Translate

الأربعاء، 24 مارس 2021

خفايا وأسرار العلاقات اليمنية الصهيونية 1/4

اليمن في مواجهة ثالوث التهويد والصهينة والتجنيس

زيد يحيى المحبشي؛ مركز البحوث والمعلومات؛  24 مارس 2021

منذ قديم الزمان واليمن حاضرة بقوة في أجندة الأطماع اليهودية بسبب الموقع الاستراتيجي الذي تتمتع به، والتحكُّم في مضيق باب المندب، والذي يُعتبر بمثابة مجمع الأمن الإقليمي وهمزة الوصل بين الشرق والغرب، وتعززت أطماع اليهود بعد وعد بلفور المشؤم عام 1917، والذي منحهم وطناً بديلاً في فلسطين المحتلة بعد قرونٍ من الشتات والتيه، وكانت اليمن قبل صدور الوعد إحدى البلدان المتداولة في أوساط اليهود لإقامة دولتهم الموعودة، لهرطقات دينية تدعي وجود الهيكل السليماني فيها.

وبصدور الوعد المشؤم بدأت الوكالات الصهيونية بجمع شتات يهود العالم إلى فلسطين، برعاية وحماية بريطانيا وتمويل أميركا، ومعها بدأت المشاريع الصهيونية في اليمن والبحر الأحمر وبوابته الجنوبية تتكشف تِباعاً، معززة بقائمة طويلة من مصالح رعات إسرائيل، الذين رأوا فيها الوكيل المؤتمن على مصالحهم في منطقة تعج بكل ذباب العالم.

وفي نوفمبر 1947 صدر قرار الأمم المتحدة رقم 181 الخاص بتقسيم فلسطين المحتلة بين اليهود الغاصبين وأصحاب الأرض والحق، فصوتت المملكة المتوكلية اليمنية ضد هذا القرار الجائر، والذي بموجبه أصبح الكيان اللقيط واقع يتمتع بشرعية دولية عوراء، على العرب قبوله والتعايش معه، وهذا القبول بحاجة إلى تخليق أنظمة خانعة، وخاضعة، وبالفعل نجح الرهاب الأميركي في إقناع مصر السادات بالتطبيع مع الكيان اللقيط وتوقيع معاهدة سلام، تلاها الأردن، وبعد عقدين من الزمن زاد عدد المسبحين بحمد التطبيع جهاراً ليشمل الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، والبقية سراً ومخافتة، وأصبحت صفقة العار الأميركية مزاراً للهاربين من غضب شعوبهم، والتطبيع أماناً للحفاظ على كراسي العفن العربي.

وفي وسط معمعة الانبطاح والخنوع ظلت اليمن الحاضر الغائب في القاموس الصهيوني، والأكثر تأريقاً لأحلامهم الاستعمارية في منطقة تموج بالمسبحين والمستغفرين، لكن لا جدوى من كل ذلك، ما دامت اليمن لازالت تغرد خارج السرب، وتعظم الكارثة مع ظهور حركة أنصار الله في البلد المنكوب بلعنة الجغرافيا والتاريخ، وتمكنها في سنوات معدودة من قطع أنفاس الطامعين في تل أبيب وواشنطن، وتلقين أحذيتهم الإقليمية دروساً ستظل قبساً يستضيئ به الباحثين عن الحرية والكرامة والعزة والسيادة والريادة والاستقلال والتحرر من التبعية والاستكبار لعقود، إن لم يكن لقرون قادمة، بعد عقود من الخضوع والخنوع.

لكن مشاريع الهيمنة هي الأخرى ما زالت تعمل بلا كلل ولا ملل في بذل محاولات جر اليمن إلى مستنقع التطبيع، ولا فرق بين ترامب وبايدن، فكلاهما يسير في نفس النسق، وإن اختلفت أدوات التنفيذ، فالهدف واحد، صفقة القرن لا رجعة عنها، ومشاريع التطبيع لا رجعة عنها، وحماية الكيان الصهيوني من المقدسات الغير قابلة للمساومة، وعلى اليمن الاختيار بين التطبيع هرباً من نيران العاصفة، أو السير في طريق شهيد كربلاء المحفوف بالمخاطر، وهيهات منا الذلة.

ولأن لعنة الجغرافيا وضعت اليمن في إطار جغرافي مهم وحيوي لمصالح الولايات المتحدة، بسبب التحكم في مضيق باب المندب، لذا لا يمكن الحديث عن السياسة الأميركية في منطقة حيوية بالنسبة إليها من دون الإشارة إلى مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يستهدف تقسيم المقسّم وتجزئة المُجزَّأ على أنقاض اتفاق "سايكس - بيكو" 1917، والذي يستهدف بالنهاية إعادة هندسة المنطقة العربية بما يتناسب مع مصلحة إسرائيل، وإشراكها ضمن نظام شرق أوسطي تؤدي فيه دوراً واسعاً، وهو الهدف الجامع لصفقة القرن ومشاريع التطبيع.

 

أحلام التهويد:

واحدة من الأهداف الكبرى للمشروع الصهيوني، التي تم وضعها في قائمة بنك الأهداف العبرية منذ بداية القرن التاسع عشر الميلاد:  تحويل البحر الأحمر إلى بحيرة يهودية، انطلاقاً من زعمهم بأن "بحر سوف" المذكور في سفر الخروج هو نفسه البحر الأحمر، وبالتالي فهو حق تاريخي لليهود بمقتضى النص التوراتي.

قبل احتلال فلسطين، تم طرح أسماء عدة أماكن قريبة من البحر الأحمر لتكون وطنناً لليهود منها اليمن وأثيوبيا وجنوب السودان، لكن وقع الاختيار في الأخير على فلسطين المحتلة، بالتوازي مع تكثيف التحركات الصهيونية لإيجاد موطئ قدم في القرن الأفريقي وباب المندب تحديداً لأسباب تتعلق بالحفاظ على الوجود الصهيوني.

وبالفعل نجحت شركة SIA الزراعية الصهيونية عام 1920 في افتتاح مشاريع استثمارية في غرب أرتيريا، وقد سبق لنا الحديث عن هذا في سلسلة قراءات نشرها مركز البحوث والمعلومات قبل أشهر، وبعد ترسيخ وجودها في فلسطين المحتلة، تنامي وجود الكيان الصهيوني في المناطق المحيطة بباب المندب، وتوثّقت علاقاته بأثيوبيا، ونجح في استئجار عدة موانئ في القرن الأفريقي، وإقامة قواعد عسكرية، ومراكز رقابة استخبارية.

التمدد الصهيوني في القرن الأفريقي يأتي انطلاقا من الإستراتيجية الإسرائيلية تجاه تلك المنطقة، والتي عبر عنها الدبلوماسي العبري الشهير "والتر إيتان" في خمسينيات القرن الماضي: "إن أمن إسرائيل من أمن وحرية بوابتها على البحر الأحمر"، متعهداً بالدفاع عن هذه البوابة مهما كلف الثمن، لهذا كان الكيان الصهيوني في مقدمة المباركين والداعمين لعاصفة الإثم السعودية الإماراتية منذ يومها الأول، وتوظيفها لخدمة مشروع تهويد البحر الأحمر، وتأمين بوابة الدموع في باب المندب.

 

فخ الصهينة:

 الوجود اليهودي في اليمن ليس وليد اللحظة، كانت اليهودية من الديانات الرئيسية التي انتشرت وسادة في اليمن قبل الإسلام، وحافظ من تبقَّ منهم بعد الإسلام على وجودهم، وأصبحوا جزءاً من هوى وهوية اليمن، وحصلوا على كامل حقوقهم في عهد أئمة الزيدية، بما في ذلك الحماية والرعاية من قبل الدول الزيدية المتعاقبة، وحرية ممارسة الشعائر الدينية.

ومع بداية ظهور الوكالة الصهيونية، تم استمالت العديد من يهود اليمن، وترغيبهم بالهجرة إلى فلسطين المحتلة، مقابل منحهم وعوداً بمزايا، سرعان ما تبخرت مع بداية وصولهم إلى فلسطين المحتلة.

ونشطت العديد من المنظّمات اليهوديّة الأوربيّة، في اليمن، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، تحت مبرر تحسين وضع يهود اليمن، وشهد العام 1911 أول نشاط صهيوني في اليمن، تمثل في زيارة "شموئيل يفنئالي" مبعوث "منظّمة العامل الصغير" الصهيونيّة، وسكرتير "منظّمة الاستيلاء على الأراضي"، منتحلاً صفة "حاخام" فلسطيني، ونجح بالفعل في إقناع عدة أسر من يهود اليمن بالهجرة إلى فلسطين المحتلة.

بدأت هجرة يهود اليمن الى فلسطين المحتلة بعد صدور وعد بلفور عام 1917، والذي بموجبه منحت بريطانيا فلسطين لليهود كي يقيموا عليها دولتهم، وكانت هجرة يهود اليمن عادة ما تتم بصورة سرية، وفردية، ومتقطعة، وغير منتظمة، وبعضهم جاء الى فلسطين قبل ذلك.

في العام 1923 تنبه الإمام يحيى حميد الدين لنشاط الوكالات اليهودية، فأصدر رحمة الله عليه قانوناً يمنع اليهود من السفر إلى فلسطين، ومع ذلك استمرت الهجرة بشكل سري ومتقطع، وكان يهود اليمن الجماعة اليهودية العربية الوحيدة التي تواجدت بأعداد كبيرة في فلسطين المحتلة قبل عام 1948، وهاجر جزء كبير منهم أيضاً إلى بريطانيا.

ومثلت مستعمرة عدن قاعدة لتنسيق نشاط المنظمات الصهيونية، وتحدثت المصادر التاريخية عن أخذ المنظمات الصهيونية عدداً من شباب يهود عدن لتدريبهم في المعسكرات الصهيونيّة في فلسطين المحتلة، وإعادتهم إلى عدن بعدها، والهدف من هكذا خطوة محاولة صهينة يهود اليمن، وتوظيفهم لصالح الاستعمار البريطاني الأب الشرعي للكيان الصهيوني.

وفي العام 1947 وقعت مجزرة ليهود عدن، فاستغلت الوكالة الصهيونية تلك المجزرة، ونجحت في تهجير نحو 50 ألف يهوديّ يمنيّ الى فلسطين المحتلة بما أُسمي حينها بعملية "بساط الريح" أو ما يعرف عبرياً بعملية "ميكتزي تايمان" وتعني بالعربية عملية "أقاصي اليمن"، وهي أول عمل أمني إسرائيلي في اليمن، بدأ التحضير لها في العام 1944، بالتنسيق مع الاحتلال البريطاني في عدن.

واستمرت بعدها الوكالة بنقل من تبقى من يهود اليمن بالتنسيق بين المؤسسات الأميركية والصهيونية داخل فلسطين المحتلة، وتكفلت الحكومة الأميركية بتغطية نفقات إعادة توطينهم داخل فلسطين المحتلة، ونفقات عمليات نقلهم من اليمن، وكانت تتم عادة بطرق سرية، وبصورة متقطعة، وغير منتظمة، باستثناء عملية بساط الريح.

