Translate

السبت، 7 مارس 2020

اليمنيون في موكب وليد الكعبة


 زيد يحيى المحبشي // 12 رجب 1441//  7 مارس 2020
نعيش في الثالث عشر من شهر رجب الأصب أجواء غامرة بالإيمان والبهجة، لمولد بطل الإسلام الأول، ووصي خاتم الأنبياء والمرسلين، وزوج ريحانة الرسول، ورجل المهمات الصعبة، والمواقف الخالدة، والمبادئ السامية، إمام المتقين ويعسوب المؤمنين وأبو المساكين أبو تراب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم عليه السلام.
إنه شهر رجب، أحد الأشهر الحُرم، وشهر الإمام علي التلميذ الأول في مدرسة النبوة المحمدية، والناصر والمعين، والحامي والذائد عن طليعة المؤمنين، وشهر إسلام أهل اليمن على يد الوصي أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين، وشهر التكريم الإلهي لرسوله الأمين صلى الله عليه وآله وسلم بمعجزة الإسراء، تفريجا وتنفيساً بعد صد أهل الطائف، وإعزازا وتمكيناً لدين الله بعد كفر وجحود وتعنت وصلف قريش.
 وكما كان لأهل اليمن قصب السبق في الاستجابة الطوعية لدين الله والإيمان برسالة رسول الله وتقدم صفوف الفاتحين، كان لهم قصب السبق في مبايعة الإمام علي عليه السلام ومناصرته وموالاته، ومن بعده أحفاده الى يوم الناس، حباً وعشقاً لمن أمر الله بحبهم ومودتهم في كتابه العزيز.
 ورغم ما ألحقه الولاء الحيدري من أذى وظلم واضطهاد لشريحة عريضة من اليمنيين، في عهود الدول الاسلامية المتناسلة من رحم المُلك "العضوض"، ما بعد أفول فترة الخلفاء الراشدين، بدءاً بدولة بني أمية – بلغ عدد من قتلهم معاوية بن أبي سفيان من أهل اليمن كنموذج بسيط أكثر من 30 ألفاً - ومروراً بدولة بني العباس ووصولاً الى دولة بني سعود الوهابية – قتلت في واقعة واحدة فقط عُرفت بواقعة تنومة 3000 حاج يمني ولا تزال يدها تقطر بدماء اليمنيين إلى يوم الناس -، ومع هذا لم يتغيّروا ولم يتبدّلوا، بل ازدادوا حُباً وعشقاً ووفاءاً، وهاهم اليوم كما كان أجدادهم يبادلون الوفاء بالوفاء لآل بيت المصطفى.
ويحتفظ لنا التاريخ بالكثير من الحقائق والشواهد على تجذر ولاء ومودّة ومحبّة الشعب اليمني لآل البيت عليهم السلام، منها على سبيل المثل لا الحصر:
1 ـ الدور المحوري الذي لعبه اليمنيين في نشر التشيع في العراق وإيران وغيرهما من البلدان الإسلامية، ودورهم في الدفاع عن آهل البيت، بدءاً من عهد الإمام علي عليه السلام وحتى وقتنا الحاضر، والتضحية بالنفس والولد والمال في سبيل الحق وأهله.
