Translate

السبت، 21 مارس 2020

تأملات في محراب ثائر مران



زيد يحيى المحبشي، 21 مارس 2020

 "قلنا لهم في اليوم الأول من أيام الحرب، عندما اتصلوا بنا وهددونا، وقالوا لنا إنّ مصيرنا، أن يقتلونا، وأن ينهوا وجودنا، ككيان إيماني قرآني: الأرض لله، إنّها له، وهو من يقرر ما يجري عليها" .. السيد عبدالملك الحوثي.
ما بين الإيمان المطلق بالله، والإيمان الراسخ بالأرض، كان التمكين الإلهي، لحركة انطلقت مسيرتها القرآنية من منطقة لم يسمع عنها العالم، على يد ثلة قليلة من المؤمنين مستضعفة ومطاردة، يقودهم شاب لم يكمل بعد عقده الرابع، شاب فاق أبناء جيله في العلم والوعي والحكمة والرزانة والنقاء والطهر والبساطة والبصيرة والكرم والبذل والعطاء والسخاء ودماثة الأخــلاق والتعقل والصبر وسعــة الصدر والتواضع والشجاعة والعزة والإباء والنجدة ونصرة المظلوم وإغاثة الملهوف والرحمة، والإحساس بالأمة، واستشعار المسؤولية الدينية والوطنية تجاه بلده وأمته، ورفض الضيم والذل والخنوع والقهر، شاب لم يكن يدور في خَلَد أحد من أبناء جيله أن فكره سيغير وجه اليمن والمنطقة ذات يوم، وسيكون لأتباعه دور محوري في رسم سياسات وتفاعلات المنطقة، وتقرير مصيرها، والتحكم في مسارها.
إنه السيد العلامة الحجة حسين بدرالدين أميرالدين الحوثي، تحفه قلة قليلة من المؤمنين الصابرين المحتسبين، في قرية لا تتجاوز مساحتها بضعة كيلو مترات، ونظام يترصد كل حركاتهم وأنفاسهم، وقوى أمنية تبطش بكل المتعاطفين، ولا ترعى حرمة لصغير أو كبير، فإذا بهذه الثلة القليلة من المجاهدين المخلصين بعد عقد ونيف من الزمن يغيرون وجه اليمن والمنطقة، ويصبحون في سنوات معدودة رقماً سياسياً لم يعد بمقدور أحد من الفاعلين السياسيين في اليمن والإقليم تجاهله أو تجاوزه.

* التحصيل العلمي:
"عاش مع القرآن منذ نعومة أظافره، وتربى في بيتٍ من بيوت القرآن، وفي مرحلة من مراحله العمرية هيأ اللهُ له بعض الأسباب ليعيش مع القرآن الكريم، عيش المتأمل الواعي، والمتدبر الخاشع، الذي يتألم لواقع الأمة، وينشد الحل".
مولده في قرية الرويس ببني بحر وفي رواية بقرية آل الصيفي من مديرية حيدان بصعدة، وتراوحت الآراء حول سنة ميلاده ما بين 1956 و20 أغسطس 1959 وشعبان 1379هـ/ فبراير 1960، والأخير هو الأرجح.
ينحدر من أسرة علمية كريمة، وهي من الأسر الهاشمية العلوية المشار اليها بالبنان في اليمن، وجُل أبنائها من علماء الدين، وأجدادهم من المراجع الدينية المعتبرة في التاريخ اليمني.
 نشأ وترعرع في كنف والده السيد العلامة الحجة بدرالدين بن أميرالدين الحوثي، أحد مراجع الزيدية المعتبرة بصعدة الى جانب السيد العلامة الحجة مجدالدين المؤيدي رحمة الله عليهم، ونهل من والده وكوكبة من علماء الزيدية مختلف علوم الشريعة حتى صار الغرة الشاذخة في أعيان زمانه، وهو لا يزال في العقد الثالث من عمره، وأُجيز من كبار علماء الزيدية، ولازم والده في حِلِه وترحاله، وتشرّب منه محامد الأخلاق وجميل الفضائل، وحصد من صفات وسمات الكمال ما لم يحصده غيره من الأتراب والأقران.
ولم يكتفِ بتحصيل العلوم الشرعية، فالتحق بالتعليم النظامي بمراحله المختلفة، وحصل على شهادة البكالوريوس في الشريعة والقانون من جامعة صنعاء، وشهادة الماجستير في علوم القرآن من السودان عام 2000، وتحدثت بعض المصادر عن حصوله على درجة الدكتوراه في علوم القرآن الكريم، وتعمق رحمة الله عليه في دراسة أصول المذهب الزيدي وعلومه الشرعية وتاريخه السياسي في اليمن.
وخلال دراسته الجامعية بالسودان، كان له بصماته الإيمانية وحضوره المهيب ومداخلاته ومطارحاته العلمية الرصينة، ويشهد له زملاؤه وأساتذته وأصدقاؤه بالذكاء والتفوق والتوسع في الدراسات الاسلامية والمذهبية، وكان مثار إعجاب وثناء الدكاترة والطلاب، وحظي بمكانة مرموقة وشعبية كبيرة بين أوساط المثقفين.
انخرط بعد عام 1994 في منتدى الشباب المؤمن مدرساً ومحاضراً ومديراً، وقد تشرفت بحضور بعض محاضراته خلال العام 1995 بالمعهد العالي في مدينة صعدة ومدرسة الإمام الهادي في بني معاذ بمنطقة سحار، وبعد خروجه من مجلس النواب 1997 تفرغ لنشر أفكاره ومعتقداته من خلال الدروس والمحاضرات والخروج الدعوي إلى المناطق، وفي العام 2000 قرر مغادرة المنتدى والتوجه لتشكيل نواة الثقافة القرآنية حسب اجتهاداته، ونشر فكرها النوراني، وتأسيس المدارس الخاصة بالمسيرة القرآنية في محافظة صعدة وبعض المحافظات المجاورة.

* التفاعل السياسي:
كان له إسهام بارز في تأسيس حزب الحق عام 1990والفوز بأحد المقعدين التي حصدها الحزب في الانتخابات البرلمانية لعام 1993، ممثلاً لمديرية حيدان في محافظة صعده للفترة النيابية 1993 - 1997 .
ومن الأشياء اللافتة للمتابعين حينها، العبارة التي أطلقها السيد خلال فترة الانتخابات: "أنا لا أعدكم بشيئ، ولكني أعدكم أن لا أمثلكم في باطل"، وهي تختلف كليةً عن سائر العبارات التي نقرأها أو نسمع عنها في أي انتخابات تُقام، وخاصة عند احتدام التنافس يبن المرشحين، بما تخفيه في ثناياها من المعاني والقيم الصادقة والواقعية، ومن النادر أن نجدها فيمن يمثلون الناس في السلطات التشريعية اليوم.
وكان له اسهام بارز خلال تواجده بالبرلمان في سن القوانين ومحاربة الفساد المتفشي داخل السلطة، وعُرف بين زملائه برؤيته الحكيمة وبُعد النظر وقدرته الخطابية وبلاغته العالية وجرأته في مواجهة الباطل وقول كلمة الحق.
 ومما يُحسب له خلال فترة تواجده بالبرلمان عدم توقيعه على القروض الخارجية المقدمة لليمن، والتي تم رفعها الى البرلمان للمصادقة، لعلمه المسبق بأن هذه القروض تذهب إلى جيوب المتنفذين داخل النظام، وأنها لا تعني الشعب لا من قريب ولا من بعيد، وهذا الموقف المشرف للسيد من الأشياء التي لا يمكن للشعب أن ينساها.
والى جانب عمله البرلماني كانت له بصماته الإنسانية والاجتماعية، من أبرزها انشاء جمعية مران الاجتماعية الخيرية، ومن خلالها قدم السيد العديد من المشاريــع الخدمية لأبناء دائرته والمناطق المجاورة من مدارس وشق طرق ومراكز صحية وكهرباء وبناء مصلى للعيد بمنطقة مران، وتلمس معاناة الناس وتقديم المساعدات لهم، في ظل غياب تام للدولة ومؤسساتها .. ألخ.

* حرب صيف 94:
لم يمنعه تواجده في مجلس النواب من الوقوف في وجه الباطل ورفض الضيم والظلم، حتى ولو كانت الدولة التي يمثلها مصدر هذا الظلم، ومما يذكره له اليمنيون وتحديدا أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية، موقفه النبيل والشجاع من حرب صيف عام 1994 ووقوفه الى جانب الحزب الاشتراكي، ورفضه عدوان قوات الرئيس اليمني حينها علي عبدالله صالح وميليشيات حزب الإصلاح على المحافظات الجنوبية والشرقية، ما جعل الاشتراكي يومها يُفَضِّل الانفصال على البقاء تحت مظلة وحدة تحكم بالقوة والإكراه.
وانطلاقاً من استشعار المسؤولية الوطنية والدينية، حاول السيد في بادئ الأمر السعي لإصلاح ذات البين ورأب الصدع بين قادة طرفي الصراع، من خلال موقعه في عضوية لجنة المصالحة، وعندما وجد أن الأمور تتجه نحو الحرب، خصوصا بعد انكشاف خديعة دعوة صالح للبيض لعقد لقاء في الجند، ونكث صالح بما تم الاتفاق عليه في الأردن/ وثيقة العهد والاتفاق، أعلن السيد رفضه الواضح والصريح لاجتياح قوات صالح وميليشيات الاصلاح للمحافظات الجنوبية والشرقية، وقرر مغادرة صنعاء للتعبير عن رفضه، رغم توجيه صالح بمنع مغادرة أعضاء مجلس النواب العاصمة صنعاء؛ من أجل إضفاء الشرعية على تلك الحرب الجائرة، ونظم العديد من المظاهرات الرافضة للحرب بصعدة، ما دفع نظام صالح الى اتهامه بمساندة الانفصال ومناصرة قوات الحزب الاشتراكي اليمني.
بعد انتهاء الحرب لصالح صنعاء، لم يُخفِ نظام صالح غضبه من السيد وأنصاره في صعدة وهمدان، فأرسل حملات عسكرية كبيرة الى مران وهمدان في 16 يونيو 1994، وشن حملة اعتقالات واسعة في أوساط أبناء مران، وقام بتدمير منزل السيد بدرالدين الحوثي وبيت السيد حسين الحوثي في 27 أغسطس 1994، وإبقاء بعض المعتقلين في السجن لأكثر من عام، دون محاكمة.
 مثّل هذا الموقف الوطني والديني والأخلاقي والإنساني نقطة تحول فارقة في حياة السيد، وفي علاقته مع النظام الحاكم وعلاقة النظام معه، فمن جهة زادت قوة وعزيمة السيد في مواصلة دوره الجهادي في مقارعة ظلم النظام وتعرية الفاسدين في أروقة الدولة، ومن جهة زادت كراهية وحقد ونقمة النظام على هذا الثائر القادم من مران، بعد عقود من حياة النعام، ومحاولة تصفيته أكثر من مرة بصنعاء، الى أن تم لهم ما أرادوه في 10 سبتمبر 2004، ففاز بالشهادة، وفازت مسيرته بالقيادة والريادة بعد عقد ونصف من الزمن فقط، فأين هو اليوم وأين قتلته، إنها عدالة الله ووعده لعباده المستضعفين.

* صرخة المستضعفين:
تمتاز الزيدية عن غيرها من المذاهب الاسلامية بالخروج على الحاكم الظالم ومقارعته مهما كانت الأثمان، ولذا فهي حركة فكرية ثورية، ثورية ضد الظلم بتلاوينه، وثورية ضد الانغلاق الفكري، وثورية ضد جمود الخطاب الديني، وهو ما جعلها على الدوام محل غضب ونقمة الحُكام، وليست مدرسة المسيرة القرآنية سوى قبس من نورها، لما أحدثته من ثورة جذرية في تجديد الخطاب الديني، وإعادة الأمة الى قرآنها في كافة مناشط حياتها، بعد طول سبات، وثورة على الظلم السلطوي والهيمنة الإقليمية والاستباحة الأميركية للسيادة الوطنية.
وتعود بداية محاولات النظام للتصادم مع الفكر الزيدي في عرينه، إلى العام 1979، عندما قام بنقل الشيخ السلفي المتشدد "مقبل بن هادي الوادعي الصيلمي" ومن فر معه بعد فتنة جهيمان الشهيرة بالحرم المكي الى منطقة دماج بصعدة، وكان هدف النظام من هكذا خطوة القضاء على الزيدية في مهدها، ومعها بدأ الخطاب الديني التكفيري التصادمي ضد أبناء الزيدية يجتاح المساجد ووسائل الإعلام اليمنية، وينتزع منابرها ومساجدها التاريخية، ولم يقتصر الأمر على الزيدية فقط، بل وطالت شظاياه أتباع الشافعية والصوفية والإسماعيلية، وقد شهدنا وعايشنا شيئاً من ذلك في تسعينيات القرن الماضي.
وعززت السلطة هذا التوجه القمعي باعتقال عدد من علماء الزيدية، والحكم على بعضهم بالإعدام، ونفي بعضهم الى خارج الوطن، كما جرى للسيد العلامة الحجة بدرالدين الحوثي والسيد حسين الحوثي، ومنع إحياء مناسبة الغدير، والحديث عنها في المساجد، خصوصاً في نهاية تسعينيات القرن الماضي وسنة 2004 وما تلاها من أحداث.
بعد موقف السيد من حرب 1994 بدأ النظام يشعر بالخوف من هذا الرجل، بسبب تزايد قاعدته الشعبية في أوساط الناس والنخب، وجرأته في قول كلمة الحق، ومقارعة الباطل، وتعرية فساد النظام، والتصدي لمحاولات التماهي مع سياسات الهيمنة والغطرسة الأميركية في المنطقة.
وزاد من مخاوف النظام، إطلاق السيد بعد عودته من الخارج مباشرة 17 يناير 2002 صرخة الحق والعزة الكرامة في وجه المستكبرين من الأميركان والصهاينة ومن سار في فلكهم من المطبعين والمنبطحين العرب، بالتوازي مع تزايد الانتشار الأميركي في المنطقة، وتزايد التشبيكات الأمنية العربية مع الأميركان للمشاركة في يسمى بمحاربة الإرهاب، وفي مقدمتها النظام اليمني.
 وهو ما تسبب في اثارة غضب النظام اليمني وسفير واشنطن بصنعاء "أدموند هول"، المبادر من فوره بإجراء بعض الجولات الميدانية في صعدة وصنعاء، واللقاء بالمشائخ، دون إي اعتبار للدولة وسيادتها، وتحريضهم ضد السيد وطلابه، والتوجيه بسحب الأسلحة من سوق الطلح، وخدش الشعار من على جدران محافظة صعدة، وبعض مديرياتها، وقال يومها بوضوح أن عداء الشعب العربي لأميركا قد تحول إلى عداء ديني، وأن حكومة بلاده تستشعر ما يشكله "حسين بدرالدين الحوثي" من خطر على مصالحها في المنطقة.
بالتوازي مع زيادة الضغط الأميركي على نظام صنعاء، ومطالبته بملاحقة واعتقال مرددي الصرخة في صنعاء وصعدة وحجة وغيرها من المناطق اليمنية التي يتواجد فيها أتباع السيد، وتكثيف حملات التشويه لصورة السيد والفكر القرآني في وسائل الإعلام ومنابر المساجد، وتسويق سيل كبير من الاتهامات والأباطيل ضد السيد والحركة القرآنية، وفصل العديد من موظفي الدولة بتهمة التعاطف مع فكر المسيرة القرآنية.
ولم تكن تلك الحملة المسعورة سوى مقدمة لتبرير وشرعنة العمل العسكري، ليأتي الانفجار الكبير في منتصف 2004.
بعد احتلال أميركا للعراق في أبريل 2003 زادت تحركات السيد الرافضة للهيمنة الأميركية في المنطقة، ما جعل النظام في موقف محرج أمام واشنطن، ومعها بدأ التخطيط لعمل عسكري ضد السيد وأتباعه، موضع بحث في أروقة النظام، ومع حلفائه في واشنطن والرياض.
 وفي 2003 قرر صالح الذهاب إلى الحج براً، وتوقف أثناء مروره بمدينة صعدة بجامع الإمام الهادي لأداء صلاة الجمعة، ليتفاجأ بعد الفراغ من الصلاة، بالمصلين يصرخون بالشعار، على إثرها اعتقل النظام أكثر من 600 شخص، ورفض اطلاق صراحهم رغم الوساطات المتعددة.
 ويومها أحس صالح بخطورة السيد والمسيرة على حكمه، في وقت كان يعمل فيه جاهداً على تهيئة البيئة السياسية، لتوريث الحكم لإبنه أحمد، وبما أن السيد كان خطه ونهجه واضح في مقارعة أطماع الإمبريالية الأميركية وأذيالها الصهيونية في المشرق العربي، حاول صالح استغلال انخراطه مع أميركا في مكافحة الإرهاب لصالح تمرير مشروع التوريث، وبذلك يتمكن من تحقيق عدة أهداف بضربة واحدة، أهما الحصول على الدعم الخارجي لإبنه، وتصفية خصوم الداخل بما فيهم المعارضين لولايته، وشرعنة أي عمل عسكري ضد السيد وأتباعه، أمام أميركا بذريعة تشكيل السيد وأتباعه خطراً على مصالحها في المنطقة، وأمام الشعب اليمني بدعوى سعي السيد لإسقاط الجمهورية وإعلان نفسه إماماً، رغم تأكيد السيد في أكثر من خطاب ومقابلة على احترامه للدستور والقانون والنظام الجمهوري، وتوضيحه المتكرر بأن سبب خلافه مع النظام هو موالات صالح لأميركا والسعودية.
اتسعت الهوة بين النظام والسيد في العام 2004، واتسعت معها قائمة الاتهامات للسيد، بما فيها من تناقض فاضح عجل بانكشاف زيفها وتهاويها، وزادت الاعتقالات في أوساط طلاب السيد لتصل في يونيو 2004 فقط الى 640 معتقل، وأوقف النظام مرتبات المدرسين الحكوميين المشاركين في الأنشطة التي نظمها السيد، وأرسل الى السيد سيل من رسائل التهديد والوعيد بتسليط "من لا يرحم" إذا لم يتخلَّ السيد عن الشعار، وبالفعل تم انتداب الجنرال "علي محسن الأحمر"، لإتمام مهمة الجنرال "شمر بن ذي الجوشن".