وكان عدد اليهود في العام 1948 نحو 55000 نسمة يعيشون في شمال اليمن، و8000 في آخر مستعمرة بريطانية من عدن.

وفي عهد نظام "علي عبدالله صالح"، يذكر المؤرخ اليمني "مطهر الإرياني"، أن وفداً إسرائيلياً – من منظمة "ساتمار هاسيديم" الصهيونية - زار صنعاء ومُدناً يمنية – في ثمانينيات القرن العشرين - وقُوبل باستياء شعبي كبير، بلغ حد تلفظ الأهالي عليه بألفاظ قاسية، ووصل الحال ببعض السكان في قاع العلفي – بصنعاء - الذي كان يعرف بقاع اليهود قديماً إلى طردهم من الحي، بعد أن سألوا عن بعض الأسماء التي كانت تسكن هناك، وأرادوا التعرف إلى منازلهم".

وفي 21 مارس 2016، تمكن الكيان الصهيوني من نقل 19 يهودياً من اليمن، وهي أخر دفعة هجرّتها إسرائيل من يهود اليمن سراً، وأحدثت جدلاً عارماً حول وجود علاقات لتل أبيب مع أطراف نافذة داخل اليمن موالية لتحالف العاصفة.

ورغم سيل المغريات التي قدمتها الوكالة اليهودية ليهود اليمن، كان الوضع في فلسطين المحتلة مغايراً تماماً، وكان حال اليهود اليمنيين المهاجرين أكثر بؤساً وشقاءاً، ولحقهم الكثير من الظلم، ناهيك عن قيام الأجهزة الصهيونية بخطف أكثر من 5000 من أطفالهم، وبيعهم للعائلات الإشكنازية والأميركية – وبلغت قيمة الطفل من يهود اليمن حينها 5000 دولار - ومعاملتهم أقلّ من أقرانهم اليهود الغربيين.

ونشطت في العقدين الأخيرة العديد من مراكز الأبحاث الصهيونية، منها مركز "قافي"، ومركز "دايان"، في توثيق ممتلكات ورصد أماكن سكن اليهود في الدول العربية وخصوصاً في جزيرة العرب واليمن، وجمع البيانات والخرائط التاريخية، وإرسال مختصين، بغرض استعادة أملاكهم.

ومما يُحسب للإمام يحيى حميد الدين إلزام اليهود ببيع ممتلكاتهم قبل مغادرة اليمن، ما يجعل مخطط استعادة أملاكهم في المحافظات الشمالية والغربية ساقط قانونياً.

 

لغم التجنيس:

كشف المتحدّث باسم القوات المسلحة اليمنية "يحيى سريع" في مؤتمر صحفي بتاريخ 5 أكتوبر 2020، عن وثيقة سرّية أصدرتها السفارة الإماراتية بصنعاء في 3 مارس 2004، تتضمن مخطط صهيوني لإعادة توطين وتجنيس عشرات الآلاف من الإسرائيليين في اليمن، بالجنسية اليمنية، بطلب من وفد "هيئة التراث اليهودية".

الوثيقة حملت رقم 1/1/ 4-11، أرسلها سفير الإمارات لدى اليمن، "حمد سعيد الزعابي"، إلى وكيل وزارة الخارجية الإماراتية، تحدث فيها عن زيارة وفد من هيئة التراث اليهودية إلى اليمن، ولقائه بالعديد من المسؤولين اليمنيين، بِمَن فيهم "علي عبد الله صالح".

وضم الوفد: "يحيى مرجى" يحمل الجنسية الصهيونية، و"إبراهيم يحيى يعقوب" يحمل الجنسية الأميركية، و"سليمان جرافى"، وأتت زيارته في إطار الجهود الصهيونية للتطبيع مع اليمن.

ومن أهم وأخطر المطالب التي قدمها الوفد إلى نظام "صالح": إعادة توطين وتجنيس 45 ألف يهودي من الكيان الصهيوني، و15 ألف يهودي أميركي بالجنسية اليمنية، بما لذلك من مفاعيل كارثية على الأمن القومي اليمني.

والتقى الوفد بـ"صالح"، ونائب وزير داخليته "مطهر المصري"، وقائد المنطقة الشمالية - الغربية ورئيس مصلحة الجوازات، "علي محسن الأحمر".

وأكدت الوثيقة زيارة "مطهر المصري" للكيان الصهيوني، بترتيب مع هيئة التراث اليهودية.

مخطط التجنيس يأتي في سياق الجهود الأميركية المبذولة لجر اليمن إلى مستنقع التطبيع، وتمكين الكيان الصهيوني منه، وتفخيخ السلم والأمن المجتمعي اليمني، وهو من المشاريع القذرة التي تكفلَّت الإمارات بلعب الوسيط في ترويجها وتمويلها خدمة لأسيادها في تل أبيب وواشنطن.

وعن سبب اهتمام السفير الإماراتي بهذا الحدث، ترى الكاتبة اللبنانية "بيروت حمود"، أن الهدف من ذلك إطلاع وكيل وزارة الخارجية الإماراتية على الدور الذي يُراد لصنعاء أن تلعبه في إطار ما سمّاه "التطبيع اليهودي اليمني"، والذي يندرج ضمن "مخطّط أكبر ترسمه الولايات المتحدة للمنطقة".

وتحدث تقرير صادر عن أحد مكاتب الخارجيّة الأميركيّة بتاريخ 30 مايو 1998، عن إعادة تفعيل المعابد اليهوديّة والمسيحيّة، والدور الذي تلعبه القوات الأميركيّة في عدن لحماية أفراد الجالية اليهوديّة في صعدة وصنعاء، وإنشاء قاعدة بحريّة أميركيّة لقوات المارينز في منطقة البريقة بمحافظة عدن.

الصورة بمفرداتها تؤكد صحة المؤكد في تواطؤ نظام "صالح" مع الأميركيين، واستعداده منذ وقت مبكر لتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، إلا أن تدحرج الأحداث، وانفراط العقد على "صالح"، حال دون ذلك.

 

 المراجع:

1 - الموسوعة الحرة "ويكيبيديا"، العلاقات اليمنية الإسرائيلية.

2 - أيمن نبيل، مائة عام من السياسات الإسرائيليّة في اليمن، موقع متراس، 2 مايو 2018

3 - بيروت حمود، وثائق مِن زمن علي عبد الله صالح: هكذا حاولت الإمارات جرّ اليمن إلى التطبيع، الأخبار اللبنانية، 7 أكتوبر 2020

4 - حسن عبده حسن، منافسة أميركية - إسرائيلية لاجتـذاب يهود اليمن، الإمارات اليوم، 15 يونيو 2009

5 - زيد المحبشي، اليمن وأرتيريا .. علاقات ملغومة، مركز البحوث والمعلومات، 24 يونيو 2020

6 - علي حمية، التغلغل الإسرائيلي في اليمن، موقع راصد اليمن، نقلا عن الأخبار اللبنانية.

7 - محمـد علوش، العلاقات اليمنية – الإسرائيلية كشف المستور في الزمن المحذور، وكالة قدس نت للأنباء، 12 أكتوبر 2020


الثلاثاء، 16 مارس 2021

التداعيات النفسية والعقلية للعدوان على اليمن

صحيفة السياسية: إجلال العمراني

في الحياة اليومية لجميع بلدان العالم، يعاني شعوبها العديد من الضغوطات والأزمات العابرة، التي يعتقد أدعياء حقوق الإنسان أنها ستجعلهم عُرضة للأزمات النفسية، رغم حرص بلدانهم على توفير كافة احتياجاتهم المادية والمعنوية، وإشعارهم بالراحة والأمان.

في اليمن الوضع مغاير تماماً، ولا عجب، بعد سبع سنوات من العدوان السعودي الإماراتي الأكثر قذارة في تاريخ الصراعات البشرية، وما خلفه من تداعيات كارثية، وضغوطات وأزمات غير محمودة العواقب، تسببت مجتمعة في الحاق صدمات واضطرابات نفسية بشريحة عريضة من اليمنيين، وخصوصاً في أوساط النساء والأطفال، لكن من يهتم لضحايا حرب اليمن المنسية في هذا العالم المنافق.

عند مرورك في الشوارع اليمنية تجد شباباً وشيوخاً بملابس رثة، وجسم نحيف، تملئُهُ الأوساخ، وشَعرٍ مُجعد، وعندما تقترب منه، تجده يهمهم بكلمات غير مفهومة، وعند سماع أصوات الطائرات يصرخ بأعلى صوته: “قد جوا، قد جوا، اهربوا”، ويطلق لسيقانه العنان، في سباق مع الريح، بحثاً عن مكانٍ يتوارى فيه، رغم علمه بأن العدوان لا محرمات ولا مقدسات في قاموسه العبري العفن.

في احدى شوارع صنعاء، تجد شاباً في الأربعين، تبدو عليه الاناقة والنظافة والاهتمام، وفجأة يصرخ، ويسب بأبشع الالفاظ، وعندما تسأل عنه، يخبرونك بأنه يعاني من الهيجان العقلي، والتأزم النفسي، إما بسبب رُهاب أصوات الطائرات والانفجارات، أو بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية وانقطاع المرتبات، أو بسبب تدمير العدوان منزله أو مقر عمله، أو بسبب استشهاد أو إصابة أحد أحبته.

سبع سنوات من المعاناة بسبب العدوان الجائر، وما ألحقه من اضرار نفسية وعقلية وعاطفية ووجدانية، طالت أكثر من 20 % من سكان اليمن، في بلد يفتقر لأبسط مقومات الحياة، بعد أن دمر العدوان كل مقومات الحياة، وأمعن بصورة ممنهج في تدمير المرافق الصحية، كي يضمن موت من نجى من نيران غاراته الهستيرية.

ورغم عدم توافر بيانات كافية عن الوضع العام للصحة النفسية في اليمن، والتي كان لها حصة الأسد من تداعيات العدوان الغاشم على بلادنا، خصوصاً مع محدودية المشافي المختصة بهكذا نوع من الأمراض، والارتفاع الجنوني في الأدوية المستخدمة لعلاجها، ومنع العدوان دخولها، ما تسبب في انعدامها في بعض الفترات، ومع ذلك تتحدث الأرقام المتاحة عن ارتفاع مهول في معدلات الانتحار في العام الأول من العدوان بنسبة 40.5 % عما كان عليه الوضع قبل العدوان، ومعاناة الكثير من السكان من التبعات السلبية النفسية والاجتماعية والعاطفية، لهكذا منحى خطير.

وتحدثت وزارة الصحة اليمنية في العام 2014 عن مليون ونصف مصاب بالأمراض النفسية، بينهم نحو 500 ألف مريض ذهني، وارتفع العدد بعد العدوان بنسبة 25 %، وحاجة 80 % من اليمنيين إلى دعم نفسي، بحسب موقع خيوط نقلاً عن اخصائيين نفسيين في تقرير له بتاريخ 3 فبراير 2021.

الوضع في اليمن جد خطير، فإما أن تموت جوعاً، أو ينتهي بك المطاف بأحد مشافي ومصحات الأمراض النفسية والعصبية، ووفقاً للطبيب النفسي “ماجد سيف”، فقد ازدادت حالات المرضى النفسيين خلال سنوات العدوان بنسبة 30 %.

