Translate

الأربعاء، 29 سبتمبر 2010

قراءة تأملية في مستقبل المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية

بقلم زيد يحيى المحبشي
يتفرد الصراع العربي- الإسرائيلي بصورة عامة والصراع الفلسطيني- الإسرائيلي بصورة خاصة، عن سائر الصراعات الكونية المزمنة التي عرفتها البشرية في العقود العشرة الماضية، باحتوائه على وقود صراعي يشبه إلى حد التطابق ذلك الموجود في المفاعلات الذرية، الذي لا ينطفئ لهيبه إلا عندما ينتهي الأجل وتحين الساعة، أي أن فيه من عوامل الصراع والتصادم ما يكفي لاستمراره إلى نهاية التاريخ، وهذا الكلام ليس من قبيل المبالغة والتهويل، بل هو عين الحقيقة كما تشهد بذلك الوقائع الميدانية, وما ترتب عليها من إشكاليات وأزمات, بات حلها مندرجاً في خانة المستحيل, بفعل العامل الزمني والتعقيدات الإقليمية والدولية, الملقية بظلالها على هذا الصراع, والمتحولة مع مرور الوقت إلى أحد أهم عوامل الحسم لجدلية السلام سلباً أو إيجاباً.
إذن فنحن أمام صراع هو الأطول من نوعه في تاريخ البشرية والأكثر تعقيداً وخطورة، صراع استغرق حتى الآن قرناً من الزمن, وربما يستغرق قرناً آخر قبل التوصل إلى حلول مرضية وعادلة وشاملة ودائمة, بدلالة تحدِّيه في قرنه الأول عامل الزمن وعصر الاستعمار وتعدد الأقطاب والقطبية الثنائية والقطبية الأميركية الأحادية والعولمة وعالم ما بعد 11 أيلول/ سبتمبر 2001, وبالتالي تلّونه وتشكّله مع كل عصر وزمان، بصورة أصبح معها إحباط خطوات الحل السلمي وجهود السلام, سهلاً قدر سهولة تهديد حياة مريض بنكسة قلبية دامية بينما هو لم يغادر بعد غرفة الإنعاش!!.
اليوم وبعد مرور قرن كامل من الصراع و62 عاماً من قيام الدولة العبرية على أرض فلسطين المحتلة وعقدين من التفاوض العقيم وبالتوازي مع بدء جولة تفاوضية جديدة يعلق عليها أطرافها الكثير من الآمال والطموحات, نجدنا في حاجة للوقوف لحظة تأمل ومراجعة للسلام المنشود بإشكالياته واستحقاقاته ومواقف وأهداف أطرافه وقضاياه والمعالجات المطروحة والمختمرة في عالم الغيب على أمل الخروج برؤية واقعية تحاكي حاضر ومستقبل عملية التسوية وإمكانيات نجاحها من عدمه.

عملية التسوية.. إشكاليات لا تنتهي
المتأمل في مسارات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يخلُص إلى حقيقة واحدة هي "أن الجنون هو الثابت الوحيد في تاريخ الدولة العبرية المتحول من إحلال شعب وافد مكان شعب مقيم إلى تغيير خريطة الشرق الأوسط برمتها"، وسط تزايد عمليات الهضم والقضم للحقوق الفلسطينية المشروعة, كشعب واقع تحت الاحتلال ومشرد عن أرضه, وتزايد الصلف والعنف وإرهاب الدولة العبرية واستمرار تهربها من استحقاقات السلام ومن الواجبات المتوجبة عليها, كجهة إحتلالية أولاً وكدولة عضو في الأمم المتحدة ثانياً، ملزمة بمراعات المعاهدات والمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان في الحرب والسلم وبتنفيذ قرارات الشرعية الدولية الخاصة بإنهاء الصراع سلمياً في إطار منظومة متكاملة من الحقوق والواجبات.
والثابت أن افتقار الشرعية الدولية لقوة التنفيذ للقرارات الصادرة عنها قد أسهم بقصد أو بغير قصد في توفير مظلة من الشرعية لاستمرار الاحتلال في سياسة الهضم والقضم, مدعمة برعاية أميركية كاملة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً منذ اللحظة الأولى لنشأة الكيان الإسرائيلي, وبالتالي إعطاء الاحتلال بوليصة التأمين اللازمة للاستمرار في التهرب من استحقاقات وضريبة السلام الدائم والنتيجة طبعاً المزيد من تعميق هوة الصراع, وخلق المزيد من أجواء التناقض والتعارض والاضطراب على الأرض الواحدة.
الشعب الفلسطيني اليوم بات يعيش وفق شروط لم تعد مقبولة إقليمياً ودولياً كما بات للصراع العديد من التداعيات الإقليمية والدولية المؤثرة في عملية السلام سلباً وإيجاباً, وهو وضع كارثي بكل المقاييس ما كُنا لنصل إليه لولا استمرار الاحتلال في رفض حلول التسوية الدائمة وإصراره على التمسك باستراتيجية الحد الأعلى من المطالب التعجيزية كي يقبل بالحد الأدنى من المطالب الفلسطينية التي لم تعد تتجاوز حلم الدولة والعيش بأمن وسلام وكرامة إلى جانب الدولة العبرية, كأمر واقعي لم يعد بالإمكان تغييره مستنداً في ذلك إلى قائمة طويلة من القرارات الأممية كقرار التقسيم المشئوم رقم 181 لعام 1947 والقرار 242 لعام 1967 وغيرها من القرارات التي لا زالت حبراً على ورق وشاهد عيان على غياب العدالة الدولية وسط بحرٍ آسنٍ من ازدواجية المعايير الدولية وسياسة الكيل بمكيالين واستمرار لغة التسويف والمماطلة وغياب الجدية العملية لجعل خيار الدولتين مشروعاً مشتركاً ومخرجاً وحيداً لتحقيق أكبر قدر من مصالح طرفي الصراع.
المناداة بخيار الدولتين ليست بنت يومها بل تعود بجذورها إلى العام 1937 وتكرّست في العام 1947 وتم وضع أول إطار عملي في اتفاقية كامب ديفيد المصرية - الإسرائيلية لعام 1979 المنادية بفصل الأراضي الفلسطينية عن دولة الاحتلال وبموجبها قرر العرب التخلي عن إدارة عملية السلام وتسليم معظم أوراقها لأميركا وبموجبها قررت منظمة التحرير الفلسطينية في بيان الجزائر لعام 1988 الاعتراف بالقرار الأممي 242 وبحل الدولتين والقبول بدولة أصغر بكثير من مساحة فلسطين التاريخية لا تتجاوز مساحتها 22 بالمائة مقابل التسليم للاحتلال بـ 78 بالمائة.
هذه الأمور شكلت مقدمة لانطلاق عملية السلام من مدينة مدريد 1991 دون إغفال حل الدولتين وتوقيع اتفاقية أوسلو 1993 المعترف بموجبها رئيس حكومة الاحتلال إسحاق رابين بمنظمة التحرير لأول مرة وبمبدأ حل الدولتين, ومع ذلك فهو لم يوافق سوى على منح سلطة ذاتية للفلسطينيين - لا تتعدى صلاحياتها إدارة شؤون السكان المحليين الحياتية فقط - شملت في العام 2000 نحو 42 بالمائة من أراضي الضفة وقطاع غزة(2005) وترحيل قضايا الخلاف الرئيسية إلى الحل النهائي, ومن حينها بدأت المشكلة بالتوازي مع استمرار التفاوض واستمرار سيل الاتفاقات دون إحراز أي تقدم بل تحولت المفاوضات إلى معادلة صفرية بامتياز, طوال الـ17 عاماً الماضية بدءاً بأوسلو 1993 ومروراً بالمفاوضات غير المباشرة (أيار/مايو- آب/أغسطس 2010) وانتهاءً بالمفاوضات المباشرة المنطلقة في 2 أيلول/ سبتمبر 2010 تحت رعاية أوباما شخصياً بفعل مشكلات الحل الدائم بما فيها من تعقيد.
إذن فإشكالية التسوية الحقيقية ليست في التوصل إلى اتفاق سلام وما أكثر الاتفاقات الموقعة، بل في عدم توفر الشجاعة والقدرة على التنفيذ وعدم توافر قوة التحفيز الدولية المحايدة وسط بيئة سياسية تعتبر كل تنازل خيانة وغياب القابلية والاستعداد لدى حكومات الاحتلال المتعاقبة ولدى الأطراف الفلسطينية والأطراف الإقليمية والدولية المعنية للالتزام بالاتفاقات الموقعة أو قبول الخيارات الأخرى المطروحة والذي كانت نتيجته على الدوام حصول البدايات وعدم حصول النهايات وعودة المفاوضات مع كل جولة تفاوضية جديدة إلى المربع الأول تكون الأولوية فيها للتساؤل عما إذا كان ممكناً قبول ما جرى الاتفاق عليه سابقاً أم لا؟
قائمة طويلة من الإشكاليات المطروحة اليوم على طاولة المفاوضات وكلها ألغام موقوتة ومواد سريعة الاشتعال من قبيل: القدس الشرقية، المستوطنات، الترتيبات الأمنية، حق العودة، ملامح وطبيعة الدولة الموعودة، الحدود، طبيعة وإمكانية تبادل الأراضي، ناهيك عن الملفات المتداخلة كالمياه والموارد الطبيعية والبيئة والكهرباء والتجارة والنقد والتداخل السكاني والعمالة والتنمية المستقبلية .. إلخ.
وهي مجتمعة بحسب إدارة أوباما قد قُتلت بحثاً ودرساً كما كشفت المراجعة التفصيلية عن وجود مسائل يمكن التقدم فيها ومسائل لازالت بحاجة إلى المزيد من المحاججة والمجادلة لكي يجري تركيز الجهد الأميركي والدولي عليها وهي ترى أيضاً أن ظروف وشروط السلام قد نضجت وأن هناك من عوامل التقارب ما يكفي للجلوس على الطاولة وجهاً لوجه والتوجه إلى وضع جداول التنفيذ معاً!!.
والمهم هنا هو إطلاق إدارة أوباما بعض التلميحات حول عقدها العزم للضغط باتجاه التوصل إلى اتفاق سلام خلال عام واحد (أيلول/ سبتمبر 2010- أيلول/ سبتمبر 2011) يتوج عهد أوباما بكامب ديفيد ثالثة تحقق وعد الدولة وتعيد ترميم الثقة في الشارع العربي بالمخلص الأميركي بعد عقود من الخيبات والإحباطات.

المفاوضات المباشرة.. آمالها وآلامها
صحيح أن طرفي الصراع وفقاً للمواقف المعلنة متمسكان بعدم أحقية اللجوء إلى الشروط المسبقة أياً كان نوعها أو موضوعها أو هدفها لكن المتابع لمسارات المفاوضات غير المباشرة وما سجلته من فشل ذريع باعتراف طرفيها - رغم المحاولات الأميركية للإيحاء بأن شيئاً ما قد تغير سواء فيما يتعلق بالظروف أو النضوج السياسي أو بتهيؤ البيئة للانتقال إلى المفاوضات المباشرة- يلمس جلياً ظهور الشروط الإسرائيلية المسبقة لاسيما فيما يتعلق باستئناف الأنشطة الاستيطانية بعد انتهاء فترة التجميد المؤقت(26 أيلول/سبتمبر 2010 ) وتزايد التلميحات الأميركية بإمكانية استمرار التفاوض في ظل استمرار البناء الاستيطاني والاكتفاء بإبداء الاستعداد للمساعدة في تجديد فترة التجميد والإشادة بدور واشنطن السابق في هذا المجال وتمكنها حسب رسالة أوباما إلى أبو مازن في 17 تموز/ يوليو 2010 من خفض وتيرة الاستيطان خلال السنوات الثلاث الماضية أكثر من أي وقتٍ مضى, وتمسك نتنياهو بربط حق العودة بحق الدولة وربط التقدم في المفاوضات بوقف السلطة الفلسطينية كل النشاطات المعادية لإسرائيل في المحاكم الدولية والأمم المتحدة وغيرها المتعلقة بتقرير جولدستون والرصاص المصبوب وأسطول الحرية والتحقيق الدولي.
المؤشرات الأولية - بحسب الكاتب اللبناني خليل حسين - تؤكد حقيقية " ذهاب الاحتلال إلى المفاوضات للاستماع إلى المطالب الفلسطينية لكن ليس بالضرورة تفهمها وتلبيتها بل للعمل على إنتاج مواقف تفاوضية سرعان ما تتحول إلى واقع يلغي المطالب السابقة وتتحدد اُطر جديدة فيها الكثير من التنازلات"، وهي الأسس التي طبعت جداول المفاوضات بشقيها المضمر والمعلن خلال عقدين من الزمن، فهل ستتبدل الأمور والقضايا والمسائل والأجواء في هذه الجولة المقدر لها عاماً من الزمن؟ لاسيما وأنها تنطلق هذه المرة بجدول زمني ربما سيكون الأطول من نوعه في عالم التفاوض وعالم النزاعات الإقليمية والدولية رغم تأطير خطة أوباما الجديدة جولاته بعام واحد للتوصل إلى اتفاق مبدئي إطاري يضمن الإقرار بخيار الدولتين لا التسوية الدائمة لأن مناقشة أدوات التنفيذ الخاصة بقضايا الحل النهائي قد تم ترحيلها عن قصد إلى السنوات العشر اللاحقة وهو ما يعني إمكانية استهلاك عملية الحسم قرناً أخر قياساً بموضوعات الحل الدائم وطريقة الاحتلال في إدارة النقاش حولها وفرض الشروط وقياساً بتباين المواقف حول الهدف الرئيسي لهذه المفاوضات.

أولاً: المواقف والأهداف
من العوامل المهمة الدافعة بكل الأطراف للذهاب إلى مائدة المفاوضات المباشرة والتوافق على التمسك بها وعلى تناولها كل القضايا الخلافية أنها " تريحها من الذهاب إلى الخيارات الأخرى المترتبة على فشل المفاوضات وهذا الخوف من الفشل يخفف عنهم صعوبة اتخاذ قرارات في خيارات الكل يدرك صعوبة تحققها" والأهم من ذلك كله إدراك إدارة أوباما أن هذه هي "لحظة الحسم التفاوضي في ظل قيادة عربية وفلسطينية قادرة على العطاء والتعامل المرن مع القضايا التفاوضية الصعبة" وأن "التفاوض المباشر وليس التدويل يظل المخرج الوحيد لإنقاذ عملية السلام" مؤكدة على لسان ديفيد هيل "مستشار ميتشيل" أن "نتنياهو قادرٌ على التوصل إلى سلام دائم مع الفلسطينيين وأن واشنطن ترى فيه شريكاً قوياً وملتزماً بالعملية السلمية".
نتنياهو هو الأخر – حسب الإعلام الإسرائيلي - باتت لديه قناعة بضرورة التعاون مع إدارة أوباما في التقدم نحو التسوية والإيحاء بأنه على عكس مواقف اليمين ومنها حزب الليكود يوافق على الانسحاب من 90 بالمائة من الضفة بل ولديه الاستعداد لرفع هذه النسبة إلى ما هو أكثر من ذلك خلال المفاوضات ما يعني وجود شبه توافق إعلامي على الأقل هذه المرة على خيار الدولتين عززته إدارة أوباما بالتأكيد على أنها الأكثر إلتزاماً بإقامة الدولة الفلسطينية باعتبارها المدخل الوحيد للسلام في الشرق الأوسط وبضرورة التفاوض دون قيود أو شروط مسبقة وإبداء عزمها لممارسة الضغوط لجعل المفاوضات أكثر جِدِّية ودفعها نحو نتائج مثمرة.

- الموقف الفلسطيني:
يطالب الطرف المفاوض بضرورة الوقف التام للاستيطان كشرط لتحقيق السلام - وهو الشرط الذي تم تغافله منذ أوسلو 1993- وبوجود مرجعية قانونية وسياسية توافق على إقامة الدولة الفلسطينية في حدود 1967 بما فيها المبادرة العربية وخريطة الطريق وقرارات الشرعية الدولية المتضمنة إقامة دولة قابلة للحياة ذات أراضي متصلة وحدود دائمة عاصمتها القدس الشرقية, فيما تصر الأطراف المعارضة على التمسك بحدود هدنة 1949 ورفض الاعتراف بيهودية الكيان وانسحاب المحتل من كامل أراضي الضفة والقدس والتمسك بالمقاومة وبحق العودة.
على أن الورقة الوحيدة المتبقية لدى المفاوض الفلسطيني والعربي من أوراق المساومة والضغط وهي "التهديد بالتوجه إلى المؤسسات الدولية للحصول على قرار أممي يقضي بإقامة الدولة الفلسطينية من جانب واحد وفقاً للقرار (1515) الصادر قبل ثماني سنوات", وهو ما ترفضه واشنطن جملة وتفصيلاً, الأمر الذي أدى إلى تولُّد المخاوف من تعمد الاحتلال "إضاعة الوقت" كالعادة وتحويل المفاوضات إلى ورقة داخلية لإطالة عمر حكومة نتنياهو دون الاهتمام بالتوصل إلى نتائج ملموسة ومحددة في ظل عدم تطابق وجهات النظر حول الهدف العام لهذه المفاوضات وعدم وجود ما يؤكد مصداقية هذا الخيار وصِدقِية الاحتلال في التعامل معه من منظور الحقوق والاستحقاقات التي عليه أن يقوم بها بصفته سلطة احتلال, ناهيك عن غياب الجدية الأميركية واستمرار تعاملها مع المفاوض الفلسطيني ليس كطرف سياسي له قدره واحترامه بل كملاكم ضعيف يمكن حصره في الزاوية ليتلقى المزيد من اللكمات دون اعتراض وإلا فإن المساعدات ستُحجب عنه ولذا فهو أكثر قابلية للتراجع عن شروطه قياساً بالجانب الإسرائيلي المتصلب على طول الخط.
على مستوى الأهداف: هناك رغبة عربية جامحة لإنجاح المفاوضات بأي ثمن لأنها ستخفف من فكرة الوطن البديل في الأردن ومن الامتداد السكاني تجاه سيناء المصرية، وهناك اعتقاد فلسطيني بأن الاكتفاء بدولة صغيرة سيفقدهم اهتمام العالم لذا فهم يأملون من وراء المفاوضات تحقيق ولو حد أدنى من الانجاز لعلى وعسى أن تتبدل معها العديد من المعطيات والمتغيرات بما يمكنهم من تحقيق أهدافهم وأحلامهم ليقارنوا بعدها بين وضعهم في ظل الدولة أو بدون الدولة وفي نفس الوقت يحافظوا على التأييد الدولي المتوقف حسب اعتقادهم أيضاً على تحرير أكبر قدر ممكن من وطنهم التاريخي.