* أيقونة الشهادة:
قرر النظام في 17 يونيو 2004 شن الحرب على السيد وأتباعه في معقله بصعدة، بعد فشل عدة محاولات لتصفيته في صنعاء، وفشل محاولات اعتقاله، ورصد مبلغ قدره 55 ألف دولار، لمن يدلي بمعلومات تساعد على اعتقاله.
شارك في هذه المهمة الإجرامية أكثر من 30 ألفاً من الجيش النظامي و14 ألفاً من ميليشيات حزب الاصلاح والجماعات التكفيرية، مدججين بمختلف أنواع الأسلحة، مقابل بضع مئات من الطلاب والمواطنين العُزّل، وعلى مدى 90 يوماً من القصف والتدمير للمنازل، والحصار الخانق، فشلوا في اقتحام مران وكسر شوكة أهلها، ما دفع النظام الى استخدام الغازات المحرمة دولياً.
وفاق ما صبّه الطيران الحربي على أبناء مران في يوم واحد فقط، أضعاف ما صبّه العدوان الأميركي على حيٍ من أحياء بغداد أو الفلوجة من نيران العذاب، كما أخبر السيد في اتصال له مع شبكة البي بي سي البريطانية.
بعد 90 يوماً من المقاومة والصمود والاستبسال لأبناء مران وما جاورها، تمكنت قوات صالح وميليشيات الإصلاح والجماعات التكفيرية، من محاصرة السيد وأطفاله ونسائه وعدد من المجاهدين في "جرف سلمان"، وقاموا بوضع قنابل كبيرة في فتحة الجرف من الأعلى، وصب البترول فيه، ومحاولة إشعاله، في وحشية أعادة الى الأذهان ما جرى للإمام الحسين بن علي بن أبي طالب وأطفاله ونسائه وأهل بيته وأصحابه في كربلاء العراق.
 واقتربوا من السيد، وكان مُثخناً بالجراح، وأمطروه برصاصات الحقد والكراهية اليزيدية، لتصعد روحه الطاهرة الى بارئها في يوم الجمعة 25 رجب 1425 الموافق 10 سبتمبر 2004، ولسانه يتمتم: "اللهم ثبتني بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة".
 ولم يكتفوا بقتله، بل ومارسوا حفلة الزار اليزيدية بحق جثمانه الطاهر، فقاموا بسحله في الشوارع، والتمثيل به، والتباهي بابتذالهم على وسائل إعلامهم، ورفض تسليم الجثمان لذويه، وإخفاء مكان دفنه لأكثر من 9 سنوات.
استشهد في تلك الحرب الظالمة نحو 473 من المواطنين الأبرياء، ومقتل 2588 من قوات صالح وميليشيات الإصلاح والجماعات التكفيرية، وبلغت خسائرها المادية 274 مليون دولار بحسب التقرير المرفوع من جهاز الأمن القومي في نظام صالح الى مجلسي النواب والشورى في 10 نوفمبر 2007.
وبعد تسع سنوات من استشهاده، واخفاء جثمانه عن ذويه وطلابه ومحبيه، سلم النظام الجثمان الطاهر في 5 يونيو 2013، واعترفت حكومة صنعاء رسمياً في 21 أغسطس 2013 بأن الحروب التي شنها نظام علي عبدالله صالح على صعدة، كانت حروب ظالمة وغير مشروعة، وقدمت اعتذار رسمي لأنصار الله، وأعلنت اعتذارها الرسمي لكل أبناء محافظة صعدة والمناطق المجاورة لها عن تلك الحروب الظالمة.

الثلاثاء، 17 مارس 2020

القدس في ليل الإسراء


زيد يحيى المحبشي،  17 مارس 2020
يحتفل المسلمون في أنحاء المعمورة في ليلة 27 رجب، من كل عام، بذكرى عظيمة على قلوب المؤمنين هي ذكرى "الإسراء"، امتثالاً لقوله سبحانه وتعالى: "ومن يُعَظِم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب" الحج/32 .
معجزة الإسراء واحدة من الآيات الإلهية الكبرى التي أيد الله بها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم, بعد حصار قريش لبني هاشم في الشعب، وموت الناصر أبي طالب شيخ الأبطح، والونيس خديجة الكبرى، ونكبة وصد أهل الطائف, فكان فرج الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالإسراء: "لنُرِيَهُ من آياتنا .." الإسراء/1 ، "من" تبعيضية، بمعنى بعض آياتنا وليس كل آياتنا, تثبيتاً لقلب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم حتى يتحمل كل ما يلاقيه من سخرية واستهزاء وعذاب قريش.
الإسراء هدية ربانية أتت لتنفيس وتفريج كرب المصطفى عما كان يلاقيه من ألم صدود وجحود أهل الطائف، وألم تعقب ورفض قريش, وهي بالمرتبة الأولى رحلة استكشاف للكون، وما في قوله تعالى: "لقد رأى من آيات ربه الكبرى" النجم/ 18 - "من" تبعيضية بمعنى بعض آيات ربه الكبرى وليس كلها -, من الغموض وعدم الإفصاح وعلامات التعجب والاستفهام عما رآه صلى الله عليه وآله وسلم، ما يكفي لتبيين أهمية هذه المعجزة التي كرم الله بها نبيه.
أسرى الله بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم من المسجد الحرام بمكة المكرمة،محطة الانطلاق، على ظهر البراق إلى المسجد الأقصى، محطة الاستراحة، والصلاة بأرواح الأنبياء إماماً في تلك البقعة الطاهرة، ثم العودة الى مكة المكرمة في ذات الليلة، كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى في الآية الأولى من سورة الإسراء: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير"، ابتدأت الآية الشريفة بتنزيه الله والتأكيد على قدرته المطلقة، وفي هذا دلالة واضحة أن انتقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من مكة الى بيت المقدس كان بالروح والجسد.
وسمى الله سبحانه وتعالى سورة كاملة باسم هذه المعجزة الربانية للتأكيد على أهميتها، رغم أنه لم يرد فيها سوى آية واحدة تتحدث عن حادثة الإسراء، وصفتها بدقة ووضوح - عكس حادثة المعراج وما فيها من اختلاف وجدل بين علماء المسلمين، لسنا بصدده في هذه الفسحة لطول الحديث فيه - وهو ما جعل قضية الإسراء محل إجماع بين علماء المسلمين، مع الاختلاف فيما رآه صلى الله عليه وآله وسلم خلال تلك الرحلة المقدسة وطريقة الانتقال وهل كانت بالروح والجسد أم بالروح فقط، والراجح كما هو واضح من منطوق القرآن أنها بالروح والجسد، وهو ما أكسبها أهمية خاصة وجعلها منطلقا لمرحلة جديدة في حياة الرسول والدعوة الاسلامية.
أُسرِي به صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة بسنة من دار أم هانئ بجوار المسجد الحرام بمكة المكرمة ليلا الى بيت المقدس، مهبط الملائكة ومقر الأنبياء، والمباركة أكنافه بالزروع والثمار والأنهار، وعاد في ذات الليلة، متعدياً عامل الزمن، وكانت الرحلة الى القدس في حينها تستغرق أشهراً ذهاباً وإياباً.

* لقد رأى من آيات ربه الكبرى
في هذه الرحلة المقدسة لم يتحدث صلى الله عليه وآله وسلم عن كل ما رآه، بل عن شيئ يسير فقط تناقله الرواة فأضافوا إليه ما خُيِّل لهم أنه صالح لشرح آيات الله التي رآها صلى الله عليه وآله وسلم، بعض هذه الإضافة كان بحسن نية وبعضها كان من دس المنافقين، ليشوشوا علينا أمر ديننا، وليجعلوه مع العقل السليم والفطرة السليمة والسنة السليمة على اختلاف وتناقض، فيتسرب الشك إلى القلوب ثم الكفر والجحود.
وحسبنا أن القرآن الكريم قد وصفها بـ"الكبرى"، وهذا الإجمال في الوصف لطفٌ من الله لنا، لأن عقولنا أقل من مستوى تلك المعلومات التي اختص الله بها نبيه، مع أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يرى إلا ما أذن الله له أن يراه، وقد وصف سبحانه وتعالى محافظة نبيه على حدود اللياقة والأدب وعدم مد النظر إلى ما لم يُأذن له في رؤيته: "ما زاغ البصر وما طغى, لقد رأى من آيات ربه الكبرى" النجم/17 – 18.
قال الإمام زيد بن علي عليه السلام في تفسير قوله تعالى بسورة النجم: "ما زاغ البصر وما طغى، لقد رأى من آيات ربه الكبرى": ما عدل البصر وما حار مما رآه من علامات وعجائب الله في الكون، وفي تفسير الامام القاسم بن الحسين العياني عليه السلام: ما أخطأ البصر ولا مال، ولم يتعد الى غير الحق، بل أصاب، والآية الكبرى التي رآها النبي هي جبريل عليه السلام، وهو آية عظيمة باهرة منيرة، وفي البرهان يقول الإمام الهادي يحيى بن الحسين عليه السلام: ما زاغ بصر النبي وما عدل عنه ولا شبهه ولا تخايله، ولا ظنه، بل قد رآه بحقائق الرؤية وأبصره، وما طغى رسول الله فيما أخبركم به ولا دخله في ذلك أشر ولا بغي، بل قد صدقكم عما أبصر ورأى، وقيل ما تجاوز صلى الله عليه وآله وسلم ما رآه من العجائب التي أُمر برؤيتها، ومُكِّن منها، ويضيف الهادي عليه السلام في توضيح ماهية الآيات الكبرى التي شاهدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: رأى من جبريل عليه السلام آية من آيات الله العظمى لا يشبهها شيئ من الأشياء، وفي تفسير العلامة عبدالله بن أحمد بن إبراهيم الشرفي: رأى كبرى آيات ربه وعُظمَاهَا حين عرج الى السماء، من عجائب الملكوت في تلك الليلة.
ولنا أن نتصور ما شئنا من آيات الله الكبرى التي أطلع عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكن شريطة أن نعرض ذلك على كتاب الله، فما وافقه فهو الصواب وما خالفه فهو باطل مردود، وعقل المخالف بلا شك محتاج إلى طبيب، وليس القصد الإطالة وتصحيح وتنقية ما رُوي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الرحلة العظيمة المباركة، وإنما الوقوف على الحكمة من هذه المعجزة الإلهية.
وقد وجدت قريش في هذه الحادثة التي سمتها "خرافة"، مرتعاً خِصباً لنشر الأقاويل والأكاذيب والدعايات المغرضة ضد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويأبى الله إلا أن يُتِمَ نوره ولو كره الكافرون، وتظهر آيات ذلك في وصفه صلى الله عليه وآله وسلم لبيت المقدس وصفاً دقيقاً كأنه يراه الساعة وإخباره صلى الله عليه وآله وسلم ببعير لقريش في الطريق وما شرد منها وما جرى لماء قافلتهم ومتى يصلون مكة، ومع ذلك آمن من آمن وصدّق، وكفر المعاند الجهول الغوي.

* دلالات نهتدي بها
حملت معجزة الإسراء العديد من الدلالات والرسائل ليس للنبي فحسب بل وللأمة المحمدية الى قيام الساعة:
1 - تثبيت قلب الرسول الخاتم بما رآه من آيات ربه الكبرى ليزداد هُداً ونوراً وصبراً، على تحمل ما لاقاه ويلاقيه بعد موت أبي طالب وخديجة من ضروب الإهانة والسخرية والتعذيب.
2 - اشعار الرسول الخاتم وأمته بوحدة الشريعة السماوية المنزلة عليه والرسل من قبله: "إن الدين عند الله الإسلام" - ولنا بحث مطول حول واحدية الأديان السماوية وأن الإسلام هو دين كل الأنبياء والمرسلين -، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يأتِ بشيئٍ جديد، ولم يكن أول من تلقّى الإهانة والتعذيب في سبيل الله, فقد تلقاها من قبله إبراهيم الخليل وموسى الكليم, ويشير إلى هذا رحلته صلى الله عليه وآله وسلم إلى بلد الأنبياء "القدس الجريح"، وتعريجه على طور سيناء جبل الكليم موسى عليه السلام واتفاقه بأرواح الأنبياء عليهم السلام.
3 - توجيه رسالة ربانية للأمة الإسلامية في كل زمان ومكان لتأكيد ارتباط حرمة الحرم المكي والمسجد الأقصى الى قيام الساعة، ووجوبية رعاية حرمتهما، ومواجهة كل من يريد بهما شراً، وتأكيد وحدة مسار ومصير المسجدين وأن ما يقع على أحدهما سيكون له تداعيات كارثية مباشرة على الأخر.
بعد حادثة الإسراء اهتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بفتح بيت المقدس وتجهيز جيشاً لهذه المهمة المقدسة قبيل وفاته بقيادة أسامة بن زيد 11 هـ / 632 م، لكن وفاته صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين حالت دون إنفاذ الجيش، وبعد وفاة الرسول الأكرم بأربع سنوات 15 هـ / 635م، فتح المسلمون بيت المقدس، وتسلم عمر بن الخطاب مفاتيح القدس الشريف مباشرة من بطريكها "حفرونيوس" وتم بناء المسجد الأقصى في البقعة التي صلى فيها، وتحققت أمنية الرسول الخاتم وتطهرت بيت المقدس من رجس ودنس اليهود.
تتابعت الأحداث بعدها وتمكن اليهود من انتزاع القدس وتهويده وتدنيسه خلال فترة تمدد الحروب الصليبية في المشرق العربي في العهد الوسيط، لكن المسلمون تمكنوا من استعادته في سنة 1187م، وبقي في حوزة المسلمين حتى نكبة حزيران يونيو 1967، ومن يومها والكيان الصهيوني الغاصب لا يدخر وسيلة لتسريع عملية تهويد الأماكن المقدسة في القدس وأكنافه، وتغليب العرق اليهودي وتحويل القدس إلى عاصمة أبدية لكيانه اللقيط، بمباركة هيئة الأمم ودعم رعاة البقر وتمويل بعران العرب.