وتُعدّ النساء والأطفال الفئة الأكثر عُرضة للإصابة بسبب ضغوط الحياة اليومية، والصدمات الشديدة نتيجة الانفجارات وأصوات الطائرات، في بلدٍ مستوى الرعاية النفسية فيه سيئ للغاية، بحسب استشاري الطب النفسي والإدمان في مستشفى الأمل للأمراض النفسية بصنعاء، الدكتور “سامي العربي” في مقابلة مع صحيفة “عُمان” بتاريخ 28 سبتمبر 2020.

مدير مستشفى الأمل الدكتور “سامي الشرعبي”، هو الأخر يؤكد في حديث لموقع منصتي بتاريخ 10 أكتوبر 2020 تسجيل ارتفاع كبير في حالات الإصابة بالأمراض النفسية والعصبية خلال الفترة الأخيرة، وصلت إلى 200 %، مع بروز حالات مرضية تسبب بها العدوان والأوضاع الصحية والاقتصادية الراهنة، منها: كرب ما بعد الصدمة، والاكتئاب الشديد، والقلق، والرُهاب.

وذكرت “منظمة الصحة العالمية” أن 1 من كل 5 يمنيين، أو 22 %، ممن يعيشون في منطقة متأثرة بالحرب، يعانون من الاكتئاب، والقلق، واضطراب ما بعد الصدمة، والاضطراب الثنائي القطب أو الفصام، ناهيك عن تزايد حالات الاكتئاب والقلق مع تقدم العمر في أوضاع الصراع، وسجلت محافظات تعز ولحج والحديدة زيادة مرعبة في أعداد الحالات النفسية تجاوزت الـ 300 %، بحسب موقع منصتي في تقرير له بعنوان “الصحة النفسية في اليمن .. الموت الخفي” نشره في 10 أكتوبر 2020.

وسجل العام 2017 زيادة صادمة في عدد الإصابة بالأمراض النفسية والعقلية تراوحت بين 40 – 50 %، والسبب بحسب استشاري الأمراض النفسية والعصبية الدكتور “محمد الخليدي” في مقابلة مع موقع “الخليج أونلاين” بتاريخ 15 أكتوبر 2017: العدوان، وانقطاع المرتبات، وعدم الشعور بالأمان.

وأكدت دراسة أعدتها مؤسسة “التنمية والإرشاد الأسري” في العام 2017 بعنوان “تقدير انتشار الاضطرابات النفسية بين السكان المتضرّرين من الحرب في اليمن” تجاوز النسبة العامة لانتشار الاضطّرابات النفسية بين اليمنيين المتضرّرين من الحرب 19.5 %، وهي من أعلى النسب في العالم.

وخلال الفترة “2014 – 2017″، تحدثت الإحصائيات عن 5455348 إنسان في اليمن، يعانون من الأمراض النفسية والعقلية، 80.5 % من اجمالي الحالات، من الشباب بين 16 الى 30 سنة.

هذه الارقام والاحصائيات عن الحالات المرضية التي تم تسجيلها في المراكز الصحية والمستشفيات فقط، وتُعد الحالات غير المعلنة أكثر بكثير مما تم إعلانه، ما يُنذر بوضع كارثي ومستقبل مظلم.

لم يكن تأثير العدوان على الأصحاء فقط، بل وتسببت غارته الإجرامية في اغلاق المستشفيات، والمراكز الحكومية الخاصة بالأمراض النفسية، لعدم تمكن حكومة الإنقاذ الوطني من توفير النفقات التشغيلية، وعدم قدرت أهالي المرضى على تحمُّل نفقات المشافي، ناهيك عن ارتفاع وغلاء اسعار الأدوية الخاصة بالأمراض النفسية والعصبية، ما أدى الى تفاقم الحالات المرضية، وللأسف فقد اكتفت المنظمات الدولية، ومنها الصحة العالمية، بتقديم دعم نفسي محدود النطاق والجدوى والفاعلية، يستهدف الأصحاء فقط، وفقاً للدكتور “محمد الخليدي”.

وتعاني اليمن من رداءة الخدمات الصحية المتعلقة بالأمراض النفسية، ومحدودية المصحات النفسية، والأخصائيين النفسيين، إذ لا يوجد فيها سوى 13 منشأة نفسية، و35 عيادة خاصة، عبارة عن أقسام وعيادات في مستشفيات عامة وخاصة، أغلبها في مدينة صنعاء، و46 طبيباً نفسياً، بمعدل طبيب لكل 600000 شخص، و130 معالج وأخصّائي، و25 ممرّض بحسب مؤسسة “التنمية والإرشاد الأسري”.

وتحدث أطلس الصحة النفسية لمنظمة الصحة العالمية في العام 2016 عن وجود 3 مستشفيات للصحة النفسية، ووحدة واحدة للطب النفسي في مستشفى عام في اليمن، و40 طبيباً نفسياً، معظمهم في صنعاء، في حين أشار مدير برنامج الصحة النفسية في وزارة الصحة بصنعاء في ديسمبر 2016 إلى وجود 36 طبيباً.

وبحسب احصاءات الجهاز المركزي للإحصاء في 2006: 45 طبيباً نفسياً، بواقع طبيب لكل 500 ألف شخص، وهذا هو نفس الرقم بالنسبة لعدد السكان عام 1980، وخلال أربعة عقود من الزمن زاد عدد الأطباء النفسيين 15 طبياً وطبيبة، ليصبح عددهم في العام 2020، نحو 59 طبيباً، موزعين بشكل غير متساوي على 5 محافظات، فيما 18 محافظة لا يتوفر فيها أطباء للأمراض العقلية والنفسية، وفقاً للاستراتيجية الوطنية للصحة النفسية الصادرة في مارس 2010.

ويمارس 34 طبيباً العمل في صنعاء، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، و11 في تعز، و6 في عدن، و3 في الحديدة، و5 في حضرموت.

ويؤكد استشاري الأمراض النفسية والعقلية، الدكتور “طالب غشام” تخصيص سرير نفسي واحد لكل 200 ألف فرد، وطبيب واحد لكل 500 ألف شخص، بحسب المعهد اليمني لحرية الاعلام في تقرير بعنوان “الصحة النفسية في اليمن .. الكارثة الموقوتة” نشره بتاريخ 8 يناير 2021.

محذراً من تفاقم مشكلة الصحة النفسية، لأنها ستؤدي على المدى البعيد إلى ظهور آلاف من المرضى النفسيين، وبصورة غير متوقعة.


……………….//

الأربعاء، 10 مارس 2021

دلالات وأهمية معجزة الإسراء

 زيد يحيى المحبشي؛ مركز البحوث والمعلومات؛ 10 فبراير 2021

الإسراء معجزة ربانية أيد الله بها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، بعد حصار قريش لبني هاشم في الشعب، وموت الناصر والحامي والذائد الخارجي "أبي طالب" شيخ الأبطح عليه السلام، والونيس والحامي الداخلي "خديجة الكبرى" عليها السلام، ونكبة وصد أهل الطائف، فكان فرج الله وتكريمه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بها: "لنُرِيَهُ من آياتنا .." الإسراء/1، ما يثبت قلبه، حتى يتحمل كل ما يلاقيه من سخرية واستهزاء وعذاب قريش.

وهي من الآيات التي أبهرت الكافر والمعاند والزنديق والمنافق، وأظهرت مدى علم الله وضآلة العلوم الحديثة، التي لا زالت تدور في محك بسيط من سماء الله المليئة بالأسرار والعجائب.

إنها رحلة استكشاف للكون، وما في قوله تعالى: "لقد رأى من آيات ربه الكبرى" النجم/ 18، وقوله "لنُرِيَهُ من آياتنا .." الإسراء/1، من الغموض وعدم الإفصاح وعلامات التعجب والاستفهام عما رآه صلى الله عليه وآله وسلم، من الآيات الكونية الباهرة، ما يكفِ لتبيين أهمية هذه المعجزة الربانية، و"من" في الآيتين تبعيضية، بمعنى بعض آياتنا الكبرى، وليس كلها.

والهدف من هذه الرحلة المباركة عودة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الى مكة بصدر منشرح وقلب متفتّح، قد انعكست فيه آيات العظمة وسبحات الجلال والجمال، وأمّا ما يتخيّله طغام المجبرة والمشبهة من أنّ الهدف من حادثة الإسراء رؤية الله سبحانه، فهو ممّا حاكته يد الدسّ ونسجته أغراض التزوير، بغرض تشويه الإسلام، والإنسياق وراء شبهات وهرطقات اليهود الأقتام.

قال ثابت بن دينار: سألت علي بن الحسين عليه السلام عن الله جلّ جلاله هل يُوصف بمكان؟.

فقال: تعالى عن ذلك.

قلنا: فلم أسرى نبيّه إلى السماء؟.

قال: لِيُريه ملكوت السماوات وما فيها من عجائب صنعه وبدائع خلقه.

أسرى الله بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم من المسجد الحرام بمكة المكرمة، محطة الانطلاق، على ظهر البراق إلى المسجد الأقصى، محطة الاستراحة، والصلاة بأرواح الأنبياء إماماً في تلك البقعة الطاهرة، ثم العودة الى مكة المكرمة في ذات الليلة، كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى في الآية الأولى من سورة الإسراء: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير"، ابتدأت الآية الشريفة بتنزيه الله والتأكيد على قدرته المطلقة، وفي هذا دلالة واضحة أن انتقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من مكة الى بيت المقدس كان بالروح والجسد.

وسمّى الله سبحانه وتعالى سورة كاملة باسم هذه المعجزة الربانية للتأكيد على أهميتها، رغم أنه لم يرد فيها سوى آية واحدة تتحدث عن حادثة الإسراء بصورة صريحة وواضحة، ووصفتها بدقة متناهية - عكس حادثة المعراج وما فيها من اختلاف وجدل بين علماء المسلمين، بسبب عدم وجود أية صريحة تتحدث عنها، إنما يرى بعض العلماء أن الحديث عنها أتى ضِمنياً في سورة النجم، في الآية السابعة: "وهو بالأفق الأعلى"، والعلو من الارتفاع، أي الفوق، وتقول صعدت الى الأعلى أي عرجت، والحديث عن جدلية المعراج بحاجة الى بحث مستفيض لسنا بصدده في هذه الفسحة.

قال العلامة أحمد درهم حوريّه: حادثة المِعراج عليها مدارُ كلامٍ بين عُلماء الأمّة، وإنّما ما لا ينبغي الخلافُ عَليه هو حادثة الإسراء إلى المسجد الأقصى، فذلك صريح القرآن.

وقد أجمع علماء المدرستين على صحة معجزة الإسراء، واختلفوا حول الأشياء التي رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلال تلك الرحلة المقدسة، وطريقة الانتقال، وهل كانت بالروح والجسد أم بالروح فقط، والراجح كما هو واضح من منطوق القرآن أنها بالروح والجسد، وهو ما أكسبها أهمية خاصة، وجعلها منطلقاً لمرحلة جديدة في حياة الرسول والدعوة الاسلامية.