2 ـ دور اليمنيين في تدوين وحفظ تراث أهل البيت عليهم، ويذكر المؤرخون أن الكثير من رواة الحديث عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، هم من أهل اليمن.
3 ـ عدم خلو مجالس المناسبات الاجتماعية والدينية اليمنية من ذكر أهل البيت عليهم السلام، خصوصاً الإمام عليّ عليه السلام، ويتجلّى ذلك في ذكرى يوم الغدير، والتي أخذت حالة شعائرية تقليدية، توارثتها الأجيال وتفاعلت معها، حتى أصبح يوم الغدير من أهم الأعياد الدينية لدى الشعب اليمني بعد أعياد الجمعة والفطر والأضحى.
4 ـ اهتمام الشعب اليمني بتكريم وزيارة المراقد والمقامات الشريفة لذرية الإمام علي عليه السلام في اليمن، كقبر الإمام الهادي يحيى بن الحسين والإمام القاسم بن محمد وغيرهم من أئمة الهدى.
وكان اليمنيون قد تعرّفوا على شخصية الإمام علي عليه السلام كما يذكر المؤرخون من خلال:
1 - بعثات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للإمام علي عليه السلام الى اليمن، لدعوتهم إلى الإسلام، وتفقيههم في تعاليم دينهم، وإصلاح وتنظيم أحوالهم، والتي بلغت أكثر من أربع بعثات، شملت همدان ومذحج وزبيد ونجران وغيرها، ولا زال مسجد الإمام علي بسوق الحلقة في صنعاء القديمة ومحرابه بالجامع الكبير، شاهد على دوره الريادي في انتشال اليمنيين من براثن الجهل والظلام والتناحر الى فيحاء النور والضياء والفضيلة وسعادة الدارين.
2 - تعريف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفود القبائل اليمنية المتقاطرة على المدينة المنورة، بمكانة وفضل الإمام علي عليه السلام وسابقته في الدين وما نزل فيه من آيات الذكر الحكيم.
3 - شهود بعض وفود القبائل اليمنية حجّة الوداع، وواقعة غدير خمّ الشهيرة في السنة العاشرة للهجرة، وخطبة رسول الله عن ولاية الإمام علي عليه السلام بأمر العلي القدير.
وازدادت هذه المعرفة عمقاً بعد مبايعة الإمام علي عليه السلام في سنة 35 هجرية لخلافة المسلمين، وما تلاها من أحداث ومآسي ونوازل على أهل البيت عليهم السلام، بدءاً بشهيد المحراب الامام علي ومروراً بشهيد كربلاء الامام الحسين بن علي وشهيد الكُناسة الامام زيد بن علي بن الحسين، ووو، وإنتهاءاً بشهيد مران العلامة حسين بدرالدين الحوثي، كان اليمنيين أحد أهم فصولها والفاعل الرئيسي في أحداثها، مناصرين ومحامين وذائدين ومدافعين.
وليس هذا بغريب على بلدٍ "تكادُ أحجارهُ تتشيع"، فما بالكم بالبشر، وهذه لعَمري مكرمة ومزية من النادر أن نجد مثيلاً لها بين الشعوب الاخرى.