- الموقف الإسرائيلي:
هناك اعتقاد سائد بأن التفاوض في كل مرة يؤول إلى الصفر لا إلى صفقة يكسب منها الطرفان من تقسيم أخر للأملاك التي رسمها الانتداب البريطاني والاعتقاد بأن أوباما الجائع إلى انجاز دبلوماسي يُحسب لإدارته والملجوم بمؤيدي نتنياهو في الكونجرس, سيكتفي بتسوية مرحلية يتم فرضها على الجانب الفلسطيني كأمر واقع, بما يسمح للاحتلال بمواصلة سياسته القائمة على أسرلة وتهويد كامل القدس وتسريع الاستيطان وجدار الفصل العنصري ونظام المعازل وإتاحة أطول مدة ممكنة لتغيير الخرائط الجغرافية على الأرض بما ينسف أي أمل لإقامة الدولة الموعودة وانتزاع أكبر قدر ممكن من التنازلات الفلسطينية والعربية, بعد النجاح في إقناع المفاوض الفلسطيني بأنه غير قادر على الوصول إلى حقوقه المشروعة إلا بالتفاوض وبأي ظرفٍ كان واقتناع الاحتلال ومحاولة إقناعه الآخرين بأن المفاوض الفلسطيني غير قادر على انتزاع أي موقف أو وعد لا تريده إسرائيل.
على مستولى الحلول: اقتناع الاحتلال وإدارة أوباما أيضاً بأن الحلول يجب أن تكون متعلقة بآثار حرب 1967 وليس بالعودة إلى حدود 1967 لأن ذلك لم يعد ممكناً وتالياً حصر معالجات ملف الاستيطان بالأنشطة العشوائية بعد العام 2001 وليس بآثار حربي 1948 و 1967 مع إمكانية التبادل للأراضي في ضوء الوقائع الميدانية وخطوط الانتداب البريطاني وربط الانسحاب من الضفة دون القدس الشرقية بالسلام الشامل والإصرار على مواصلة حصار غزة حتى تغير حماس من إستراتيجيتها مع الاكتفاء بالإشارة إلى طلب أبو مازن والتأكيد على أنه قد تحقق بشكل كبير.
على مستوى الأهداف: هناك رغبة جامحة لدى الاحتلال للتخلص من عبء السيطرة على الفلسطينيين لما تثيره من دعاوى دولية عن التمييز العنصري تجعل الاحتلال أمام اختبار صعب للبت بين الهوية اليهودية ونظام الحكم الديمقراطي, لذا فهو يرى أن إقامة دولة فلسطينية بالمواصفات الأمنية الإسرائيلية سيحل معضلة التداخل السكاني التي ليس لها حل لا عسكرياً ولا بالترحيل القسري كما أن ذلك سينقذ الاحتلال من حملة الإدانة والمقاطعة الدولية المتصاعدة ويقطع الطريق على مساعي تدويل القضية الفلسطينية وفي ذات الوقت يضمن لنتنياهو توظيف التفاوض في صراعه الداخلي لإطالة أمد حكومته دون إحراز أي تقدم ملموس ومحدد لأنه سينسف ائتلافه الحكومي ويخلق الكثير من المشاكل لإسرائيل .
نجاح الاحتلال في جعل المفاوضات بلا شروط مسبقة وبلا مرجعية وبلا آلية تطبيق مُلزمة ومن دون ضمانات حقيقية أو دور دولي وأميركي فاعل أو التزام إسرائيلي بالقانون الدولي والقرارات الأممية, يعنى التوقيع على بياض لإعطاء الاحتلال الغطاء السياسي والقانوني اللازم للاستمرار في سياسته وللتهرب من استحقاقات السلام معززاً بشماعة الانقسام الفلسطيني والتمزق العربي وتوظيف المفاوضات لتعميق هذا الانقسام والتمزق باعتباره واحداً من أهم منجزات إسرائيل الأمنية والتشديد على ضرورة بناء وترقية مؤسسات السلطة الفلسطينية من أسفل إلى أعلى بما يتناسب مع مستوى الدولة الموعودة والذي رغم الخطة الشاملة التي أعلنتها حكومة فياض في 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2009 لإقامة مؤسسات الدولة خلال عامين فما نجده هو عدم إيفاء الإدارة الأميركية حتى الآن بوعودها للمساعدة والإخلال بوعدها فيما يتعلق بتجميد الاستيطان تحت ذريعة مراعاة أولويات الحكومات الإسرائيلية بما فيها المخاوف من دفع التقدم في ملف الاستيطان نحو مواجهة داخلية مع المستوطنين من غير أن يُحل الصراع.

ثانياً: خطة أوباما للسلام:
حرصت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة "كوندا ليزا رايس" على انجاز مشروع لاتفاقية تسوية قبل انتهاء ولاية بوش وتسليمها لإدارة أوباما قبل مغادرتها الوزارة وهي وإن كانت لازالت محاطة بالكثير من الألغاز والتكتم لكنها في طابعها العام لا تخرج عن مضامين اتفاقية كامب ديفيد الثاني لعام 2000 الموقعة في عهد بيل كلينتون, والمبدي يومها كلاً من أيهود باراك وياسر عرفات الاستعداد للتعاون معها ووصول المفاوضات بينهما إلى مخطط تقسيم القدس وملف السيادة وبموجبها أتت خارطة الطريق لعام 2003 وتحفظات شارون ووعد بوش 2004 وتوصيات أنابوليس 2007 وكلها تم أخذها بالحسبان من قبل إدارة أوباما مع إجراء بعض التعديلات اللازمة لإتمام ما بدأته الإدارات السابقة والإعلان عن احتلال السلام في الشرق الأوسط الأولوية في العهد الجديد معززاً بتعيين جورج ميتشيل بعد يوم واحد من تسلم أوباما السلطة مبعوثاً خاصاً للسلام في الشرق الأوسط, المبادر بدوره إلى بذل كل المساعي لتقريب وجهات النظر دون الوصول إلى نتيجة ملموسة باستثناء إخراج مسرحية التجميد الجزئي للاستيطان لمدة 10 أشهر مشروطاً بتدشين مفاوضات غير مباشرة لمدة أربعة أشهر تكون مقدمة لمفاوضات مباشرة, مدعمة بإخراج عدة توافقات أميركية - إسرائيلية حتى تنجح المفاوضات وتبدو وكأنها قد حققت تقدم يمكن الإعلان عنه أو على أقل تقدير يمكن أن يشكل مقدمة لاتفاق إطاري أولي يتم توقيعه في حديقة البيت الأبيض ويُسجل كإنجاز تاريخي لإدارة أوباما ولميتشيل الذي سيكون من الصعب عليه وعلى إدارته التسليم بالفشل.
هذه التوافقات شملت الإقرار بضرورة دفع المفاوضات نحو إقامة الدولة الفلسطينية خلال لقاء أوباما- نتنياهو في تموز/ يوليو الماضي وتسليم الأخير خريطة تفصيلية لمناطق في الضفة الغربية لإدارة أوباما قال إن حكومته ستسلمها تدريجياً للسلطة الفلسطينية خلال المرحلة الانتقالية لإقامة الدولة الموعودة, وإيجاد تخريجه جديدة لإشكالية الاستيطان ما بعد انتهاء فترة التجميد قضت بالتوافق بعد مفاوضات مطولة بين وزير استخبارات الاحتلال "دان مريدور ودينس روس" على تقسيم المستوطنات إلى نوعين, يشمل الأول: مستوطنات يُفترض أن تبقى جزءً من إسرائيل بعد التسوية وهي الكتل الكبيرة المتاخمة لخطوط هدنة 1949 (الخط الأخضر) وهذه توافق واشنطن على استئناف البناء فيها بحلول نهاية التجميد معززاً بالإعلان عن مشروع يقضي ببناء 20 ألف وحدة استيطانية بدءاً من تشرين الأول/ أكتوبر 2010 وحتى العام 2020، أما الثاني فيشمل: مستوطنات يُفترض الانسحاب منها في إطار اتفاق سلام دائم لأنها بُنيت في الأساس لغرض التفاوض بعد عام 2001 وعددها 250 مستوطنة عشوائية ومعزولة وذات كثافة سكانية خفيفة وهذه تصر واشنطن على تجميد الاستيطان فيها, والمهم في هذه التخريجة هو إصرار نتنياهو على أن تتم دون الإعلان الرسمي عنها وهو بذلك يكون قد ضمن سلفا تهدئة واشنطن والسلطة الفلسطينية وعدم إغضاب اليمين الإسرائيلي في الائتلاف الحاكم.
هذه المقدمات تم تتويجها بمفاوضات مطولة بين إدارة أوباما ممثلة بـ"دنيس روس ودان شابير وديفيد هيل وجورج ميتشيل" وبين تل أبيب ممثلة بقادة المنظمة اليهودية بواشنطن قبل الكشف عن خطة أوباما الجديدة نهاية آب/ أغسطس الماضي والتي تحمل عنوان " الاتفاق الآن، أما السلام فلاحقاً " والمتضمنة إطلاق مفاوضات تتعلق بالدولة الفلسطينية وكيفية إخراجها وإعلانها خلال عام تفاوضي واحد (أيلول 2010- أيلول 2011) يجري خلاله طاقمي التفاوض الفلسطيني والإسرائيلي مباحثات مكثفة وأكثر جدية في كل من واشنطن والقاهرة وفلسطين المحتلة والأردن وعقد لقاءات دورية بين نتنياهو وأبو مازن اقترح الأول عقدها كل أسبوعين لتذليل العقبات التي تعترض لجان التفاوض وقيام واشنطن بإرسال " دنيس روس وديفيد هيل وجورج ميتشيل" إلى المنطقة للمساعدة وزيارة أوباما لإسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة خلال عام التفاوض لضمان تأييدهما تسوية مؤلمة تكون مدخلاً لسلامٍ دائم.
المثير في الأمر, اقتصار تركيز خطة أوباما على جعل هدف عام التفاوض متعلق بالدولة الفلسطينية وكيفية إخراجها وإعلانها وتوجيه الاهتمام لمسألتي الحدود والأمن لضمان اختتام عام التفاوض بتوقيع أطرافه اتفاقية إطارية أولية تُقر بخيار الدولتين كمخرج وحيد للسلام الدائم تتبعها مرحلة انتقالية من عشر سنوات لحسم باقي القضايا العالقة المتعلقة بالوضع الدائم.
وواشنطن بذلك تعتقد أن وجود اتفاقية إطارية أولية تضمن قيام الدولة الفلسطينية, سيحقق صِِدقِية الوعد الأميركي ويعيد ثقة العرب بالإدارة الأميركية ويحول المفاوضات بعد تحقق الكينونة الفلسطينية في صورة دولة إلى مستوى تفاوضي جديد على مستوى دولة وأخرى, حينها قد تختلف معالجة القضايا العالقة الأخرى ولا يهم بعدها أن يطول زمن التفاوض ما دامت الكينونة الفلسطينية قد تحققت وما دامت واشنطن تملك الحق الحصري لتحديد من أفشل المفاوضات.
والأكثر إثارة, هو مصاحبة الضغط الأميركي غير المسبوق لإطلاق المفاوضات برفض موازي لأي محاولة عربية لتدويل القضية الفلسطينية في حال فشلت وأنفذ العرب تهديدهم بتدويل القضية, وواشنطن بذلك تدرك مدى خطورة التدويل في تمكين العرب من إعادة تجميع أوراق القوة والضغط المتساقطة على طاولة المفاوضات وتمكينهم من المناورة السياسية في أي مفاوضات مستقبلية على قاعدة رفض أي مشاركة مالم تكن مرجعيتها إنهاء الاحتلال وتطبيق القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية, والذي سيعني حينها تقوية تيار الممانعة العربية وخلق الكثير من المشاكل لإسرائيل وللسياسة الأميركية بالمنطقة ولقوى الاعتدال العربي على حدٍ سواء.
من هنا أتى التحذير الأميركي من أن البديل للمفاوضات هو زيادة التطرف على الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني وزيادة تعقيدات عملية التسوية كلما طالت المشكلة ومما يعزز ذلك وجود عناصر رسمية وغير رسمية بالمنطقة ترمي إلى نشر الاضطرابات والحروب لتخريب العملية السلمية مهما كلف الأمر ولذا فقطع التفاوض واستمرار تقاذف الاتهامات من شأنه زيادة توقعات الصدامات الفلسطينية الداخلية ومع إسرائيل وتهيئة البيئة لشن إسرائيل حروباً جديدة من أجل الأمن على حزب الله وحماس وإيران عكس الاستمرار في التفاوض .

نتائج مابعد المغامرة التفاوضية
تشي جولات المفاوضات المباشرة حتى الآن بأننا أمام مغامرة تفاوضية مرصودة على تداعيات كبيرة لاسيما وأن الإدارة الأميركية المفترض بها ممارسة دور الوسيط النزيه والمحايد وممارسة ضغوط متوازنة على أطراف الصراع على اعتبار أنها تهدف من وراء هذه المفاوضات الدفع نحو إمكانية فتح الباب أمام العملية السلمية على المسارين السوري واللبناني, لكنها رغم الضجيج الإعلامي الكبير, لم تُصدر - حتى الآن - أي احتجاج رسمي أو مواقف يُعتد بها على الشروط الإسرائيلية التعجيزية حول المفاوضات والتسوية ولا على مواصلة الاحتلال الاستيطان وفي هذا دلالة واضحة على أن هذه المفاوضات قد جرى الإعداد لها باكراً لتحقيق أغراض أخرى لا تتصل بالضرورة بعملية السلام بقدر ما هي متصلة بتحقيق سياسة أميركية وإسرائيلية تتعلق بإعداد شروط خاصة للعملية السلمية تُسهّل فرض شروط الاحتلال التعجيزية سواء ما كان منها متصلاً بمواصفات الدولة الفلسطينية المنزوعة السلاح والاعتراف بيهودية الكيان وعدم أحقية هذه الدولة بإبرام اتفاقات أمنية مع أي دولة أخرى وبسط الاحتلال سيطرته على حدودها مع الأردن ومصر وإسقاط حق العودة والانفراد بالقدس أو ما كان متصلاً بربط تمديد فترة التجميد الجزئي للاستيطان ثلاثة أشهر أخرى بالاعتراف بيهودية الكيان وليس الإيقاف الكامل كما يطالب المفاوض الفلسطيني المعتقد بدوره أنه عاجز عن التسليم بيهودية الكيان في غياب أي تسوية عادلة وشاملة تتصل بالمقدسات واللاجئين وحدود الدولة الموعودة أو ما كان متصلاً بإصرار الاحتلال على جعل الأولوية لحسم إشكالية الترتيبات الأمنية الإسرائيلية قبل الانتقال إلى مناقشة ترسيم حدود الدولة الموعودة وتوقيع الاتفاقية الإطارية للسلام.
والحقيقة أن ما يطمح إليه الاحتلال على الدوام هو إنجاز ما أسماه نتنياهو في كتابه "مكان تحت الشمس" بـ "سلام الردع" والذي يعني بكل بساطة "جعل أي تسويات سلمية منوطة بقدرة الكيان على ردع الطرف الثاني عند خرقها وشن حرب جديدة عليه".
لذا فكل التوقعات من المفاوضات المتجددة لا تتجاوز حسب المحلل السياسي لصحيفة "هآرتس" آلوف بن "الصفر" لأن "غالبية جمهور الاحتلال لا يهمه الفلسطينيين وإنما يكتفي بالتهدئة الأمنية وقلائل هم المعنيون بالعملية السياسية وهم يعتقدون أن نتنياهو غير جدي في المفاوضات ويريد كسب الوقت فقط من خلال مفاوضات واهية".
إذن فنحن أمام مفاوضات عبثية ومحكومة بالفشل مسبقاً بل وستكون أسوأ من سابقاتها فهي غير محكومة حتى بمرجعية يتم تجاوزها من حكومات الاحتلال كما كان في السابق أي لا يحكمها شيء وهي تفتقر لغطاء عرب الممانعة أي أن ثمة بيئة سياسية عربية غير ملائمة لانطلاقها في حين أن التغطية تتطلب شروطاً ووقائع إضافية في غير ساحة عربية مشتعلة أو مهيأة لذلك كالعراق ولبنان وغزة مثلاً.
وكل هذا يعزز من توقعات انتهاء هذه المفاوضات إلى "صفر كبير" مع مرتبة الشرف, مصحوباً بآثار كارثية غير محمودة العواقب على المنطقة لعلى من أخطرها: تعزيز هوة الانقسام داخل الصف الفلسطيني وحشر المفاوض الفلسطيني والدول العربية الداعمة في مأزق تفاوضي صعب بل وقاتل وتوسيع الهوة بين عرب الاعتدال وعرب الممانعة وإعطاء الاحتلال الضوء الأخضر لرفع الستار عن المشهد الأخير للهيكل المزعوم وصرف الجهود العربية نحو موضوعات أخرى كإيران أو بعض التنظيمات الموصوفة في الأدبيات الغربية والأميركية بالإرهابية أو ضمان الصمت العربي بعد ضمان رفع وتيرة التطبيع الجماعي مع الاحتلال على أي عدوان إسرائيلي جديد في لبنان أو غزة أو إيران بالتوازي مع استمرار الضغط الإقليمي والدولي على السلطة الفلسطينية لضمان استمرارها في المفاوضات.
وفي المحصلة فالمطلوب بحسب الكاتب اللبناني عبدالوهاب بدر خان "مفاوضات غير فاشلة وغير ناجحة في آن، لأن الفشل يفاقم صعوبات محمود عباس، فيما النجاح يطيح بحكومة نتنياهو، والمطلوب تحسين نوعي للأوضاع، مفاوضات تعزز من وضع السلطة الفلسطينية مع الحفاظ على الانقسام بين الضفة والقطاع، والمطلوب عدم حسم ملفات الحل النهائي، فلا إسرائيل جاهزة للسلام، ولا المفاوض الفلسطيني يستند إلى سلطة تغطي كل مناطقه وجميع شعبه، والمطلوب معاودة توسيع الاستيطان، لقاء إزالة بعض الحواجز وإتاحة بعض التسهيلات، لكن مع مواصلة إذلال المواطنين الفلسطينيين وإهدار كرامتهم وهدم البيوت وإنفاذ قرارات الإبعاد واستمرار حصار غزة، كما أن المطلوب فلسطينياً وعربياً عدم المساهمة في الحملات الدولية المتعلقة باتهام إسرائيل بجرائم حرب وقرصنة وجرائم ضد الإنسانية" .
Al-mahbashi@maktoob.com

الأحد، 1 أغسطس 2010

الناهض التركي في الشرق الملتهب

بقلم زيد يحيى المحبشي
"لا أحد يحقق الربح من الحقد والكراهية سوى تجار الأسلحة وبارونات الحروب والمحاور الإرهابية .... من حوَّل المنطقة إلى ما هي عليه اليوم؟ ... يجب أن يقدم حساباً للتاريخ .... إذا سكتنا عن الظلم فسوف تصطك عظام السلطان محمد الفاتح [أول من دخل القسطنطينية] والسلطان سليم الأول [أول من قاد حملة التوسع العثماني شرقاً في القرن السادس عشر] نحن من جهتنا نؤمن بوجود حل .... ليس عندنا من شبهة في وضوئنا لكي نشتبه في صلاتنا .. لكن البعض لا ينظر إلاَّ إلى مصالحه!!".
كلام دقيق وواضح صرح به رئيس الحكومة التركية "رجب طيب أردوغان" وهو يخاطب المنتدى الاقتصادي والسياسي "التركي - العربي" الذي انعقد بمدينة اسطنبول في 10حزيران/ يونيو2010, واراد من خلاله إزالة اللبس حول العودة التركية القوية إلى حديقتها الشرقية, وما أثارته تلك العودة من جدل واسع في السنوات الثماني الأخيرة, في وقتٍ تشهد فيه علاقات تركيا مع جوارها الغربي نوعاً من الفتور, بفعل الشروط الأوربية التعجيزية الحائلة حتى الآن دون دخول تركيا ضمن عضوية "النادي الأوربي" بعد مرور 51 عاماًً من المحاولات الجادّة للانتماء إلى "الجنة الأوربية" (1959 - 2010) فضلت خلالها تركيا الانكفاء داخل هضبة الأناضول والاكتفاء بلعب دور الدولة الطرفية أو الهامشية الدائرة في فلك التبعية السياسية والاقتصادية والأمنية للغرب الأوربي وحلف الناتو, مع ما ترتب على ذلك من تعميق القطيعة شبه التامة مع الشرق منذ 1923 ولغاية العام 2003, ثمانون عاماً كانت تركيا خلالها الغائب الحاضر في الشرق الأوسط , أي منذ أن قرر أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة استبدال الخلافة العثمانية والمبادئ الإسلامية والشرق بأسره, بالدولة الديمقراطية والمبادئ العلمانية والغرب, طاوياً بذلك نحو 400 عام (1600 – 1923) من الارتباط والاتصال "العربي – العثماني". في حين كان للصدود والجفاء الغربي دورٌ كبير في ظهور صحوة متنامية في الأوساط التركية, أفسحت المجال أمام بروز التيارات الإسلامية ووصولها إلى الحكم عام 2002, وعودة الحنين إلى المشرق العربي بقيادة حزب العدالة والتنمية لأول مرة في تاريخ تركيا الحديثة.
أردوغان وهو الذي تعهد في برنامجه الانتخابي الذي أوصله وحزبه إلى حكم تركيا عام 2002 بالعمل على تكثيف الجهود للانضمام إلى الاتحاد الأوربي والسوق الأوربية المشتركة, لا يزال يرى أن دخول النادي الأوربي لا يتعارض مع التوجه شرقاً, بل أن ذلك – حسب رأيه - من شأنه خلق توجه شرقي موازي وداعم للتوجه الغربي بما يجعل من تركيا جسراً للتواصل الثقافي والحضاري بين الشرق والغرب, الأمر الذي يرتب أثاراً ايجابية قد تسهم في تحقيق الأمن والاستقرار في الشرق الملتهب.
من هنا أتت أهمية التوجه التركي الجديد لخلق خط شرقي عربي موازي للخط الغربي الأوربي عنوانه: " الأمن والسلام للجميع, والحوار والتعاون مع الجميع", وأدواته: "الدبلوماسية الوقائية الإستباقية, والحوار البنَّاء, والابتعاد عن لغة الإقصاء والسلاح والحصار", لا سيما وأنه توجه يأتي بعد مرور عقدين من المحاولات الإقليمية والدولية لإعادة السلام إلى الشرق الأوسط, دون جدوى, بل صارت المنطقة بموجبها كتلةً ملتهبةً من الأزمات المتناسلة والمتشابكة والمعقدة, في وقتٍ لازالت نظرة البعض ذات أفق مصلحي ضيق.