وكانت حادثة الإسراء في ليلة 27 رجب الأصب وقيل 17 رمضان وقيل في ربيع الأول، قبل الهجرة بسنة وقيل سنة و3 أشهر وقيل غير ذلك، انطلق رسول الله من دار أم هانئ بنت أبي طالب بجوار المسجد الحرام بمكة المكرمة ليلاً الى بيت المقدس، مهبط الملائكة ومقر الأنبياء، المباركة أكنافه بالزروع والثمار والأنهار والأمن والخصب، وعاد في ذات الليلة، متعدياً عامل الزمن، وقال بعضهم أنه انطلق من شعب أبي طالب، بمكة، والأصح انطلاقه من بيت أم هانئ.

قال الزمخشري في الكشاف: إنّ تنكير كلمة "ليلاً" في قوله تعالى "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً" للدلالة على أنّه اسرى به صلى الله عليه وآله وسلم بعض الليل من مكّة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة.


مقدمات الرحلة:

بعد حصار الشعب وموت خديجة الكبرى وأبو طالب عليهما السلام، اشتدت أذية كفار قريش ضد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والمسلمين في مكة، فقال رسول الله: ما زالت قريش كاعَّة عني حتى مات أبو طالب" – وكاعة تعني رافعة أذاها عني، أي كانت تعمل اعتباراً لأبي طالب، والذي ظل على الدوام الدرع الحامي والواقي لرسول الله من أذى قريش، وبعد وفاته سلام الله عليه، تمادت قريش وتفرعنت، ومارست كل أنواع الإرهاب ضد رسول الله والمسلمين، فقرر النبي الخروج الى الطائف، لعلهم يستجيبون لدين الله، لكنهم فضلوا السير على نهج عتاولة قريش من الكفر والعتو والنفور.

ولم يكتفِ كفار ومشركي الطائف بالصد وعدم التجاوب، بل وسلطوا على رسول الله سفهائهم، فرجموه بالحجارة حتى أدموا عقبيه، فرجع صلى الله عليه وآله وسلم الى مكة، ولم يستطع دخولها إلا بحماية ومجورة "المطعم بن عدي".

وبهذا ضرب رسول الله أروع الدروس في تاريخ الدعوة الى الله والجهاد في سبيله، مناجياً ربه ومستمداً منه أسباب النصر والتمكين: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟، إلى بعيدٍ يتجهمني؟، أم إلى عدوٍ ملّكته أمري؟، إن لم يكن بك علي غضبٌ، فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تُنزل بي غضبك، أو تُحِل علي سخطك، لك العقبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله".

يقول الشيخ "محمد متولي الشعراوي": دعاء النبي فيه كل مقومات الإيمان واليقين، لأن الله الذي أرسله لن يخذله، وهو أيضاً يشمل أن رسول الله قد استنفذ الأسباب، ولم يجد سوى عدو متملك، وبعيد متجهم، لذا كان لا بد أن تتدخل القدرة الإلهية.

سمع الله ضراعة رسوله، وأراد أن يبين له أن جفاء الأرض، لا يعنِ أن الله قد تخلى عن نبيه، ولكن سيعوضه عن جفاء أهل الأرض بحفاوة الملأ الأعلى، ويُريه من آياته وقدرته وأسراره في الكون، ما يُعطيه طاقة وشُحنة، للاستمرار في الدعوة وإحراز النصر، لأن الله الذي أراه هذه الآيات، قادرٌ على أن ينصره، ولن يتخلَّ عنه، ولكنه ترك له الأسباب أولاً، ليجتهد صلى الله عليه وآله وسلم فيها، حتى يكون أسوة وقدوة لأمته، في ألاّ تدع الأسباب، وتكتفي برفع يدها الى السماء، انتظاراً للفرج والنصر.

بعد هذه الأحداث الجسيمة من جفوة الأرض لرسول الله، وفقدانه النصير والحامي، أكرم الله نبيه بمعجزة الإسراء، للتخفيف عنه، وتبيين فضله ومنزلته لديه، وطمأنة قلبه، وحتى يثبت له أن في الله عِوضاً عن كل فاقد، وأن الملكوت سيحتفي به حفاوة تمسح عنه كل عناء هذه المتاعب، ويُعطيه شُحنة قوية لتكون أداته في منطلقه الجديد.


الآيات الكبرى:

في هذه الرحلة المقدسة لم يتحدث صلى الله عليه وآله وسلم عن كل ما رآه، بل عن شيئ يسير فقط، تناقله الرواة، فأضافوا إليه ما خُيِّل لهم أنه صالح لشرح آيات الله التي رآها صلى الله عليه وآله وسلم، بعض هذه الإضافة كان بحسن نية وبعضها كان من دس المنافقين، ليشوشوا علينا أمر ديننا، وليجعلوه مع العقل السليم والفطرة السليمة والسنة السليمة على اختلاف وتناقض، فيتسرب الشك إلى القلوب، ثم الكفر والجحود.

وحسبنا أن القرآن الكريم قد وصفها بـ"الكبرى"، وهذا الإجمال في الوصف لطفٌ من الله لنا، لأن عقولنا أقل من مستوى تلك المعلومات التي اختص الله بها نبيه، مع أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يرى إلا ما أذن الله له أن يراه، وقد وصف سبحانه وتعالى محافظة نبيه على حدود اللياقة والأدب وعدم مد النظر إلى ما لم يُأذن له في رؤيته: "ما زاغ البصر وما طغى، لقد رأى من آيات ربه الكبرى" النجم/17 – 18.

قال الإمام زيد بن علي عليه السلام في تفسيرها: ما عدل البصر، وما حار مما رآه من علامات وعجائب الله في الكون.

وفي تفسير الامام القاسم بن الحسين العياني عليه السلام: ما أخطأ البصر ولا مال، ولم يتعد الى غير الحق، بل أصاب، والآية الكبرى التي رآها النبي هي جبريل عليه السلام، وهو آية عظيمة باهرة منيرة.

وقال الإمام الهادي يحيى بن الحسين والإمام الحسين بن القاسم العياني عليهما السلام: الآيات الكبرى التي رآها رسول الله هي رؤية جبريل عليه السلام في صورة لم يسبق لأحد من الأنبياء رؤيته فيها.

وأضاف الإمام الهادي يحيى بن الحسين عليه السلام: ما زاغ بصر النبي، وما عدل عنه، ولا شبّهه، ولا تخايله، ولا ظنه، بل قد رآه – أي جبريل عليه السلام - بحقائق الرؤية وأبصره، وما طغى رسول الله فيما أخبركم به، ولا دخله في ذلك أشر ولا بغي، بل قد صدقكم عما أبصر ورأى، وقيل ما تجاوز صلى الله عليه وآله وسلم ما رآه من العجائب التي أُمر برؤيتها، ومُكِّن منها، ويضيف الهادي عليه السلام في توضيح ماهية الآيات الكبرى التي شاهدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: رأى من جبريل عليه السلام آية من آيات الله العظمى لا يشبهها شيئ من الأشياء.

وقال الزمخشري في الكشاف: رأى صلى الله عليه وآله وسلم، جبريل عليه السلام قد سد الأفق بأجنحته – رأى رسول الله جبريل على صورته الأصليّة مرّتين، مرّة في بدء الدعوة ومرّة في الاسراء - ورأى كبرى آيات ربه وعُظمَاها حين عرج الى السماء، فأُرِي عجائب الملكوت في تلك الليلة.

ولنا أن نتصور ما شئنا من آيات الله الكبرى التي أُطلِع عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكن شريطة أن نعرض ذلك على كتاب الله، فما وافقه فهو الصواب وما خالفه فهو باطل مردود، وليس القصد الإطالة وتصحيح وتنقية ما رُوي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الرحلة العظيمة المباركة، وإنما الوقوف على الحكمة منها.

وقد وجدت قريش في هذه الحادثة التي سمتها "خُرافة"، مرتعاً خِصباً لنشر الأقاويل والأكاذيب والدعايات المُغرضة ضد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويأبى الله إلا أن يُتِمَ نوره ولو كره الكافرون، وتظهر آيات ذلك في وصفه صلى الله عليه وآله وسلم لبيت المقدس وصفاً دقيقاً كأنه يراه الساعة، وإخباره صلى الله عليه وآله وسلم ببعير لقريش في الطريق، وما شرد منها، وما جرى لماء قافلتهم، ومتى يصلون مكة، ومع ذلك آمن من آمن، وصدّق من صدّق، وكفر المعاند الجهول الغوي.


دلالات نهتدي بها:

حملت معجزة الإسراء العديد من الدلالات والرسائل ليس للنبي فحسب بل وللأمة المحمدية الى قيام الساعة، منها:

1 - تثبيت قلب رسول الله بما رآه من آيات ربه الكبرى، ليزداد هُداً ونوراً وصبراً، على تحمُّل ما لاقاه ويلاقيه بعد موت أبي طالب وخديجة من ضروب الإهانة والسخرية والتعذيب.

2 - إشعار رسول الله وأمته بوحدة الشريعة السماوية المُنزلة عليه والرسل من قبله: "إن الدين عند الله الإسلام" - لنا بحث مطول غير منشور حول واحدية الأديان السماوية وأن الإسلام هو دين كل الأنبياء والمرسلين، وأن الإسلام والإيمان بمعنى واحد - وأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن أول من تلقَّ الإهانة والتعذيب في سبيل الله، فقد تلقاها من قبله إبراهيم الخليل وموسى الكليم، عليهما السلام، ويشير إلى هذا رحلته صلى الله عليه وآله وسلم إلى بلد الأنبياء "القدس الجريح"، وتعريجه على طور سيناء جبل الكليم موسى عليه السلام، واتفاقه بأرواح الأنبياء عليهم السلام في بيت المقدس.

3 – تأكيد الله للأمة الإسلامية في كل زمان ومكان على ارتباط حرمة الحرم المكي والمسجد الأقصى الى قيام الساعة، ووجوبية رعاية حرمتهما، ومواجهة كل من يريد بهما شراً، وتأكيد وحدة مسار ومصير المسجدين، وأن ما يقع على أحدهما سيكون له تداعيات كارثية مباشرة على الأخر.

بعد حادثة الإسراء اهتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بفتح بيت المقدس، وتجهيز جيشاً لهذه المهمة المقدسة قبل وفاته بقيادة أسامة بن زيد رضي الله عنه 11 هـ / 632 م، لكن وفاته صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين حالت دون إنفاذ جيش أسامة، وبعد وفاة الرسول الأكرم بأربع سنوات 15 هـ / 635م، فتح المسلمون بيت المقدس، وتسلم عمر بن الخطاب رحمة الله عليه مفاتيح القدس الشريف مباشرة من بطريكها "حفرونيوس"، وتم بناء المسجد الأقصى في البقعة التي صلى فيها، وتحققت أُمنية الرسول الخاتم وتطهر بيت المقدس من رجس ودنس اليهود.