* القدس الجريح
عندما احتل الكيان الصهيوني الغاصب مدينة القدس عام 1967 لم تكن مساحتها تتجاوز 6 كيلو متر مربع، بينما هي اليوم أكثر من 300 كيلو متر مربع، ويعمل الاحتلال لضم 25 بالمائة من أراضي الضفة (1413 كيلو متر مربع) بعد أن كان قد اقتطع في السابق أكثر من 5 بالمائة من الضفة.
إعلان الاحتلال مدينة القدس بموجب قانون عام 1980 عاصمة أبدية وموحدة له، معناه أن القدس الفلسطينية لم تعد تتجاوز الأحياء العربية خارج حدود الجدار، وبالأصح خارج حدود 1967 كما طرح ترامب في مبادرته المسماة بصفقة القرن، وهذه قد تم ملئها بالمستوطنات، أي أن أي تفاوض مستقبلي حول ملف القدس - حسب نتنياهو – بات مقتصراً على أحياء محدودة من القدس الشرقية وعلى المقدسات الإسلامية في المدينة القديمة – مساحتها واحد كيلو متر مربع فقط - والتي هي من ضمن مقدسات مسيحية ويهودية، بما لذلك من تعقيدات كثيرة ليست فلسطينية وإسرائيلية فحسب بل ودولية.
ملف القدس يظل من أكثر الملفات تعقيداً، لكن بصورة عامة لا تزال القدس حسب القرارات الدولية محتلة ولا يزال الفلسطينيين يأملون في الحصول على الأحياء العربية لتكون عاصمة لهم، وبالسيادة الكاملة على المسجد الأقصى، وإمكانية التوصل إلى ضمانات بخصوص حائط البراق، بهدف إتاحة المجال لوصول اليهود إليه والصلاة أمامه، فيما يرى الاحتلال أن كل التعهدات التي أطلقها في مفاوضات كامب ديفيد الثانية عام 2000 لجهة تقسيم القدس وموافقته المبدئية بإمكانية التخلي عن السيادة على الحرم القدسي ملغية، في إشارة واضحة لمبادرة بيل كلينتون حينها، المتضمنة انسحاب الاحتلال من الأحياء العربية وتقسيم البلدة القديمة، وإبقاء سيادة رمزية لإسرائيل على حائط البراق، وخلق حد أقصى من التواصل الجغرافي لكلا الطرفين، والتوافق على وجود مراقبة دولية لتوفير الثقة المتبادلة.
ومع ذلك فكل الوقائع والحقائق الميدانية تصب في خانة استحالة إمكانية تقسيم القدس الشرقية تحت أي ضغط، ويكفينا هنا لتأكيد هذه الحقيقة العودة إلى تصريح رئيسة وزراء الاحتلال "غولدا مائير" عندما أقدم كيانها على إحراق المسجد الأقصى عام 1969 حيث تقول أنها لم تنم تلك الليلة لتخوفها من تحرك الجيوش العربية والإسلامية وعندما استيقظت صباح اليوم التالي ولم يحدث شيء اطمأنت إلى مستقبل إسرائيل!!.

* مشروع التهويد (القدس 2020)
أُطلق قبل نحو 10 سنوات، وهو أحد أهم مشاريع التهويد وتغليب الوجود اليهودي في القدس، ويرى في العام الجاري 2020 مرحلة فاصلة لحسم هوية القدس لصالحه، خصوصا بعد نقل الادارة الأميركية سفارتها إلى مدينة القدس، واعتراف عرّاب صفقة القرن الرئيس الأميركي رونالد ترامب بها عاصمة موحدة لإسرائيل في 6 ديسمبر 2017.
والهدف العام للمشروع تقليص عدد الفلسطينيين في القدس إلى 25 ألف فلسطيني، مقابل 400 ألف متدين يهودي، في وقت أصبح فيه عدد الفلسطينيين في الأحياء العربية أقلية لأول مرة في التاريخ، ولذا وجد عرب القدس أنفسهم أمام خيارين: إما التهويد والأسرلة أو المغادرة.
وهذه واحدة من معطيات قانون الاحتلال لعام 1973 الذي حدد نسبة عرب المدينة بـ22 بالمائة مقابل 70 بالمائة يهود، لكن رغم كل الأعمال الوحشية التي قام بها الاحتلال، لم يفلح حتى الآن في تغليب الكفة اليهودية، لاسيما في المدينة القديمة، حيث لازال هناك 30 ألف عربي مقابل 4 ألف يهودي، ونسبة الفلسطينيين في القدس بشطريها نحو 35 بالمائة (300 ألف فلسطيني) مع توقع الاحتلال بتجاوزهم 40 بالمائة في العام الجاري 2020 .
ميدانياً، لا تزال مدينة القدس، مدينة طاردة لليهود، وهذه من المفارقات العجيبة، حيث تمت مغادرة نحو 105 آلاف يهودي خلال الفترة 1980- 2005 فقط، وهي واحدة من الإشكاليات الكبيرة المعترضة مشروع التهويد، ما دعا الاحتلال في آب/أغسطس 2007 لاعتماد خطة بقيمة 200 مليون دولار والإقرار في نهاية تشرين الأول 2010 مشروع جديد يقضي باعتبار القدس منطقة ذات أولوية وطنية (مشروع القدس 30 - أ), وهو واحد من 38 قانون عنصري صدرت حتى نهاية 2010، منها 15 قانوناً صدرت في غضون عامٍ واحد فقط من ولاية نتنياهو و23 قانوناً صدرت في العقود السبعة الماضية، الى جانب سلسلة أخرى من القوانين الصادرة خلال الفترة 2010 - 2020.
وكلها تهدف لتحقيق غاية واحدة هي: إكساب مشاريع الاستيطان والتهويد والجدار صفة الشرعية القانونية والسياسية, في حين ينفرد قانون "30 – أ" بإعطاء الضوء الأخضر لتحويل القدس إلى مدينة عصرية جاذبة للسكان والمستثمرين اليهود، على غرار تل أبيب وإقامة سكة حديدية ومستوطنات جديدة فيها، تضم أكثر من 60 ألف وحدة سكنية وتوسيع القائم منها، وزيادة تضييق الخناق على ما تبقى من الفلسطينيين فيها، على أمل أن يسهم ذلك في خفض نسبة عرب القدس إلى 12 بالمائة وليس 22 بالمائة كما كان مُخططاً له بموجب قانون عام 1973، وتالياً خفض نسبة عرب 1948 من 20 بالمائة في 2010 إلى 5 بالمائة في 2020، لأنهم باتوا يشكلون خطراً على أمن واستمرار ووجود الاحتلال, والعمل على اجتذاب نحو نصف مليون يهودي إلى القدس.
ولهذا الغرض فعّل الكيان الصهيوني قانون حسم الهوية (يمين الولاء) وقانون الاستيلاء على أملاك الغائبين والإفصاح عن مشروع الخريطة الجديدة لمدينة القدس العاصمة الأبدية والموحدة/ 2010، وكلها من شأنها إعطاء إسرائيل المسوغ القانوني لضم القدس الشرقية من جانب واحد، في حال نجحت هذه الخطوات، وهو ما لم تجرؤ عليه إسرائيل طول الـ60 سنة الماضية، وما صفقة القرن سوى تحصيل حاصل.
مما سبق نفهم سر توقيت طرح الإدارة الأميركية لصفقة القرن بعد ثلاث سنوات فقط من نقل سفارة واشنطن الى القدس والاعتراف بها عاصمة أبدية للكيان الصهيوني الغاصب، بالتوازي مع تغير المزاج العربي الرسمي وتحديداً مملكة الدرعية الراعية للحرم المكي من القضية الفلسطينية وقضية القدس بشكل خاص وتقدمها صفوف المطبعين وتوظيف كل إمكانيتها للضغط من أجل تنضيج وإنجاح صفقة العار الأميركية.
فهل يُرضِيك يا حبيبي يا رسول الله ونحن نحتفي بذكرى الإسراء، ما يجري في مسراك، بتواطؤ ودعم رعاة المسجد الحرام؟؟.
ووالله لو هب صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله من مرقده لأخذ سوطاً يلهب به ظهور زعماء وقادة أمته، لتفريطهم في القدس الشريف وتواطؤهم مع الكيان الصهيوني اللقيط في كل جرائمه بحق الفلسطينيين، وصمتهم المخزي على مخططات تهويد القدس الشريف والمسجد الأقصى وطمس المعالم الإسلامية في فلسطين المحتلة بأريحية ومباركة سعودية غير مسبوقة.

