت رؤيته بالعين المجردة كان 29 دقيقة.
ج – (الاستطالة): وتعني بُعد مركز القمر
عن مركز الشمس بالدرجات كما يرى من الأرض ويقال له"قوس النور- الشفق الاحمر بلهجة
اليمن" وذلك لأن الرؤية ممكنة إذا كان الهلال "مركز الهلال" قد ابتعد
عن مركز الشمس بحيث صار القمر يعكس مقداراً ممكناً من الضوء يمكن من خلاله رؤية ذلك..
ومعلومٌ أن أقل استطالة مسجلة كانت 6 – 7 درجات.
نسبة اضاءة القمر من العوامل المهمة أيضاً
في إمكانية الرؤية.. فإذا كانت الاستطالة بين الشمس والقمر "صفر درجة" فإن
الرؤية مستحيلة لأن القمر يكون في فترة المحاق وهذا يعني أنه مظلم ظلاماً تاماً أما
إذا كانت درجة الاستطالة بين الشمس والقمر " 180 درجة " فإن القمر يكون بدراً.
** قاعدة عامة:
(1) إذا كانت ولادة الهلال قبل غروب الشمس
وكانت فترة مكوثه بعد غروب الشمس بحيث يكون غروب الهلال بعد غروب الشمس أمكن القول
بأن اليوم الثاني هو بداية الشهر الجديد.
"اذا كانت ولادة الهلال قبل غروب الشمس
وغروب الهلال بعد غروب الشمس فإن اليوم الثاني بداية الشهر القمري الجديد".
(2) إذا كانت ولادة الهلال بعد غروب الشمس
أو كان غروب القمر قبل غروب الشمس كان اليوم التالي مكملاً للشهر الأول.
"إذا كانت ولادة الهلال بعد غروب الشمس
أو كان غروب الهلال قبل غروب الشمس فإن اليوم التالي المتمم للشهر الاول"
* نموذج تطبيقي:
شهر رمضان باليمن عام 1434 هـ
تمت ولادة هلال رمضان فلكياً صبيحة يوم
الاثنين 8 يوليو 2013 الساعة العاشرة و16 دقيقة بتوقيت اليمن وفي مساء نفس اليوم مكث
القمر بالأفق الغربي لمدينة الحديدة 5 دقائق فقط بمعنى أنه غرب بعد غروب الشمس بـ
3 دقائق و7 ثواني, ما جعل رؤيته بالعين المجردة متعسرة لكنه كان موجود فوق الأفق حكماً
.. وكانت إضاءته أقل من واحد بالمائة من القرص وارتفاعه عن الأفق الغربي درجة واحدة
قوسية وزاوية استطالته من الشمس 5 – 6 درجات قوسية تقريباً وكان اتجاه الهلال جنوب
شرق وبالتالي وقوعه جنوب الشمس بـ 5 درجات
عمر الهلال لحظة غروب شمس يوم الاثنين
8 يوليو(والتي غابت عند الساعة السادسة و42 دقيقة حسب توقيت مدينة الحديدة) هو 8 ساعات
و26 دقيقة
وعندما جمعنا لحظة ولادة الهلال ولحظة غروب
الشمس كان الناتج 16 ساعة و58 دقيقة وبطرح عمر الهلال من ناتج جمع ولادة الهلال وغروب
الشمس وإضافة ناتج الطرح الى الفترة الزمنية فالناتج (( 29 يوماً و8 ساعات و32 دقيقة))
وهذا يعني أن الشهر القمري الجديد قد دخل فعلا ولذا كان يوم الثلاثاء 9 يوليو 2013
هو اليوم الأول من شهر رمضان لعام 1434هـ بالنسبة لليمن،،،