تتابعت الأحداث بعدها، وتمكن اليهود من انتزاع القدس وتهويده وتدنيسه، خلال فترة تمدد الحروب الصليبية في المشرق العربي في العهد الوسيط، لكن المسلمون تمكنوا من استعادته في العام الميلادي 1187، وبقي في حوزتهم حتى نكبة يونيو 1967، ومن يومها والكيان الصهيوني الغاصب لا يدخر وسيلة لتسريع عملية تهويد الأماكن المقدسة في القدس وأكنافه، وتغليب العرق اليهودي، وتحويل القدس إلى عاصمة أبدية لكيانه اللقيط، بمباركة هيئة الأمم ودعم رعاة البقر، وتمويل بِعران العرب.

فهل يُرضِيك يا حبيبي يا رسول الله، ما يجري في مسراك اليوم، بتواطؤ ودعم رعاة المسجد الحرام؟.

الأربعاء، 24 فبراير 2021

مولد الامام علي بن أبى طالب عليه السلام

زيد يحيى المحبشي، مركز البحوث والمعلومات، 24 فبراير 2021

"الامام علي بن أبي طالب عظيم العظماء، نسخة مُفردة، لم ير الشرق ولا الغرب صورة طبق الأصل، لا قديماً ولا حديثاً".

بهذه الكلمات البسيطة اختصر الكاتب "شبلي شميل" حكاية الامام علي وشخصيته، إنه وليد الكعبة وشهيد المحراب، رجلٌ مهما حاول المرء الإلمام بصفاته وسجاياه فلن يستطيع ذلك، ولا عجب فقد كان سلام الله عليه "أُمةٌ في رجل".

وما أثير حول شخصيته في أوساط المسلمين خلال الـ 14 قرناً الماضية، من جدل ولغط وصخب وضجيج وانقسام، لم يُثار حول أي شخصية في التاريخ البشري، وهذا أمرٌ طبيعي لأننا أمام شخصية عظيمة لا تتكرر.

يحتلُ شهر رجب الأصب مكانة مميزة في تاريخ المسلمين، ففيه كان دخول اليمنيين في الإسلام على يد الإمام علي عليه السلام طواعية، وفيه كان مولد سيد الوصيين وابن عم خاتم الأنبياء والمرسلين، إنه شهر الإمام علي بلا منازع، وشهر شعبان شهر النبي، وشهر رمضان شهر الله.

فمن هو هذا الرجل العظيم الذي كان مولده سبباً في ولادة جديدة لليمنيين، بعد قرونٍ من التشتت والتمزق والتناحر؟


وسام الولادة:

والده أبو طالب بن عبدالمطلب بن هاشم، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، فهو سلام الله عليه يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جهة الأب عند عبدالمطلب، ومن جهة الأم عند هاشم، وهي أول هاشمية وَلدت لهاشمي، وأول امرأة بايعت النبي عندما دعا النساء للمبايعة، وهاجرت الى المدينة وتُوفِيت فيها، وكفّنها النبي بقميصه، واضطجع في لحدها، وقال كما يذكر الإمام يحيى بن الحسين الهاروني في الافادة: "أما قميصي فأمان لها يوم القيامة، وأما اضطجاعي في قبرها فليوسع الله ذلك عليها".

مولده سلام الله عليه في جوف الكعبة في يوم الجمعة 13 رجب قبل البعثة بـ 10 سنوات وبعد عام الفيل بـ 30 سنة، وقيل لم يولد قبله ولا بعده مولودٌ في الكعبة، وهذا أول تكريم وأول وسام له من الله، ويذكر الزركلي في الأعلام أن مولده عليه السلام سنة 23 قبل الهجرة، وفي تحديد اليوم بالميلادي يذكر الناطق بالحق أبي طالب يحيى بن الحسين الهاروني أنه في يوم 7 أيلول/ سبتمبر، وبحسب سنة الزركلي يكون مولده في العام 600 ميلادي.

يقول الرواة أن أبوطالب عليه السلام خرج يوماً يمشي هوناً، فزوجته فاطمة بنت أسد تتلوى من ألم المخاض، وعندما شاهده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سأله عن السبب، فأخبره بالأمر، فأشار عليه بأخذها الى الكعبة، علّ الله يخفف عنها الألم، وجاءت الى الكعبة تسأل من الله تخفيف الألم وتسهيل الولادة، وما أسرع ما أنجبت وليدها المبارك، فسماه والده "علياً"، وعمّت الفرحة قلب والده وابن عمه محمد الصادق الأمين، ورفعت أمه رأسها الى السماء، تشكر ربها على هذه المكرُمة التي خصّها ووليدها بها.

ومن لطيف ما يُروى أن فاطمة بنت أسد عليها السلام عندما وصلت الى الكعبة فُتح لها الباب، وفي رواية انشق لها الجدار فدخلت الى البيت الحرام ووضعت مولودها، ومكثت داخله ثلاثة أيام، وهذه مكرُمة إلهية، اختص الله بها هذا المولود المبارك دون سائر الناس، لحكمة أرادها الله.

وعن الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام: إن فاطمة بنت أسد كانت في الطواف، فضربها الطلق، فدخلت الكعبة، فولدت أمير المؤمنين عليه السلام فيها.

وأكد الحاكم أن مولد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في جوف الكعبة من الأخبار المتواترة غير القابلة للتشكيك، وهو كلام ابن الصباغ وغيرهم من رواة ومؤرخي المدرستين، ومنهم من قال أن فاطمة بنت أسد تعلقت بأستار الكعبة فقط، ودعت الله أن يُفرِّج عنها، والصحيح أنها ولدت الإمام علي داخل البيت الحرام، والحديث في هذا مبسوطٌ في كتب المدرستين.

قال نشوان بن سعيد الحميري:

ولدتهُ في حرم الإله وأمنِه .. والبيت حيث فناؤه والمسجدُ

بيضاء طاهرةُ الثياب كريمة .. طابت وطاب وليده والمولدُ

في ليلة غابت نحوس نجومها .. وبدا مع القمر المنير الأسعدُ

ما لف في خرق القوابل مثله .. إلا إبن آمنة النبي محمدُ

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتيمّن بتلك السنة، وبولادة علي عليه السلام فيها، ويسميها سنة الخير، وسنة البركة.

وهو ثالث ثلاثة من الموحدين المسلمين بعد النبي وخديجة بنت خويلد، وثاني موحد يدين بدين الإسلام من الرجال.

كنيته سلام الله عليه: أبو الحسن، أبو الحسين، أبو السبطين، أبو الريحانتين، أبو تراب، ولقبه: أمير المؤمنين، إمام المتّقين، قائد الغُرّ المُحجّلين، يعسوب الدين، الأنزع البطين، سيّد الأوصياء، أسد الله الغالب، المرتضى، حيدر.

أنجب سلام الله عليه كما يذكر صاحب الإفادة 20 ولداً، و22 بنتاً، منهم:

الحسن المجتبى، والحسين شهيد كربلاء، والعقيلة زينب الكبرى، وأم كلثوم الكبرى، والمحسن درج صغيراً، أمهم فاطمة بنت رسول الله، تزوجها الإمام علي في نهاية صفر 2 هـ.

محمد أبو القاسم، أمه خولة بنت جعفر/ وقيل خولة بنت حزام بن قيس، من بني حنيفة.

أبو الفضل العباس، وجعفر، وعثمان، وعبدالله، أمهم أم البنين فاطمة بنت حزام بن خالد العامرية الكلابية، من ولد عامر بن صعصعة.

أبو بكر، وعبيدالله، أمهما ليلى بنت مسعود، من ولد خثعم بن أنمار بن نزار.

عمر، ورقية، أمهما أم حبيب الصهباء بنت حبيب بن ربيعة بن بُجير التغلبية، من ولد تغلب بن وائل.

عمر الأصغر، أمه مُصطلقية.

محمد الأوسط، ومحمد الأصغر، وعمر الأوسط على قول بعضهم، والعباس الأصغر، وجعفر الأصغر، لأمهات أولاد شتى. 

عبدالرحمن، أمه أُمامة بنت أبي العاص بن الربيع، وأمها زينب بنت رسول الله.

يحيى، وعون درجا صغيرين، أمهما أسماء بنت عُميس بن النعمان الخثعمية، من ولد خثعم بن أنمار بن نزار.

والعقب في أولاده لخمسة فقط، هم: الحسن والحسين ومحمد والعباس وعمر.

وفي بناته لأربع، هن: زينب الكبرى، وزينب الصغرى، وأم الحسن، وفاطمة.

وبقية أسماء البنات مبسوطةٌ في كتب التاريخ لمن أراد الاستزادة.


 عظمة الحياة:

أخذ النبي الإمام علي من أبيه في سنة القحط، فربَّاه في حجره المطهر، فتخلَّق بأخلاقه، وظهرت فيه آثار بركاته، ولازمه كظله في حله وترحاله منذ أن تفتحت عيناه، واستقى منه كل معاني الطُهر والنقاء والفضيلة والزهد والتقى والورع والنبل والشهامة والكرم والبذل والعطاء والشجاعة والإقدام والتضحية، ونهل منه العلوم بشتى أنواعها، فصار في فترة وجيزة "الغرة الشاذخة" في أعيان زمانه في كل فنون المعرفة، بشهادة معلمه خاتم المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم: "أعلمكم علي"، و"الغرة الشاذخة" في أعيان زمانه في الشجاعة والعدل والزهد والورع وإدارة الدولة والتكتيك العسكري.

وتشرّب سلام الله عليه من مُعلمه ومُربيه تعاليم السماء، حتى قال صلى الله عليه وآله وسلم فيه: "علي مع القرآن والقرآن مع علي".

قال العلامة أحمد بن محمد الهادي في كتابه القيّم "التاريخ الإسلامي": تولى رسول الله إعداد شخصية الإمام علي حتى صار نسخة ثانية له فكراً، وعقيدة، وسُلوكاً، عدا الرسالة وما يتعلق به.

وليس هذا بغريب على باب مدينة علم المصطفى: "والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيما نزلت وأين نزلت وعلى من نزلت، إن ربي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً صادقاً ناطقاً"، "سلوني عن كتاب الله، فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليلٍ نزلت أم بنهار، في سهل أم في جبل".

شارك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل معاركه وفتوحاته باستثناء غزوة تبوك، أستخلفه وهو القوي الأمين على المدينة المنورة، وكان رجل المهمات الصعبة في كل تلك المعارك، والفارس الذي لا يُشقُ له غبار.

وبعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بـ 24 عاماً تمت مبايعته بالخلافة في يوم الجمعة 18 ذي القعدة 35 هـ، وفي هذا اليوم كان غدير خم – الجمعة 18 ذي الحجة 10 هـ - ولهذا الاتفاق شأن عظيم كما يذكر المولى الحُجة مجدالدين المؤيدي.

وفي سنة 36 هـ قاتل الناكثين، وهم أصحاب الجمل طلحة والزبير، وعائشة وأتباعهم، وكان عدد القتلى 30 ألفاً.

وفي سنة 37 هـ قاتل القاسطين – معاوية وأهل الشام ومن معهم – بصفين، وانقضت وقعاته عن 70 ألف قتيل،

منها: ليلة "الهرير" قتل فيها الامام علي عليه السلام 600 شخص، بـ 600 ضربة، مع كل ضربة تكبيرة.