الاثنين، 16 مارس 2020

الجهاد الإرهاب العنف تداول السلطة

الدكتور العلامة المرتضى بن زيد المُحَطْوَري الحسني، أستاذ الشريعة بجامعة صنعاء، عضو جمعية علماء اليمن
(مركز القدس للدراسات السياسية، المؤتمر الدولي: /نحو خطاب إسلامي ديمقراطي مدني/ عمَّان- الأردن)
بسم الله الرحمن الرحيم
بعد اتصال من السيدة المبجلة/ هالة سالم المدير التنفيذي بمركز القدس للدراسات السياسية، بادرت إلى كتابة ورقة أسطر فيها فهمي للإرهاب، والعنف، والتداول السلمي للسلطة؛ من خلال تجربتي ومعاناتي الشخصية التاريخية، وقد عرفت العنف عن قرب، واكتويت بنار الإرهاب الفكري، والمادي، فلا أحتاج إلى معاناة لأنبش عن ذكريات الإرهاب، والعنف، والاستبداد.
لقد بدأ المسلسل الدامي منذ شاهدت بأم عيني وأنا في سن الثالثة عشرة أو أكثر قليلا حين كنت مختبئًا في جبل شرق قريتي؛ خوفًا من الطائرات التي كانت تقصف المناطق الشمالية من اليمن أيام حرب عبدالناصر، والسعوديين في اليمن، وكانت قُرَانا آهلة بالمزارعين وحيواناتهم ليس لها أي علاقة بالنشاط العسكري، بل كنا في الصف الجمهوري، ومع ذلك لم نسلم من القصف والترويع.
إنما المشهد الذي لا أنساه حين مرت طائرة وقت صلاة الظهر، وقذفت مسجدًا في مدينة المحابشة مكتظًا بالمصلين، وكادت الطائرة أن تلامس سطح المسجد؛ إذ لا يوجد مضادات، فنسفت المسجد بمن فيه، كانوا خمسة وسبعين لم ينج منهم إلا واحد.
المشهد الثاني: يوم كنا بمسجد" القُرانة" مهاجرين لطلب العلم، فأقبلت في الصباح الباكر طائرة سوداء، فألقت من الشرق شريطا كاملا من القنابل ذرع مدينة المحابشة الوادعة المستطيلة في سفح الجبل، فألقيت بنفسي على الأرض؛ تفاديًا للشظايا كما كانوا يعلموننا، وقد كنت متعودًا على إرهاب كهذا، فصارت نيران جهنم الواصلة من الجو عبارة عن ألعاب تصيبنا ببعض الذعر، لكني لم أفر بل ذهبت لمشاهدة آثار القصف، فشاهدت شيخًا عجوزًا فقيرا قاعدا ميتًا بجوار موقد لقلي نوع من الحُبُوب يعتصر منها لقمة عيش جافة له ولأسرته.
وشاهدت طفلا في السادسة من عمره مرميًا في العراء، قد بترت رجله من فوق الركبة، وبقيت معلقة، وهو يئن وينزف، وعنده عجوز تبكي لا تدري ما تفعل له، وأنا مبهوت أعيش الجهل، والوحشة، والمشاعر المؤلمة، لم أقدم لهذا الطفل أي مساعدة، فماذا أفعل؟! فلا إسعاف، ولا وسائل ولو بدائية، ولا شيء، فما زلنا كما خَلَّفَنَا نبيُّ الله نوح عليه السلام.
والأكثر إيلامًا أن تسمع الجماهير المنحطة تهتف لهؤلاء الإرهابيين القتلة من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر: نفديك يا عبدالقاهر.. أو بالروح بالدم نفيدك يا فندم.
إن العنف والقسوة والإرهاب يمارس في هذه الدنيا بصور شتى بعضها أبشع من بعض، فبالرغم من أننا نعاني من فقر الدم، إلا أننا نعتصر ما بقي في العروق بعد الذبح؛ لنهتف بالحياة للجزارين، ولبقاء السفاحين.
إن ثقافة كهذه نبتت أيام الملك العضوض، فقد كان القمع والبطش والاستبداد يقيم بجواره علماء سلطة، يأتون بالمبررات، وينسجون الأعذار لعنف الحاكم، وحدث أن وُصِفَ مؤسس الملك بعد خلافة الراشدين بالمجتهد في إشعال معركة سقط فيها سبعون ألفًا، وتواصل مسلسل العنف، والقتل تحت هذا المسمى، فلا أقل من أن يظفر بأجر واحد.
ثم توالت الأحداث قاذفة بخلافة المسلمين إلى وراثة، أي إن الأرض وما تحويه من جماد وحيوان وساكن ومتحرك مملكة خاصة بالوالي.
في هذه الأجواء الإسلامية المشابهة لنظام هرقل وكسرى، تمخضت الساحة عن حركات إسلامية عنيفة أبرز هذه الحركات قادها أولاد الإمام علي، وكادت الثورات المناهضة لجبروت الاستبداد تنحصر على أهل البيت باستثناء ثورة أهل المدينة على يزيد، وثورة ابن الأشعث ضد عبدالملك بن مروان وعامله الحجاج؛ رغم أن حركته كانت تنتمي ولو روحيًّا للإمام الحسن بن الحسن بن علي( 1). وأما الحركات العنيفة الأخرى فقد كان الخوراج فرسانها.
وسأبين باختصار ملامح العنف، والمسببات، والميزات الخاصة بكل حركة:
الحركة الأولى: بقياة آل البيت:
رفض الإمام الحسين البيعة- والأمة تقاد لمبايعة يزيد بن معاوية كالخراف، وقد مس الحسين نفسه هذا الذل، ومعه عبدالله بن الزبير، وعبدالله بن عمر؛ حين طلب منهم معاوية- مبايعة يزيد وليًا للعهد، فامتنعوا، فقال لهم: إني سأقول غدًا مقالة فأيكم رد علي سيفقد رأسه، فقال معاوية في الحشد، وقال كلامًا في أهلية ابنه وصلاحيته للأمر، وأنه ما دفعه لإقامته وليًا للعهد إلا خوفًا على الأمة من الضياع واليتم.
ثم قال وقد بايعه فضلاء الأمة، وأشار إلى الحسين وزميله، وقد أقام على رأس كل منهم رجلين متحفزين لشدخ رأس من يعترض( 2). وعندما مات معاوية أريد من الحسين أن يبايع طوعًا أو كرها( 3). وهنا يجب التوقف للمقارنة إن جازت بين الحسين ويزيد، إني أرى أن مجرد اسم الحسين قد أصبح رمزًا لكل ما في البشر من نبل وخير، وجدير بحفيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون كذلك، واسم يزيد في المقابل رمزللإنسان السيء بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
فالحسين: عالم، تقي، ورع، زاهد، عارف بالله، كريم، رحيم، متواضع، شجاع، مؤهل تأهيلا عاليا، وبالمقابل شخص مغتصب أمر الأمة، جاهل، ماجن، عاطل.
فالثوات المسلحة بقيادة آل البيت، بدأ بالحسين، ثم زيد بن علي،وابنه يحيى ، ثم محمد بن عبدالله النفس الزكية، وأخوه إبراهيم، والحسين الفخي، ومحمد بن إبراهيم طباطبا، وغيرهم.
كانت محل رضى واحترام الأمة وعلمائها حتى وإن لم يتمكن الكثيرون من الاشتراك في تلك الثورات؛ خوفًا من البطش الذي يهلك الحرث والنسل.
ورغم ذلك فإن الإمام أبا حنيفة رحمه الله كان يفتي بالقتال مع الإمام زيد، وأرسل له مالا( 4)، وأفتى الإمام مالك رحمه الله بعدم شرعية البيعة لأبي الدوانيق ثاني ملوك بني العباس( 5)، وأوجب القتال مع الإمامين: النفس الزكية، وأخيه إبراهيم.
وكان الإمام الشافعي رحمه الله ضمن خلية يشرف عليها شيخه إبراهيم ابن محمد بن أبي يحيى، يتولون الدعوة لمبايعة الإمام يحيى بن عبدالله بن الحسن صنو محمد بن عبدالله النفس الزكية ضد هارون الرشيد( 6).
وهذا يبرهن على رشد الثورات ضد الظلم، والوثوق بقادتها لجلالتهم، ومكانتهم الدينية، وبلوغهم في العلم مبلغا يلوي إليهم الأعناق، ويؤهلهم للجلوس على منصة المرجعية العليا، أضف إلى ذلك مكانتهم الدينية، وقربهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لكن الأمراء المستبدين، والملوك الظالمين، رغم قبح وبشاعة سيرتهم يسيطرون على الرجال والثروة- لم لن يستهينوا بخطر أبناء علي فحاربوهم بضراوة. وكان الناس يرونها حربًا بين الآخرة والدنيا.
ونحن نعلم أن الناس على دين ملوكهم، وهم ميالون إلى الدنيا إلا من عصم الله.
         رأيت الناس قد ذهبوا        إلى من عنده ذهبُ
         رأيت الناس منفضة          إلى من عنده فضة
          رأيت الناس قد مالوا         إلى من عنده مالُ
الحركة الثانية: بقيادة الخوارج
فقد كانت المثال البارز للعنف الأعمى، والفكر التكفيري، والتطرف المرعب؛ إذ نجم شرهم في ملامح حرقوص بن زهير السعدي( 7)، وهو ذو الخويصرة، وذو الثدية الذي قتل في النهروان، ذلك الرجل الذي أتصوره حليق الرأس، كثيف اللحية، قصير القميص، منتفخ الأوداج، يترنح جهلا، وغرورًا، وخفة عقل( 8).
لقد اقترب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقسم غنائم هوازن في غزوة حنين فقال: اعدل يا محمد فإنك لم تعدل.. !! هكذا خاطب نبي الله بفظاظة وغلظة ووقاحة، فاستاء رسول الله وتغيرت ملامح وجهه؛إذ استشعر في هذا البدوي نذير شئوم، وطليعة قوم قادمين، فقال: ((ويحك ومن يعدل إن لم أعدل))؟!
ثم أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنه يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، ويقرأون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية))( 9).
ظهر هؤلاء أيام خلافة الإمام علي، وتحققت نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كانوا كما روى البخاري ((يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد))( 10). لقد جاءوا حقًّا بعنف أعمى، وإرهاب فكري وعملي، لم تستطع أي جماعة أن تزيد عليه إلا في امتلاك الأسلحة الفتاكة.
كان الخوارج قبل أن يصيروا خوارج عباد العراق، وقراؤُهم، وكانوا من جيش علي في حربه معاوية في صفين؛ والسبب في اختيارهم سلوك العنف المفرط، والتطرف الشديد غباؤهم، وسطحية تفكيرهم، والتلاعب السياسي بعقولهم.
فلقد أدرك معاوية أنه على وشك الهزيمة، فشاور عمرا بن العاص، فأشار عليه بجلب خمسمائة مصحف، من ضمنها مصحف بيت المقدس الأعظم، وترفع على رؤوس الرماح، ويصيح حاملوها: هذا كتاب الله حكم بيننا وبينكم.. يا أهل العراق، فإنهم إن قبلوه اختلفوا، وإن ردوه اختلفوا.
 وكان ما توقعه ابن العاص؛ إذ أقبل ما يقارب عشرين ألف من جند علي قد أثر السجود في جباههم، شاهرين سيوفهم قائلين للإمام علي: أجب القوم إلى تحكيم كتاب الله، فقال لهم وقد أدرك حجم المكيدة: إنها كلمة حق يراد بها باطل( 11)، إنهم ليسوا أصحاب دين ولا قرآن، لقد قاتلتهم على القرآن كافرين، واليوم أقاتلهم مفتونين، أعيروني سواعدكم ساعة، فما بقي فيهم إلا كلعقة كلب، فلم يزدادوا إلا عنادًا وبلادة، وإصرارا على قبول التحكيم.
فرضخ علي بعد أن هددوه بأن يسلموه لمعاوية إن لم يستجب، فعين معاوية عمرًا حكما، وعين علي ابن عباس، فاعترض أصحابه، واختاروا أبا موسى الأشعري، فانتهت المهزلة بخديعة مريرة، وفضيحة مدوية؛ إذ صعد أبو موسى وخلع عليًّا بطيب خاطر، فصعد وراءه عمرو وقال: قد خلع صاحبه، وأنا أوافقه، وقد أثبت صاحبي معاويه، فهو ولي دم عثمان وأحق بالأمر من علي، فخرج الخوارج نادمين مرددين كلمتهم: لا حكم إلا لله، وحكموا على أنفسهم وعلى المجتمع بالكفر، ثم إنهم تابوا، أو أسلموا من جديد، وطالبوا عليًّا بالاعتراف بالكفر ثم التوبة منه، وقال: قد نصحتكم وحذرتكم فعصيتموني، ثم إنها معصية لا تبلغ بصاحبها الكفر، فتوبوا وعودوا لنقاتل معاوية، فأصروا على موقفهم والهتاف بتكفير علي، وترديد شعارهم: لا حكم إلا لله( 12).
وكرر علي حكمته الشهيرة: "كلمة حق يراد بها باطل، إنه لا بد للناس من إمام يأخذ بيد الظالم، وينتصف للمظلوم، ويقوم على مصالح الناس، والقرآن" قد دعا إلى التحكيم في شأن خلاف بين الزوجين، فما بالكم بطائفتين ؟! لكنهم كما قال الشاعر:
        لقد أسمعت لو ناديت حيًّا                 ولكن لا حياة لمن تنادي
        ولو نارا نفخت بها أضاءت              ولكن أنت تنفخ في رماد
وظل الإمام علي يعاملهم مثل سائر الناس ما داموا لم يحدثوا حدثًا يتعدى الرأي والقول، وحرص على استرجاعهم بالحوار والإقناع، وكاد أن ينجح لولا رجال معاوية في صف علي كالأشعث بن قيس ونحوه أفسدوا كل شيء.
فخرجوا يقطعون السبيل، ويخيفون الآمنين، ويقتلون من لم ير رأيهم.
ومن عجيب أمرهم أنه مر بهم عبدالله بن خباب الصحابي بن الصحابي وفي عنقه المصحف، ومعه امرأته حامل، فسألوه عن رأيه في علي؟ فأجابهم بأنه إمام راشد، وأعلم بالله منكم، وأشد توقيا على دينه، وأنفذ بصيرة. فقالوا: إنك تتبع الهوى، وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحد، فأخذوه فكتفوه، ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حبلى على وشك الوضع حتى نزلوا تحت نخل فسقطت منها رُطَبة فالتقطها أحدهم فمنعوه من أكلها، وقالوا: بغير حلها، وبغير ثمنها، فلفظها وألقاها من فمه، ثم أخذ سيفه، فأخذ يمينه، فمر به خنزير لأهل الذمة فضربه بسيفه، فقالوا: هذا فساد في الأرض، فأتوا صاحب الخنزير فأرضوه، فلما رأى ذلك منهم ابن خباب قال: لئن كنتم صادقين فيما أرى فما عليَّ منكم بأس؛ إني لمسلم! ما أحدثت في الإسلام حدثا، ولقد أمنتموني، قلتم: لا روع عليك! فجاءوا به فأضجعوه فذبحوه، وسال دمه في الماء، وأقبلوا إلى المرأة، فقالت: إنما أنا امرأة، ألا تتقون الله؟! فبقروا بطنها، وقتلوا ثلاث نسوة من طيئ، وقتلوا أم سنان الصيداوية( 13).
وقد قرأت من عجائبهم المتلاحقة أن قافلة مسافرة فيها واصل بن عطاء رأس المعتزلة وقعوا في يد خوراج أمثال هؤلاء، فأيقنت القافلة بالهلاك، فقال واصل: دعوني وإياهم ولا يكلمهم غيري، فانبرى لهم وقال: ما تريدون منا؟ فقالوا: من أنتم؟ فقال: قوم مشركون نطلب جواركم، فنحن خائفون . فقالوا: مروا بسلام. فقال: ليس ذلك لكم، وقد قال قرآنكم: ( وَإنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّىَ يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَعْلَمُونَ )[التوبة:6] فلما سمعوا ذلك ذهبوا بأجمعهم لحراسة القافلة حتى أوصلوهم منازلهم( 14).
زحف علي لتطويقهم، ولم تطب نفسه بمهاجمتهم حتى دعاهم على إلى الحوار، وأزال الشبهة التي قذفوها في وجهه حين قالوا: لقد تنازلت عن إمارة المؤمنين عند كتابة وثيقة التحكيم، حين امتنع ابن العاص من قبول كتابة علي أمير المؤمنين، وقال: لو اعترفتُ به أميرًا للمؤمنين لما قاتلته. فقال: قد وقع مثلها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية، وأنا كاتب الوثيقة حين كتبت: هذا ما تصالح عليه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو، فاعترض سهيل وقال: لو أعرف أنك رسول الله لما حاربتك، بل اكتب اسمك واسم أبيك، فأمرني رسول الله بمحوها فلم تطب نفسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أرني مكانها))، فمحاها بيده الشريفة، وقبلها اعترض عمرو على "بسم الله الرحمن الرحيم" وقال: اكتب باسمك اللهم( 15).
فانضم إليه منهم ألفان، وصم الباقون آذانهم، وقالوا: لا تسمعوا له فإنه من قوم قال الله فيهم: ( بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ )[الزخرف:59]. فلما أعيته الحيلة قاتلهم وقاتلوه فلم ينج منهم سوى ثمانية.
         إذا لم يكن إلا الأسنة مركب           فليس على المضطر إلا ركوبها
إن سلوك الخوارج ضد إمام عادل ورع منصف يحترم حقوق الناس، ويحترم واجباتهم .... بإجماع المسلمين والإنسانية جمعاء، وهوالعنف- والإرهاب، والتطرف.
هل سمعتم برئيس أو ملك يوصي بخصوم شرسين كالخوارج كانوا سبب متاعبه وفشله في القضاء على تمرد معاوية وتمزيق جيشه وإنهاك قواه.
لكنه يقول: لا تقاتلوا الخوارج بعدي؛ فليس من طلب الحق فأخطأه ـ يعنيهم هم- كمن طلب الباطل فأدركه-يعني معاوية-(16).
إني وأنا أمقت مسلك هؤلاء تجاه علي؛ ليقيني بعدالة علي، أُحَمِّلُ معاوية المسئولة الكاملة، فهو السبب في جعل هؤلاء يفقدون صوابهم، وأحسوا أنهم قد انتقصت رجولتهم،واهتز دينهم إثر تلك الخديعة المذلة، كيف يصبح المصحف الشريف ألعوبة؟ كيف يصبح القرآن الذي حمل علىٌّ لواءه، وقاتل المشركين من أجله من أول يوم مع رسول الله سببًا في هزيمة علي وتمزيق جيشه؟!
ألا يحق لنا أن نعيد سبب الحركات المتطرفة إلى ألاعيب السياسيين؟!
أرجو أن تعيروني أسماعكم لأروي لكم ما أنا فيه شاهد حال، اكتويت بناره، وما زلت:
المشهد الأول: جاءنا قبل أكثر من ربع قرن أناس لحاهم وافرة، وعمائمهم بيضاء، وعقولهم خفيفة، ودماؤهم ثقيلة- فأثاروا فينا الاختلاف، وزرعوا الفتنة، وغرسوا الكراهية، وكانت معاركهم تدور حول الإرسال، والضم، والتأمين، وحي على خير العمل، والتشيع، ورؤية الله، وجلوسه تعالى على العرش، ونزوله في الثلث الأخير إلى السماء الدنيا، وخلق القرآن، وإباحة قراءة القرآن وكتابته ومسه للحائض والجنب، والمسح على الخفين، والخروج من النار، وكفر أبي طالب، وتمجيد أبي سفيان وأحفاده، وهلم جرا، وكان دعاؤهم: اللهم أهلك الشيعة والشيوعية.
علما أن التشيع الزيدي في اليمن لا يَعْدُو تقديم علي على سائر الصحابة مع توليهم ومحبتهم، والعصمة للخمسة أهل الكساء لا تعني العصمة الخاصة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
بل هي مثل التطهير الذي جاء في الآية: ( إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيــراً )[الأحزاب:33] فالعصمة تعني أن عليا وفاطمة والحسنين لا يرتكبون المعاصي، هذا كل ما في الأمر.
ولأني مثل غيري نقدس هؤلاء الأطهار، ونضعهم كالكحل في عيوننا، ولي رأيي في العصمة، إلا أني لست منزعجًا من عصمة الزيدية، فأنا أعرف أنها ترادف: أطهارا، أولياء، تقاة.
لقد واجهنا عنتا، وإرهابا فكريا وماديا، وعنفا امتد إلى المساجد، والبيوت، والأسواق، والمجالس، والمدارس، والجامعات.
ونتحسس والعياذ بالله أن هؤلاء مشحنون كراهية وحقدًا، وسينفجرون قنابل في وجوهنا أجارنا الله إن لم يتداركنا الله برحمته.
ولم أسمعهم يتحدثون عن الصهيونية وخطرها، وإنما شغلهم الشاغل الشيعة، والمراد بهم الزيدية، وحين نقول لهم: اجعلونا في الأخير وابدأوا بإسرائيل، يقولون: لا بل أنتم أخطر على المسلمين من اليهود والنصارى.
وكم أسرد من المهازل والكتيبات التي لا تعدو خطة مرسومة لتدمير الذات، وبعثرة الطاقة، وشغل المواطن العربي المسلم البائس يمثل هكذا ترهات:
1- الصواعق في تحريم الأكل بالملاعق لأبي قتادة.
2- الصواعق الرعدية في كفر الشيعة الزيدية لابي عبدالرحمن.
3- إرشاد الغبي إلى وجوب خراب قبة النبي لأبي حفص.
4- إعلام القاري في نزول الباري لأبي حيجنة.
وقد سمعت متحدثًا بجوار قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتحدث عن بدعة القبة، فتمنيت لو أن عفريتا خنقه، ثم رماه في البحر الميت، يا هؤلاء .. بعد أن تنحر رقبة المسجد الأقصى سنتفرغ لقبة النبي !!!
إن تفرغ هؤلاء وزرعهم في المجتمعات لتعكير صفوفها لهو إرهاب تنتجه حكومات، وتزرعه مخابرات محلية وإقليمية وأجنبية؛ بغرض: فَرِّقْ تسد،وبغرض: تصدير الإيذاء من بلد لآخر.
إن الأمر يشبه تجارة العبيد، ولكن بطريق آخر: ضحايا تربية خاطئة، وشحن لا يمكن التحكم فيه؛ لأنه قائم على لغة الدين. واستخدام سلاح الدين أفتك من الأسلحة الذرية.
المشهد الثاني: كنت ألحظ حماسا منقطع النظير في إرسال الشباب إلى أفغانستان للجهاد ضد الملحدين المحتلين الروس، وكانت المساجد مشتغلة بذكر فضيلة الجهاد، وبذل الروح والمال في سبيل الله.
فُتِحَ الضوء الأخضر من نافذة البيت الأبيض، وطُلب من القيادات العربية أن تنشط في إحياء مآثر الجهاد سنام الإسلام، والنبراس المشرق في غابر الأيام، فأقسموا عند الحجر الأسود على الطاعة والإخلاص للبيت الأبيض.
تدفقت كتائب المجاهدين من الشباب، وكان معظمهم يُنْتَزَعُ بدون علم أهله، وبعضهم يذهب وأمه وأبوه يبكيان.
وقد أثرى مشائخ الجهاد عندنا ثراء فاحشا من هذه التجارة، وأثروا من صناديق التبرعات المفتوحة لالتهام دعم الجهاد الأفغاني المبثوثة في كل زاوية من زوايا المساجد، ولم تخل دعامة من صندوق ربط بها بسلسلة من حديد، يفتحه خطباء المساجد –أعني أمناء الصناديق- كل يوم ثلاث مرات، بين التهليل والتكبير بالنصر الكبير –أقصد بالصيد الوفير- حتى حمامات المساجد لم تسلم من صندوق، ناهيك عن المرافق الأخرى.