تركيا الناهضة ... حقيقة أم وهم؟
تركيا اليوم لم تعد دولة عادية أو عابرة, بل أضحت ركناً أساسياً في منظومة الأمن الإقليمي الشرق أوسطي, بالنظر إلى التشارك الجغرافي والتاريخي والحضاري والثقافي مع العرب والمسلمين, ولم يعد بمقدورها إدارة ظهرها لامتدادها الإسلامي والعربي, كونه يمثل العمق الاستراتيجي لأمنها القومي وللأمن الإقليمي على حدٍ سواء, ولذا فهي ترى أن من حقها, وقد توجهت نحو الشرق, أن تعيش كل قضاياه, إن لم يكن بحمل الهموم فعلى الأقل بالمعرفة والمعلومات وإبداء الرأي, لشعورها بأن كل أمرٍ يمر في هذه المنطقة, بات شأناً تركياً داخلياً, سواء بالمشاعر الإسلامية المشتركة أو بالمخاطر الجغرافية المتقاربة أو بالمصالح الاقتصادية المتزايدة.
مواقف كثيرة تُحسب لصالح الدبلوماسية التركية الجديدة في السنوات الأخيرة؛ إذ لا يكاد يخلو شهرٌ من استضافتها مؤتمراً إقليمياً أو إطلاقها مبادرةً حيال الشرق الأوسط, في تعبير صادق عن مقولة الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني الشهيرة قبل عشرات السنين: " إننا حين نقف مع الإنسان فذلك شيء لا علاقة له بالدم واللحم وتذاكر الهوية وجوازات السفر" , وهذا لا يُلغي حقيقة وجود الكثير من الخطوط الحمراء التي لا يمكن لأي لاعب إقليمي مهما كانت ايجابيته أن يتجاوزها, بل وتجعله مضطراً للتحرك في حدود المعادلة الإقليمية القديمة الجديدة التي لازالت تحكم المنطقة منذ عقود وهي: "اللعب فوق الصفر وتحت التوريط ".
آمال كبيرة تُعلق على الدور التركي, بالنظر إلى البداية الجيدة التي اختطها إزاء القضية الفلسطينية بصورة خاصة, ومدى تمكنه من زف نهاية سعيدة لحقبة سوداء عاشها الشعب الفلسطيني, تعيد للقضية الفلسطينية اعتبارها, مثلما نجحت سفينة مرمرة التركية ( 31 أيار/مايو 2010) في فرض غزة وحصارها من جديد على طاولة اهتمامات العالم, بعد مرور ثلاث سنوات من الصمت العربي والدولي, كما هي الآمال في تمكنه من تغيير المناخ العام الذي أدى إلى تراكم الهزائم في هذه المنطقة المنكوبة من الأرض.
تركيا الناهضة اليوم أضحت ملاذاً أو أملاً – حقيقةً كان ذلك أو وهماً - لكثير من العرب, في ظل النظرة الايجابية إليها عربياً, على اعتبار أنها غير منافسة, ولا تستبيح أرض العرب, ولا تتدخل في شؤونهم الداخلية ولا تثير الحساسيات السياسية والمذهبية, وكل هذا يجعلها تحظى بالقبول والترحيب لكن ضمن " سقف الثوابت العربية والدور العربي" الذي حدده "عمرو موسى" أمين عام جامعة الدول العربية في خطابه الأخير أمام المنتدى الاقتصادي والسياسي "العربي – التركي" مشيراً إلى أن: "العرب يرحبون بالدور التركي, كما يرحب الأتراك بالدور العربي المتصاعد والأدوار المشتركة التي يستطيع الطرفان لعبها" والمتمحورة في ثلاثة عناوين هي: "فلسطين, الأمن الإقليمي, التقدم والرفاه", دون أن يفوت موسى التأكيد على أهمية التشارك "العربي – التركي" في "التاريخ والفكر والأمل, وتحقيق الاستثمار الأمثل لتعزيز المصالح المتبادلة في مستقبل العلاقات, وتحصين المنطقة وإخراجها من حالة الإرهاق وإمكانيات التفجير في أي لحظة إلى أُُفقٍ رحب في البناء وتوفير الحياة الكريمة لشعوبها", والذي سيكون له أثره الايجابي في تحسين قدرة تركيا على مخاطبة الغرب وأميركا مستقبلاً في مختلف الاحتياجات والمطالب التركية والشرق أوسطية المستعصية التنفيذ حتى الآن.
تساؤلات كثيرة تُثار اليوم حول مستقبل الدور التركي في المنطقة ومدى قدرته على جلب الأمن والسلام والرفاه وإعادة مجرى التاريخ إلى طبيعته, دون إلحاق الضرر بعلاقات تركيا الإستراتيجية والتقليدية مع الغرب وأميركا وإسرائيل على وجه التحديد, وهو ما نحاول الوقوف على حقيقته في هذه القراءة السريعة للرؤية التركية الجديدة لحل أزمات المنطقة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية, باعتبار أنها كانت ولا تزال تمثل القضية المركزية الأولى للأمن الإقليمي, وكلمة السر الوحيدة لأي لاعب يريد أن يلعب دور فوق العادة, والمقياس الحقيقي لمعرفة درجة نجاح أو فشل الأدوار الإقليمية والدولية المتداخلة والمتناقضة أحياناً, لا سيما وأن هذه الأدوار ما كان لها أن تشق طريقها إلى المنطقة وأن تفرض أجندتها على خيارات الحرب والسلم فيها, لولا تخلي العرب منذ اتفاقية كامب ديفيد (1979) عن قيادة وإدارة عملية السلام وتسليم معظم أوراقها لأميركا, ما يجعل الوافدين عليها من خارج المحيط العربي مضطرين للعب والمناورة في إطار الشرعية الدولية والقرارات الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي, وبالتالي جعل التسوية الدولية شرطاً أساسياً لأي تسوية إقليمية يُراد لها النجاح.
وهذا لا يلغي حقيقة استفادة الوافد الإقليمي من حالة الفراغ والالتباس التاريخي التي تمر بها المنطقة, ونجاحه النسبي في سد الفجوة التي خلَّفها غياب الدور العربي وانهيار نظام الأمن الإقليمي العربي عقب انتهاء الحرب الباردة, وما أفرزته من أحداث شكلّت مفرداتها لوحة متشائمة لعالم عربي منقسم على نفسه بنفسه لمصلحة غيره, ومستاء من بعضه البعض ومن الآخرين وساخط على نفسه وعلى الآخرين, ولوحة متشائمة أخرى لعالم عربي وإسلامي يعيش وسط دوامة من الالتباس السياسي والجيوستراتيجي, وتضارب وتعارض المصالح والسياسات إلى درجة التناقض بين دوله من جهة, وبينها وبين القوى الكبرى من جهة ثانية, وبينها وبين القوى الإقليمية الصاعدة من جهة ثالثة.
الثغرة التي تركتها واشنطن في عملية السلام وسمحت لإسرائيل بتثبيتها منذ تسلمها إدارة هذا الملف من العرب, ووقوفها على طول الخط إلى جانب إسرائيل, هي الأخرى كانت ولا تزال مفتوحة لكل من يرغب في لعب دور فوق العادة في الشرق الأوسط, في ظل عجز العرب المكشوف عن سدها, وتركهم الباب مفتوحاً على مصراعيه لكل من يريد خوض ميادين الحروب التي لا يعتبرونها ضرورية, وخوض معارك السلم التي لا يرونها خيارهم الوحيد, لاسيما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية, وما انبثق عنها من صراعات وتباينات عربية مخجلة وغير مفرقة بين ما هو ايجابي وما هو سلبي في التدخلات الإقليمية, بصورة أضحت معها المنطقة اليوم واقعة أمام خيارين هما:
1- خيار الحرب: تبدو إسرائيل وكأنها في تفاهم ضمني وموضوعي مع إيران حول هذا الخيار, فهما لا يؤمنان بالتسوية السلمية, وإن أبدى الطرف الأول: نوعاً من المراوغة البعيدة كل البعد عن متطلبات التسوية لترسيخ وجدوده وتنفيذ مشاريعه الاستيطانية التوسعية واستكمال مخططاته التهويدية, وأجاد الطرف الثاني: استثمار نهج المقاومة لترسيخ نفوذه وتحصيل وتحصين مصالحه وتوظيف عدائه الواضح لإسرائيل وأميركا وزعامته لمحور الممانعة في مواجهة محور الاعتدال وخيارات التسوية السلمية لتمرير أجندته وتوسيع نفوذه الإقليمي.
2- خيار السلم: تبدو إسرائيل - والكلام للكاتب التركي عبدالوهاب بدر خان - وكأنها في خصام علني وموضوعي مع تركيا حول هذا الخيار, وإن كانت الأخيرة ليست على عداء مع أميركا وإسرائيل, وترى أن هناك نهج اعتدال ينبغي تفعليه, دون أن تنجر للانضمام إلى أيٍ من محوري الممانعة أو الاعتدال, كما أنها كغيرها من دول المنطقة ترى أن مصلحتها تقتضي وجود سلام شامل وعادل ودائم في منطقة الشرق الأوسط, وتجد نفسها قادرة على إحداث فرق فيها عبر الوسائل الدبلوماسية السلمية, بالنظر إلى المكونات المشتركة مع العرب والمسلمين والميولات والاهتمامات والارتباطات مع الغرب وحلف الناتو, والعلاقات التقليدية والإستراتيجية مع أميركا وإسرائيل.
وهذا بطبيعته يمنح تركيا ميزة "المكانة الرمادية" بين العرب وإسرائيل - حسب السفير الأميركي السابق صمويل لويس- ويؤهلها أكثر من غيرها للقيام بدور أساسي في مجمل السياسات والمعادلات الإقليمية الإستراتيجية, بالنظر إلى اتسام تعاطيها حتى الآن مع مجمل التعقيدات الإقليمية القائمة بالهدوء والعقلانية, كما يمنحها في الحدود الدنيا عوامل قوة إضافية للحديث مع الجميع من دون مواربة حول أكثر من ملف, والإسهام في رسم معظم المعادلات السياسية القديمة والجديدة, وإجبار الدول الكبرى على الحديث وفتح كل القنوات معها حيال القضايا العاصفة بالمنطقة, وهناك حديث متنامي في الآونة الأخيرة داخل البيت الأبيض حول التوجه لإعطاء تركيا دوراً أكبر في إعادة تفعيل عملية السلام وتأهيل شركاء السلام العرب.
تقاطعات الأحداث الإقليمية في السنوات الأخيرة هي الأخرى تشي مفرداتها أن تركيا باتت لاعباً إقليمياً محورياً في طريقه للتحول إلى مركز تواصل أساسي في السياسات الإقليمية والدولية, فهل ستنجح تركيا في المدى المنظور في القيام بدور صانع السلام في الشرق الأوسط؟ أم أنها ستكتفي بمساندة ومساعدة المبادرات الأميركية؟ وبمعنى أخر: هل نحن أمام لاعب تركي أصيل أم لاعب تركي بالإنابة؟.