وفي سنة 39 هـ قاتل المارقين، وهم الخوارج بالنهروان.

ووفاته عليه السلام في 21 رمضان 40 هـ، عن 64 عاماً، خاض خلالها أكثر من 60 حرباً، ولم يكن لديه أي مانع من أن يقاتل جيشاً كاملاً، إذا تعدّى هذا الجيش على مظلومٍ واحدٍ حتى يأخذ حقه منهم.

وهكذا انتقل سلام الله عليه من مرحلة الولادة بالحرم الشريف إلى مرحلة الحِراب، ذوداً عن حِياض الدين الخاتم، ليختمها بالشهادة في محراب مسجد الكوفة، فما عسانا قوله عن هذا العظيم في هذه الفسحة، وهو القائل عند مبايعته بالخلافة سنة 35 للهجرة: "والله لا يغيب عنكم رسول الله إلا عينه"، وكفاه من عظيم المجد نزول كرائم القرآن فيه، وإنزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، له في آية المباهلة بمنزلة نفسه: "قل تعالوا ندعو أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم".

ومن مآثره سلام الله: نهج البلاغة، والصحيفة العلوية.


قالوا عنه:

قال الإمام أحمد بن حنبل: ما جاء لأحدٍ من أصحاب رسول الله من الفضائل ما جاء لعلي بن أبي طالب.

وقال الخليل بن أحمد الفراهيدي، إن: احتياج الكلّ إليه واستغناؤه عن الكلّ، دليل على أنّه إمام الكلّ.

وقال ابن أبي الحديد المعتزلي: اُنظر إلى الفصاحة كيف تُعطي هذا الرجل قيادها، وتُملِّكه زمامها، فسبحان مَن منح هذا الرجل هذه المزايا النفيسة والخصائص الشريفة، أن يكون غلام من أبناء عرب مكّة لم يُخالط الحُكماء، وخرج أعرف بالحكمة من‏ أفلاطون وأرسطو، ولم يُعاشر أرباب الحِكم الخُلقية، وخرج أعرف بهذا الباب من سقراط، ولم يُرَبّ بين الشجعان، لأنّ أهل مكّة كانوا ذوي تجارة، وخرج أشجع من كلّ بشرٍ مشى على الأرض.

وقال جبران خليل جبران: إنّ علي بن أبي طالب كلام الله الناطق، وقلب الله الواعي، نسبته إلى مَن عداه من الأصحاب شبه المعقول إلى المحسوس، وذاته من شدّة الاقتراب ممسوس في ذات الله.

وقال الإمام محمّد ابن إدريس الشافعي: عجبت لرجل كتم أعداؤه فضائله حسداً، وكتمها مُحِبّوه خوفاً، وخرج ما بين ذين، ما طبق الخافقين.

وقال الدكتور طه حسين: كان الفرق بين علي ومعاوية عظيماً في السيرة والسياسة، فقد كان علي مؤمناً بالخلافة، ويرى أنّ من الحقّ عليه أن يُقيم العدل بأوسع معانيه بين الناس، أمّا معاوية فإنّه لا يجد في ذلك بأساً ولا جُناحاً، فكان الطامعون يجدون عنده ما يريدون، وكان الزاهدون يجدون عند علي ما يُحبّون.

وقال الفخر الرازي: مَن اتّخذ عليّاً إماماً لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه.

إذن لا غرابة أن تتملّك الدهشة العالم الأزهري المصري "محمود أبو ريه" في كتابه القيم "أضواء على السنة المحمدية"، مما لحق الإمام علي عليه السلام من جفاء وتجاهل وغمط في حياته، على قُرب عهدٍ من رسول الله، ومن قومٍ يُفترض أنهم الأكثرُ معرفةً بحقه ومكانته، ونكتفي هنا بإشارة عابرة لما ضمّنه هذا العالم المنصف في كتابه القيِّم، من ذلك تساؤله في صفحة 249 عن سبب تعمد المشايخ ومن تابعهم من المُحَدِّثة والرواة وكتبة التاريخ تجاهل ذكر اسم الامام علي فيمن قام بجمع القرآن رغم سابقته وأعلميته وأحجيته وإجماع الجميع على أنه أعلم الصحابة بعد رسول الله، وأكثرهم قُرباً منه ومجالسة له، وهذا مثال بسيط لما لحقه سلام الله عليه من ظلم وغمط.

حقاً إن الأمر لعجيب، وما علينا إلا أن نقول كلمة لا نملك غيرها، هي: لك الله يا علي ما أنصفوك في شيئ، لا في حياتك، ولا بعد مماتك!!!

الأحد، 21 فبراير 2021

المكفوفون يدفعون فاتورة العدوان..!

إجلال العمراني، 20 فبراير 2021

لم تكن الإعاقة في يومٍ من الأيام حاجزاً أو عائقاً أمام صاحبها، بل أفاقاً وأبواباً جديدة تُفتح أمامه، ولم يكن المكفوفين في الغالب الأعم عالة على أسرهم بل متعهم الله بذكاء وفطنة يفتقر لها المبصرون، فمنهم الموظف ومنهم المدرس،…، وكفل لهم القانون نسبة 5 % من الوظائف المخصصة لذوي الإعاقة ومنهم المكفوفين، وخصصت الدول طرق وممرات خاصة بعبور المعاقين، ووفرت الأجهزة الخاصة بهم من لغة برايل.. ألخ.

في اليمن الصورة معاكسة تماماً فقد حوّل عدوان تحالف عاصفة الإثم والبغي، وحصار دار الندوة الجائر حياة ومعيشة المكفوفين ليس إلى جحيم فقط، بل وحكم عليهم بالموت، وهم لا زالوا على قيد الحياة.

منذ بداية العدوان الغاشم تعرضت المدارس والمراكز والجمعيات الخاصة بالمكفوفين لتدمير ممنهج ومتعمد، من ذلك على سبيل المثال لا الحصر استهداف طائرات التحالف في 5 يناير 2016، مركز النور بالصافية من أمانة العاصمة صنعاء، دون مراعاة لحرمة هكذا أماكن.

كما تسببت غارات العدوان وصواريخه وقذائفه المنهمرة على اليمن للعام السادس دون كوابح دينية ولا أخلاقية ولا إنسانية، ودون تفريق بين ما هو مدني وما هو عسكري، في رفع عدد المكفوفين، إلى مستوى يُنبئ بجيل كامل ممن خطف أعراب التحالف العبري نور أبصارهم، وحوّل حياتهم إلى ظلام دامس، وهذه بكل حزن وألم من أكثر جرائم تحالف العدوان المسكوت عنها فضاعة.

احتجاز العدوان المتكرر لسفن المشتقات النفطية، كان له هو الأخر تداعيات كارثية على حياة المكفوفين، فقد تسبب انعدام المشتقات في توقف العشرات من الجمعيات والمراكز الخاصة برعاية وتأهيل المكفوفين عن العمل بحسب مدير مركز النور للمكفوفين “حسن إسماعيل” في حديث صحفي مع وكالة الصحافة اليمنية بتاريخ 17 أكتوبر 2019، وبالتالي زيادة معاناة آلاف المكفوفين، كما تسبب نقل البنك المركزي الى عدن وتجفيف العدوان موارد الدولة في عجز حكومة الإنقاذ الوطني عن القيام بواجباتها في رعاية المعاقين بصفة عامة، والمكفوفين بصورة خاصة، وعجزها عن دفع النفقات التشغيلية للمراكز والجمعيات الخاصة بالمعاقين.

النزوح القسري جراء غارات وقذائف العدوان، كان المكفوفين أكثر الشرائح معاناة في أوساط النازحين، بدءً بمشقة الانتقال من الأماكن المستهدفة إلى الأماكن الآمنة، وما يرافق رحلة العذاب هذه من مخاطر خصوصاً في اجتياز المناطق الوعرة، وما حدث في أبريل 2019 لسكان قرية الخزنة، المعروفة بقرية العميان، الواقعة في منطقة بني حسن من أعمال مديرية عبس في محافظة حجة، والتي يعاني غالبية سكانها – 200 شخص – من العمى، أبسط مثال.

حيث تسبب اندلاع المواجهات بين مرتزقة العدوان والجيش واللجان الشعبية في نزوح أكثر من 18 ألف إنسان من منطقة بني حسن، منهم سكان قرية الخزنة، الى مديرية بني قيس بمحافظة حجة.

ويصف أحد مكفوفي قرية الخزنة معاناتهم خلال فرارهم من نيران الحرب لموقع بوست بتاريخ 16 أبريل 2019: “خرجنا من المنزل بملابسنا فقط، نتلمس الطريق برعب ولا نعلم إلى أين سنذهب، مشينا حتى كلّت أقدامنا،..، حياة النزوح صعبة على الإنسان الصحيح المبصر فكيف بالمكفوف الذي بات بلا مأوى، يفترش الأرض، ويلتحف السماء”.

ولا تنتهي معاناة المكفوفين في المناطق المستهدفة عند هذا الحد، بل وتستمر معاناتهم في مناطق الإيواء بما في ذلك صعوبة الوصول الى مناطق توزيع المساعدات الإنسانية، وانعدامها في أحيان كثيرة، وصعوبة التنقل في أماكن الإيواء، وعدم توافر الرعاية الصحية والمياه النظيفة، والمأوى، والأكثر فضاعة غياب المنظمات الدولية، وإن حضرت فبصورة محدودة، وخجولة، دون أن يكون لحضورها أي تأثير جوهري ومستديم في تخفيف معاناة المكفوفين.

وعن الأوضاع المعيشية للمكفوفين في ظل العدوان والحصار وانقطاع المرتبات، فحدث ولا حرج، إنهم وحدهم من يدفع فاتورة العدوان العبري الجائر على بلادنا، وأكثر شرائح المعاقين اكتواءً بنيرانه.

وتتفاقم معاناة المكفوفين جراء تدهور الأوضاع الاقتصادية بسبب الحرب والعدوان، ولم تعد الجمعيات المتخصصة تقدم لهم الرعاية الصحية والتعليمية، باستثناء عدد بسيط من الجمعيات المعتمدة على المشاريع الخيرية التي تعود عوائدها لهذه الشريحة.

ولا توجد إحصائية دقيقة عن عدد المكفوفين، بسبب توقف عمل معظم الجمعيات الخاصة بهم، كما لا توجد إحصائية دقيقة عمن فقدوا أبصارهم بسبب غارات العدوان، وهذا هو الأهم، ومع ذلك تؤكد رئيسة جمعية الأمان لرعاية الكفيفات بأمانة العاصمة صنعاء “صباح حريش” في تصريح لموقع “إرفع صوتك” بتاريخ 28 فبراير 2017 أن عدد المكفوفين والمكفوفات في اليمن يتجاوز 76 ألف شخص، منهم 5 آلاف كفيف وكفيفة فقط يستفيدون من الخدمات والأنشطة التي تقدمها الجمعيات المعنية برعاية المكفوفين.