والناس عندنا طيبون متدينون مغفلون، يستطيع أي ممثل بلحية طويلة، ودمعتين، وشيء من الحشرجرة، وتلاوة بعض آيات الرحمن في جهاد الأفغان، وهي كتيبات تحكي أن بعض المجاهدين أخذ كفًّا من تراب ورماه على دبابة فاشتعلت، وبصق آخر على قاعدة صاروخية فصارت رمادًا، وأشار ثالث بإصبعه الوسطى صوب قاذفة قنابل فتناثرت، ووقع الحطام على رؤوس الجنود الروس، ولم يصب المجاهدين منه إلا ما يشبه قطع الحلوى والشكولاته السويسرية، مكتوب عليه: ( كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيّامِ الْخَالِيَةِ )[الحاقة:24].
لقد كنت أحذر كثيرًا من فوق منبر المسجد في خطبة الجمعة من هذا الجهاد الذي باركته أمريكا، ودعمته الدول العربية بالمال والرجال، فلماذا لم يهتف أحد بالجهاد ضد الصهاينة المحتلين لفلسطين، الجاثمين على الأقصى.
يعلم الله كم بح صوتي مستشعرًا عواقب وخيمة بعد تنفيذ المهمة الأمريكية، وكنت أقول: إن الأفغاني يساوي خمسة يمنيين طولا وعرضًا، وهم مقاتلون أشداء وليسوا بحاجة لجلب الأبرياء الذين نيتهم الجهاد وعشق الشهادة، ولا يدرون شيئًا عن المؤامرات.
لكن الذي حدث كان كارثة، فبعد أن انبرمت روسيا، وتفتت الاتحاد الشيوعي، وزرعت المخابرات العالمية والإسلامية والعربية ما تريد زرعه كل حسب مخططه، تركوا المجاهدين لمصيرهم الأسود.
وتحولوا من مجاهدين شرفاء إلى مجاهدين إرهابيين، وسموهم العرب الأفغان، وأضحوا خطرًا على شعوبهم، وعلى العالم بأسره، وثقفوهم على التعصب والجمود، والتحجر، وكراهية الآخر.
واستوعبت بعضهم بعض الأنظمة؛ لغرض تصفية خصومها، وتنفيذ مهمات خطرة، لكن السحر انقلب على الساحر، وفلت الزمام، وخرج المارد من قمم سليمان.
كم آلمني أن يختطف من بين يَدَيَّ طلاب أعزاء كرام علمتهم مبادئ دينهم المتسامح المنصف، ومن ضمنهم "ياسين" الخجول المؤدب الذي كان يبتسم بحياء ورقة كالنسيم العليل، وكم كانت صدمتي حين لقيته بعد أن عاد؟ وياليته ماعاد! ينظر شزرًا، ويختزن لؤمًا وحقدًا، ويتحدث عني بوقاحة وقلة أدب، لا أدري ما سبب ذلك كله إلا ما أدريه عن تشنج الخوارج. يتمنى "ياسين" لو ينفجر قنبلة في وجهي لتطير روحه إلى الجنة، ويعجل بروحي إلى الجحيم. على طريقة الذين فجروا ويفجروا أنفسهم في مساجد العراق وشوارعها، ووسط حفلات الزفاف بفنادق عَمَّان.
مالذي جرى، ما دهاك؟ ويجيب بمشقة من شدة الغيظ: أنتم بحاجة لإبادة، ونحن سنبيدكم عندما نؤمر بذلك .... يالطيف !! من أنتم، ومن نحن؟!
أعاذنا الله من شرك أيها المجاهد الحقود، وعوضنا عن مصيبتنا فيك وفي أمثالك، ولا سامح الله من غرس في قلبك الشوك، وحولك من نسيم إلى سموم، ومن بلسم إلى علقم، كيف صرتم أخِفَّاء الهام، سفهاء الأحلام؟
إن هذا اللون من البشر كالقنابل مستعدة للانفجار حسب رغبة المبرمجين لها، فهي تنفجر أحيانًا في مخزن ذخيرة الأنظمة: أحيانا بقصد، وأحيانًا بدون قصد، وأحيانا تنفجر في مستودع الأمريكان، أو في مساجد الشيعة، أو في مناسبات العزاء، أو الأفراح، أو الأسواق الشعبية.
الصورة مشوشة، والتشخيص عسير لحركات إسلامية مضطربة المزاج، متأثرةبالعوامل السياسية والدينية والاقتصادية.
والمثال الأكثر وضوحًا حركة محمد بن عبدالوهاب في السعودية، وكيف استفاد ابن سعود من عنفها وتعصبها، وتوجيه ضراوتها لإبادة المشركين الموحدين، وهم في حساب التوجيه السياسي لتصفية الخصوم، وتوسيع رقعة السلطان.
ولما أكمل بهم الملك عبدالعزيز رحمه الله آخر المشوار، وأحس بضرورة كبح جماحهم، وبناء دولة مدنية حصلت مصادمة، ثم أعقبها ترويض وتهدئة، وساعد على ذلك ثقافة وجوب طاعة ولي الأمر، وعدم الخروج عليه ما أقام الصلاة.
وقد كان للوهابيين دور مؤثر في نشر ثقافة مجتمعهم في كثير من بلدان الله، أسهم ذلك مع الغنى الفاحش في تعاظم النفوذ السياسي.
ومن أكثر البلدان تأثرًا اليمن؛ لقربها، وفقرها، وجهلها. وتغلبت الحركة الوهابية اليمنية على تنظيم الإخوان، أو أن الإخوان وجدوا السعودية أدسم فَخَفَتَ بريق الإخوانية.
كان مشروع النشاط الإسلامي هذا ماثلا كما كنا نلاحظ في:
1- دحر الشيعة والشيوعية، والمراد بالشيعة هم الزيدية، والمراد بالشيوعية أبناء جنوب اليمن.
2- الصوفية، والمراد بهم الشافعية.
3- مشروع المكارمة، وهم الإسماعلية.
والخلاصة: فقد أدخل خطابهم المجتمع اليمني في دوامة الصراع، والفتن، والنعرات، ورغم كل ذلك فقد تقدم مشروعهم تقدمًا كاسحاً لعدة أسباب:
السبب الأول: دعم السلطات الشمالية لهم؛ ليكونوا عونًا في الحرب ضد اليسار، والأهم من كل ذلك دق المذهب الزيدي وتهشيم عظامه؛ لأنه مذهب الخروج على الظالم، وهذا مبدأ مزعج حتى لملوك الزيدية أنفسهم، كذلك دق الهاشميين الذين ما زال الكثير من اليمنيين يتشيعون فيهم.
السبب الثاني: دعم السعودية اللامحدود رسميا وشعبيا.
السبب الثالث: تعلق الناس بالدين.
وكان هؤلاء يجيدون التغني بالقرآن بأصوات تطرب السامعين، وتمديد وتمطيط الأذان، والالتزام بالزي الإسلامي من قميص ولحية وافرة،وسواك لا يفارق الفم إلا أوقات الأكل.
كما نجحوا في الإلقاء الخطابي؛ بحيث تتناغم ملامح الوجه مع حركات اليدين، ورذاذ الريق، والأخطر من ذلك:قدرتهم على البكاء بزفير وشهيق، بل ونهيق أحيانا.
وفي المقابل استيقظ الشافعيون والزيديون، ودخل في خط المواجهة الإماميون، وصارت المواجهة إسلامية إسلامية حسب ما رسمه المنتجون والمخرجون، ونسيت الأطراف مبادئ الأخلاق، وأدبيات الإسلام، وغابت عن الأذهان معاناة الناس تماما.
وصرنا بهذه الصورة البائسة الجافة نمثل دور الحمير؛ لأننا قبلنا الاستحمار، فطائفة الزيدية تناضل من أجل بقاء "حي على خير العمل" ، وأحقية علي في الخلافة، وحصرها في البطنين. والصوفية تدافع عن فضائل أهل الطرق. والوهابية مهتمة هذه الأيام بفضائل الصحابة، وخاصة معاوية، وكذلك إرشاد الناس إلى مساوئ الشيعة، وإهدار حرمتهم وحقهم في الحياة.
وكل فرقة تنقسم إلى فرق، وكل مزقة إلى مزق، فالسلفية بمثابة جناح متشدد يحرم الانتخابات، ويدعو إلى وجوب الطاعة المطلقة لولي الأمر.
وبهذا الصورة الداعية للأسى جعلت الشعوب المسلمة التواقة إلى الوجه الإسلامي البشوش تفر إلى سلطان الشياطين، وتنسحق تحت وطأة الظالمين، وإن ظهرت ومضة هنا، أو بارقة هناك تنجح فيها حركة إسلامية، فهي إما لأن تلك الحركة رشيدة عرفت الباب إلى قلوب المجتمع من خلال تقديم الخدمات الماسة، وتحسس المشاكل والآلام، وتميزت بالنزاهة، ونظافة الكف، وطهارة السلوك، والتضحيات الجسام كحركة حماس، أو قباحة النظام المفرط كحركات أخرى.
وأنـا أقترح للحركات الإسلامية برنامج عمل تجعلها أكثر قبولا:
أولا: التعامل مع المجتمعات كما تعامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم جاء المدينة، وقبل بكل الفئات من غير المسلمين كرعايا للدولة الإسلامية، فما بالك بالتعامل مع أبناء دين واحد؟! فلا بد من القبول بالآخر، واحترام الرأي المخالف.
ثانيا: إغلاق أبواب التكفير، والتفسيق، والتبديع، والنبز، والغمز، واللمز.
ثالثا: فك العزلة التي وضعت الحركات الإسلامية فيها نفسها، والخروج من الطوق الذي ضرب عليها؛ نتيجة القمع والمنع، فرسخ في ذهنية أعضاء الحركات أن الإسلام حكر عليها، والأخوة الدينية لا تتعدى الجماعة.
رابعا: فتح باب الاجتهاد، ومعالجة مستجدات العصر، وعدم الإصرار على التعامل مع نصوص وردت على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالها.
الدعوة والخطاب الإسلامي والجهاد والتطرف والعنف:
الدعوة التي أراها جديرة بالاحترام هي دعوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الملتزمة بأدب القرآن ( ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ )[النحل:125]
عودوا معي إلى بدايات الرسالة يوم صعد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم الصفا ونادى: واصباح قريش، فلما اجتمعوا إليه قالوا: ما بك؟ فقال: ((أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي))؟ قالوا: نعم، فما جربنا عليك إلا صدقا. قال: ((فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)) ( 17).
هل سمعتم بكلام أعذب من هذا؟ وهل عثرتم على أسلوب أرق وألطف؟ حتى وقاحة أبي لهب، وفظاظة أبي جهل، ومكر أبي سفيان، لم تُخْرِجِ النبي الداعية من وقاره، وعندما قال أبو لهب: تبًا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ لم يرد عليه حتى تولى الرد قاصم الجبارين: )( 18) واصل الحبيب الكريم دعوته إلى الله برفق وصبر، فانساب نداها إلى قلوب كثيرة، واستنشق شذاها مؤمنون ومؤمنات، فما كان يسمع كلامه العذب الجميل إنسان إلا وأسلم، ولولا أنهم يضعون أصابعهم في آذانهم لأسلموا جميعا.
      فبما رحمة من الله لاَنَتْ              صَخْرةٌ مِنْ إِبَائِهمْ صَمَّاءُ
      رَحْمَةٌ كلُّهُ وحزمٌ وعزمٌ                ووقارٌ وعصمةٌ وحياءُ
تعرض لصنوف الأذى فاحتسب، وعذب المؤمنون وفتنوا فاعتصموا بالله، وثبتوا مع نبيهم وعلى دينهم كالجبال الراواسي، إلا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يترك أتباعه فريسة لغلاظ الأكباد، فبحث لهم عن مكان آمن، فوجده وراء البحر عند النجاشي ملك الحبشة، فأمرهم بالهجرة فهاجروا، وكانوا رسل سلام عالميين.
شاهد الملك النجاشي رحمه الله ملائكة في صور بشر، وعرف الإسلام عن قرب، فأسلم، ولو أن القارة السمراء حظيت بمثل جعفر بن أبي طالب وإخوانه وأخواته من المهاجرين لأسلمت عن بكرة أبيها.
ولو ظفرت أوربا بمثل مصعب بن عمير لدخل الناس في دين الله أفواجا، بخطابه الرصين، وعقله الراجح، وسلوكه الجميل، فقد ذهب أسعد بن زرارة بمصعب إلى دار بني عبد الأشهل، وكان سعد بن معاذ، وأسيد بن حُضَير سيدي قومهما، وكلاهما مشرك، فلما سمعا بمصعب، قال سعد لأسيد: انطلق إلى هذين الَّذَين أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما، فلولا أن أسعد بن خالتي لكفتيك أمرهما. فأخذ أسيد حربته ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فأصدق الله فيه. قال مصعب: إن يجلس أكلمه، فوقف عليهما متشتمًا غاضبًا وقال: ما جاء بكما؟ تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرًا قبلتَه، وإن كرهته كُفّ عنك ما تكرهه؟
قال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن؛ فقالا: فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهُّلِه، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله! فأسلم، ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، إنه سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد مُقبلاً، قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به؛ فلما وقف قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسًا وقد نهيتهما، فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حُدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك؛ ليُخفِرُوك.
 قال: فقام سعد مُغضبًا مبادرًا، تخوفًا للذي ذكر له من بني حارثة، فأخذ الحربة من يده، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئًا، ثم خرج إليهما، فلما رآهما مطمئنَّين، عرف أن أسيدًا إنما أراد منه أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتمًا، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة، أما والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رُمتَ هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نكره؟- وقد قال أسعد بن زرارة لمصعب بن عمير: أي مصعب، جاءك والله سيد مَن وراءه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان- قال: فقال له مصعب: أوَ تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرًا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره؟
 قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام .... فأسلم، ثم أخذ حربته، فرجع إلى قومه، قال: فلما رآه قومه مقبلاً قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأوصلنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله وبرسوله، قالا: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلمًا ومسلمة.
فأتمني على من يرغبون في الدعوة إلى الله أن يقرأوا قصة مصعب وأسعد جيدًا، وكيف استطاع مصعب وهو غريب أن يستدرج سيدي قومهما في مجلس واحد؛ بحسن أدبه ولطفه: ألا تجلس فتسمع، فإن رضيت وإلا رفعنا عنك ما تكره! أي عاقل يسمع مثل هذا ولا يسعه إلا أن ينصت.
إن الخطاب الإسلامي المحلي والإقليمي والدولي ينبع من معين واحد (اذْهَبَآ إلَىَ فِرْعَوْنَ إنّهُ طَغَىَ* فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لّيّناً لّعَلّهُ يَتَذَكّرُ أَوْ يَخْشَىَ )[طه:43-44]، ( وَلاَ تُجَادِلُوَاْ أَهْلَ الْكِتَابِ إلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ )[العنكبوت:46]، (قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إلَىَ كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إلاّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ )[آل عمران:64]، ( قُلْ هَـَذِهِ سَبِيلِيَ أَدْعُو إلَىَ اللّهِ عَلَىَ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )[يوسف:108]. رسائل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الملوك.
فأين نحن من الخطاب التكفيري المتعجرف الذي ابتليت به النحل والملل الإسلامية وأصبح التكفير والتفسيق إسلاميا إسلاميا.
أما خطابنا اليوم نحو اليهود والنصارى فهو هكذا: اللهم أهلك اليهود والنصارى، وأحرق مزارعهم، وأغرق سفنهم، وأسقط طائرتهم، ويَتِّمْ أبناءهم. ورغم هذا الجفاف، والجفاء، وجمود الفكر، وغيبوبة التفكير، فما زال الإسلام أوسع الأديان انتشارًا في ديار الغرب.
حين وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع عتاة المشركين إلى طريق مسدود تآمروا على قتله. هاجر إلى الدار التي هيأها من قبل، وهاجر إليها أصحابه، وأصبح الأمر مختلفًا؛ فمن غير المجدي أن يعالج مريض بالدهان والمهدئات، وهو محتاج لعملية استئصال ما فسد من جسده؛ لانه لو بقي لأفسد الجسد كله. ( أُذِنَ لِلّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنّ اللّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ )[الحج:39]، (الّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقّ إلاّ أَن يَقُولُواْ رَبّنَا اللّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لّهُدّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنّ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ إنّ اللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ )[الحج:40].
فالجهاد ضد المشركين رغم شراستهم لم يخلف في تاريخ جهاد النبي كله سوى بضعة مئات، والنبوة المحمدية حدثٌ عالمي هز أركان المعمورة، ولو لم تكن للنفوس حرمة عظيمة في دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحصد ملايين القتلى، لكنه عليه السلام آثر آن يطلق أسرى معركة بدر مقابل عطاء مالي، وهي أول فرصة لتأديب قريش حتى عاتبه الله، فقال: ( مَا كَانَ لِنَبِيّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتّىَ يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الاَخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )[الأنفال:67].
فالجهاد إنما هو ضد الاضطهاد، ويوجب الإسلام جهاد المسلمين إن اضطهدوا ذميا أو بوذيا، أو سعوا في الأرض فسادا، فالهدف منه تحقيق العبودية لله بترك الحرية لعباده.
ولو أن المشركين تركوا محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم يتكلم بحرية، وطلبوا منه أن يترك من لا يريد الإسلام وشأنَه مُقَابِلَ أن يتحرك بحرية على قاعدة الإقناع بالطريقة السلمية لما تعرض لهم بسيف ولا رمح؛ لأنه يعلم أن الشرك سيذوب كالملح في الماء، وهم يعلمون ذلك؛ ولذلك وقفوا في طريقه، واضطهدوه؛ فلا يجوز للشرك بهذه الصورة أن يبقى، فهو انحراف بشري، وسوأة إنسانية.
ثم إن الجهاد وإن اشتهر إطلاقه على قتال الكفار في عرف الفقهاء إلا أنه متعدد الجوانب.
فالاشتقاق اللغوي يفيد أن الجهاد بذل الجهد، فالمشقة وبذل ما في الوسع من لوازم مقومات الجهاد.
والجهاد تضحية بالنفس، والمال، وهما الأكثر بروزا في معاني الجهاد، إلا أن هناك جهاد النفس الذي سماه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الجهاد الأكبر.
والجهاد بالقول: وهو جهاد الدعوة بالنصح والإرشاد، والتعلم والتعليم، والجهاد في الحقل الصحي، والزراعي، والصناعي، وكل ماله علاقة برفعة شأن الأمة الإسلامية أو الإنسانية.
العنف
العنف: هو أعلى درجات الإيذاء، وهو درجات، وقد يكون مشروعًا، وقد لا يكون كذلك، فيصدق على الجهاد بالسلاح أنه عنف وهو مشروع، ويصدق على الإرهاب أنه عنف وهو غير مشروع.
والدين الإسلامي الحنيف يكره العنف قطعًا، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له شروط منها: (أنه لا يخشن إن كفى اللين) بمعنى أن الخشونة ليست مباحة إن كفى اللين بالقول، أو التأديب اليسير بالسوط، أو كما يحكى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يؤدب بالسواك.
وهذا الأدب الجم، والأسلوب الراقي في احترام الحياة والأحياء مفقود في عالم المسلمين خاصة: أفرادا، وجماعات، ودولا، فما تكاد تنشب مشادة حتى تستخدم بين المتخاصمين كافة أنواع الأسلحة: كالخناجر، والمسدسات، والقنابل، والبوازك ...الخ، وهل الدول العربية تكدس السلاح للعدو المشترك؟ إنها تشتريه للجوار وللإخوة في الدين واللغة.
وفي الختام دعونا نتفاءل وننتهز مثل هذه اللقاءات، ولا نضيع فرصة التعاون الجاد، وليكمل أحدنا الآخر.
الهوامش
 ([1]) ينظر المصابيح لأبي العباس الحسني ص 382، والحدائق الوردية 1/236.
([2]) الإمامة والسياسة ص 144-155.
([3]) ينظر في معناه الطبري 5/303.
([4]) ينظر مقاتل الطالبيين ص 40، وكذلك أيد ثورة إبراهيم بن عبدالله. ينظر مقاتل الطالبيين ص 364.
([5]) ينظر الطبري 7/560، ومقاتل الطالبيين ص 283.
([6]) ينظر الحدائق الوردية 1/329.
([7]) الإصابة 1/319.
([8]) هذا التصور نص حديث ساقه البخاري رقم (3166) ورقم (4094) وقد ارتسم في ذهني قبل مطالعة البخاري حين عايشت أمثاله عندنا منذ ربع قرن.
([9]) البخاري رقم (3414)، ومسلم 2/740 رقم 1063، وينظر سيرة ابن هشام 4/104.
([10]) البخاري 3/1219 رقم 3166.
([11]) وقعة صفين ص 489، ونهج البلاغة ص 163 رقم 40، ص 723.
([12]) ينظر في التحكيم: الطبري 5/70، ووقعة صفين ص 500.
([13]) ينظر الطبري 5/82.
([14]) الكامل للمبرد 3/1078، وشرح النهج 1/251.
([15]) ينظر دلائل النبوة للبيهقي 4/147، والكامل 2/138.
([16]) نهج البلاغة ص 181 رقم 59.
([17]) البخاري 4/1787 رقم 4492، ومسلم 1/194.
([18]) البخاري 4/1787 رقم 4492