رؤية جديدة لشرق أوسط جديد
من المُسلَّم به أن: "التاريخ لا ينتظر أحداً، لأن عجلته تدور بمن حضر في مجراه وامتلك إرادة الانخراط في صناعة أحداثه", وهذا يتطلب بدرجة أساسية "مجازفة إقليمية مدروسة ومحسوبة النتائج" لأنها شرط رئيس من شروط التأهل للقيادة لأي دولة تريد أن يكون لها صوت مؤثر ومسموع في السياسة الدولية وتكون محل احترام الدول الكبرى وتكون قادرة على أداء أدوار إقليمية فاعلة ومؤثرة.
في الحالة التركية يبدو أن المؤشرات التي أطلقها حزب العدالة والتنمية حتى الآن, تصب في هذا الاتجاه, ما نجد دلالاته في حدوث الكثير من التحولات والتبدلات داخل تركيا وفي التعاطي التركي مع محيطه, والتي ما كان لها أن تحدث لولا وصول الحزب إلى الحكم محمّلاً برزمة من الإصلاحات الاقتصادية بعيدة المدى, أضحت تركيا تحتل بموجبها المرتبة الـ 17 على مستوى الاقتصاد العالمي, والسادسة على المستوى الأوربي, بما وفره ذلك من استقرار اقتصادي كان له أثره الايجابي للتوجه إلى تدشين المرحلة الثانية المتمثلة في رزنامة متكاملة من الإصلاحات السياسية الهادفة إلى انجاز الاستقرار السياسي الداخلي, وهي الاصلاحات التي أعدها منظر الحزب أحمد داود أوغلو كمرحلة أولى تلتها مراحل أخرى لمحاكاة دول الجوار وحل المشكلات معها, تمهيداً للانتقال إلى الدائرة الأوسع المتمثلة في إعمال سياسة العمق الاستراتيجي بما يتوازى مع مخرجات التغييرات الداخلية.
وقد قطعت تركيا شوطاً كبيراً حتى الآن سواء في الانفتاح الاقتصادي والدبلوماسي على القارة السمراء, المنظور إليه على أنه يأتي على حساب الغرب وبمثابة اختراق للمحرمات الأميركية؛ أو في الانفتاح على الشرق العربي والإسلامي, المنظور إليه على أنه يأتي على حساب إسرائيل, وفي كلى الأمرين بدت المحددات السياسة الخارجية الجديدة في طريقها إلى التبلور, ولكنها هذه المرة لم تعد مقتصرة على العامل الاقتصادي والدبلوماسي, بل تجاوزته إلى الاندفاع للعب دور الوسيط في كافة ملفات المنطقة الملتهبة, في سباق مع الزمن لإعادة الهدوء والسلام إليها, باعتباره أحد استحقاقات الدور الجديد وأحد عوامل ضمان جني الفوائد الاقتصادية, خصوصاً وأنه يأتي كنتاج طبيعي للنجاح الاقتصادي الداخلي وللنجاح في مواجهة الجيش الذي أصبح عاجزاً عن القيام بالانقلابات, بعد أن حمل حزب العدالة والتنمية على عاتقه مسؤولية تذليل عقبات الانضمام للاتحاد الأوربي, باعتباره قدراً جغرافياً, والموازنة في التوجه شرقاً, باعتباره قدراً سياسياً وتاريخياً, كما نجح في تبديد المخاوف مع دول الجوار دون استنفار الداخل أو الخارج, وفي موازنة العلاقات مع دول الشرق سواء المصنفة ضمن محور الممانعة أو المحسوبة على محور الاعتدال.
تركيا "الأردوغانية" بدت أيضاً أكثر حرصاً في الآونة الأخيرة على الإيحاء بأن توجهاتها الجديدة نابعة في إطارها العام من قرار سياسي مستقل, من دولة ذات سيادة, تنحت خياراتها من تطلعات شعبها ومن نموذجها الديمقراطي العصري, المؤمن بالمبادئ التي تقوم عليها الدولة الحديثة, وعليه فتعاملاتها مع دول المنطقة لا تخرج عن إطار الاحترام المتبادل وحق الجميع في العيش بأمن وسلام, معززةً ذلك بالإعلان في الثالث من آذار/مارس 2010 عن رؤية جديدة للارتقاء بالمنطقة, تضمنت خطوطها الرئيسية: "إنشاء حوار سياسي على أرفع المستويات بين قادة المنطقة بعيداً عن الحساسيات العقدية والمذهبية والعرقية، ووضع منهج جديد لحل أزمات الشرق الأوسط ذات الطابع الأمني, وترسيخ مبدأ الاستقلالية الاقتصادية عن الخارج, وفتح الحدود أمام التبادلات التجارية, وتحقيق التكامل الاقتصادي والاستقلال قدر الإمكان عن الاعتماد على الأطراف الخارجية, وتحقيق الاندماج والتعايش بين كل الأديان والثقافات والأحزاب داخل بلدان الشرق الأوسط , ووضع مقاربة لتغيير نمط التفكير بما يخدم الابتكار والإبداع للنهوض ببلدان المنطقة", والأهم مما سبق اعتبار إسرائيل عامل عدم استقرار في المنطقة, وتأكيد رفض السماح لها بالغزو أو شن حرب جديدة في المنطقة.
الخطوات التركية المتسارعة لخلق توجه شرق أوسطي يقوم على قاعدة الاقتراب من كل الإشكاليات, قد تحمل في بعض الأحيان اندفاعاً هنا أو هناك, لكن ضمن منظومة متكاملة من الضوابط الكفيلة بتمكين تركيا من أداء دور يتناسب مع طاقاتها ووزنها وإمكانياتها الحقيقية ويتلاءم مع حجمها ومع تمثيلها لخيار شعبي يريد مواقف تركية سيادية غير تابعة لأميركا وغير غاضبة على أوربا وليست في جيب إسرائيل وغير منافسة أو بديلة للأدوار الإقليمية الأخرى أو متناقضة مع الأدوار الدولية أو متحدية للجيران, ويريد لحكومته أن تلعب دور أكثر استقلالية ويحظى باحترام وقبول كل الأطراف, خصوصاً فيما يتعلق بالجهود المبذولة لخفض التوترات الإقليمية, ومنع أسباب الصراعات والانفتاح على الجميع والابتعاد عن سياسة البعد الواحد, وهي بذلك تراهن على ضرورة إدراك الغرب الباحث دوماً عن السلام في الشرق, أن سياساتهم في الشرق لا بُد أن تمر عبرها, لأنها الوحيدة المؤهلة للحديث بعمق وصراحة مع الجميع وحول كل القضايا, والوحيدة القادرة على مقاربة الأمور من زاوية الضرورة الحيوية لتحقيق السلام والتفرغ لبناء مقومات الحكم الصالح داخل المجتمعات العربية والإسلامية بهدوء وعقلانية وبراغماتية آخذة بعين الاعتبار تحركات القوى الأخرى.
كما أن تركيا لا تريد استبدال الغرب بالشرق, فهي لا تزال ضمن تحالفاتها التقليدية مع الغرب, ولا تزال تلفظ العلمانية وتحاول تقديم خطاب إسلامي تحديثي معتدل, كما أنها ليست ضمن لعبة المحاور, وبالتالي فما يحركها هو مصالحها الإستراتيجية والدور المستقبلي لاسترجاع حضورها القوي بالشرق الذي فقدته لسنوات طويلة, وهو طموح مشروع وإستحقاق طبيعي للمكانة التي وصلت إليها بعد أن فهمت " كيف تكون دولة ديمقراطية فاعلة وكيف تجمع بين الإسلام السياسي المعتدل وتمكنه من أن يكون حزباً عادياً, وكيف تجمع بين الإسلام والعلمانية والعلم والفردية والجماعات ذات المصالح المشتركة, وكيف تمارس النشاط الاقتصادي في القرن الواحد والعشرين, وكيف تتعامل بين الواقعية والبراغماتية والاعتدال".
وكلها أمور يرى الدكتور بول سالم أن من شأنها "جعل القرن الحالي قرن تركيا في الشرق بإمتياز, لأنها الوحيدة في هذا الشرق التي تتجه إلى المستقبل, والوحيدة التي تقترح نظاماً أو مروحة من العلاقات تبدو مقبولة بالنسبة للجميع". كما أن الكثير مما يحدث في سياساتها الخارجية يعكس تغير المصالح التركية وليس أهواء حزبٍ ما, ما يجعلها - حسب هنري بازكي – تتصرف: "كدولة طموحة تعتقد أنها تحقق المكاسب عندما تقيم علاقات جديدة مع دول مثل سورية وإيران, وأنها تخدم مصالحها القومية عندما تحاول التوسط لحل النزاعات", ناهيك عن إدراكها لأهمية القضية الفلسطينية باعتبارها تمثل كلمة السر لفتح كل أبواب الشرق الأوسط الموصدة أمامها, ما نجد دلالاته في الحرص على توقيت تدشين رؤيتها الجديدة في السياسة والاقتصاد للمنطقة برمتها بعد حادثة الاعتداء الإسرائيلي على أسطول الحرية مباشرة, وما تبعه من ردود فعل تركية بدت متناغمة إلى حدٍ كبير مع سياستها الجديدة الرامية في الأساس إلى إقامة التوازن بين عنصري الهوية التركية "الأوربي والشرق أوسطي" والذي يمثل الدافع الحقيقي لانخراط الدور التركي في ملفات الشرق, وتقديم نفسه كوسيط مقبول لحل الأزمات المستعصية, استناداً إلى إسلامية معتدلة قادرة على الحوار مع حركات وأحزاب متشددة ودفعها إلى مواقع اللعبة الدولية وشروطها من دون المجازفة بقطع العلاقات مع إسرائيل لتظل أبوابها مفتوحة ومعها أبواب عواصم القرار.
جورج سمعان في قراءته لمستقبل الدور التركي يرى أن تركيا قد نجحت حتى الآن في استغلال الغطرسة الإسرائيلية حيث عجز كثيرون, وتقدمت على طريق تكريس نفسها ركناً أساسياً من أركان الشرق الأوسط , ونجحت الأزمة التي تديرها مع إسرائيل في تبديل المواقف الدولية حيال غزة وحصارها, وباتت مؤهلة لإدارة حوار مع حركة حماس بما يقربها من الجهاد السلمي والانخراط في عملية السلام, وكذا فيما يتعلق بحزب الله, على خلفية رفض أرودغان وصف الحركة والحزب بالمنظمات الإرهابية, والذي مثل دعوة صريحة للعالم للاعتراف بهما, قد تتبعها دعوات أخرى للمصالحة الفلسطينية, وانخراط حماس في شروط المجتمع الدولي للتسوية, وربما تحريك المسار اللبناني – الإسرائيلي, وإعادة تفعيل المسار السوري - الإسرائيلي, خصوصاً وأن تركيا قد نجحت في توظيف أحداث أسطول الحرية لصالح إحراج وإرباك إسرائيل والتي يبدو أنها باتت أكثر ضعفاً من الناحية الإستراتيجية والسياسية وإن كانت لا تزال الأقوى عسكرياً, كما نجحت أنقرة في تمرير رسالتين في غاية الأهمية: الأولى للغرب مفادها "نحن هنا", والثانية لإسرائيل مفادها "كفى... تعني كفى".
ومعلومٌ أن تركيا شريك إسلامي كبير في ضمان أمن الدولة العبرية منذ قيامها وحصولها على الاعتراف التركي عام 1949, ولذا فهي حريصة على تأطير دورها في عملية السلام ضمن سقف القرارات الدولية والشرعية الدولية, في وقتٍ تدرك فيه إسرائيل أهمية البقاء على مقربة من تركيا, وأن تظل على علاقة وثيقة مع السياسات التركية في المنطقة, كي لا تذهب بعيداً ضد المصالح الإسرائيلية, وهي على يقين أن تركيا لا تسعى لإنهائها أو لإحداث تغيير كبير فيها, وإنما تغيير سياساتها تجاه غزة, ما يعني أن إسرائيل ليست في وارد القبول بخسارة تركيا, كما أنها ليست في وارد القبول برؤية دور تركي يوازي الدور الإسرائيلي في قوته بالمنطقة, لأن ذلك سيعني خلق الكثير من المشاكل لإسرائيل.
الغرب هو الأخر يدرك مدى فداحة خسارة تركيا, وهو ما نجد دلالاته في كثرة الحديث مؤخراً داخل الاتحاد الأوربي عن احتمال خسارة الحليف التركي, مصحوباً باعتراف متأخر "بارتكاب خطأ كبير عندما تم دفع تركيا نحو الشرق بدل جذبها إلى أوربا, ما أعطى انطباعاً لدى الأتراك بأنهم غير مرغوب فيهم ضمن الأسرة الأوربية وبالتالي تحويل أنظارهم نحو آفاق أخرى تتصل بقوة إقليمية", وفي وقتٍ يعاني فيه الغرب وأميركا من مشكلة التعثر مع شركائهم الأساسيين في الشرق "مصر والسعودية", ومن غياب فاعل عربي قادر على إحداث اختراق على خط مفاوضات السلام غير المباشرة, ومن تعثر الحوار مع إيران, ولا يوجد سوى تركيا للقيام بهذه المهمة.
إذن فالدور التركي بغض النظر عن تباين المواقف حيال الملف النووي الإيراني, يظل حاجة أميركية وغربية وإسرائيلية على حدٍ سواء, ولذا فإنهم في المدى الطويل, لا يمكنهم رؤية تركيا في صفوف الأعداء, لأن ذلك سيعني الإطاحة بأي سياسة عربية معتدلة حيال التسوية.
وهناك إشكالية كبيرة تطرح اليوم في أميركا والغرب, حيث تنظر أميركا لتركيا كعنصر تواصل مهم مع إيران في كثير من ملفات الشرق, وتعتبرها لاعب أساسي في إطار الشرعية الدولية, يمكنه موازنة الاندفاعة الإيرانية, وربما الحد من جموحها, كما يُعّول عليها في تشجيع سورية على موازنة علاقاتها الإقليمية, في حين تنظر أوربا لتركيا كمربع استقرار فاصل بينها وبين آسيا المضطربة, بالتوازي مع بروز حقيقة العجز الأميركي عن إدارة ملفات الشرق بانفراد, وفشل المبادرات الأوربية في عملية السلام وفي الملف النووي الإيراني.
والثابت هنا, أن تركيا لا تستطيع لعب دور ضاغط على أميركا والغرب, على الأقل فيما يتعلق بإيجاد رؤية مختلفة لحل القضية الفلسطينية, ولذا فالدور التركي وتطوره حيال عملية السلام يتوقف بصورة أساسية على تطور الموقفين الأميركي والغربي تجاه تركيا ودورها الجديد في الشرق الأوسط, وعلى مدى إدراكهم لحقيقة أن "تركيا المُحتَضَنة عامل استقرار مؤثر في كافة الملفات الشرق أوسطية، والعكس صحيح, فتركيا معزولة وسلطوية وممتعضة عامل عدم استقرار في الشرق الأوسط".

القضية الفلسطينية في قلب الحدث
تحتل القضية الفلسطينية مكانة القلب في الرؤية التركية الجديدة لحل أزمات الشرق الأوسط, وهو ما يعكس مدى الأهمية التي توليها تركيا "الأردوغانية" لهذه القضية, بعد أن كانت تركيا "الكمالية" على طول الخط إلى جانب إسرائيل منذ نشوء الدولة العبرية, في حين نجدها اليوم متصدرة المشهد الرسمي والشعبي التركي, وما سجله في السنوات الثماني الأخيرة من مواقف واضحة ومتضامنة مع الحق الفلسطيني, ومنتقدة للغطرسة الإسرائيلية, وليس أخرها إعلان تركيا في حزيران/ يونيو 2010 عن استعدادها للقيام بدور نشط للمصالحة بين حماس وفتح, كما كان منها في العام 2007, ومن قبلها كان لتركيا دور محوري غير معلن في وقف العدوان على غزة (2008- 2009) كما في تسيير قوافل الإغاثة وإبداء الاستعداد للتوسط بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية, والأهم من هذا وذاك تركيز تصريحات أردوغان منذ بداية عهده الثاني 2007 بدرجة رئيسية على تكرار ربط تطوير العلاقة مع إسرائيل بمدى إحراز تقدم في عملية السلام وتأكيد الحرص على اتخاذ مواقف أكثر توازناً بين العرب وإسرائيل بدلاً من الانحياز للموقف الإسرائيلي, والتسليم بأن عملية السلام هي احتكار أميركي, وهو يرى أيضاً أنه "إذا كان هناك من أدار ظهره لفلسطين فإن تركيا ستبقى تقف إلى جانب الحق الفلسطيني" .
الموقف التركي من القضية الفلسطينية في إطاره العام, يأتي في سياق معارضته لفكرة الاحتلال في مرحلة تاريخية وصلت فيها البشرية إلى النضج الكافي لرفض الممارسات القمعية وما يفرضه ذلك من ضرورة تذكير الاحتلال بمخالفته الصريحة للقرارات الدولية ومطالبة الدول الكبرى بالتوقف عن الكيل بمكيالين والقيام بواجبها تجاه القرارات التي تتخذها.
على مستوى الحلول تركز الرؤية التركية لحل القضية الفلسطينية المُعلنة في العام 2005 على العامل الاقتصادي كمدخل للاستقرار السياسي في سياق عام تمت تسميته ب "الصناعة لمبادرة السلام في فلسطين" وبمعنى أخر "التجارة كأساس لسلام دائم في الشرق الأوسط " بالتوازي مع تصعيد تركيا من دعواتها المتكررة لتوفير الأجواء المناسبة لإنجاح المسيرة السلمية وضرورة تطبيق العدالة في التعامل مع الشعب الفلسطيني, والتوقف عن لغة الإقصاء لأدوار اللاعبين الآخرين في عملية السلام, وقصرها في العادة على أميركا وإسرائيل والفلسطينيين, ورفض إسرائيل التحدث لأي لاعب أخر عدا أميركا, والتي تمثل أحد أكبر المشاكل في عملية السلام.
وتركيا بذلك تعتقد أن القضية الفلسطينية تمثل فرصة مناسبة لبناء دور تركي إقليمي فعَّال, وملتزم بتحقيق الاستقرار في المنطقة, وهذا بحد ذاته يدعوها أكثر من أي وقتٍ مضى إلى تحمل مسؤولية خاصة حيال القضية الفلسطينية, باعتبارها مفتاح السر لإعادة الأمن والاستقرار إلى المنطقة برمتها وحل كل ملفاتها المتفاقمة .
ميدانياً, يمكن القول إن " تركيا تريد تحقيق السلام في الشرق الأوسط مع الجميع, وتلك معادلة مستحيلة, ولكنها تحاول أن تجلب الجميع إلى جانب السلام" وذلك لسببٍ بسيط هو توقف الاستقرار والنهوض والسلام في هذه المنطقة المنكوبة على ثلاثة أعمدة تشكل مثلث القوة وهي: "تركيا و إيران ومصر", وبدون التئامها ستظل كل الجهود المبذولة دون جدوى, لذا نجد الغرب حريصاً كل الحرص منذ وقتٍ مبكر على بذل كل ما من شأنه ضمان عدم التئام أضلاع هذا المثلث.
وفي هذا السياق فقط يمكن تفسير الامتعاض الغربي من الدور التركي الصاعد في حل القضية النووية الإيرانية, والسعي لكسر جسور التواصل بينهما, في وقتٍ أصبح لهما حضور لا ينكر في تقرير قضايا الحرب والسلم في الشرق الأوسط, بل وصار اتخاذ القرارات في هذه الأمور مستحيلاً في غيبة هاتين الدولتين.
وعليه يمكن القول أن الدور التركي الناهض لا يزال مُحاطاً بالكثير من العقبات والإشكاليات الحائلة دون تفعيله, على الأقل في المدى القريب, منها عل سبيل الإيجاز:
1- على المستوى العربي: والسؤال هنا عن الدور العربي الغائب وما ترتب على غيابه من فراغ استراتيجي قاتل أوقع المنطقة برمتها تحت رحمة لعبة المحاور, وأفسح المجال لظهور الكثير من الفاعلين الإقليميين والدوليين وتظهير طموحاتهم لتمرير أجنداتهم الخاصة, على حساب الواقع العربي بتشضياته واشكالياته المتراكمة والمتناسلة, وغياب حاسة التمييز العربي الرسمي بين ما هو سلبي وما هو ايجابي في هذه الأدوار الوافدة, وسط هالة من القراءات الرغائبية تجاه اللاعبين الجدد وفي مقدمتهم اللاعب التركي, وفي المحصلة يمكن القول أن عدم وضوح ما يريده العرب من الآخرين, رغم وضوح ما يريده الآخرين من العرب, لا يزال يشكل المعضلة الرئيسية في عملية السلام, ما جعل شريحة عريضة من الجماهير العربية تعيد استحضار مقولة أمير الشعراء " يا خالد الترك جدد خالد العرب".
إذن فالفاعل الإقليمي التركي غير قادر على عمل شيء ذي أهمية, لتفعيل دوره في عملية السلام, في ظل غياب الدعم العربي وغياب أي مبادرة عربية فعَّالة أو ذات تأثير على مسار الصراع العربي - الإسرائيلي.
2- على المستوى التركي: تشير التفاعلات التركية في السنوات الأخيرة إلى وجود تناقضات لا تزال تتنازع الدور التركي, ما نجد دلالاته في انتقاله من مرحلة كان يراهن فيها على إسرائيل لفتح أبواب أوربا, إلى مرحلة بات يراهن فيها على الشرق الأوسط وأفريقيا والقضية الفلسطينية تحديداً لفتح أبواب أوربا, في حين لا تزال محركات الانفتاح على الشرق تمثل خيار حزب لديه قواعده ورأيه العام الخاص به, ويسعى جاهداً إلى الاعتماد على رأيه العام الذي هو جزء من الرأي العام التركي, وهذا بدوره يحول دون اعتماد الحزب على مصادر قوة متجذرة في جهاز الدولة, بما يضمن تحويل الخيار الحزبي إلى خيار دولة وخيار إجماع وطني, والتوفيق بين موقف الحزب وقدرة الدولة والرأي العام التركي على استيعاب مواقف الحزب, لكي تتمكن الحكومة من العمل كدولة وطنية مستقلة الإرادة في القضايا الإقليمية.
وهي نقطة ضعف خطيرة تدرك إسرائيل وأميركا والغرب مدى أهميتها في فرملة الدور التركي في عملية السلام, وإحراج حزب العدالة والتنمية عند شعبه وعند الرأي العام الدولي وربما العربي والإسلامي, وهناك الكثير من الأوراق التي لا زالت تشكل خنجراً ناجعاً في خاصرة الناهض التركي, ولعل أخطر هذه الأوراق "الورقة الأرمنية والكردية والقبرصية, والخلفية الإيديولوجية لحزب العدالة" ما نجد دلالاته في التهديد الإسرائيلي مؤخراً بلعب الورقة الكردية ومقايضتها بقضية غزة, كما في توجه الكونجرس الأميركي إلى إعادة تحريك الورقة الأرمنية.
ما يعني أن تركيا لن تستطيع الذهاب بعيداً في التعاطي مع القضية الفلسطينية, لأن ذلك سيكلفها دفع ثمن باهض من أمنها القومي, ولذا فتحركاتها لا تخرج عن إطار قرارات الشرعية الدولية والمبادرات الأميركية والمبادرة العربية, والضغط باتجاه تغيير السياسات الإسرائيلية إزاء غزة بما يضمن عدم شن عدوان جديد عليها, ويمنع نشوب حرب عربية - إسرائيلية شاملة, وهذا قد يفيد في تطور الدور التركي, ليصبح أكثر تكاملية مع تصورها لمستقبل منطقة الشرق الأوسط , في حال أحسن الأتراك اللعب بورقة "الغطرسة الإسرائيلية" وتوظيفها لصالح تدعيم دورهم الناهض, بالاستفادة من حالة الضعف السياسي والإستراتيجي الذي تمر به إسرائيل على خلفية فشل العدوان على لبنان وغزة.
3- على المستوى الإقليمي: هناك رهانات مفتوحة لحسم جدلية السلام أبرزها: انتصار محور الممانعة, انتصار محور الاعتدال, عجز الطرفين عن تحقيق النصر الكاسح أو الواضح وكلها كارثية, ويبقى رهان رابع يرى الحل في إعادة التئام مثلث القوة الإيراني – التركي – العربي (المصري), كونه المخرج الوحيد لانجاز حلول وسطية ينبثق عنها نظام إقليمي جديد, وهذا يتطلب حدوث تسوية دولية استباقية يُتفق فيها على ترتيبات أمنية لكل المنطقة, كما يتطلب تقديم تنازلات أمنية متبادلة من إيران وإسرائيل, ومن مصلحة أميركا طبعاً وهي تطلب الاستقرار في الشرق أن تحاول جعل إيران وإسرائيل تشعران بالأمان, وهو ما لا يبدو متوفراً على الأقل في المرحلة الحالية.
وسط هذه الأجواء القاتمة والتقاطعات الحادة يمكن القول أن خيار الحلول الإقليمية الوسطية لا يزال بعيد المنال, ما يعني بقاء اليد العليا للمجابهات على التسويات, ومحصلة اللعبة لا ريب "صفرية", حيث أن النصر الكامل لفريق على آخر معناه هزيمة كاملة للحلول الوسطية, وبالتالي فأقصى ما يمكن لتركيا فعله هو مضاعفة الضغوط على إسرائيل لتقديم التنازلات المطلوبة أميركياً وأوربياً, وسط ذهاب التوقعات إلى أن إمكانيات نجاح تركيا في حل الصراع العربي – الإسرائيلي, أو لعب دور فعَّال في المرحلة الحالية غير وارد, وإن كان هذا الصراع يقع ضمن دائرة الاهتمام الأولى لتركيا, في ظل العجز عن تغيير الموقف الإسرائيلي ليقبل بما هو مطلوب فلسطينياً, وغياب الدور العربي المؤثر.
Al-mahbashi@maktoob.com