وتحدثت منظمة العفو الدولية في العام 2020 عن 4500000 معاق، بواقع 15 ‎% من إجمالي السكان في اليمن، المقدر عددهم بنحو 30 مليون نسمة، 90 % منهم يعيشون تحت خط الفقر، فيما تسبب العدوان السعودي الإماراتي في تسجيل نحو 15 ألف معاق بشكل رسمي، إضافة إلى آلاف من ذوي الاحتياجات الخاصة لم يتم تسجليهم.

بينما تحدثت الأرقام غير الرسمية في 2018 عن تسبب العدوان في إعاقة 92 ألف مدني، وتفاوتت نوعية الإعاقة بين جزئية، سمعية، بصرية، بتر أطراف، حركية في الرأس، والعمود الفقري، معظمهم من النساء والأطفال، وفي يوليو 2019 تحدثت وزارة الصحة بصنعاء عن 100 ألف شخص معاق بسبب العدوان، بينهم بتر أطراف، وإصابات في العمود الفقري، وفقدان النظر، واختلال في المخ، وفشل كلوي.

هذه الأرقام المرعبة لعدد المعاقين حركياً وبصرياً وسمعياً، خلال السنوات الست الأخيرة جعلت موقع “دويتشه فيله” الألماني يعتبر حرب العاصفة بمثابة يوم القيامة على شريحة المعاقين اليمنيين.

الأربعاء، 17 فبراير 2021

اليمن تحتفل بعيد رجب الأصب



زيد يحيى المحبشي، مركز البحوث والمعلومات، 17 فبراير 2021

يحتفل اليمنيون في الجمعة الأولى من شهر رجب بدخول أجدادهم في الإسلام طواعية، عكس بقية شعوب الجزيرة العربية وما جاورها.

والاحتفال بالجمعة الأولى من شهر رجب ليس وليد اللحظة بل هو من الأعياد الدينية المقدسة لدى اليمنيين منذ قرون عديدة، ولهذا اليوم مكانة عظيمة لديهم لأنه من الأعياد الخاصة بهم دون سائر الأمم، عكس عيد الأضحى وعيد الفطر، يحيونه حمداً وشكراً لله على نعمة الإسلام.

إنه يومٌ من أيام الله المباركة، اعتاد اليمنيين كابر عن كابر تعظيمه وإظهار كل مباهج الفرح والسرور فيه، وهو لا يقل أهمية ومكانة وقداسة في حياتهم عن أعياد الفطر والأضحى والغدير والهجرة والمولد النبوي الشريف والإسراء، يحيونه بالحمد والشكر لله على ما إمتنّ به على أجدادهم من نعمة اعتناق دين الرحمة المهداة، والإيمان برسالة خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آل الطيبين الطاهرين، طواعية، بلا جدال ولا مماراة ولا خوف، بل حُباً وعِشقاً للحق وأربابه.

تُرافق مباهج الاحتفال بجمعة رجب طقوس متوارثة منذ مئات السنين، ففي السنة التاسعة للهجرة دخل الإسلام إلى اليمن، وتحديدا في أول جمعة من شهر رجب حينما وصل الصحابي الجليل مُعاذ بن جبل إلى منطقة الجَنَد بمحافظة تعز، ليبني أول جامع حيث وقفت ناقته، ويدعو الناس إلى الدين الجديد، فدخل اليمنيون في دين الله أفواجاً، ولا زالت الصوفية تحتفل بهذه الذكرى العظيمة في ذات المكان والزمان الى يومنا، يخرج الناس رجالاً ونساءً وأطفالاً إلى جامع الجند، يستمعون الخطب والأناشيد والمدائح النبوية التي تقام على هامش الذكرى، ويمكثون أياماً يعيشون خلالها أجواء الإسلام وتاريخ الإسلام في اليمن.


مشروعية الاحتفال بعيد رجب:

تعمل الجماعات التكفيرية بكل ما أوتيت من قوة على محاربة كل ما يذكر الناس بدينهم ونبيهم، بدعاوى ما أنزل الله بها من سلطان، وتفسيق وتكفير وتبديع المحتفلين من المؤمنين والموحدين بميلاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو هجرته أو ذكرى الإسراء أو عيد الغدير أو عيد الجمعة الأولى من شهر رجب، ..، دون أن يكون لديهم أي دليل عقلي أو منطقي أو نصي مقنع، بل مجرد أهواء تُتبع، ونزوات تُبتدع، وعصبيات جاهلية تُخترع، خدمة لأولياء نعمتهم من الملوك والسلاطين.

والسؤال هنا: ما هي المحرمات التي يقترفها المحتفلون بذكرى عيد رجب الأصب على سبيل المثال كي يستشيطوا غضباً؟، قد ربما هي مظاهر البهجة والشكر بما تكرّم الله به على أباء اليمنيين من نعمة الإسلام، وسجود خير الأنام شكراً لإسلامهم، وقد ربما يكون تذكر ما كان عليه جيل الفاتحين من الأنصار والمهاجرين من تفاني في خدمة ونشر الدين الخاتم، وقد ربما ما يرافق ابتهاج اليمنيين بدخول أجدادهم الاسلام وما يصاحب ذلك من فعاليات تُذَكِرُ الأحفاد بهويتهم الإيمانية، وقد ربما يكون ما سبق من الكبائر الموجبة لغضب وسخط الجبار.

يقول الله سبحانه وتعالى "ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب" وأي شيئ أعظم وأحق بالاحتفاء من دخول الأجداد في دين الله سلمياً، عن يقين واقتناع، لا خوفاً من حد السيف كما هو حال الطلقاء.

ولهذا لا غرابة أن نجد اليمنيين في مقدمة الفاتحين، وعلى أكتافهم قامة دعائم الدين، بينما تحول الطلقاء الى معول هدم للإسلام، وسهم غائر في خاصرة المسلمين على مر العصور والأزمان.

يقول العلامة "عدنان الجنيد": ان إحياء ليلة جمعة رجب والاحتفال بيومها داخلة في عموم قوله تعالى: "ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب"، وقوله تعالى: "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون".

الآية الأولى تشير إلى أن تعظيم شعائر الله تُعَدُ من التقوى، والشعائر هي معالم الدين - كما قال المفسرون - وإذا كانت مناسك الحج تُسمى بالشعائر، فإنما لكونها علامات للتوحيد والدين الحنيف، وكل ما هو شعيرة لدين الله فإن تعظيمه مما يُقرِّب إلى الله، ولاشك بأن مسجد الجند بتعز ومسجد الأشاعرة بزبيد والجامع الكبير بصنعاء، الذين أشرق نور الإسلام منهم، من أبرز علامات دين الله تعالى، وتخليد هذه المناسبة فيهم مما يقرب إلى الله تعالى.

 والآية الثانية تأمرنا بأن نفرح بفضل الله وبرحمته المهداة، فقد تفضل الله علينا بالإسلام ورحمنا بنبيه عليه وآله الصلاة والسلام، فأخرجنا من الجهالة الجهلاء إلى الأنوار واللألاء، فيحقُ لجميع اليمنيين أن يفرحوا بيوم جمعة رجب ويُقيموا في تلك المساجد الاحتفالات الدينية والمحاضرات المحمدية، ويربوا أجيالهم على ذلك حتى يعرفوا عظمة ما هنالك.

ويؤكد العلامة "حسين أحمد السراجي" أن الاحتفاء بهذه المناسبة، وجعلها عيداً، فيه ذكرٌ وحمدٌ وثناءٌ وصلة أرحام وتفقد للفقراء والبائسين.

والإكثار من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أمرٌ عظيم، وسنةٌ حسنة دعانا إليها العلي العظيم في محكم تنزيله ونبيه الهادي في صحيح مسنونه.

 يقول الله في محكم التنزيل: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ".

ويقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "من سَنّ في الإسلام سُنةً حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء".

فهل هناك أعظم من الابتهاج بالهداية والتوحيد المتضمن حمد الله وشكره والثناء عليه وصلة الأرحام والتوسعة على المحتاجين والصلاة على الهادي وآله؟.

بل إن كل واحدة من هذه الخصال تُعدُ مشروعاً خيرياً متكاملاً يُعتبر من صميم روح الإسلام وجوهر دعوته.


إسلام أهل اليمن:

أجمع المؤرخون على أن السواد الأعظم من اليمنيين أسلموا خلال الفترة 6 - 10 هـ، على دفعات، فُرادا وجماعات.

فبعد انصراف رسول صلى الله عليه وآله وسلم من الحديبية في ذي الحجة 6 هـ، وجه رسله ورسائله الى مختلف ملوك وأمراء الدول والأقطار المعاصرة، وقبائل العرب في شمال وجنوب الجزيرة العربية، بما فيها قبائل اليمن، يدعوهم فيها الى الإسلام، ووصل أول مبعوثٍ له الى اليمن في محرم 7 هـ، وكان اليمنيون قد تعرفوا على الإسلام من خلال قوافل التجارة، ولذا سبق العديد منهم الى الإسلام، قبل بعث الرسول رسله الى الملوك ورؤساء العشائر.

ووجه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أول رسالة الى رؤساء قبيلة حمير، وكانت لها اليد الضاربة في اليمن، فأرسل المهاجر بن أمية المخزومي الى أبناء "عبدكلال الحميري"، النعمان والحارث ونعيم ومروح وعريب، وهم أقيال رعين، ومعافر وهمدان.

كما أرسل صلى الله عليه وآله وسلم الى أساقفة نجران، وبني معاوية من كندة في حضرموت، وبني ربيعة بن ذي المراحب، من حمير بحضرموت، ..، ألخ.

فتقاطرت القبائل من أنحاء الجزيرة العربية لمبايعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، على الدخول في الإسلام والسمع والطاعة، وكلما أسلم فوجٌ أرسل معهم من يعلمهم أمور دينهم، وينظم شؤن دنياهم، وكانت وفود اليمن أكثرها عدداً، بتعدد قبائلها.

وتُجمِع المصادر التاريخية أن أهل اليمن أسلموا كافةً في عهد رسول الله عكس الأقوام الأخرى، فمنهم من أسلم والرسول في مكة المكرمة كما هو حال عمار بن ياسر بن عامر العنسي المذحجي وأمه وأبيه، ومنهم من أسلم بعد هجرة الرسول الى المدينة وقبل فتح مكة المكرمة كما هو حال الأوس والخزرج والأزد، وغالبيتهم أعلن إسلامه في عام الوفود.

وبالمجمل يمكن تقسيم اسلام اليمنيين من حيث المكان، الى نوعين:

1 – فئة ذهبت الى رسول الله وأعلنت إسلامها بحضرته الشريفة.

2 – فئة أسلمت في اليمن دون أن تهاجر الى رسول الله ودون أن تتشرف برؤيته.

وكانت همدان ودوس أول القبائل اليمنية اسلاماً والرسول لا يزال في مكة المكرمة، تبعتهم بطون كثيرة من سعد العشيرة ومذحج والأشاعرة بتهامة، ..، وبعد هجرة الرسول الى المدينة وتحديداً عقب عودته من غزوة تبوك قَدِمَ الى المدينة وفدٌ كبيرٌ من همدان، يتقدمهم أقيال ووجهاء وأعيان القوم من خارف ويام وشاكر وغيرها، وكان قدومهم بعد عودة رسول الله من غزوة تبوك.