الأحد، 8 مارس 2020

مقابلة مع الدكتور عبدالملك عبدالله الجنداري

مقابلة عن الثأر مع القاضي الدكتور عبدالملك عبدالله الجنداري تنشر لأول مرة
أجراها // زيد يحيى المحبشي بتاريخ 26 أبريل 2004
*ماهو المفهوم العام للثأر؟ وماهي أنواعه؟
- المفهوم العام للثأر - من وجهة نظري - أن يُقتل شخص فيقوم ولي دمه - أو شخص من عشيرته أو قبيلته- بقتل أحد أقارب القاتل أو احد اعيان عشيرته انتقاما للمقتول. أما قيام ولي الدم بقتل قاتل مؤرثه فلا يُعد ثأراً، عملا بقوله تعالى ((ومن قُتِلَ مَظلوماً فقد جَعَلنا لِوَليهِ سُلطاناً فلا يُسرِف في القتل))، ومع ذلك فقد أوجب المقنن اليمني معاقبته بالحبس تعزيراً له على افتئاته على حق الدولة في إقامة القصاص. وعليه فالإسراف في القتل هو الثأر، سواء بقتل أكثر من شخص غير القاتل أو بترك القاتل وقتل غيره بحجة أن المقتول أعلى شأناً من القاتل.
* ما مسببات بروز ظاهرة الثأر واستفحالها، في ضوء القصور التشريعي والاختلال القضائي في اليمن؟
وماهي المعالجات القانونية المطلوبة والإصلاحات القضائية المتخذة لاحتواء ظاهرة الثأر؟
- إن للثأر - كفعل أحادي- أسباب عدة ، ولاشك أن ثمة قصور تشريعي وخلل قضائي بهذا الصدد.
أما الثأر - كظاهرة - فوراءه سببان رئيسان ، الأول الجهل، والثاني بروز سلطة القبيلة - في بعض المناطق - على حساب سلطة الدولة بجوانبها الثلاثة التنفيذية والتشريعية والقضائية. لذلك من التجني وعدم الإنصاف تحميل إحدى سلطات الدولة دون غيرها وزر الثأر كظاهرة. فكثيرون يزعمون أن القضاء هو المسئول الأول عن ذلك، وهذا غير صحيح بدليل أن أولياء الدم في معظم قضايا القتل - في المحافظات التي ينتشر فيها الثأر - يرفضون التقدم بدعواهم بالحق الشخصي إلى القضاء، لقناعتهم الراسخة بأن عدم أخذهم حقهم بأيديهم نقيصة كبيرة. كما أنهم يعلمون أن القضاء سيقتص من القاتل الذي يرون غالباً أنه غير كفء للمقتول.
وقد يقول قائل: إن عدم ثقتهم بالقضاء هو دافعهم لأخذ حقهم بأيديهم. فنقول: إن هذا الوهم كان سائداً إلى عهد قريب، وهذا ما حدا بالمقنن اليمني عند تعديل مشروع قانون الجرائم والعقوبات - الذي أستمر العمل به استئناساً لعدة سنوات فيما كان يعرف بالشطر الشمالي من الوطن- إلى استحداث حكم يجيز للنيابة العامة حق طلب القصاص من المحكمة في قضايا القتل العمد. في حالة امتناع أولياء الدم عن طلب القصاص . بل وأوجب على المحكمة أن تحكم بالقصاص إكتفاء بطلب النيابة العامة (المادة "50" من القرار بالقانون رقم "12" لسنة 1994م). إلا أن المقنن علَّق تنفيذ الحكم الصادر بالقصاص على طلب أولياء الدم، باعتبار أن ذلك حق شرعي لهم دون غيرهم، عملا بقوله تعالى: ((ومن قُتِلَ مَظلوماً فقد جَعَلنا لوليه سُلطاناً)). ورغم ذلك النص القانوني وتطبيقه على الواقع وصدور أحكام مقررة بالقصاص، إلا أن أولياء الدم - في المناطق المشهورة بالثأر - يمتنعون عن طلب تنفيذ الحكم انتظاراً لخروج المحكوم عليه من السجن ليقتصوا منه بأنفسهم، أو لأنهم لا يريدون المحكوم عليه بل يسعون للثأر بقتل غيره.
ومع ذلك - وكمعالجة قانونية لهذا الوضع - يمكن العمل على استحداث نص يمكن المحكمة من إجبار أولياء الدم على الحضور أمامها وتخييرهم بين ثلاثة أمور لا رابع لها: إما طلب القصاص أو الدية أو العفو، عملا بقول الرسول صلى الله عليه وآلهوسلم : (من أصيب بدم أو خَبلٍ "جراحٍ" فهو بالخيار بين إحدى ثلاث إما أن يقتص أو يأخذ العقل "الديه" أو يعفو ، فإن أراد الرابعة فخذوا علي يديه، ومن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم). وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : { من قُتِلَ له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يعفو وإما أن يقتل}. ومع ذلك فإن وجود مثل هذا النص القانوني لن يجدي إلا بتفعيله، وهذا لن يتأتي إلا بوجود آلية تنفيذية تمكن جهات الضبط القضائي - في مناطق الثأر المعروفة- من إجبار الخصوم على المثول أمام القضاء.
هذا ما يتعلق بتلافي القصور التشريعي، أما القصور القضائي بهذا الشأن - وإن كان لا يخلو- إلا أن تأثيره في بروز ظاهرة الثأر ليس بالصورة التي يتوهمها الكثيرون، بدليل العدد الكبير من الأحكام القضائية التي تصدر سنويا بالقصاص والتي ينفذ العديد منها في معظم محافظات الجمهورية، كما أن ثمة مئات منها لم تلق طريقها للتنفيذ بسبب سعي الكثيرين للتدخل بالصلح بتنازل أولياء الدم، وبسبب تدخل كثيرين أيضاً لإعاقة تنفيذها بالتشكيك بصحة أحكام القضاء، وبغير ذلك من الأسباب. المهم هنا أن القضاء اليمني - وبالذات في قضايا القتل - يقوم بدوره على نحو يفوق غيره في معظم دول العالم سواء من حيث مدد التقاضي أو من حيث سلامة الإجراءات.
ولاشك أن من بين العدد الكبير من الأحكام الصادرة في قضايا القتل ما يكون بالقصاص ومنها ما يكون بالدَية وفي أحيان قليلة بالبراءة، كل ذلك بحسب مدى كفاية الأدلة التي يطرحها الخصوم أمام المحاكم. ولمن يريد التأكد من صدق ما ذكرناه الرجوع الى أرشيف المحاكم والنيابات العامة وإحصائياتها.
هل يمكن تحديد رقم معين للقضايا المتعلقة بالثأر المطروحة أمام المحاكم اليمنية؟
- قضايا الثأر تدخل في التصنيف القضائي ضمن قضايا القتل، وهذا الصنف من القضايا ينقسم إلى قتل عمد وقتل خطأ، ولا يوجد تصنيف لقضايا القتل باعتبار السبب. ومن ثم فتحديد رقم معين لقضايا الثأر يحتاج إلى باحثين لاستخلاص ذلك من بين قضايا القتل العمد المنتهية المؤرشفة في خزائن النيابات العامة.
كيف يمكن الحد من الاختراقات العرفية، وخصوصاً قاعدة "المواخاة" وقاعدة "الرباعة"؟
- المواخاة والرباعة ونحوها هي قواعد قبلية عريقة لها جذور عميقة - ليس في تاريخ اليمن فحسب بل في التأريخ العربي عموماً - تمتد إلى عصر ما قبل الاسلام ، وهي مما قال عنه صلى الله عليه وآله وسلم "{ إنما بعثت لإتمم مكارم الأخلاق}، ومن ثم فالخلل ليس في القواعد ذاتها بل في تطبيقها، فتلك القواعد ليس على إطلاقها بل لها ضوابط وأسس استمر العمل بها بين قبائل اليمن مئات السنين. بيد أن تطبيق تينك القاعدتين- شأنهما شأن غيرهما من القواعد القبلية - قد أعتراه الكثير من الخلل بسبب تدني المفاهيم القبلية الأصيلة، نتيجة الجهل المستمر بتلك الأعراف والقواعد، وهذا نوع من ا لجهل الذي اشرنا إليه في بداية حديثنا كسبب رئيس من أسباب تفشي الثأر الذي كان وما يزال مذموماً عند عقلاء قبائل العرب منذ العصر الجاهلي حتى اليوم.
كلمة ختامية:
- أخيراً نقول إن أية معالجة لظاهرة الثأر لن تنجح إلا بتفاعل وتكاتف الجميع. ومن ثم فإن الحملة الوطنية التي تبناها فخامة الاخ رئيس الجمهورية المشير علي عبدالله صالح لمحاربة هذه الظاهرة هي الخطوة الصحيحة والطريقة المثلى للتغلب عليها. لذلك نأمل من الجميع - وبالذات مشائخ القبائل - من بذل أقصى جهودهم في المشاركة في الحملة الوطنية والتفاعل معها.

السبت، 7 مارس 2020

اليمنيون في موكب وليد الكعبة


 زيد يحيى المحبشي // 12 رجب 1441//  7 مارس 2020
نعيش في الثالث عشر من شهر رجب الأصب أجواء غامرة بالإيمان والبهجة، لمولد بطل الإسلام الأول، ووصي خاتم الأنبياء والمرسلين، وزوج ريحانة الرسول، ورجل المهمات الصعبة، والمواقف الخالدة، والمبادئ السامية، إمام المتقين ويعسوب المؤمنين وأبو المساكين أبو تراب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم عليه السلام.
إنه شهر رجب، أحد الأشهر الحُرم، وشهر الإمام علي التلميذ الأول في مدرسة النبوة المحمدية، والناصر والمعين، والحامي والذائد عن طليعة المؤمنين، وشهر إسلام أهل اليمن على يد الوصي أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين، وشهر التكريم الإلهي لرسوله الأمين صلى الله عليه وآله وسلم بمعجزة الإسراء، تفريجا وتنفيساً بعد صد أهل الطائف، وإعزازا وتمكيناً لدين الله بعد كفر وجحود وتعنت وصلف قريش.
 وكما كان لأهل اليمن قصب السبق في الاستجابة الطوعية لدين الله والإيمان برسالة رسول الله وتقدم صفوف الفاتحين، كان لهم قصب السبق في مبايعة الإمام علي عليه السلام ومناصرته وموالاته، ومن بعده أحفاده الى يوم الناس، حباً وعشقاً لمن أمر الله بحبهم ومودتهم في كتابه العزيز.
 ورغم ما ألحقه الولاء الحيدري من أذى وظلم واضطهاد لشريحة عريضة من اليمنيين، في عهود الدول الاسلامية المتناسلة من رحم المُلك "العضوض"، ما بعد أفول فترة الخلفاء الراشدين، بدءاً بدولة بني أمية – بلغ عدد من قتلهم معاوية بن أبي سفيان من أهل اليمن كنموذج بسيط أكثر من 30 ألفاً - ومروراً بدولة بني العباس ووصولاً الى دولة بني سعود الوهابية – قتلت في واقعة واحدة فقط عُرفت بواقعة تنومة 3000 حاج يمني ولا تزال يدها تقطر بدماء اليمنيين إلى يوم الناس -، ومع هذا لم يتغيّروا ولم يتبدّلوا، بل ازدادوا حُباً وعشقاً ووفاءاً، وهاهم اليوم كما كان أجدادهم يبادلون الوفاء بالوفاء لآل بيت المصطفى.
ويحتفظ لنا التاريخ بالكثير من الحقائق والشواهد على تجذر ولاء ومودّة ومحبّة الشعب اليمني لآل البيت عليهم السلام، منها على سبيل المثل لا الحصر:
1 ـ الدور المحوري الذي لعبه اليمنيين في نشر التشيع في العراق وإيران وغيرهما من البلدان الإسلامية، ودورهم في الدفاع عن آهل البيت، بدءاً من عهد الإمام علي عليه السلام وحتى وقتنا الحاضر، والتضحية بالنفس والولد والمال في سبيل الحق وأهله.
2 ـ دور اليمنيين في تدوين وحفظ تراث أهل البيت عليهم، ويذكر المؤرخون أن الكثير من رواة الحديث عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، هم من أهل اليمن.
3 ـ عدم خلو مجالس المناسبات الاجتماعية والدينية اليمنية من ذكر أهل البيت عليهم السلام، خصوصاً الإمام عليّ عليه السلام، ويتجلّى ذلك في ذكرى يوم الغدير، والتي أخذت حالة شعائرية تقليدية، توارثتها الأجيال وتفاعلت معها، حتى أصبح يوم الغدير من أهم الأعياد الدينية لدى الشعب اليمني بعد أعياد الجمعة والفطر والأضحى.
4 ـ اهتمام الشعب اليمني بتكريم وزيارة المراقد والمقامات الشريفة لذرية الإمام علي عليه السلام في اليمن، كقبر الإمام الهادي يحيى بن الحسين والإمام القاسم بن محمد وغيرهم من أئمة الهدى.
وكان اليمنيون قد تعرّفوا على شخصية الإمام علي عليه السلام كما يذكر المؤرخون من خلال:
1 - بعثات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للإمام علي عليه السلام الى اليمن، لدعوتهم إلى الإسلام، وتفقيههم في تعاليم دينهم، وإصلاح وتنظيم أحوالهم، والتي بلغت أكثر من أربع بعثات، شملت همدان ومذحج وزبيد ونجران وغيرها، ولا زال مسجد الإمام علي بسوق الحلقة في صنعاء القديمة ومحرابه بالجامع الكبير، شاهد على دوره الريادي في انتشال اليمنيين من براثن الجهل والظلام والتناحر الى فيحاء النور والضياء والفضيلة وسعادة الدارين.
2 - تعريف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفود القبائل اليمنية المتقاطرة على المدينة المنورة، بمكانة وفضل الإمام علي عليه السلام وسابقته في الدين وما نزل فيه من آيات الذكر الحكيم.
3 - شهود بعض وفود القبائل اليمنية حجّة الوداع، وواقعة غدير خمّ الشهيرة في السنة العاشرة للهجرة، وخطبة رسول الله عن ولاية الإمام علي عليه السلام بأمر العلي القدير.
وازدادت هذه المعرفة عمقاً بعد مبايعة الإمام علي عليه السلام في سنة 35 هجرية لخلافة المسلمين، وما تلاها من أحداث ومآسي ونوازل على أهل البيت عليهم السلام، بدءاً بشهيد المحراب الامام علي ومروراً بشهيد كربلاء الامام الحسين بن علي وشهيد الكُناسة الامام زيد بن علي بن الحسين، ووو، وإنتهاءاً بشهيد مران العلامة حسين بدرالدين الحوثي، كان اليمنيين أحد أهم فصولها والفاعل الرئيسي في أحداثها، مناصرين ومحامين وذائدين ومدافعين.
وليس هذا بغريب على بلدٍ "تكادُ أحجارهُ تتشيع"، فما بالكم بالبشر، وهذه لعَمري مكرمة ومزية من النادر أن نجد مثيلاً لها بين الشعوب الاخرى.