الأربعاء، 16 يونيو 2010

رؤية بنيامين نتنياهو للدولة الفلسطينية

بقلم زيد يحيى المحبشي
مع كل جولة من جولات ميتشل الشرق أوسطية, يتجدد الحديث عن التمسك الإسرائيلي بسلة الحلول المرحلية وفكرة الدولة الفلسطينية ذات الحدود المؤقتة والترتيبات الأمنية والبناء الاستيطاني, مقابل تجدد الرفض الفلسطيني للدولة المؤقتة واستمرار النشاط الاستيطاني وبالتالي التمسك بسلة الحلول الدائمة والنهائية, دون ظهور أي بارقة أمل لإعادة قطار المفاوضات إلى مساره المتجمد منذ نهاية العام 2008 باستثناء محاولات أميركية عبثية لتدشين حوار غير مباشر يمهد لحوار مباشر, يعيد لعملية التسوية بريقها, في إطار التبني الأميركي في إدارتي بوش الابن و أوباما على حد سواء لفكرة حل الدولتين.
فكرة حل الدولتين ليست وليدة اللحظة، بل بدأ الحديث عنها منذ العام 1937 وتكرست على أرض الواقع في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947 بصدور قرار التقسيم 181 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة, والذي استغلته الحركة الصهيونية حينها بإعلان قيام دولة إسرائيل والاعتراف الدولي بها, في حين أدى إعلان حكومة عموم فلسطين بأن فلسطين بحدود الانتداب "دولة مستقلة" إلى رفض الأمم المتحدة الاعتراف بذلك، وبالتالي تمخض حرب 1948-1949عن ضم الضفة إلى الأردن ووضع القطاع تحت الإدارة المصرية, ونشوء ما بات يعرف بالخط الأخضر ومن ثم توجه منظمة التحرير الفلسطينية في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 1988 إلى إعلان استجابتها لحل الدولتين على أساس القرار 181, وهو ما نال حينها اعتراف 120 دولة, ما أدى إلى منح المنظمة نظرياً حق التمتع بوضعية الدولة, لكن دون تمكنها من ممارسة استقلالها على أرض الواقع خصوصاً وأن إعلانها يأتي على مقربة من فك الارتباط بين الأردن والضفة 1974.
انقسام الموقف الفلسطيني منذ تسعينيات القرن الماضي حول ملامح وحدود وطبيعة الدولة التي يحلمون بها ويناضلون من أجل تحقيقها, انسحب بصورة تلقائية على الجانبين الإسرائيلي والأميركي, وما بينهما كانت المسودة الثالثة لخريطة الطريق وتحفظات شارون الـ 14 هي الفيصل في هذا الصراع حول مفهوم الدولة الموعودة، والأمر الواقع الذي لا مفر منه وسط رزمة ثقيلة من الهموم والتحديات والإشكاليات المتراكمة منذ نشوء دولة الاحتلال والمتعاظمة بصورة لافته بعد إطلاق قطار التسوية من مدينة مدريد عام 1991 وما تمخض عنها من سيناريوهات لا تزال حتى الآن مصطدمة بجدار التصلب الإسرائيلي والضعف الفلسطيني والوهن العربي وغياب الجدية الأميركية في حل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.
هذه الأمور مجتمعة أوجدت عدة سيناريوهات لطبيعة وحدود الدولة الموعودة منها: إقامة دولة فيدرالية علمانية واحدة تضم الفلسطينيين والإسرائيليين, إقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة على كامل ارض فلسطين التاريخية, تبنى خيار مقاربة الدول الثلاثة أي تقسيم فلسطين على إسرائيل والأردن ومصر, وهو سيناريو بعيد المدى, ومبدأ حل الدولتين وهو ما يعنينا هنا، وهو يقوم على أساس قيام دولتين يهودية وفلسطينية, لكن الخلاف حول هوية الثانية: هل تكون ذات حدود مؤقتة, والذي يعني الدفع في نهاية المطاف إلى جعلها حدوداً دائمة أو جعلها محطة عبور للانتقال المتدرج نحو خيار الدول الثلاث, إلى جانب طرح خيار ثاني يقوم على أساس نشوء دولة فلسطينية ذات حدود دائمة، والإشكالية هنا هل تكون في حدود 1967 أم في حدود 1948 والسيناريو الأخير هو استمرار تجربة الحكم الذاتي الفلسطيني على حاله.
وكون الفلسطينيين اليوم محشورين بين خيار الدولة المؤقتة وخيار استمرار الحكم الذاتي باعتبارهما الأكثر واقعية في نظر إسرائيل وأميركا لذا سنركز عليهما دون سواهما في هذه الوقفة السريعة انطلاقاً من رؤية نتنياهو الهادفة بالمقام الأول إلى تصفية القضية الفلسطينية نهائياً واستبدال شعار "السلام للنهوض بالاقتصاد" إلى شعار "الاقتصاد للنهوض بالسلام" باعتبار أن أصل المشكلة اقتصادي بحت وهو مشروع كارثي لكنه حقيقي نظراً لوجود من يؤيده في الأوساط الفلسطينية والعربية.

رؤية نتنياهو
عرض نتنياهو في نيسان/ أبريل 2010 إقامة دولة فلسطينية بحدود مؤقتة, كان الهدف منه تحفيز عباس للعودة إلى طاولة المفاوضات المتوقفة منذ نهاية العام 2008 ,ولذا فهولم يكن مفاجئاً على اعتبار أنه يأتي بعد طول رفض لمبدأ حل الدولتين, لعدم إتيانه بجديد, حيث سبق لخريطة الطريق في نسختها الثالثة الدعوة إلى تبني هذا الخيار ضمن أجندة المرحلة الثانية منها.
ومعلومٌ أن خارطة الطريق لم تكن لترى النور لولا مراعاتها لتحفظات شارون ومن ضمنها عدم العودة إلى حدود 1967 وبقاء الكتل الاستيطانية تحت سيطرة إسرائيل، وأن يتم تحديد طبيعة الدولة الفلسطينية من خلال مفاوضات ثنائية بحيث تكون مؤقتة وذات حدود غير دائمة وذات سيادة محدودة ومنزوعة السلاح وإسقاط حق العودة للاجئين الفلسطينيين.
فيما أضاف نتنياهو إلى ذلك اعتبار القدس بشقيها عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل والتمسك بسيطرة كيانه على منابع المياه وثروات البحر الميت وأخذ الوقائع الميدانية بالحسبان، والأهم من ذلك اشتراطه جعل الأولوية المرحلية للتطبيع ونزع سلاح المقاومة وزوال التهديد النووي الإيراني.
كما هو معلوم أيضاً أن خريطة الطريق قد أجلّت البت في مستقبل القدس إلى المرحلة الثالثة والتي يفترض فيها حسم قضايا الحل النهائي في سياق السلام الشامل والتطبيع.
الموقف الإسرائيلي في إطاره العام، بغض النظر عن من يحكمه، يكاد مُجمِعاً فيما يتعلق بالنظر إلى الدولة الفلسطينية في سياق الاعتبارات الدينية والتاريخية والإستراتيجية والاقتصادية والأمنية والسياسية, ولذا فهو لم ولن يكون في وارد القبول بقيام دولة فلسطينية ذات سيادة, ما نجد مدلولاته في تشابه المواقف لدى حكومات الاحتلال المتعاقبة, منذ انطلاق مؤتمر مدريد, وهو ما يُسقِط عامل المفاجئة عن عرض نتنياهو المتناقض كليةً مع الممارسات الميدانية لكيانه ويكشف حقيقة التوجه إلى فرض سياسة الأمر الواقع فيما يتعلق بالحل الدائم والذي يتوقف بصورة أساسية على: الانتهاء من انجاز جدار الفصل العنصري و تسريع عمليات الاستيطان في الضفة والقدس الشرقية و التأكد من أن عدد يهود الكيان قد تجاوز العشرة ملايين نسمة والانتهاء من انجاز السلام على المسارين السوري واللبناني وزوال التهديد الإيراني, حينها فقط سيكون مستعداً لمناقشة قضايا الحل النهائي, وإقامة الدولة الفلسطينية على القطاع وما تبقى من الضفة ودون القدس الشرقية طبعاً.
فكرة الدولة المؤقتة، حسب الكاتب الفلسطيني جواد البشيتي، ليست في حد ذاتها مدعاة للرفض أو القبول من الجانب الفلسطيني, فهي يمكن أن تكون موضع قبول فلسطيني, بطريقة تجعل إسرائيل هي الرافضة والمتشددة في رفضها, في حال نجح الجانب الفلسطيني بتضمين ذلك اتفاق مرحلي يكون مقدمة لمعاهدة دائمة يجرى توقيعها بعد حسم نقاط الجدل الرئيسية, شريطة عدم تعارض الحدود المؤقتة مع فكرة أن بعض حدودها يجب أن يكون مؤقتاً وبعضها يجب أن يكون دائماً.
فغزة باعتبارها جزاءً من إقليم الدولة الموعودة يجب أن تُعين حدود دائمة لها مع إسرائيل ومصر, أما الضفة المستثنى منها القدس الشرقية, فيجب أن تصبح كلها باستثناء المستوطنات, جزءاً من إقليم الدولة المؤقتة, والمؤقت من حدود الضفة يجب أن يقترن بالدائم منه, ألا وهو حدودها مع الأردن, وفيما يتعلق بالقدس الشرقية فالأحياء العربية تضم إلى الدولة الموعودة والأحياء اليهودية تضم إلى الكيان والمختلطة يتم إخضاعها لإدارة دولية مؤقتة, وهذا المؤقت من حدود الدولة الفلسطينية يصبح مشتركاً بينها وبين إسرائيل, حينها فقط تكون الفكرة مقبولة فلسطينياً. لكن ما يريده نتنياهو يبدو على النقيض تماماً, ما يعزز نقائض الفكرة، وبالتالي استمرار الاختلافات في القضايا الأكثر حساسية بما يهدد بالانفجار في خاتمة المطاف.
"ألوف بن" في مقال له نشرته هآرتس بتاريخ 28 نيسان/ أبريل 2010 خلص إلى أن كيانه يريد من وراء طرح فكرة الدولة المؤقتة, التخلص والتحرر من عبء السيطرة على الفلسطينيين داخل الكيان والاحتفاظ بأكثر المناطق والمستوطنات والسيطرة الأمنية في الضفة والانفراد بالقدس, والاكتفاء بإطلاق الدعوة لتطوير سلطة عباس وفياض إلى مكانة الدولة المؤقتة, لإعفاء الكيان من مسؤوليتها, كي يتم البت في الخلاف حول ما تبقى من المناطق المتنازع عليها والقدس واللاجئين بين دولتين ذات سيادة لا بين المحتل والخاضعين له.
وهنا تأتي أهمية مقترح معهد "رئيوت" الإسرائيلي العام الماضي بخلق مسار موازي للتقريب بين طرفي الصراع يقوم على أن تعرض أميركا رؤية للتسوية الدائمة كي تمنح الفلسطينيين أُفقاً سياسياً، وأن تنشأ دولتهم المؤقتة باعتبارها التسوية الأكثر عملية سواء باتفاق ثنائي أو بإجراء إسرائيلي من طرف واحد, والتي بموجبها سيستطيع الكيان الاكتفاء بإخلاء ضئيل ومحدود للمستوطنات والبؤر الاستيطانية, وأن يحافظ على السيطرة الأمنية باعتبارها تحتل الأولوية لدى كيانه, وألاّ تُمس القدس في هذه الأثناء، ولا يُطلب إلى الفلسطينيين أن يمنحوا شيئاً عوضاً عن ذلك, لا اعتراف بالدولة اليهودية ولا تخلِّياً عن حق العودة اللذين يطلبهما نتنياهو كشرطين للتسوية الدائمة. وبذلك يكون كيانه قد تخلص من العبء الفلسطيني وربما كسب العرب إلى صفه في منازلته المصيرية مع الخطر الإيراني.

رؤية مستقبلية
من المؤكد أن "المؤقت" في القاموس الإسرائيلي هو الدائم أو شبه الدائم, ما يعني أن فكرة الدولة المؤقتة ستعني فيما تعنيه إطالة أمد المفاوضات قبل الوصول إلى سلام شامل على خلفية الإشكاليات والمعوقات المعترضة مسار الحل الشامل, والتي عجزت معها كل المحاولات الإقليمية والدولية طيلة العقدين الأخيرين في التقريب بين الحد الأعلى الإسرائيلي والحد الأدنى الفلسطيني, وهو ما يرجح استمرار سيناريو سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية الحالية, لاسيما وأن العرض المسرحي للدولة المؤقتة ليس سوى ذريعة لما هو أبعد, وهو اصطياد عدة عصافير بحجر واحدة, منها: إطلاق عملية التطبيع وإضعاف موقف قوى المقاومة وتوفير موقف عربي متضامن حيال الملف النووي الإيراني وتحريك المسارين السوري واللبناني.
إذن ليس هناك أي بوادر إسرائيلية أو أميركية, توحي بوجود الاستعداد لطي ملف الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي, وإنما يوجد توجه ممنهج يقوم على أساس الاستمرار في إدارة الأزمة لمنع حدوث السيناريو الأسوأ المتمثل في سقوط مشروع التسوية بشكله الحالي وسقوط سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني وعودة المقاومة المسلحة والمدنية بشكلها الأول.
وحتى لو سلّمنا جدلاً بنجاح فكرة الدولة المؤقتة, فهي لن تكون دولة ذات سيادة تامة بل مجرد دويلة لا تتعدّ صلاحياتها حدود العلم والنشيد الوطني, وهو ما تريده إسرائيل, دولة فلسطينية مقطعة الأوصال مسلوبة الإرادة والسيادة, يتحكم الاحتلال في قرارها ومياهها وأجوائها وحدودها وأمنها واقتصادها, وكلها حقائق مقدسة لدى الكيان الصهيوني.
وهو ما يؤكد حقيقة أن الموقف الفلسطيني بما فيه المعتدل والموقف الإسرائيلي في حال حدثت معجزة واعتدل, "ضدان لا يلتقيان", وأن نتنياهو لا يختلف عن سلفه شارون إلا بالمزيد من التطرف في رسم حدود الدولة اليهودية وإلغاء أي حدود أخرى لا تنسجم مع مشروعه العنصري.

Al-mahbashi@maktoob.com

السبت، 12 يونيو 2010

الدور التركي في الصومال

زيد يحيى المحبشي
"علينا ألاّ نترك الصومال وحدها".
كلمات بسيطة أراد من خلالها وزير خارجية تركيا تأكيد أن رعاية بلاده للمؤتمر الدولي الذي انعقد بمدينة اسطنبول خلال الفترة 21- 23 أيار/ مايو 2010 بدعم من الأمم المتحدة, لن تكون مجرد محطة عابرة لتبادل القبلات والتحايا الدبلوماسية, بل نقطة انطلاق عملية لتحريك الملف الصومالي, وتسليط الأضواء على الأزمة الإنسانية العاصفة بهذا البلد, والتي تُعد الأسوأ من نوعها عالمياً, في العصر الحديث, بعد أن أكلت الحروب الأهلية في العقدين الأخيرين معالم حضارته, واستنزفت كل مرافقه الحيوية والعامة, وموارده الطبيعية, بصورة عجزت معها كل المحاولات الإقليمية والدولية عن إعادة الأمل والأمن والاستقرار إلى أبناء الصومال؛ فهل ستنجح تركيا حيث فشل غيرها؟
المؤتمر ليس الأول من نوعه، بل سبقته مؤتمرات كثيرة, لم يجن الشعب الصومالي منها سوى الضجيج الإعلامي والشعارات الفضفاضة.
وهنا تكتسب الرعاية التركية لهذا المؤتمر أهميتها, فيما يتعلق بالانتقال من الوعود إلى التنفيذ, وصولاً إلى كسر جدار اللامبالاة العربية والدولية, وسط تساؤل الصوماليين المتابعين باهتمام كبير للدور التركي في كسر الحصار الظالم المفروض على غزة, عمّا إذا كانت تلك المواقف المشرفة للقيادة التركية, ستنعكس ايجابياً على المشهد الصومالي, من خلال تحويل العواطف والوعود المتمخضة عن مؤتمر اسطنبول إلى تنفيذ البرامج والمشروعات الموعودة على ارض الواقع، لاسيما وأن المؤتمر قد نجح في دق جرس الإنذار الدولي لخطورة الوضع في الصومال, ولضرورة ربط الحل السياسي فيه بحل المشكلة الاقتصادية, وإعادة اللحمة الوطنية, حتى يخرج من أزمته المركبة, وإبداء الاهتمام الدولي الصادق بمشاكله.
في هذه القراءة السريعة سنحاول تسليط الضوء على الأزمة الصومالية بأبعادها المختلفة, واستشراف آفاق الدور التركي في حلحلة عقدها, وتداعياته الآنية والمستقبلية على صعيد الأجندة المتنافسة والمتصادمة في هذا البلد, والتي لا تزال تحول دون وضع حد للمأساة الصومالية, بعد أن تمازجت فيها العوامل الداخلية بالعوامل الإقليمية والدولية, بصورة لم يعد معها ممكناً حل الأزمة دون أخذ تلك العوامل بالحسبان, وهو ما يشي بمدى عمقها وتعقدها؛ فهل يفلح العطار التركي في إصلاح ما أفسدته الأطماع الإقليمية والدولية في هذا البلد؟