يروي البيهقي في الدلائل، وابن القيم في زاد المعاد وغيرهما عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث خالد بن الوليد إلى اليمن يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه، فبعث علياً عليه السلام وكنا فيمن عقّب على علي، ثم صفنا صفاً واحداً، وتقدم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأسلمت همدان جميعاً في يوم واحد، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإسلامهم، فلما قرأ صلى الله عليه وآله وسلم الكتاب خرّ ساجداً، ثم رفع رأسه فقال: السلام على همدان - كررها ثلاثاً - ثم قال : "نعم الحي همدان .. ما أسرعها إلى النصر وأصبرها على الجهد، منهم أبدال – أولياء - وفيهم أوتاد – رؤساء – الإسلام".

وكان بعث النبي للإمام علي عليه السلام الى همدان في رمضان من السنة العاشرة للهجرة. 

قال العلامة "محمد بن علي الاهدل": يكفي اليمن شرفاً أن يسجد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم شكراً لله تعالى على إسلام أهله، دلّ مصدره ببرهان ساطع على سعة مداركهم وسلامة عقولهم ومعرفتهم الحق الواضح، وتمييزه عن الباطل، فكانوا أسرع الأمم انقياداً الى الدين الإسلامي، والإيمان به، بدون احتياج الى حرب أو مناقشات جدلية، وإنما عرفوا الحق فأذعنوا له، وسلموا اليه طائعين.

وقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن همدان يُعد دليلاً واضحاً على ما هو واقع ويجري في عصرنا الحاضر "وما اصبرها على الجهد"، إذ لا يوجد شعبٌ من شعوب الأرض قد صبر هذا الصبر الذي صبره الشعب اليمني، رغم الحصار الجوي والبحري والبري من قبل تحالف عدوان العاصفة من أحفاد الطلقاء، للعام السادس على التوالي.

ومن لطيف ما يرويه إبن جرير في تفسيره لقوله تعالى: "ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا"، عن "عبدالله بن عباس" رضي الله عنه، قال: بينما رسول الله بالمدينة، إذ قال: "الله أكبر الله أكبر، جاء نصر الله والفتح وجاء أهل اليمن".

قيل يا رسول الله: وما أهل اليمن.

قال: "قوم رقيقة قلوبهم، لينة طباعهم، الإيمان يمان والحكمة يمانية".

وأرسل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم العديد من الصحابة الى اليمن لإرشاد اليمنيين وتعليمهم أمور دينهم وبسط سيادة الدولة الإسلامية، أهمهم: الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، والصحابي الجليل معاذ بن جبل رضوان الله عليه، وأبو موسى الأشعري رحمه الله.

ومن طريف ما يرويه المؤرخ اليمني "محمد بن يحيى الحداد" في تاريخه، أن معاذاً عندما قدم الى اليمن، دخل من صعدة، وأمر أهلها ببناء مسجد لهم، ثم انصرف الى صنعاء، واجتمع بأهلها، وألقى عليهم كتاب رسول الله، وأمرهم ببناء جامع لهم في بستان "باذان" وهو ما يعرف اليوم بالجامع الكبير، وفي أواخر جمادى الآخرة وصل الى الجند بتعز، واجتمع له الناس في أول جمعة من رجب وخطبهم وبين لهم رسالة الإسلام التي جاء بها سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

وأمر ببناء مسجده المعروف بمسجد الجند، وبعد اكتمال بنائه أٌقيمت فيه صلاة الجمعة، والتي صادفت أول جمعة من شهر رجب، وقد فرح الناس واستبشروا بأن أعزهم الله بالإسلام وحررهم من الكفر والشرك، لذا اتخذ اليمنيون الجمعة الأولى من كل رجب عيداً لهم، وألِف الناس إتيان جامع الجند في أول جمعة من شهر رجب للصلاة والذكر.

بينما توجه أبو موسى الأشعري الى زبيد، وبها أقام مسجد الأشاعرة.

وبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام إلى اليمن عدة مرات الى همدان وزبيد ومذحج ونجران وغيرها، فزار اليمن في أواخر السنة الثامنة للهجرة، وهي أول بعثة له سلام الله عليه، وفي السنة التاسعة للهجرة قبل حجة الوداع، وفي رمضان سنة 10 للهجرة بعثه إلى مذحج، وفي أول جمعة من رجب اجتمع الإمام علي عليه السلام بمشائخ همدان، وبعد أن أعلنوا إسلامهم على يديه بأجمعهم، صلى بهم العصر في المكان المعروف حالياً بجامع علي، في سوق الحلقة بصنعاء القديمة، وبعد إسلام همدان، أسلمت جميع القبائل اليمنية.

ومكث سلام الله عليه في صنعاء 40 يوماً حاكماً ومُفقِهاً، ودخل عدن أبين وعدن لاعة من بلاد حجة وقدر خربت من زمن طويل، ويقال أنه دخل اليمن في زمن أبو بكر الصديق، ودخل عدن أبين ثانية، وخطب على منبرها.


ما سبب إسلام اليمنيين طواعية؟

أتى الإسلام واليمن بلدة ممزقة، وقبائلها متناحرة، بسبب الصراع بين اليهودية والمسيحية، وما خلفه من خراب ودمار، جعل اليمن مسرحاً للطامعين من الغزاة والمحتلين، بدءاً بالرومان وعبيدهم الأحباش، وانتهاءا بالفرس، وصراع ملوك اليمن، ومع بزوغ شمس الإسلام، رأى اليمنيون أن بوابة الخلاص الوحيدة مما يعانوه هو اعتناق دين سماوي جديد يدعو اليه نبي عربي من بني هاشم من قريش.

وبإسلامهم تم إزالة كل أنواع الخلافات والحروب القبلية والانقسامات الداخلية المتراكمة بين أقيال اليمن منذ عهد سيف بن ذي يزن، لهذا تسابقت الوفود اليمنية الى المدينة المنورة تعلن إسلامها وطاعتها.

قال العلامة محمد بن علي الأهدل: كانت اليمن قد انحطت عظمتها، وتقوضت صروحها، وإنهار مجدها الباذخ، وسلطانها الشامخ، وتقلص ظلها وطُوي بساط عزها ومجدها، حتى لم يتبق في يدها إلا بلادها، ومنبت أرومتها، بل لم تحتفظ بها، لتفرق كلمتها، وتصدع وحدتها، بانفجار براكين الفتن الداخلية بين أقيالها وأمرائها، واستقل كل قيلٍ ببلاده، وما قدر على الدفاع عنه.

وتشعبت اليمن الى ثلاث طوائف فطائفة اعتنقت اليهودية وطائفة النصرانية والثالثة بقيت على عبادة الأوثان والنجوم، فتغلبت اليهودية على النصرانية، واستبدت بها، وخدّت لها اخدوداً في مخلاف نجران اشعلت فيه النيران، ..، فألقت فيه كل من رفض الرجوع الى اليهودية، ..، وهكذا أتى الإسلام واليمن في حروب وصراعات يشيب من هولها الطفل الرضيع، فلم تجتمع إلا لسيد الأنبياء والمرسلين بسبب صدق إيمان أهلها، وقربهم من النور المحمدي.

 

المراجع:

1 – عدنان الجنيد، ذكرى مناسبة دخول الإسلام إلى اليمن واحتفاء اليمنيين بها، يمني برس، 23 مارس 2018

2 - محمد يحيى الحداد، التاريخ العام لليمن، الجزء الثاني، شركة دار التنوير للطباعة والنشر – بيروت، الطبعة الأولى 1986

3 - الدكتور محمد أمين صالح، تاريخ اليمن الإسلامي، مكتبة الكيلاني – القاهرة، الطبعة الأولى 1975

4 - العلامة محمد بن علي الأهدل الحسيني، نثر الدر المكنون في فضائل اليمن الميمون، مطبعة زهران – القاهرة، الطبعة الأولى.

5 - زيد المحبشي، اليمنيون يحتفلون بإسلام أجدادهم في الجمعة الأولى من رجب، مركز البحوث والمعلومات، 27 فبراير 2020

6 - إسراء الفاس، جمعة رجب: يوم دخل اليمنيون إلى الإسلام، موقع قناة المنار اللبنانية، 31 مارس 2017

الأحد، 14 فبراير 2021

العلامة سهل بن إبراهيم بن عمر بن عقيل بن يحيى باعلوي الحسيني


 إعداد زيد المحبشي

عالم رباني، وفقيه مجتهد، ومفتي، ومتصوف زاهد، ومجاهد لا يلين ولا يستكين عن مقارعة الباطل والمبطلين.

مولده بمدينة الحديدة عام 1940م ، ووفاته بصنعاء في يوم السبت 13 فبراير 2021، عن عمر يناهز الـ 81 عاماً، بعد حياة حافلة بالجهاد والاجتهاد والزهد والورع والتقوى وخدمة الشرع والناس والوطن.

تربى يتيم الأم في كنف أبيه، أخذ عن والده كافة فنون العلوم والآداب، ما أهلّه لأن يكون نابغاً منذ صغره، درس بالمدرسة الأحمدية الابتدائية والثانوية في مصر والجامعة في بيروت، وأخذ العلم الشرعي واللغوي عن كوكبة من مشايخ اليمن، منهم الحبيب والده، والسيد محمد سليمان الأهدل، والسيد محمد بن سالم بن حفيظ، والسيد علوي بن طاهر، وأخذ منه الإجازة، والشيخ محمد سالم البيحاني؛ وعمل معه في المعهد في عدن.

منذ نشأته كان صدَّاحاً بالحق، لا يرهب أحداً من أهل الباطل، فلم يطب له الحال في عدن إلا وكان من أشد المناضلين ضد الإنجليز، بل إنه قاد المظاهرات واعتقل أكثر من ستة أشهر، وبعد الثورة درس في بيروت، وعاد منها، وتقلد بعض الوظائف العامة والخاصة وظل على الدوام منارة زاخرة بالخير والفتوة، ولم يعط زمام قياده لأحد، قريباً من الناس، بعيداً عن المتنفذين، مقارعاً للظالمين، موجهاً وداعياً للخلاص من الباطل والفساد بجميع أطيافه وألوانه، ولم يكن يوماً متحزباً قط إلا لوطنه ولشعبه، وتعرض لشتى أنواع الضغوط والإغراءات، وكان على الدوام مترفعاً عن كل ذلك، حتى ما أصابه من بلاء تهجيره قسراً، ونزوحه عن مدينته، وزاويته، ومسجده، الزاوية التي تخرج منها العلماء والأدباء، وكم كان فيها من ذكر لله وإيواء وإطعام.

لم يغير ذلك كله ثباته، بل زاده إصراراً على موقفه، وله تلك الخطب العصماء والمقابلات والمقالات والندوات التي تلخص صدق توجهه.

مراجع الترجمة:

محمد شرف، رحيل العالم الثائر.. سهل إبراهيم بن عقيل، صحيفة الثورة اليمنية، 14 فبراير 2021