* وليد الكعبة:
ما أثير حول شخصية الإمام علي عليه السلام في الأوساط الإسلامية من جدل ولغط وصخب وضجيج وانقسام، لم يُثار حول أي شخصية في التاريخ البشري، وذلك لأننا أمام شخصية عظيمة لا تتكرر.
مولده سلام الله عليه ببيت الله الحرام في يوم الجمعة 13 رجب سنة 30 من عام الفيل، ولم يولد قبله ولا بعده مولود في الكعبة، وهذا أول تكريم وأول وسام له من الله، ويذكر الزركلي في الأعلام أن مولده عليه السلام سنة 23 قبل الهجرة، وفي تحديد اليوم بالميلادي يذكر الناطق بالحق أبي طالب يحيى بن الحسين بن هارون في الإفادة أنه في يوم 7 أيلول/ سبتمبر، وبحسب سنة الزركلي يكون مولده في عام 600 ميلادية.
يقول الرواة أن أبوطالب خرج يوماً يمشي هوناً، فزوجته فاطمة بنت أسد تتلوى من ألم المخاض، وعندما شاهده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سأله عن السبب، فأخبره بشأن أم الوصي، فأشار عليه بأخذها الى الكعبة، لتتعلق بأستارها، علّ الله يخفف عنها الألم، وجاءت الى الكعبة تسأل من الله تخفيف الألم وتسهيل الولادة، وما أسرع ما أنجبت وليدها المبارك، سماه والده "علياً"، وعمّت الفرحة قلب والده وإبن عمه محمد الصادق الأمين، ورفعت أمه رأسها الى السماء، تشكر ربها على هذه المكرمة التي خصها ووليدها بها.
وكانت أول يد تتلقفُ هذا المولود المبارك بعد أمه يد رسول الله، فكان له الأخ والمعلم والقدوة والمثل الأعلى، ولازمه كظله منذ طفولته، واستقى منه كل معاني الطهر والنقاء والفضيلة والزهد والتقى والورع والنبل والشهامة والكرم والبذل والعطاء والشجاعة والإقدام والتضحية، ونهل منه العلوم بشتى أنواعها، فصار في فترة وجيزة "الغرة الشاذخة" في أعيان زمانه في كل فنون المعرفة، بشهادة معلمه خاتم المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم: "أعلمكم علي"، و"الغرة الشاذخة" في أعيان زمانه في الشجاعة والعدل والزهد والورع وإدارة الدولة والتكتيك العسكري.
وتشرّب سلام الله عليه من معلمه ومربيه تعاليم السماء، حتى قال صلى الله عليه وآله وسلم فيه: "علي مع القرآن والقرآن مع علي".
وليس هذا بغريب على باب مدينة علم المصطفى: "والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيما نزلت وأين نزلت وعلى من نزلت، إن ربي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً صادقاً ناطقاً"، "سلوني عن كتاب الله، فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليلٍ نزلت أم بنهار، في سهل أم في جبل".
شارك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل معاركه وفتوحاته باستثناء معركة تبوك فقط، أستخلفه وهو القوي الأمين على المدينة المنورة، وكان رجل المهمات الصعبة في كل تلك المعارك، والفارس الذي لا يُشقُ له غبار.
وبعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بـ 24 عاماً تمت مبايعته بالخلافة في يوم الجمعة 18 ذي القعدة 35 هـ، وفي هذا اليوم كان غدير خم – الجمعة 18 ذي الحجة 10 هـ - ولهذا الاتفاق شأن عظيم كما يذكر المولى الحجة مجدالدين المؤيدي.
وفي سنة 36 هـ  قاتل الناكثين، وهم أصحاب الجمل طلحة والزبير، وعائشة وأتباعهم، وكان عدد القتلى 30 ألفاً.
وفي سنة 37 هـ قاتل القاسطين – معاوية وأهل الشام ومن معهم – بصفين وانقضت وقعاته عن 70 ألف قتيل،
منها: ليلة "الهرير" قتل فيها الامام علي عليه السلام 600 شخص، بـ 600 ضربة، مع كل ضربة تكبيرة.
وفي سنة 39 هـ  قاتل المارقين، وهم الخوارج بالنهروان.
ووفاته عليه السلام في 21 رمضان 40 هـ، بعد أن ضربه أشقى الآخرين عبدالرحمن بن ملجم يوم الجمعة 18 رمضان 40 هـ.
وهكذا انتقل سلام الله عليه من مرحلة الولادة بالحرم الشريف إلى مرحلة الحِراب، ذوداً عن حِياض الدين الخاتم، ليختمها بالشهادة في محراب مسجد الكوفة، فما عسانا قوله عن هذا العظيم في هذه الفسحة، وهو القائل عند مبايعته بالخلافة سنة 35 للهجرة: "والله لا يغيب عنكم رسول الله إلا عينه"، وكفاه من عظيم المجد نزول كرائم القرآن فيه، وإنزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، له في آية المباهلة بمنزلة نفسه: "قل تعالوا ندعو أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم".

* همدان درعي ورمحي:
يورد الشيخ "أصغر منتظر" في كتابه "أثر القبائل اليمنية في نُصرة أهل البيت عليهم السلام في القرن الهجري الأول" – وهو عبارة عن رسالة ماجستير - الكثير من المواقف عن مكانة الإمام علي عليه السلام عند اليمنيين، ومكانتهم عند الإمام علي، وأثرهم في تشكيل وظهور التشيع، ودورهم في مبايعة ومناصرة الامام علي "ع"، ومشاركته في كل المعارك التي خاضها، مؤكداً بأن لهم مواقف قوية ومؤثرة منذ اليوم الأول لمبايعة الامام بالخلافة بعد مقتل عثمان بن عفان بالمدينة المنورة سنة 35 للهجرة، حيث بلغ عدد المبايعين من اليمنيين 40 شخصاً في حين لم يتجاوز عدد المبايعين من النزاريين "القرشيين" 17 رجلاً.
وفي هذا دلالة على المكانة الرفيعة للإمام علي لدى اليمنيين، وهي امتداد لما لقيه عليه السلام من حفاوة لدى الهمدانيين عندما أتاهم داعياً للإسلام، فأسلموا جميعاً حباً وطواعية، وكانوا منذ رحيل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، مياّلين للإمام علي، لعدة أسباب كما عرفنا آنِفاً، وبعد مقتل عثمان أرسلوا وفداً من أكابرهم الى المدينة المنورة لمبايعة الامام علي والتعبير عن سرورهم بولايته.
ولعظيم مكانتهم لدى الامام علي عليه السلام أرسل منهم في ولايته 37 رجلاً الى الأقاليم المختلفة في المجتمع الإسلامي، توزعوا ما بين إيران والعراق والجزيرة العربية وبلاد الشام، مما يدل على سلطتهم التي تزيد كثيراً عن نسبة الوجود العدناني "القيسي"، وفي معارك الجمل وصفين والنهروان، يظهر لليمنيين الأثر البارز، بحيث إن من بين 35 قائداً من قادة الإمام علي عليه السلام في معركة الجمل، 13 قائداً من أصل يمني، و18 من أصل نزاري "عدناني".
ومما يفتخر به اليمنيون، شنهم في حرب صفين حملة واسعة بقيادة مالك الأشتر النخعي اليماني على جيش الخصم، شارك فيها من أبناء قبيلة همدان اليمنية 800 فارس، وثبتوا في المعركة حتى استشهد منهم 180.
ومما يفتخر به اليمنيون في معركة صفين شهادة الصحابي الجليل عمار بن ياسر العنسي المذحجي اليماني وبعض الأصحاب من اليمنيين، ويُعَدُّ استشهاده رضي الله عنه دليلاً عن كون الإمام علي عليه السلام إمام "الفئة العادلة"، ومعاوية إمام "الفئة الباغية"، مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " عمار مُلئ إيماناً من رأسه الى أخمص قدميه وستقتله الفئة الباغية"، وكان عمار يومها يقاتل في صف الإمام علي.
وممن استشهد من اليمنيين الى جانب عمار من القادة الكبار، والذين كان لاستشهادهم أثر بالغ في إضعاف موقف الإمام علي عليه السلام، خزيمة بن ثابت وعبدالله بن بديل الخزاعي وأبو الهيثم بن التيهان.
وفي همدان يقول الإمام علي عليه السلام، كما يروي العلامة الحُجة "مجدالدين بن محمد المؤيدي" في كتابه "التحف شرح الزلف": "يا معشر همدان أنتم درعي ورمحي، وما نصرتم إلا الله ورسوله، وما أجبتم غيره".
ومن ذلك قصيدته الغراء سلام الله عليه، التي قلّد فيها قبائل اليمن في معركة صفين، كما يذكر المؤرخين "وسام الفخر" الى يوم القيامة:
ولما رأيتً الخيل تقرع بالقنى .. فوارسها حُمرُ النحور دوامي
ونادى ابنُ هند في الكلاع ويحصب .. وكندة في لخم وحي جذام
تيمَّمتُ همدان الذين هُمُ هُم .. إذا ناب أمرٌ جُنّتي وسهامي
فناديتُ فيهم دعوةً فأجابني .. فوارسٌ من همدان غير لئام
فوارس ليسوا في الحروب بُعزَّلٍ .. غُداة الوغى من شاكر وشبام
ومن أرحب الشُم المطاعين بالقنى .. ونهم وأحياء السبيع ويام
ووادعة الأبطال يخشى مصالها .. بكل صقيل في الأكُفِ حسام
ومن كل حيٍ قد أتتني فوارسٌ .. كِرامٌ لدى الهيجاء أي كرام.
الى أن قال سلام الله عليه:
جزى الله همدان الجنان فإنهم .. سمام العدا في كل يوم سمام
لهم تُعرفُ الرايات عند اختلافها .. وهم بدؤا للناس كلَّ لحام
رجالٌ يحبّون النبي ورهطه .. لهم سالفٌ في الدهر غير أيام
همُ نصرونا والسيوف كأنها .. حريقٌ تلَظَّى في هشيم ثُمام
لهمدان أخلاقٌ ودينٌ يُزينُها .. وبأسٌ إذا لقوا وحدُّ خِصام
وجدٌّ وصدقٌ في الحديث ونجدةٌ .. وعلمٌ إذا قالوا وطيبُ كلام
فلو كنت بوَّاباً على باب جنة .. لقلت لهمدان ادخلوا بسلام.
ومن روائع رسائل الإمام علي عليه السلام الى ولاته، رسالته الى مالك الأشتر النخعي اليماني، والتي كانت بمثابة الدستور المنظم لعمل الحكام، وتنظيم العلاقة بين مكونات الدولة المختلفة وبينها وبين الرعية، والحقوق والواجبات التي تخص كل فئة، وهي من أهم الوثائق التي تُدرّس لطلاب العلوم السياسية في أعرق الجامعات الغربية.
هؤلاء هم اليمنيين أهل الولاء والعشق للحق وأربابه، وذلك هو إمام المتقين، الحاكم الذي حكم الناس 5 سنوات تحت شعار: "المال مال الأمة والفقراء مسؤولية الحكومة".
وكانوا عنده في الحق سواء، وخاطبهم: "إنما أنا رجل منكم، لي ما لكم، وعلي ما عليكم".
جاع مع شعبه، وعاش بين الفقراء، وضد الفقر، ومع المحرومين، وضد الحرمان، ومع الجماهير، وضد الطغيان.
وقاوم كل أشكال الظلم، والعنصرية، والاستحواذ، والفساد، والاستغلال، والاحتكار، والاستعباد.
ورفض النصر بالجور، والحكم بالمخادعة، والاستقرار بالاستسلام.
وخاض أكثر من 60 حرباً، ولم يكن لديه أي مانع من أن يقاتل جيشاً كاملاً، إذا تعدّى هذا الجيش على مظلومٍ واحدٍ حتى يأخذ حقه منهم.
فأين نحن من سيرته وأين حكام العرب والمسلمين من نهجه، ومما يفعله شذاذ بني "سعود" وبني "نهيان" باليمنيين، للسنة السادسة على التوالي، من مجازر وجرائم وفظائع، تقشعر لها أبدان جن بني الأصفر، ولا يرف لها جفن أحدٍ من حكام العرب والمسلمين المتخمين بالخزي والعار والشنار؟؟.