الأزمة الصومالية
صحيح أن الصراع على السلطة السبب الرئيسي للحرب الدامية العاصفة بهذا البلد, منذ سقوط نظام محمد سياد بري عام 1991؛ لكنه ليس الوحيد, خصوصاً وأننا أمام أزمة يتداخل فيها البعد الداخلي بمفرداته المختلفة مع البعد الخارجي بصورة متلازمة, نظراً للأهمية الموقعية والجيوسياسية التي يتمتع بها هذا البلد.
واللافت هنا، رغم كثرة المؤتمرات الدولية ومحاولات الوساطة وعمليات التسوية, أنها ظلت مقتصرة على البعد الأمني, وإهمال الأبعاد الأخرى, باستثناء بارقة أمل وحيدة بعثتها جيبوتي في العام 2008, عندما تمكنت من جمع الفرقاء الصوماليين على طاولة الحوار, وتوقيعهم اتفاق سلام أثمر في كانون الثاني/ يناير 2009 تشكيل حكومة فيدرالية انتقالية برئاسة شيخ شريف شيخ أحمد, وسط وعود دولية بدعمها مادياً ومعنوياً, لكنها لم تتعدَّ الحبر الذي كتبت به, وهو ما جعل هذه الحكومة شبه مشلولة؛ نظراً لتخلي المجتمع الدولي عنها, ولعجز إمكانياتها عن تأمين الخدمات الحياتية الضرورية لمواطنيها, وعجزها عن بسط نفوذها وفرض الأمن والاستقرار, في وقت بدت فيه سلطتها مقتصرة على أحياء محدودة من العاصمة الصومالية (مقديشو), فيما تسيطر المعارضة الصومالية (حركة الشباب والحزب الإسلامي والجناح المتشدد في جماعة أهل السنة) على الجنوب, إلى جانب إقليم بونت لاند وجمهورية أرض الصومال(الواقعتان على التوالي في شمال شرق وشمال غرب الصومال), اللتين أعلنتا استقلالهما دون الاعتراف الدولي بهما, بالتوازي مع بروز الخلاف بين أجنحة الحكومة الفيدرالية واستفحال داء القرصنة ووباء "القاعدة".
هذه الأمور مجتمعة خلقت رزمة من التحديات, وجدت الحكومة الفيدرالية نفسها عاجزة عن حلحلتها, مطالبة المجتمع الدولي بمساعدتها والحيلولة دون سقوطها, منها على سبيل المثال:

- التحديات الأمنية: في مقدمتها غياب الأمن والاستقرار بسبب محدودية القدرات الأمنية. ورغم ذلك فقد تمكنت الحكومة الفيدرالية من شق جماعة أهل السنة, عبر استمالة الجناح المعتدل ومحاولة دمج عناصره بالقوات المسلحة الصومالية لمجابهة حركة الشباب والحزب الإسلامي ومنحه خمس وزارات و3 قنصليات و3 مندوبين في السفارات الصومالية بالخارج, وتجنيد 7000 صومالي ضمن الشرطة الصومالية, وتدريب آلاف الصوماليين, لإمساك زمام الأمور من جديد, ناهيك عن تلقي الدعم اللوجستي من كينيا وقوات حفظ السلام الأفريقية, في إطار الاستعداد لاستعادة مقديشو, مع التشديد على أن قضية الأمن يجب أن تصبح أولوية لكن دون إغفال العوامل الأخرى.
في حين شكّل تنظيم القاعدة التحدي الأمني الأكثر خطورة على الصومال وجواره وعلى الأمن والسلم الدوليين, يليه وباء القرصنة البحرية من حيث الخطورة والتي ما كانت لتزدهر, لولا الفقر المدقع, وغياب مؤسسات الدولة الفعالة، وتوجه المجتمع الدولي إلى الاهتمام بـ"القاعدة" والقرصنة دون وجود معالجات عملية لأصل المشكلة. ومعلومٌ للجميع أن حل هذه المشكلة ليس موضوعاً أمنياً فقط , إنما يمر عبر إرساء الاستقرار السياسي وتحسين الظروف الاقتصادية في الصومال.

- التحديات الإنسانية: أدت الصراعات الدامية في الأعوام الثلاثة الأخيرة إلى حصد أرواح 21 ألف إنسان صومالي وتشريد 1.5 مليون ووجود نحو 3.7 ملايين إنسان بحاجة ماسة للمساعدات الإنسانية العاجلة, في حين اقتصرت مساعدات برنامج الغذاء العالمي على 700 ألف صومالي شهرياً كجزء من الإنفاق الدولي البالغ 8 مليارات دولار, المقدمة إلى الصومال في العقدين الأخيرين على شكل مساعدات متنوعة منها معونات إنسانية.
ومكمن الخطورة هنا وقوع المساعدات الدولية فريسة للمقاولين الفاسدين من موظفي المنظمة الدولية, على خلفية فضيحة قيامهم بتحويل هذه المساعدات إلى حركة الشباب, بالتوازي مع انكشاف حقيقة اللامبالاة الدولية, وليس آخرها عدم الوفاء بالوعود المقدمة في مؤتمر قمة بروكسل للمانحين التي انعقدت في نيسان/ ابريل 2009 والمتمخض عنه وعود أوربية بتقديم 213 ملايين دولار لم تتسلم منها الحكومة الصومالية دولاراً واحداً حتى الآن.
هذه الأمور مجتمعة دفعت بالشعب الصومالي إلى التشكيك بمدى جدِّية المجتمع الدولي لمساعدتهم للخروج من النفق المظلم الذي يعيشونه.

- التحديات السياسية: اقتصار الاهتمام الدولي على الدعم السياسي للحكومة الفيدرالية, والتي نجدها بعد مرور عام ونصف من تشكلها, تعيش وسط تخبط سياسي مزرٍ, حال حتى الآن دون نجاح محاولاتها لإنجاز المصالحة الوطنية على خلفية قرار الرئيس الصومالي الشهر الماضي بعزل رئيس حكومته وحظوة هذه الخطوة بتأييد المبعوث الأممي إلى الصومال, رغم عدم دستوريتها, ثم تراجع الرئيس الصومالي عن قراره قبل يوم واحد من انعقاد مؤتمر اسطنبول, الأمر الذي أضرّ بمصداقيته ومصداقية الأمم المتحدة, وعمق من هوة الشراكة والمصالحة الوطنية.

إذن، ما يريده الشعب الصومالي من المجتمع الدولي وتركيا على وجه الخصوص هو: مساعدته على تحقيق المصالحة الوطنية والتخفيف من معاناته والحفاظ على وحدته وأمنه واستقراره والحيلولة دون سقوط حكومته المؤقتة.

الدور التركي
النجاحات التي سجلتها تركيا في المصالحة وعمليات الوساطة بالشرق الأوسط, تركت بصماتها مباشرة على المشهد الصومالي, وبداية الغيث النجاح في تحويل مؤتمر اسطنبول إلى فرصة استثنائية للمجتمع الدولي لإظهار التضامن السياسي مع الشعب الصومالي, وإرسال بارقة أمل دولية بأنهم ليسوا وحدهم وأن لديهم أصدقاء حقيقيين على استعداد لإحداث تغيير في بلدهم المنكوب, لاسيما وأن تركيا قد تمكنت من حشد نحو 55 دولة أوربية وأميركية وأفريقية وشرق أوسطية و12 منظمة ووكالة إقليمية ودولية و70 من رجال الأعمال الصوماليين, والأهم من هذا نجاحها في جمع الصومال واريتريا -الحاضن الإقليمي للحزب الإسلامي الصومالي- على طاولة واحدة, وكذا مشاركة رئيس إقليم بونت لاند الانفصالي لأول مرة, وهو ما يعكس مدى الاهتمام التركي بالمأساة الصومالية, ومدى الجدية في التوجه لإعادة الإعمار وإعادة السلام والاستقرار إلى الصومال, وتأكيد العزم التركي لمواصلة جهوده في هذا المجال, ودعوته المجتمع الدولي للعمل معاً, من أجل دعم الصومال, وعدم تركه وحيداً.
محاور مؤتمر اسطنبول غطت الأزمة الصومالية بأبعادها المختلفة, إلى جانب بحث قضية القرصنة البحرية المزدهرة قُبالة السواحل الصومالية, والمسيئة إلى سمعة وطبيعة هذا الشعب المسالم, ومع ذلك فهو لم يكن مؤتمراً للمانحين, بقدر ما كان معنياً بالعمل على تفعيل القدرات الصومالية الداخلية, ودعم الاقتصاد الصومالي وتشجيع قطاعه الخاص, من أجل تحريك التنمية, ودعم حكومته الفيدرالية وتطوير مشاريع الإعمار, وتأكيد حاجة هذا البلد إلى جهود دولية طويلة الأمد لمساعدته على تجاوز أزمته, وطبعاً دون تقديم مساعدات مالية جديدة عكس المؤتمرات الدولية السابقة, في حين انفردت فرنسا بدعوة الحكومة الصومالية لتعزيز الحوار مع سلطات إقليم بونت لاند وجمهورية أرض الصومال, وحثها على توسيع قاعدة المشاركة السياسية, لكن دون استيعاب حركات التمرد المسئولة عن أعمال وحشية! وبالتالي توصل المشاركين إلى حقيقة واحدة مفادها أن "المصالحة الوطنية الصومالية مرهونة بتوفير مزيد من الدعم الدولي".
وبالعودة إلى الدور التركي الذي تميز بالتعهد بتدريب الجهاز الأمني الصومالي ودعمه فعلياً وإبداء الاستعداد للمساهمة في تحريك مياه المصالحة الوطنية عبر الحوار مع جميع الأطراف الإقليمية والداخلية والتوسط لتسوية مشاكل الصومال مع جيرانه وفي مقدمتهم اريتريا, حيث نجحت عملياً في جمع اريتريا والصومال على هامش مؤتمر اسطنبول لأول مرة, تمخض عنه ثمار ايجابية, لمست من خلالها تركيا أن وساطتها مقبولة, وأنها تملك أرضاً خصبة وواعدة تضاف إلى الرصيد التركي المتألق ما حدا بوزير الخارجية التركي إلى القول بكل ثقة: "إن الجمع بين خصمين علنيين يعد اختراقه.. لقد نجحنا في الجمع بين الجانبين وجهاً لوجه، وأصبح بإمكان الصومال الإعراب عن مخاوفه".
الدور التركي المتنامي في الصومال يأتي في إطار مشروع الانفتاح التركي على أفريقيا, والذي تم تدشينه في العام 1998 وأخذ مساراته التطبيقية في العام 2007 الذي أعلنته تركيا عاماً لأفريقيا, والذي بموجبه قررت تركيا لأول مرة منذ تأسيس دولتها الحديثة 1923 نقل الاهتمام ومساعي التوسط إلى القارة الأفريقية, بعد أن ظلت سياستها واهتماماتها لعقود متجهة نحو الغرب الأوربي, وهو ما أحدث أصداءً واسعة لإمكانية لعبها دورًا فعّالاً في أفريقيا المثقلة بالهموم والأزمات, وفتح أمامها آفاقا رحبة.
ولذا كانت شديدة الحرص على تأكيد أن مؤتمر اسطنبول الأخير ليس سوى نافذة من نوافذ إستراتيجية مد اليد إلى أفريقيا, والتي تسعى تركيا من خلالها إلى المواءمة بين المنهج المتفائل للقضايا بدلاً من المواقف التي توجهها الأزمات, وبين مبادئ دبلوماسية السلام الوقائية والاستباقية, الهادفة إلى اتخاذ التدابير قبل حدوث الأزمات وتصاعدها إلى مستويات حرجة, وصولاً إلى ترسيخ قاعدة "الأمن للجميع" والحوار السياسي عالي المستوى والتعاون والترابط الاقتصادي وتعايش الثقافات المتعددة والتمسك بسياسة خارجية متعددة الأطراف وتوظيف علاقاتها مع اللاعبين الدوليين لتكون مكملة وليست منافسة أو بديلة, وبالتالي خلق دبلوماسية متوازنة تمنحها دوراً أكثر فاعلية إقليمياً ودولياً؛ ما يجعل منها لاعباً مهماً في لعبة التوازنات والتناقضات الإقليمية, وشريكاً فاعلاًً في رسم بعض السياسات الإقليمية, وعاملاً حاسماً ومكملاً للأمن الإقليمي, المتزايدة أهميته بصورة واضحة عقب توتر العلاقات التركية ـ "الإسرائيلية" في الأعوام الثلاثة الأخيرة.
وهو ما يستدعي من الدول العربية ذات التأثير مراقبة هذا الدور المتصاعد في أفريقيا والصومال تحديداً والسعي إلى تدعيمه ببناء تحالفات جديدة من شأنها المساهمة في تأسيس أمن إقليمي يقوم وفق إستراتيجية "المنفعة المتبادلة" لما فيه صالح شعوب المنطقة, وتزداد أهمية ذلك في الصومال التي تكاد التجربة العربية فيها تقارب "الصفر" في وقت أصبحت فيه تركيا صوتاً مسموعاً في أفريقيا, وربما مفيداً للعرب لإعادة تقييم حساباتهم ليس تجاه أفريقيا فحسب, بل والصومال إن هُم أحسنوا توظيف الدور التركي لصالح قضايا الأمة العربية بدلاً من الرهانات غير المجدية على القاطرة الغربية والأميركية التي لم تجلب لنا سوى الخراب والدمار.
Al-mahbashi@maktoob.com

الأربعاء، 28 أبريل 2010

سيناريوهات العراق الجديد

سيناريوهات العراق الجديد
زيد يحيى المحبشي
سجلت الانتخابات التشريعية العراقية الأخيرة, منعطفاً مهماً في تاريخ هذا البلد وبارقة أمل لبدء التعافي, سواء لجهة المشاركة السياسية الواسعة لكل المكونات, أو لجهة التراجع النسبي للتأثير الإيراني والتأثير الطائفي, مقارنة بانتخابات 2005, حيث ارتفع عدد النواب اللا طائفيين من 30 إلى 180 نائباً في البرلمان الجديد, ما يشي بأننا أمام عراق جديد هو أقرب إلى العلمانية, وسط رغبة جامحة لدى الناخب العراقي للانتقال من مرحلة المحاصصة والطائفية والتهميش والإقصاء إلى مرحلة المساواة والوطنية والتداول السلمي للسلطة والشراكة وبناء الدولة القوية.
غير أن هذا التحول الإيجابي لا تزال دونه عقبات كثيرة, على خلفية عدم إسفار نتائج الانتخابات عن فائز صريح وبالتالي جعل كل الكتل الأربع الرئيسية فائزة, وهو ما يحول دون إنفراد أي منها بتشكيل حكومة الأغلبية ما لم يدخل في تحالفات أخرى, وهي إشكالية وإن كانت في ظاهرها إيجابية لجهة فشل الرهانات الأميركية والإيرانية بالإنفراد ببلورة هوية المرحلة المقبلة, سيما وأنها ستكون أمام الانسحابات الجزئية والكلية لقوات الاحتلال, ورسم معالم مرحلة ما بعد الاحتلال, لكنها أيضاً تستبطن الكثير من الألغام سواء كان مردها الدستور العراقي أو الاتفاقية الأمنية العراقية الأميركية أو الأجواء والمصالح الإقليمية أو القوى والكيانات الفائزة بالانتخابات ذاتها, وما أفرزته مجتمعة من تداعيات باتت تهدد بنسف الاستحقاق الانتخابي برمته وإعادة العراق إلى المربع الأول.

إشكاليات على الطريق
داخلياً: أسفرت نتائج الانتخابات عن فوز 9 كتل أهمها:الكتلة العراقية بزعامة علاوي 91 مقعداً (76 سنة و15شيعة) لتصير 90 مقعداً بعد قرار هيئة المسائلة بإلغاء نتائج 52 مرشحاً, دولة القانون بزعامة المالكي 89 مقعداً وهو شيعي خالص, الائتلاف الوطني الشيعي 70 (40 مقعداً للتيار الصدري والبقية للحكيم والجلبي والجعفري), التحالف الكردستاني 43 مقعداً, وبالتالي استئثار الكتل الأربع بـ 293 مقعداً من أصل 325 مقعدا,ً ما يعني أن تشكيل الحكومة من نصيب الائتلاف الأكبر عدداً حسب الخيار الانتخابي, وهو ما تصر عليه الكتلة العراقية, في حين ترى دولة القانون أن الخيار الانتخابي شيء والخيار الحكومي شيء آخر, كون المادة 76 من دستور 2005 قد جعلت تشكيل الحكومة مربوطاً بالكتلة النيابية الأكبر عدداً التي تنشأ داخل البرلمان سواء عبر الاندماجات أو التحالفات الجديدة التي تعقد بعد الانتخابات.
وهنا تكمن الإشكالية الكامنة أساساً في غياب الفائز الصريح, وغياب إمكانية تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر عدداً, وسط تصاعد لغة المطالب القصوى, وغياب الاستعداد لإذابة جليد التباينات, وتهديم الأسوار والحواجز بين المكونات الرئيسية, تمهيداً لدخول باحة البيت العراقي الواحد, إذ الواضح حتى الآن تأهب الجميع خلف ساتر أصواته وإدعاء أحقيته بتشكيل الحكومة والأخطر من هذا وذاك الاندفاع خارج الحدود طلباً للحلول بعد العجز عن صنع حاضرهم في الداخل, حيث أظهرت الرحلات المكوكية لقادة العراق عقب الانتخابات أن حوارهم مع الخارج أكثر من حوارهم مع بعضهم البعض في الداخل, الأمر الذي يعيد إنتاج سيناريو 2005 عندما احتاجت الكتل إلى أشهر, قبل إخراج الحكومة إلى حيز الوجود.
يشهد العراق اليوم سباق محموم للفوز بالكتلة النيابية, في حين أن نتائج الانتخابات لم تُقر رسمياً بعد, من قبل المحكمة الاتحادية, المكونة هي الأخرى جزءاً من المشكلة على خلفية سماحها بإعادة الفرز اليدوي في مدينة بغداد, وهي مسألة لن تغير من المشهد القائم شيئا, كون الفرز الإلكتروني تحت قبضة الاحتلال في بلد لا يزال كل شيء فيه من الناحية العملية تحت الاحتلال, وهو ما يعني إتاحة الفرصة لنسف الانتخابات برمتها, على خلفية إيقاعات الهزات الأمنية المتنامية على حساب تراجع الاستقرار السياسي.
لهذا تظل لغة الشراكة المخرج الوحيد والبديل الأقل كارثية من بقاء العراق دون حكومة أو إخراج حكومة أغلبية موالية لأميركا أو إيران, لما لذلك من تبعات على المشهد الأمني وإعادة تفجير الحرب الأهلية وعدم استقرار الحكومة نفسها بفعل الضغوط والتجاذبات السياسية وتزايد الخلافات داخل الحكومة والبرلمان وتزايد الارتباطات الخارجية, عكس الائتلاف الوطني الواسع أو ما يسمى بحكومة الوحدة الوطنية المحتوية لكل الأطياف.
هشاشة الائتلافات الانتخابية وضعفها وتفاقم الخلافات داخل مكوناتها الرئيسية ومع بعضها البعض, كل هذا يحول دون الظفر بالكتلة النيابية الأكثر عدداً داخل البرلمان الجديد, وبالتالي قناعة الجميع بأهمية إخراج صفقة توافقيه واحده للمناصب السيادية الثلاثة - رئاسة الجمهورية والحكومة والبرلمان والتشكيلة الحكومية – مدعومة بتوافق إقليمي ودولي, لعدة مبررات أهمها: أن الجميع يرفض خيار المعارضة القوية والحكومة القوية, ناهيك عن وجود شبه توافق على رفض التهميش لأي مكون أساسي, ورغبة الجميع في نيل نصيبه من الكعكة العراقية – السلطة والثروة - هذا من ناحية.
ومن ناحية ثانية أن الدستور وإن كان قد نص على مراحل زمنية تحول دون إخراج الصفقة بالتزامن لكن اشتراطاته لجهة اختيار رئيس البرلمان بالأغلبية المطلقة (50 زائد واحد) أي 163 صوتاً ورئيس الجمهورية بأغلبية الثلثين (216 صوتاً) ورئيس الحكومة بالأغلبية المطلقة ومنح الثقة للحكومة الجديدة (82 -163 صوتاً) كل هذا يحتم التوافق, لا سيما في بلد يعتنق النظام البرلماني الجاعل من تشكيل الحكومة, رهناً بتوازن القوى داخل البرلمان وبالتدخلات الخارجية, التي لا زالت حاضرة بقوة وما يترتب على ذلك من تفتيت للتفاعلات السياسية، وتسهيل إنتاج دكتاتورية أغلبية برلمانية, وصولاً إلى تعميق الصراعات بدلاً من حلها, وبالتالي تحويل هذا النظام إلى نقمة على الجميع بدلاً من الاستفادة من ميزته النسبية في تمثيل كل الأطياف, ولذا تظل التوافقات المخرج الوحيد والبديل الأكثر أمناً من الأغلبية البرلمانية الدكتاتورية والأكثر جدية لإنقاذ العراق.
خارجياً: هناك رهانات قوية لتحويل القوة العنفية في المنطقة السنية إلى قوة رسمية وقانونية, حتى لو كانت قوة غير رسمية وغير قانونية بالنسبة لدولة القانون, وسط تساؤل واشنطن عن قدرة دولة القانون والكتلة العراقية في تشكيل الحكومة واحتواء كل الأطياف فيها, بالتوازي مع تراجع الاهتمام الأميركي من وقف النفوذ الإيراني إلى الاكتفاء بمحاولة إضعافه, ناهيك عن فشل إيران في إعادة دمج الائتلاف الوطني مع دولة القانون وبالتالي إقرار الأطراف الخارجية مجتمعة بأهمية الشراكة في العراق الجديد بين أطيافه الداخلية, وأهمية نسج علاقات جيدة مع جواره, وسط تنامي الحديث عن اقتراب تقاطع صفقة أميركية إيرانية سورية سعودية لإخراج حكومة عراقية على الطريقة اللبنانية يلعب فيها علاوي الدور الأساسي إذا لم تسعفه الظروف للعودة إلى رئاستها.

الخيارات والحلول
- خيار المعارضة والحكومة: يفترض وجود حكومة قوية ومعارضة قوية بما له من إيجابيات على الحراك السياسي وعلى نوعية وكفاءة الأداء الحكومي وهناك عدة سيناريوهات لترجمة هذا الخيار منطلقها أن كل الكتل الفائزة علمانية في الأداء وإن كان بعضها إسلامي في الطرح والأهم عدم وجود أي إشارة لإقامة دولة دينية في برامجها الانتخابية ولذا نجده يركز على: إيجاد حكومة ومعارضة ذات استقطاب ديني- علماني تقوم من خلاله القوى الدينية بتشكيل الحكومة والعلمانية بتشكيل المعارضة أو العكس، إيجاد حكومة ومعارضة ذات استقطاب محافظ - ليبرالي وبنفس الكيفية السابقة, تشكيل دولة القانون والائتلاف الوطني والتحالف الكردستاني الحكومة وتوجه العراقية وجبهة التوافق نحو المعارضة, تشكيل الائتلاف الوطني والعراقية والكردستاني الحكومة ودفع دولة القانون نحو المعارضة, والخيار الأخير تشكيل دولة القانون والعراقية للحكومة ودفع التيارات الأخرى إلى المعارضة.
لكن المشكلة في جميع هذه الخيارات أن كل طرف لديه حساباته فيما يتعلق بتكلفه دخول الصفقة أو الخروج منها أو لجهة الانطلاق من هذه الصفقة كحد أدنى للمطالبة بما هو أكثر, ما يجعل من السنوات الأربع المقبلة مفاوضات شاقة داخل مؤسسات السلطة بين المتنافسين بحثاً عن المزيد من المكاسب وبالتالي استمرار الصراع.
- خيار الكتلة البرلمانية الثالثة: يقوم على سلخ الأطراف الرافضة لوجود الاحتلال داخل البرلمان من كافة الكتل لتشكيل كتلة ثالثة ذات أكثرية عددية تسمح بتشكيل حكومة ائتلافية وهو خيار ممكن وسيلقى استجابة خصوصاً وأنه يرمي إلى تشكيل كتلة وطنية غير مقيدة بالانقسامات الطائفية أو الإثنية.
- خيار الشراكة الوطنية الواسعة: يقوم على أساس إنتاج حكومة الأمر الواقع التي "لا رابح مطلق فيها ولا مهزوم مطلق" وهو توجه يحظى بدعم عربي وغربي وداخلي لا سيما وأن كل القوى العراقية ليست في وارد القبول بخيار المعارضة والحكومة لإصرار الجميع على لعب دور في الحكومة المقبلة, سيما وأن العراق لا يزال في طور بناء كيانه السياسي وترصين دعائم دولته وتحديد هويتها وموقعها في جيوبوليتك المنطقة, ناهيك عن أنه ما يزال يستمد بقائه وقدرته على الحياة من موارده النفطية التي تتراكم في خزينة المركز ليوزعها على الأطراف, وهذه بحد ذاتها سلطة هائلة تجعل الجميع راغبين في السيطرة على الموارد وتحديد جهتها, أولاً: لضمان الحصول على نصيب كل مكون من الكعكة العراقية, وثانياً: لضمان عدم تكرار سيناريو التهميش والإقصاء.
لكن دون هذا التوجه عوائق كثيرة منها كثرة الرموز والشخصيات في الكتل الفائزة, وبعضها يقف على مسافة واحده من حيث القدرة والنفوذ والرغبة في الوصول إلى رئاسة الحكومة, كما أنه سبق وأن جربه العراق في السابق وكان محل انتقاد الجميع, والأهم من ذلك كله إنتاجه حكومة ضعيفة وغير متماسكة, ومع ذلك يظل الخيار الوحيد في غياب البدائل الأخرى والسهل الممتنع, مع وجود إمكانية لتلافي سلبياته لكنها تحتاج إلى إرادة وطنية قوية مدعومة بقرارات كبرى إقليمية ودولية وتوافقات داخلية مشفوعة بالتنازلات المتبادلة لصالح الوطن وبالتالي التوافق على:
- توزيع المناصب على أن تكون حكومة تكنوقراطية في الأداء.
- العمل كفريق واحد في تنفيذ المهام وتحمل المسؤوليات وهذا يتطلب من الكتل اختيار أكفئ أفرادها في تولي المسؤوليات الحكومية بعيداً عن الانتماءات الحزبية والطائفية والتأثيرات الشخصية.
- جعل المسؤولية الحكومية أمام رئيس الحكومة مباشرة وليس أمام الكتل لتجاوز حالة الشلل الحكومي.
- حصول تفاهم عربي إيراني تركي على صيغة العراق الجديد.
وتبقى الإشكالية الأهم المتعلقة باختيار رئيس الحكومة, لكنها كما يرى الدكتور وحيد عبدالمجيد ليست من الخطورة كما يصورها الإعلام, لافتاً إلى أهمية الاستفتاء الذي أجراه التيار الصدري حول مرشحه المفضل لرئاسة الحكومة, في حل هذه المعضلة, وهي لا تحتاج إلا إلى تعديل دستوري بسيط يتضمن "الفصل بين انتخاب البرلمان واختيار رئيس الحكومة" لتلافي سلبيات النظام البرلماني, بحيث يتم إخضاع منصب رئيس الحكومة للانتخاب المباشر من الشعب, وهذا من شأنه إعلاء الهوية الوطنية فوق الهويات الإثنية والطائفية, وتدعيم دور رئيس الوزراء, وتحريره نسبياً من ضغوط ومناورات الأحزاب المؤتلفة مع حزبه, وتحقيق درجة أعلى من الاستقرار والتماسك الحكومي, وقطع الطريق على التدخلات الخارجية.
Al-mahbashi@maktoob.com

الثلاثاء، 20 أبريل 2010

السودان: سيناريوهات ما بعد الانتخابات

زيد يحيى المحبشي

صحيح أن الانتخابات في عرف الديمقراطية الدولية تصب في خانة تكريس شرعية الحكم لكنها في الحالة السودانية تبدو مختلفة كلية كونها تنطوي على تكريس شرعية الإنفصال وما بين الشرعيتين معركة فاصلة تنتظر السودان في قابل الأيام. ولذا لم يعد مهماً الحديث عن شرعية الانتخابات وشرعية نتائجها من عدمه, بل عن الاستحقاقات والتداعيات المترتبة عليها, خصوصاً وأنها تُعد الفرصة الأخيرة للإبقاء على هذا البلد موحداً, بما ينطوي عليه ذلك من آمال في دفع نتائجها نحو إحداث تحول ديمقراطي آمن, يخرجه من أزماته المعقدة والشائكة, كما أنه على ضوءها ستكون هناك نقطة اختبار أخرى أكثر صعوبة وهي استفتاء تقرير مصير الجنوب في كانون الثاني 2011, وما ينطوي عليه من إشكاليات وتداخلات كل واحد منها كفيلٌ بإشعال حرب أهلية مدمرة, وسط حالة الإنقسام التي يعانيها شريكي الحكم وتصاعد المخاوف من نشوء معارك جديدة حول نتائج الانتخابات.
المعطيات المصاحبة للانتخابات تشي بأنها لن تكون مخرجاً أمناً بقدر ما هي أداة لإشعال المرارات المتراكمة وتحريك الاحتجاجات المتعاظمة، وصولاً إلى ضياع فرص الوحدة والاستقرار وتحويل الحلم الانتخابي الذي انتظره الشعب السوداني بفارغ الصبر إلى كابوس مدمر.
صورة قاتمة تنتظر السودان إذاً تجعل من محاولات الوقوف عندها بغية رصد ما قبلها أو ما بعدها أو تحليل تداعياتها أمراً في غاية الصعوبة, بدءاً بتعثر مشروع الدولة ومروراً بالأزمات والمشاكل المطاردة هذا البلد من كافة الاتجاهات، وانتهاءً بالمشاريع والأجندة الداخلية والخارجية الطامعة والطامحة إلى تفكيكه, وهو ما يجعلنا أمام سؤال محوري ومفصلي هو: هل ستكون انتخابات 2010 هي الأخيرة بين سودان الغابة والصحراء؟, وبمعنى أدق: هل سيتغير وجه السودان بعدها وفي أي اتجاه سيصب هذا التغير؟.
جير ليجن في تقريره الصادر مؤخراً عن المعهد الهولندي للعلاقات الدولية بلاهاي بدا أكثر تشاؤماً من المرحلة المقبلة راسماً صورة قاتمة لمستقبل السودان وآخذاً على الأطراف المهتمة بتنفيذ اتفاقية نيفاشا 2005 وإجراء الانتخابات والاستفتاء, عدم التفكير الاستراتيجي لما تحمله مرحلة ما بعد 2011 وغياب أدنى تفكير لما سيحدث في العام 2012 وخالصاً إلى وجود أربعة سيناريوهات برزت كنتيجة حتمية لسؤالين محوريين هما:"هل ستكون هناك حرب جديدة بين الشمال والجنوب أم لن تكون هناك حرب؟". وكون الإجابة غير معلومة حتى الآن فإن مستقبل السودان على ما يبدو متوقفٌ على أربعة احتمالات هي
:
- عودة الحرب الأهلية (الحرب مع وحدة البلاد).
- حرب الحدود بين الشمال والجنوب ( حرب الانفصال).
- الإذعان لاتفاقية السلام الشامل( حالة لا حرب مع وحدة البلاد ).
- وضع أشبه بالحالة الصومالية ( لا حرب, ولكن انفصال ).
لكن الأكثر ترجيحاً هو الدفع باتجاه تسهيل الطلاق بين الشمال والجنوب بعد زواج كله مشاكل وخصومات باستثناء فترة العسل التي سبقت رحيل زعيم الحركة الشعبية جون قرنق, رغم مراهنة الخرطوم على الاستفادة من المرحلة المقبلة لترسيخ فكرة الوحدة الجاذبة, وهو رهان يبدو أنه غير مجدي كون اتفاقية نيفاشا قد قسمت الأمور قسمين بين جوبا والخرطوم وهي دلالة إستباقية على أن الانفصال المنظور إليه في جوبا كحق مقدس لم يعد قابلاً للمساومة بل وبات وشيكاً وإن تباينت القراءات حول طبيعة وآلية فك الارتباط.


معضلة التحول الديمقراطي


عوامل عديدة حالت دون اكتمال مشروع الدولة حتى الآن سواء كانت داخلية أم خارجية:

داخلياً:

اتسم المشهد بوجود أحزاب تجاوز التاريخ منطلقاتها وأطروحاتها المعتمدة أساساً على مرجعيات شخصية وشرعيات تاريخية لا تمت للديمقراطية بصلة, وهي واحدة من الطلائع التي تركها الاستعمار لتواصل مسيرتها في تأخير مسيرة التقدم الطبيعي الذي يطمح إليه الشعب إلى جانب كاريزما القبيلة والتي مثلت العامل الرئيسي لكل الأزمات والنزاعات والصراعات في بلد لا أحد يستطيع فيه الوقوف أمام القبيلة وسيطرتها الحديدية على الأفكار والاتجاهات.
في حين مثلت معضلة الإسلام السياسي المدماك الثاني للتشظي الداخلي وسط غياب رؤية واضحة لعلاقة الدين بالدولة والمفضي بدوره إلى تهميش القوى الفاعلة في الداخل وإعاقة إدارة ملف التنمية وبروز العديد من القواسم المشتركة بين قوى الداخل المنتقدة لنظام البشير الإسلامي نتيجة ما لحقها من إقصاء وتهميش بعد ثورة الإنقاذ وبين المشاريع الخارجية وما انبثق عنها من ضغوط سياسية واقتصادية وإعلامية وعزلة دولية, وضعت النظام مباشرة أمام أزمات فرضت نفسها بقوة في شكل أحزاب وقوى داخلية ضاغطة ومنتقدة لتعامله مع ملفات الشمال أو لتوجهه نحو فرض الشريعة على الجنوب ذي الغالبية المسيحية الإحيائية معززة بالعزلة الدولية, وانعدام الأمن واستمرار التوترات العرقية والسياسية وتفاقم الوضع الإنساني الطاغي بقوة نتيجة استفراد المؤتمر الوطني بالحكم في الشمال والحركة الشعبية في الجنوب وانعدام الثقة بينهما, وطغيان حسابات الربح والخسارة وسياسة حافة الهاوية وانعدام الثقة بين المؤتمر وأحزاب المعارضة الشمالية وبين الحركة وأحزاب المعارضة الجنوبية وتبادل الاتهامات حول تغذية المعارضة والصراعات الناشئة في جناح كل منهما.
هذه الأمور مجتمعه ألقت بظلالها على الانتخابات الأخيرة والمتوقع عدم إحداثها تغييراً جذرياً في موازين القوى السياسية, وبالتالي ترشيح معضلة التحول الديمقراطي إلى دورة جديدة من الصراع بين مكوناتها الهشة, نظراً لغياب الإدراك الجمعي بحقيقة أن ما لم يتحقق كله الآن سيتحقق بالتدريج مستقبلاً وهو الأقرب إلى النجاح والثبات والاستيعاب عكس الطفرات المعرضة على الدوام للفشل والانكماش كما هو حال التجارب السابقة التي مر بها السودان.

خارجياً:

لم يكن العامل الخارجي بعيداً عن المشهد السياسي السوداني طيلة العقدين الأخيرين خصوصاً فيما يتعلق بتغذية عوامل التنازع و التحكم في مفردات المعادلة السياسية وما ترتب على ذلك من تداعيات بدت بصماتها واضحة في استفحال النزاعات والصراعات الداخلية وتعميق أزمة الثقة وروح التنازع والتصادم وإرباك النظام الحاكم وإعاقة أي إصلاحات تُؤمن التوزيع العادل للثروة والشراكة الحقيقية في السلطة وعرقلة إنفاذ المصالحات واتفاقات السلام.
وسنكتفي هنا بالإشارة إلى اتفاقية نيفاشا الموقعة في 9 كانون الثاني /يناير 2005 وما تضمنته من تأطيرات ومبادئ لإحلال السلام بعد حرب أهلية مدمرة بين الشمال والجنوب, خلال المرحلة الانتقالية المحددة بـ 10 سنوات وهو ما جعلها مهيمنة على شكل الدستور الانتقالي وقانون الانتخابات والاستفتاء الحاسم لأخطر الجدليات إثارة في تاريخ السودان الحديث, وهي: الوحدة أو الانفصال.
ومعلومٌ أنه لا تزال هناك الكثير من النقاط المعلقة, رغم مرور خمس سنوات على توقيعها, إلا أن الثابت لعب الدول الضامنة وأهما أميركا وبريطانيا والنرويج دوراً محورياً في تحويلها إلى خنجر مسموم في خاصرة الوحدة السودانية ما نجد دلالته في تزايد الضغوط خلال العامين الأخيرين على نظام البشير وسط هالة من التباينات والافتراقات والمحاولات المتكررة لإسقاطه أو تشويه سمعته, كما هو حال مذكرة التوقيف بحقه, وتقدم أميركا صفوف المتحمسين لاعتقاله وعندما فشلت كل المحاولات لم يكن أمامها سوى إعلان سلاح الرفض لمبدأ استمرار المؤتمر الوطني والحركة الشعبية في السلطة لـ 10 سنوات دون تفويض شعبي عبر الضغط بإجراء الانتخابات على أمل دفع نتائجها نحو إضعاف نظام البشير وتقليص هيمنته على مقاليد الأمور.
وهنا تأتي أهمية مقاطعة الحركة الشعبية وبعض أحزاب المعارضة بالشمال والتي أرادة أميركا منها رغم عدم معارضتها استمرار البشير لولاية ثانية إعطاء الحركة الشعبية حجه سياسية وقانونية لفصل الجنوب وإتاحة المجال أمام المعارضة الشمالية للعب دور محوري في إضعاف شرعيه الحكومة المنبثقة عن هذه الانتخابات ومواصلة اتهامها بأنها وصلت إلى السلطة على ظهر الدبابات, الأمر الذي سيشوش المناخ السياسي الملغوم أصلاً ويخلق حالة من التوترات والاستقطابات الحادة سيما وأن هذه الحكومة ستكون معنية بوضع دستور دائم للبلاد وتهيئة الأجواء العامة لإجراء الاستفتاء ووضع الترتيبات الأمنية والسياسية والاقتصادية لمرحلة ما بعد الاستفتاء وإيجاد حل شامل ونهائي لملف دارفور.
إذن فنحن أمام عشق وتلاقي غريب من نوعه بين الغرب والخرطوم لا علاقة له بشعارات حقوق الإنسان والتحول الديمقراطي بل بالأهداف المعلنة والمضمرة لانجاز الاستفتاء وفق الآلية الدستورية والقانونية المقرة في نيفاشا والمتطلبة إجرائه في ظل حكومة منتخبة ومن دون ذلك سيكون من حق الخرطوم تأجيله إلى ما لا نهاية.
وليس اقدر على ذلك سوى البشير خصوصاً وأنه قد اثبت في السنوات الخمس الأخيرة نجاحاً كبيراً في إدارة الصراع مع الجنوب والحيلولة دون خروج الأمور عن السيطرة في وقت تقتضي فيه سلسلة المصالح السياسية الغربية تخفيف الضغط على الخرطوم لاستكمال الفترة الانتقالية بسلام وتهيئة الرأي العام السوداني لتقبُّل نتائج الاستفتاء ولكن مع استمرار رهانات الإطاحة بالبشير والأمل هنا في الاستفادة من السنوات الأربع المقبلة لإعادة تنظيم وتأهيل معارضة الشمال بما يمكنها في الانتخابات المقبلة من معاودة تصدر المشهد السياسي والحكم وتشكيل حكومة موالية للغرب .
وفي المحصلة يمكن النظر للموقف الغربي من زاويتين الأولى "ايجابية": ترى أن مصالح الغرب تقتضي بقاء السودان موحداً لاعتبارات عديدة أهمها: أن الحركة الشعبية وقوى المعارضة الشمالية لو وصلت إلى الحكم بعد أربع سنوات ستكون متوافقة مع الغرب وهذا بدوره يقتضي مواصلة الضغط على البشير من أجل فك قبضته قليلاً من خلال القبول بفكرة حكومة الوحدة الوطنية التوافقية لإثبات مرونته والاهتمام بكل ما ورد في برامج الأحزاب من نقاط تنموية وسياسية من أجل الوحدة الوطنية وتحسين صورة السودان ورتق نسيجه الاجتماعي في دارفور والمصالحة الوطنية مع الجنوب وقوى الشمال على أمل دفع الانتخابات الأخيرة نحو التئام الأحزاب المنشقة والحركات المسلحة المنشطرة والمتشظية.
الثانية "سلبية": ترى أن تجربة الخرطوم وجوبا السابقة غير مشجعة على الاستمرار في الشراكة في وقت بدت المواقف الأميركية تصب في خانة فصل الجنوب رغماً عن الإرادة الإفريقية ورغماً عن التداعيات المترتبة على هذه الخطوة وفي مقدمتها تهديد مصالح الجوار العربي الحيوية ومما يعزز ذلك أيضاً تعاظم السلوك الاستقلالي لجوبا لكن دون اعتماد سياسة تجعل من الوحدة عامل جذب, وهذا من شأنه تعزيز فرص نجاح أميركا وهو الأهم في الانفراد بنفط الجنوب الذي يشكل 80 بالمائة من نفط السودان وهو هدف استراتيجي ثابت في السياسة الأميركية إلى جانب اتخاذ الجنوب كقاعدة انطلاق لمحاصرة أو احتواء أو خلخلة النظام الإسلامي بالشمال تحت ذريعة التباس العلاقة بين الدين والدولة والتي شكلت شعرة معاوية بالنسبة للسيناريو الغربي تجاه جنوب السودان والدافعية الحقيقية للضغط باتجاه اتفاق نيفاشا.
وهنا تكمن أهمية المرحلة المقبلة وليس أفضل من البشير لتوفير شروطها الايجابية – الوحدة الجاذبة - والسلبية – التقيد بنتائج الاستفتاء- والمكونة في إطارها العام عامل قوة بالنسبة للبشير في مواجهته معارضة الشمال وليس فيما يرفعونه من شعارات واتهامات مع احتمال اشتداد المنازلة بين البشير ومعارضة الشمال فيما يتعلق بمعالجة استحقاقات ومقتضيات ما بعد فصل الجنوب بالتوازي مع رفع المجتمع الدولي والأمم المتحدة والحركة الشعبية ودول الجوار لدرجة الاستنفار القصوى.