الأربعاء، 26 فبراير 2020

اليمنيون يحتفلون بإسلام أجدادهم في الجمعة الأولى من رجب



زيد يحيى المحبشي 26 فبراير 2020
"للجمعة الأولى من شهر رجب أهمية وذكرى مميزة وعزيزة، من أعز وأقدس الذكريات لشعبنا اليمني المسلم العزيز، وتعد أيضًا من الصفحات البيضاء الناصعة في تاريخ شعبنا المسلم، هذه الذكرى هي واحدة من ذكريات ارتباط شعبنا العزيز بالإسلام العظيم، في الجمعة الأولى، حيث التحق عدد كبير من أبناء اليمن بالإسلام، في ذكرى تاريخية عظيمة ومقدسة ومهمة.
ولذلك هي مناسبة مهمة في الحفاظ على هوية شعبنا المسلم، وفي تجذير وترسيخ هذه الهوية لكل الأجيال الحاضرة والمستقبلية، الهوية التي يمتاز بها شعبنا اليمني، الهوية الإسلامية المتأصلة، هي تعود إلى تاريخ أصيل لهذا الشعب، فعلاقته بالإسلام، وارتباطه بالإسلام، وإقباله على الإسلام منذ فجره الأول كان على نحوٍ متميز، وعلى نحو عظيم.
وفي الجمعة الأولى من شهر رجب كان هناك الإسلام الواسع لأهل اليمن، والذي أسس لهذه المناسبة في الذاكرة والوجدان التاريخي لأهل اليمن، فكانت مناسبة عزيزة يحتفي بها أهل اليمن، في كل ما تأتي هذه المناسبة في كل عام، الجمعة الأولى من شهر رجب، وما عرف في الذاكرة الشعبية بالرجبية.
فإذاً هذا الإقبال والواسع إلى الإسلام طوعًا ورغبةً وقناعةً، وكان دخولًا صادقًا وعظيمًا ومتميزًا، أهل اليمن سواءً من كان منهم مهاجراً في مكة مثل عمار وأسرته، والمقداد وغيرهما، مثلما هي حكاية الأنصار في يثرب المدينة، مثلما هو الواقع للوفود التي توافدت من اليمن والجماهير التي دخلت في الإسلام.
عندما أتى الإمام علي عليه السلام، هو أتى حسب الاستقراء التاريخي لثلاث مرات إلى اليمن، وفي البعض منها كان يبقى لشهور متعددة يدعو إلى الإسلام، ويعلِّم معالم الإسلام، وينشط في الواقع الشعبي والمجتمعي، وتنظيم الحالة القائمة في البلد على أساس تعاليم الإسلام ونظام الإسلام، ومبتعثين آخرين أيضا أكملوا الدور في بعض المناطق كما هو معاذ بن جبل، وهكذا نجد أنَّ الدخول اليمني، والتاريخ اليمني، والهوية اليمنية الأصيلة المرتبطة بالإسلام ارتباطاً وثيقاً ودخولاً كلياً.
الجمعة الأولى من رجب، والتي كان فيها دخول جماعي وكبير في دين الله أفواجاً، على يد الإمام علي “عليه السلام”، بقي اليمنيون- على مر التاريخ- يحتفون بهذه الذكرى؛ لأنها ذكرى للنعمة الإلهية، للتوفيق الإلهي، والله “سبحانه وتعالى” يحث عباده على التذكر للنعم، وفي مقدمتها نعمة الهدى، وهي أعظم النعم على الإطلاق، ونعم الله “سبحانه وتعالى” جديرة بالتذكر، والتذكر للنعم والتذكير بها هو عامل مساعد في التقدير لها؛ وبالتالي الشكر للنعمة، بكل ما يترتب على الشكر من المزيد من رعاية الله سبحانه وتعالى وإنعامه".
بهذه الكلمات النفّاعة اختزل السيد عبدالملك الحوثي عظمة وماهية وأهمية الجمعة الأولى من شهر رجب، ومكانتها في ذاكرة ووجدان وتاريخ اليمنيين.
الجمعة الأولى من شهر رجب يوم من أيام الله وعيد من أعياد الله، اعتاد اليمنيين كابر عن كابر تعظيمه وإظهار كل مباهج الفرح والسرور فيه، وهو لا يقل أهمية ومكانة وقداسة في حياتهم عن أعياد الفطر والأضحى والغدير والهجرة والمولد النبوي الشريف والإسراء، يحييونه بالحمد والشكر على ما إمتنّ الله به على أبائهم من نعمة إعتناق دين الرحمة المهداة، والإيمان برسالة خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آل الطيبين الطاهرين، طواعية، بلا جدال ولا مماراة ولا وخوف، بل حُباً وعِشقاً للحق وأربابه.
تُرافق الاحتفال بذكرى دخول الإسلام إلى اليمن طقوس متوارثة منذ مئات السنين، ففي السنة التاسعة للهجرة دخل الإسلام إلى اليمن، وتحديدا في أول جمعة من شهر رجب حينما وصل الصحابي الجليل مُعاذ بن جبل إلى منطقة الجَنَد بمحافظة تعز، ليبني أول جامع حيث وقفت ناقته، ويدعو الناس إلى الدين الجديد، فدخل اليمنيون في دين الله أفواجا ولا زالت الصوفية تحتفل بهذه الذكرى العظيمة في ذات المكان والزمان الى يومنا، يخرج الناس رجالاً ونساءً وأطفالاً إلى جامع الجند، يستمعون الخطب والأناشيد والمدائح النبوية التي تقام على هامش الذكرى, ويمكثون أياماً يعيشون خلالها أجواء الإسلام وتاريخ الإسلام في اليمن.
وفي عيد رجب تظهر كل مباهج الأعياد من فرح ومرح وإبتهاج وغبطة ولبس لجديد الثياب، وتطيب وتطييب للبيوت والجوامع بأنواع البخور ورشها بماء الورد، والتوسعة على الأهل والأولاد، وتبادل الزيارات والهدايا والتهاني وصلة الأقارب والأرحام، وإختضاب النساء والفتيات بالحناء والنقش، وذبح الذبائح وتوزيعها على الفقراء والمساكين والأرحام، وإقامة الولائم، وشراء الحلوى وتوزيعها على الأطفال المبتهجين، وإقامة الندوات والاحتفالات وإنشاد الموشحات الدينية في المساجد والمقايل والصالات، وتذاكر ما كان عليه الفاتحين من أجدادهم من محامد الأخلاق والشجاعة والإقدام والنجدة والعزة والنخوة والإباء وإغاثة الملهوف والتفريج عن المكروب ونصرة المظلوم ورفض الضيم.

* مشروعية الاحتفال:
دأبت الجماعات التكفيرية على محاربة كل ما يذكر الناس بدينهم ونبيهم، بدعاوى ما أنزل الله بها من سلطان، وتفسيق وتكفير وتبديع المحتفين من المؤمنين والموحدين بميلاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو هجرته أو ذكرى الإسراء أو عيد الغدير أو عيد الجمعة الأولى من رجب ذكرى دخول أجداد اليمنيين الإسلام ..، دون أن يكون لديهم أي دليل عقلي أو منطقي أو نصي مقنع، بل مجرد أهواء تُتبع ونزوات تُبتدع وعصبيات جاهلية تُخترع، خدمة لأولياء نعمتهم من الملوك والسلاطين، وهذه أم الأثافي.
ولنا هنا أن نسألهم: ما المحرمات المرتكبة في إحياء ذكرى عيد جمعة رجب على سبيل المثال كي يستشيطوا غضباً ضد المحتفين بها، قد ربما هي مظاهر البهجة والشكر بما تكرّم الله به على أباء اليمنيين من نعمة الإسلام وسجود خير الأنام شكرا لإسلامهم، وقد ربما يكون تذكر ما كان عليه جيل الفاتحين من الأنصار والمهاجرين من تفاني في خدمة ونشر الدين الخاتم، وقد ربما ما يرافق ابتهاج اليمنيين بدخول أجدادهم الاسلام وما يصاحبها من فعاليات تذكر الأحفاد بهويتهم الإيمانية، وقد ربما يكون ما سبق من الكبائر الموجبة لغضب وسخط الجبار، هكذا فهمهم للأسف، لكن ما رأي علماء الدين في الاحتفال بجمعة رجب؟.
- العلامة يحيى بن حسين الديلمي: قد يشوه البعض على هذه الذكرى العطرة، فيقول هؤلاء: أنها بدعة، والبدعة مالا أصل له في الإسلام – مالا يوجد له أصل في الإسلام فهو بدعة – والقرآن يخبرنا آمِراً ومرشداً أن نفرح برحمة الله وبفضله، ومعلوم أن الإسلام رحمة والقرآن رحمة والرسول صلى الله عليه وآله وسلم رحمة "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ"، أن يتغنى الإنسان ويبتهج بأنه انتقل من الضلال إلى الهدى، من العذاب إلى الرحمة، من الشر إلى الخير؛ ويجعلها مناسبة "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ".
ثم كان الناس في جمعة رجب يلبسون الجديد ويتزاورون؛ ويلقي بعضهم على بعض تحية العيد، فلا أدري أين تكمن البدعة؟؛ وبالتالي يتذاكر اليمنيون قصة إسلام أهل اليمن، وكيف دخلوا في دين الله أفواجاً؟، ولماذا سجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين أتاه خبر إسلام أهل اليمن؟.
 خصوصا تلك القبائل التي أقبلت على الإسلام من دون مجادلة، ومن دون معاندة وقتال ونزل قول الله تعالى "إذا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً".
- العلامة عدنان الجنيد: إحياء ليلة جمعة رجب والاحتفال بيومها، داخلة في عموم قوله تعالى: "وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ"، وقوله تعالى: "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ"
فالآية الأولى تشير إلى أن تعظيم شعائر الله تُعد من التقوى، والشعائر هي معالم الدين - كما قال المفسرون - وإذا كانت مناسك الحج تسمى بالشعائر،  فإنما لكونها علامات للتوحيد والدين الحنيف، وكل ما هو شعيرة لدين الله فإن تعظيمه مما يقرب إلى الله، ولاشك بأن مسجد الجند ومسجد الأشاعر والجامع الكبير الذين أشرق نور الإسلام منهم من أبرز علامات دين الله تعالى، وتخليد هذه المناسبة فيهم مما يقرب إلى الله تعالى .
وأما الآية الثانية فهي تأمرنا بأن نفرح بفضل الله وبرحمته المهداه، نعم فلقد تفضل الله علينا بالإسلام ورحمنا بنبيه عليه وآله الصلاة والسلام، فأخرجنا من الجهالة الجهلاء إلى الأنوار واللألاء، فيحق لجميع اليمنيين أن يفرحوا بيوم جمعة رجب، ويقيموا في تلك المساجد الاحتفالات الدينية والمحاضرات المحمدية، ويربوا أجيالهم على ذلك حتى يعرفوا عظمة ما هنالك.
- العلامة محسن الرقيحي: يتم الاحتفال بهذه المناسبة انطلاقاً من قول الله تعالى "ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ"، وهذه المناسبة من أعظم الشعائر الإسلامية، كونها ذكرى إسلام اليمنيين،ن في أن يحتفلوا بها، ويتذكروا فيها مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما علم بإسلامهم.
- العلامة حسين أحمد السراجي: الاحتفاء بهذه المناسبة وجعلها عيداً فيه ذكرٌ وحمدٌ وثناءٌ وصلة أرحام وتفقد للفقراء والبائسين والإكثار من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر عظيم وسنة حسنة دعانا إليها العلي العظيم في محكم تنزيله ونبيه الهادي في صحيح مسنونه.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ".
"وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ".
وقال سول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا"، قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله؟، قال: "حِلَق الذكر".
 وقال سول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء".
فهل هناك أعظم من الابتهاج بالهداية والتوحيد المتضمن حمد الله وشكره والثناء عليه وصلة الأرحام والتوسعة على المحتاجين والصلاة على الهادي وآله؟.
بل إن كل واحدة من هذه الخصال تعد مشروعاً خيرياً متكاملاً يعتبر من صميم روح الإسلام وجوهر دعوته.
لعمري إن أهل الاحتفاء والبهجة، هم أهل قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :"ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله تعالى لا يريدون بذلك إلا وجه الله إلا ناداهم مناد من السماء: أن قوموا مغفوراً لكم قد بُدِلَت لكم سيئاتكم حسنات".

* فضائل أهل اليمن:
يقول مفتي الديار اليمانية العلامة شمس الدين شرف الدين الباشا: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكد منذ فجر الإسلام على الهوية وأن الدين سيكون له كلمته في أنحاء المعمورة على أيدي رجال من أهل اليمن، عندما، قال: " وأمدني بملوك حمير يأتون فيأخذون مال الله ويقاتلون في سبيل الله، وقوله لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم، وأشار بيديه إلى اليمن .
ويتحدث العلامة محمد بن علي الأهدل في كتابه: "نثر الدر المكنون في فضائل اليمن الميمون" عن نزول 6 آيات في فضائل أهل اليمن؛ منها سورة النصر، ومنها: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ" الى غيرها من الآيات، وورد فيهم 120 حديثاً، منها قول الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "أتاكم أهل اليمن أرق قلوبا وألين أفئدة، الإيمان يمان والحكمة يمانية والفقه يمان" "إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن" إلى غير ذلك من الأحاديث التي تبين مقام و مكانة أهل اليمن، ويكفيهم من عظيم الشأن نزول سورة بإسم سبأ.
يذكر أصحاب السير أن رسول الله صلى عليه وآله وسلم بعث عدة أشخاص الى اليمن منهم كما ذكرنا آنفاً معاذ بن جبل ومنهم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ومنهم خالد بن الوليد وأبو موسى الأشعري وغيرهم، وكان بعث النبي للإمام علي الى اليمن عدة مرات منها الى همدان ومنها الى زبيد ومنها الى مذحج ومنها الى نجران.
يقول الصحابي الجليل البراء بن عازب بعث النبي  صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد إلى اليمن، فكنت مع خالد، فأقمنا ستة أشهر يدعوهم الى الإسلام، فلم يجيبوه، ثم أن النبي بعث علياُ عليه السلام، فأمره أن يقفل خالداً، إلا رجلاً ممن كان مع خالد، أحب أن يعقب مع علي عليه السلام فليعقب معه.
 فبعث علياً - عليه السلام - وكنا فيمن عقّب على "علي" ثم صفّنا صفاً واحداً، وتقدم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  فأسلمت همدان جميعاً فكتب إلى رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم بإسلامهم، فلما قرأ صلى الله عليه وآله وسلم الكتاب خرّ ساجدا،ً ثم رفع رأسه، فقال: "السلام على همدان" ( كررها ثلاثاً ) ثم قال: "نعم الحي همدان، ما أسرعها إلى النصر، وأصبرها على الجهد، منهم أبدال، وفيهم أوتاد الإسلام."
يقول العلامة عدنان الجنيد: في أول جمعة من رجب أجتمع للإمام علي عليه السلام مع مشائخ همدان - آنذاك - وبعد أن أعلنوا إسلامهم على يديه بأجمعهم صلى بهم العصر في المكان المعروف حاليا بجامع علي في سوق الحلقة بصنعاء القديمة، وبعد أن أسلمت همدان، أسلمت جميع القبائل اليمنية.
وقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن همدان يعد دليلاً واضحا على ما هو واقع ويجري في عصرنا الحاضر"وما اصبرها على الجهد"، إذ لا يوجد شعبٌ من شعوب الأرض قد صبر هذا الصبر، رغم الحصار الجوي والبحري والبري من قبل تحالف عدوان العاصفة، والذي لا يزال مستمراً منذ ست سنوات.
وأجمع المسلمون على أن أهل اليمن جميعاً أسلموا على عهد رسول الله عكس غيرهم من الأقوام، ومن لطيف ما يرويه إبن جرير في تفسيره لقول تعالى: "ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا"، عن "عبدالله بن عباس"، قال: بينما رسول الله بالمدينة، إذ قال: "الله أكبر الله أكبر، جاء نصر الله والفتح وجاء أهل اليمن".
قيل يا رسول الله: وما أهل اليمن.
قال: "قوم رقيقة قلوبهم، لينة طباعهم، الإيمان يمان والحكمة يمانية".
وعن "جبير بن مطعم"، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يطلع عليكم أهل اليمن، كأنهم السحاب، هم خيرُ أجناد أهل الأرض".
ومن حديث "عمرو بن عنبسة"، مرفوعاً: "خيار الرجال رجال أهل اليمن، والإيمان يمان وأنا يمان"
ويكفي اليمنيين فخراً أن أول سابق الى الإسلام وشهيد فيه بمكة، هو: أبو عمار "ياسر بن عامر العنسي المذحجي".
وأول مسلم من أهل اليمن فيه كما يذكر صاحب "الإصابة والإستيعاب"، هو "ذؤيب الخولاني"، فسماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "عبدالله"، وأراد مدعي النبوة الأسود العنسي الكذاب، إحراقه بالنار، فلم تضره.
ونختم مبحثنا هذا بقول العلامة محمد بن علي الاهدل في كتابه القيم "نثر الدر المكنون في فضائل اليمن الميمون"، وكفى اليمن شرفاً أن يجد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم نفس الرحمن من قِبله، وسجوده شكراً لله تعالى على إسلام أهله، الذي دلّ مصدره ببرهان ساطع على سعة مداركهم وسلامة عقولهم ومعرفتهم الحق الواضح، وتمييزه عن الباطل، فكانوا أسرع الأمم انقياداً الى الدين الإسلامي، والإيمان به، بدون احتياج الى حرب أو مناقشات جدلية، وإنما عرفوا الحق فأذعنوا له وسلموا اليه طائعين.
لا يجهل أحدٌ دروس التاريخ أن أخلاق الأمم لا تتبدل إلا بمرور الأزمان الطويلة والأيام الكثيرة، لأن السنين العديدة بالنسبة لحياة الأمة كساعات يسيرة بالنسبة لحياة الفرد، فإذن نقدر أن نقول أن اليمن الذي خضع للدين الإسلامي منذ بزوغ نوره غير مقسور ولا مكره ولا معاند، يدلنا فعله على مكانة أهله في الجاهلية وأنهم كانوا على بينة من أمرهم وأن آثار العظمة الماضية لا زالت باقية في أخلاقهم، لهذا كانوا يسيرون مع الحق جنباً لجنب.
جاء الإسلام بنوره الساطع فأشرق على قلوبهم النيرة، ووجد مرتعاً خصباً في صدورهم الواسعة، فمنحهم إيماناً صادقاً، ومعرفةً حقةً، فاتبعوه في كل الأدوار، ولذلك لا ترى أغلبهم إلا في صف الإمام العادل منذ وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحتى عصرنا.