الخيارات والتداعيات المحتملة

فشل نظام الإنقاذ في معالجة المشاكل العالقة والأزمات المتراكمة ترك بصماته مباشرة على المرحلة المقبلة والمتطلبة أكثر من أي وقت مضى إرادة سياسية فولاذية وحكومة توافقية يشارك فيها الجميع لأنها ستكون معنية برسم مستقبل هذا البلد في مرحلة هي من أخطر المراحل التاريخية وأكثرها سخونة, لم يعد فيها ممكناً القبول بأنصاف الحلول, بل صار المشهد السوداني مفتوحاً على كافة الاحتمالات بما يترتب عليها من تداعيات كارثية باتت تهدده بالتفكك والانهيار, في وقت لازالت الأجواء محاطة بالكثير من الضبابية, رغم انتهاء صخب الانتخابات, وسط تصاعد أسهم بازار الخيارات والسيناريوهات الدائرة حول: الوحدة الجاذبة والوحدة بالقوة والانفصال السلمي والانفصال التصادمي وجدلية الهوية السياسية وغيرها من المعطيات القاتمة.

أولاً : خيارات الوحدة الجاذبة

الانتخابات الأخيرة تشكل فرصة ذهبية للعودة إلى المسار الطبيعي, من خلال استفادة المؤتمر الوطني من تجديد شرعيته للأربع السنوات المقبلة لصالح تعميق مفهوم الوحدة الجاذبة باعتبارها آخر أشواق الإبقاء على وحدة الكيان, ولكنها في ذات الوقت متوقفة على إتجاهين:

الاتجاه الأول:

تشكيل حكومة توافقية: يُبدي من خلالها المؤتمر الوطني قابلية الاحتواء لكل الأطياف بما يضمن جماعية العمل للحفاظ على وحدة البلاد بعيداً عن خيار الانفصال وتأمينها من التمزق والاحتراب والتوجه الجدي للاهتمام بالتنمية والعدالة والرفاهية والتي تمثل الأساس لبناء الأشياء الأخرى, خصوصاً تجاه دارفور والجنوب, وما يتطلبه ذلك من إيجاد صيغة جديدة للحكم تكون أكثر توازناً وعدالة, من بوابة الإنزال الآمن للحكومة المقبلة وما يقتضيه ذلك من رسم إستراتيجية محدودة وذات سقف زمني محدد لانجاز مهام محددة للخروج من المأزق الانفصالي, يتلمس فيه الجميع أهمية الوحدة.
وهذا بدوره يتوقف على إبداء الحركة الشعبية بعض التفهم لقوى الشمال التي تقف معها في الكثير من المواقف وبإمكان كافة القوى مضاعفة الجهد لإقناع سكان الجنوب بأن مصلحتهم الحقيقية في الوحدة بالاستفادة من الكارثة الإنسانية غير المسبوقة التي يعيشها الجنوب حالياً والمستدعية تضافر جهود شريكي الحكم لاحتوائها ومن المؤكد أن الجوعى لن يستطيعوا حتى مجرد الوصول إلى صناديق الاستفتاء العام المقبل, وإن وصلوا فسيكون رد فعلهم سيئاً تجاه شريكي الحكم معاً ما يربك الموقف ويزيده تعقيداً.
ومما يعزز الوحدة الجاذبة أيضاً استمرار التوتر والاشتباكات في الجنوب في ظل عدم تمتع قواته بالموارد الكافية وانعدام الثقة بين قواه السياسية والقبلية بما ينذر بولادة دولة عاجزة وغير قابلة للحياة في حال قرروا الانفصال وتزايد الضغوط داخل الجنوب نفسه لصالح الوحدة ناهيك عن الانقسام والتباين بين جناحي الحركة الشعبية في الشمال والجنوب معززاً بسياسة الحركة القائمة على التصادم القبلي والميليشاوي المنذر بدورة جديدة من الصراعات ذات الأطماع السياسية وخلق بؤر جديدة للتوتر المحلي نتيجة الوضع الذي خلقته سياسة الحركة القائمة على الإقصاء والتهميش والمحسوبية واختلال الأمن والقبلية وكلها عوامل لا صله للشمال بها.
وإجمالاً يشير تقرير صادر مؤخراً عن المعهد الأميركي للسلام كتبه "ألن شوارتز" إلى أنه في ظل عدم التغير في الأوضاع الحالية فإنه من الصعب جداً اجتناب العنف السياسي مرجحاً إخفاق حكومة الجنوب في بسط سلطتها على الجنوب كون غالبية المناطق تُدار من قبل زعماء القبائل وقادة المليشيات السابقة والفشل في حل القضايا العالقة مع الشمال لتسهيل عملية الاستفتاء ومكمن الخطورة هنا إشارته إلى أن تزايد إنفاق حكومة الجنوب على الآلة الحربية قد أسهم بصورة مباشرة في خلق فجوة كبيرة في توفير الخدمات الاجتماعية وهو ما سيكون له تداعيات كارثية على اتفاق السلام في حين تتذرع الحركة بالمقولة الشهيرة "إذا كنت ترغب في السلام فعليك بالاستعداد للحرب".

الاتجاه الثاني:

تعزيز الحكومة التوافقية: بالتوجه نحو اعتماد الكونفدرالية باعتبارها الحل الأمثل لإشكالية الصراع على السلطة والثروة والضامنة الوحيدة لحصول الجنوب على حكومة تنفيذية كاملة الصلاحيات تدفعها إلى التوافق مع الأحزاب المعارضة بالجنوب لتشكيلها وتؤهلها لإعمار الجنوب كما سيمكن إقليم دارفور من حكم أنفسهم وتعويض المتضررين من الحرب وإقامة نظام مصالحة قومية لكل ما اُرتكب من الجرائم لمسح الآلام والأحزان والضغائن.

ثانيا: خيارات الانفصال

يتمحور الحديث هنا عن نوعين هما الانفصال السلمي والانفصال التصادمي وكلاهما له تبعاته لكن الأهم من هذا هل سيكون نظام الشمال مستعداً للتعايش مع جنوب مستقل يضم 80 بالمائة من احتياطي نفط البلاد؟ وماذا عن الأحزاب الشمالية الأكثر قومية وميلاً نحو الإسلامية التي قد تكتسب نفوذاً بعد الانفصال؟ وهل سيكون الانفصال بصورة سلسة وقانونية تسمح بالتعايش وحسن الجوار أم العكس؟.

1- الانفصال السلمي:

وهو الأكثر واقعية وترجيحاً لأنه يظل أفضل بكثير من تكاليف انهيار نيفاشا خصوصاً في هذه المرحلة المقتضية من نظام البشر تحديداً تطبيع علاقاته مع الغرب إن أمكن لكن دون هذا متطلبات يجب توافرها قبل اقتراب موعد الاستفتاء.
أ- المتطلبات والشروط: يذهب المؤتمر الوطني إلى انه قد أنجز 95 بالمائة من اتفاق نيفاشا بما فيها التوصل في العام الماضي إلى اتفاق حول مشروعات قوانين الاستفتاء والمناطق المتنازع عليها- أبيي والمشورة الشعبية- بالتوازي مع بروز العديد من المعطيات في العامين الأخيرين كلها تصب في خانة وجود تهيئة إستباقية لدى الخرطوم والعديد من دول المنطقة للتعايش السلمي مع الجنوب ولو بحذر, بل هذا ما تتوقعه وبالتالي استبعاد تجدد الحرب الأهلية.
وهذا بطبيعته يحتاج إلى استغلال المرحلة المقبلة لتكثيف جولات التسوية والتوافقات حول المسائل المعلقة فيما يتعلق بما بعد الانفصال من قبيل: النفط، ترسيم الحدود بما فيها حدود أبيي وفقاً لقرار محكمة التحكيم الدولية بلاهاي (تموز/ يوليو 2009), ومياه النيل, والنيل الأزرق, وجبال النوبة وجنوب كردفان، ونظام الاستفتاء ولوائح من يحق لهم المشاركة فيه وحسم الجنسية والتبعية للدولة الناشئة والتعويضات المالية الإدارية للعاملين بالوزارات والجيش والشرطة – العمل والقوات المدمجة - ورجوعهم للجنوب، والرعي وأصول الحكومة وديونها وعلاقة الدولتين والاتفاقيات والمعاهدات الدولية وغيرها.
وهنا تأتي أهمية الدور الأميركي على وجه التحديد سواء للضغط على حكومة الجنوب لتسهيل هذا الواقع عبر التوصل إلى تسوية تحافظ على وجود شكل من تقاسم عائدات النفط كون معامل التكرير وأنابيب التصدير في الشمال واحتياطي النفط الرئيسي في الجنوب وذلك من اجل تخفيف التداعيات الاقتصادية المترتبة على فك الارتباط وكذا الضغط باتجاه حسم الخلاف حول المناطق المتنازع عليها إذا ما كانت حكومة الجنوب ترغب في الحصول على الاعتراف الدولي إلى جانب منح الخرطوم الضمانات اللازمة بأن الانفصال لن يكون على حسابها اقتصادياً أو دبلوماسياً تشمل نزع العقوبات وتطبيع العلاقات.
وكلها ستسهم في خلق علاقة حسن جوار مدعومة بترميم العلاقة مع دول الجوار والمجتمع الدولي خاصة مع تشاد واريتريا وأوغندا.

ب- التداعيات المحتملة:

من غير الواضح حتى الآن ما إذا كانت الدولة الجديدة ستكون قابلة للحياة أم ستكون مجرد منطقة موضوعة تحت الحماية الدولية؟ كما هو السؤال عن قابليتها للتعايش السلمي من عدمه مع الشمال؟.
صحيح أن السلام شرط مسبق كي تكون الدولة الجديدة قابلة للحياة لكنه ليس ضمانة أكيدة في ظل الحكم الذاتي السيئ الصيت بالجنوب وغياب التنمية ما يلقي على الدول المانحة عبئ دفع الفواتير اللازمة للحيلولة دون سقوط الدولة الجديدة, والمتطلبة ضخ مليارات الدولارات سنوياً وبالتالي ذهاب التوقعات إلى أنها ستولد مع كل خصائص الدول الأكثر هشاشة في العالم.
ولذا لم يخفي حلفاء جوبا- أميركا والاتحاد الأوربي وكينيا وأثيوبيا وأوغندا- خشيتهم من أن تصبح دولة الجنوب الدولة العاجزة التالية بعد الصومال كما هو الخوف من تحولها إلى مصدر إلهام للحركات الانفصالية في شمال السودان وأفريقيا عموما وداخل الجنوب نفسه حيث التنافس المستعر على الموارد النادرة والمؤلبة للمتحدات والمجموعات العرقية بعضها على بعض ما يعني أن التحذيرات في العام 2012 لن تكون من تجدد الحرب مع الشمال بل من خيبة أمل متفاقمة وخصومات متزايد بالجنوب المتصدع اجتماعياً حتى النخاع.
كما هو التساؤل عن مصير الكوادر الشمالية داخل الجنوب والكوادر الجنوبية داخل الشمال وما يترتب على ذلك من نزوح كارثي قد يفوق ما جرى في دارفور وتبقى الحدود خاتمة الأثافي وخط النار الأكثر سخونة بدءاً بجبال النوبة ومروراً بالنيل الأزرق وأبيي وجنوب كردفان وانتهاءً بشرق وغرب السودان وكلها أوراق تراهن عليها جوبا مستقبلاً لإشعال البيدر الشمالي.


2- الانفصال التصادمي:

ويتوقف أساساً على إرجاء الاستفتاء إلى ما لا نهاية بما يؤدي إلى استحالة التعايش وتجدد الحرب الأهلية كردة فعل على موقف الخرطوم وقد يكون نتيجة إلغاء الاستفتاء والاستعاضة عنه بكونفدرالية تعطي الجنوب الحق في إقامة دولة كاملة الصلاحيات وتربطها بالشمال علاقة رأسية أو التوجه إلى إعمال القوة للإبقاء على الوحدة وأخفها وطأة التوجه إلى تمديد الفترة بين نتائج الاستفتاء في حال كانت لصالح الانفصال وبين تأسيس الدولتين تحت دواعي حسم نقاط الجدل وكلها تنذر باستشعار مبكر لقنابل المشاكل المعلقة وما تحمله للسودان من كوارث في قابل الأيام خصوصاً إذا ما قرر الجنوب فك الارتباط من جانب واحد.

التداعيات المحتملة

1- تجدد الحرب الأهلية نتيجة الاختلاف على ترسيم الحدود في أبيي والمشورة الشعبية وجنوب كردفان والنيل الأزرق وغيرها من حدود 1956التي لم تحسم بعد أو تنفيذ الاستفتاء حول تبعيتها أو عدم الاتفاق بما يحمله من أبعاد نفطية وأيديولوجية وقبلية من شأنها خلق تمردات جديدة بدعم من الحركة الشعبية خاصة في حال كان الانفصال متوتراً قد تتجاوز نقاط التماس إلى دارفور.
2- احتمال نشوء عنف قبلي في الجنوب أكثر مما هو عليه حالياً واستمرار تحميل الحركة الشعبية للخرطوم المسؤولية كما هي عادتها سابقا لتبرير دعمها للتمردات التي قد تنشأ في الشمال.
3- تزايد الاضطرابات السياسية في أقاليم الشمال المطالبة بالمزيد من الحكم اللا مركزي واقتسام الثروة مع المركز معززاً بسيل من الاحتجاجات على معالجة الحكومة لاتفاقات السلام وتوجه بعض الجماعات للمطالبة بحق تقرير المصير أو الانفصال الكلي عن السودان.
4- زيادة الاستقطاب السياسي بين الحكومة والمعارضة بالشمال وتحميل المعارضة الخرطوم مسؤولية انفصال الجنوب وما يترتب على ذلك من إرباك وتفكك وانشقاقات قد تُمهد لاندلاع انتفاضة شعبية تقودها المعارضة لإسقاط نظام البشير مدعومة بزيادة وتيرة الضغوط الدولية في مجال التعامل مع المحكمة الدولية ورعاية حقوق الإنسان وتحقيق بنود اتفاقات السلام.
5- ويبقى العامل الاقتصادي الأكثر سوداوية خصوصاً وأن حكومة الخرطوم ستفقد نصيبها من عائدات النفط الجنوبي المشكل 80 بالمائة من كل عائدات البترول السوداني البالغة 60 بالمائة من موازنة الحكومة الاتحادية وما يترتب على ذلك من مشاكل اقتصادية غير محمودة العواقب وسط سريان الحديث في أوساط الحكومة الجنوبية للتوجه نحو تشييد خط نفطي جديد يربطها بميناء ممبسه الكيني وبناء مصفاة تكرير بالجنوب حتى لا تعتمد على الشمال غير المؤتمن بنظرها.

المصادر

- فيليب دو بونتيه، السودان يقف حائراً عند مفترق الانتخابات، معهد كارنيجي الأميركي، 3 نيسان/ ابريل 2010.
- منصف السليمي، انتخابات السودان تغرق في مزيد من الانقسام والعزلة، موقع دوتيشه فيله، 2 نيسان/ ابريل 2010.
- د.الطيب زين العابدين، تداعيات انفصال الجنوب، وله أيضاً: تحديات وتداعيات الانتخابات السودانية، مركز الجزيرة للدراسات، 27 كانون الأول/ ديسمبر 2009، 21 شباط/ فبراير 2010.
- أسماء الحسيني، الانتخابات السودانية هل تتحول من حلم إلى كابوس، حركة العدل والمساواة السودانية، 5 نيسان/ ابريل 2010.
- أسامة علي عبدالحليم، تأملات حول الانتخابات السودانية، صحيفة الحوار المتمدن، 4 نيسان/ ابريل 2010.
- السودان ما بعد الانتخابات، ندوة علمية نظمها حزب الغد المصري بالقاهرة، 23 آذار/ مارس 2010.
- السودان بين مواجهة التدخلات الخارجية وانجاز الاستحقاقات الصعبة، النور السودانية، 3 شباط/ فبراير 2010.