* وليد الكعبة:
ما أثير حول شخصية الإمام علي عليه السلام في الأوساط الإسلامية من جدل ولغط وصخب وضجيج وانقسام، لم يُثار حول أي شخصية في التاريخ البشري، وذلك لأننا أمام شخصية عظيمة لا تتكرر.
مولده سلام الله عليه ببيت الله الحرام في يوم الجمعة 13 رجب سنة 30 من عام الفيل، ولم يولد قبله ولا بعده مولود في الكعبة، وهذا أول تكريم وأول وسام له من الله، ويذكر الزركلي في الأعلام أن مولده عليه السلام سنة 23 قبل الهجرة، وفي تحديد اليوم بالميلادي يذكر الناطق بالحق أبي طالب يحيى بن الحسين بن هارون في الإفادة أنه في يوم 7 أيلول/ سبتمبر، وبحسب سنة الزركلي يكون مولده في عام 600 ميلادية.
يقول الرواة أن أبوطالب خرج يوماً يمشي هوناً، فزوجته فاطمة بنت أسد تتلوى من ألم المخاض، وعندما شاهده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سأله عن السبب، فأخبره بشأن أم الوصي، فأشار عليه بأخذها الى الكعبة، لتتعلق بأستارها، علّ الله يخفف عنها الألم، وجاءت الى الكعبة تسأل من الله تخفيف الألم وتسهيل الولادة، وما أسرع ما أنجبت وليدها المبارك، سماه والده "علياً"، وعمّت الفرحة قلب والده وإبن عمه محمد الصادق الأمين، ورفعت أمه رأسها الى السماء، تشكر ربها على هذه المكرمة التي خصها ووليدها بها.
وكانت أول يد تتلقفُ هذا المولود المبارك بعد أمه يد رسول الله، فكان له الأخ والمعلم والقدوة والمثل الأعلى، ولازمه كظله منذ طفولته، واستقى منه كل معاني الطهر والنقاء والفضيلة والزهد والتقى والورع والنبل والشهامة والكرم والبذل والعطاء والشجاعة والإقدام والتضحية، ونهل منه العلوم بشتى أنواعها، فصار في فترة وجيزة "الغرة الشاذخة" في أعيان زمانه في كل فنون المعرفة، بشهادة معلمه خاتم المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم: "أعلمكم علي"، و"الغرة الشاذخة" في أعيان زمانه في الشجاعة والعدل والزهد والورع وإدارة الدولة والتكتيك العسكري.
وتشرّب سلام الله عليه من معلمه ومربيه تعاليم السماء، حتى قال صلى الله عليه وآله وسلم فيه: "علي مع القرآن والقرآن مع علي".
وليس هذا بغريب على باب مدينة علم المصطفى: "والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيما نزلت وأين نزلت وعلى من نزلت، إن ربي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً صادقاً ناطقاً"، "سلوني عن كتاب الله، فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليلٍ نزلت أم بنهار، في سهل أم في جبل".
شارك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل معاركه وفتوحاته باستثناء معركة تبوك فقط، أستخلفه وهو القوي الأمين على المدينة المنورة، وكان رجل المهمات الصعبة في كل تلك المعارك، والفارس الذي لا يُشقُ له غبار.
وبعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بـ 24 عاماً تمت مبايعته بالخلافة في يوم الجمعة 18 ذي القعدة 35 هـ، وفي هذا اليوم كان غدير خم – الجمعة 18 ذي الحجة 10 هـ - ولهذا الاتفاق شأن عظيم كما يذكر المولى الحجة مجدالدين المؤيدي.
وفي سنة 36 هـ  قاتل الناكثين، وهم أصحاب الجمل طلحة والزبير، وعائشة وأتباعهم، وكان عدد القتلى 30 ألفاً.
وفي سنة 37 هـ قاتل القاسطين – معاوية وأهل الشام ومن معهم – بصفين وانقضت وقعاته عن 70 ألف قتيل،
منها: ليلة "الهرير" قتل فيها الامام علي عليه السلام 600 شخص، بـ 600 ضربة، مع كل ضربة تكبيرة.
وفي سنة 39 هـ  قاتل المارقين، وهم الخوارج بالنهروان.
ووفاته عليه السلام في 21 رمضان 40 هـ، بعد أن ضربه أشقى الآخرين عبدالرحمن بن ملجم يوم الجمعة 18 رمضان 40 هـ.
وهكذا انتقل سلام الله عليه من مرحلة الولادة بالحرم الشريف إلى مرحلة الحِراب، ذوداً عن حِياض الدين الخاتم، ليختمها بالشهادة في محراب مسجد الكوفة، فما عسانا قوله عن هذا العظيم في هذه الفسحة، وهو القائل عند مبايعته بالخلافة سنة 35 للهجرة: "والله لا يغيب عنكم رسول الله إلا عينه"، وكفاه من عظيم المجد نزول كرائم القرآن فيه، وإنزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، له في آية المباهلة بمنزلة نفسه: "قل تعالوا ندعو أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم".

* همدان درعي ورمحي:
يورد الشيخ "أصغر منتظر" في كتابه "أثر القبائل اليمنية في نُصرة أهل البيت عليهم السلام في القرن الهجري الأول" – وهو عبارة عن رسالة ماجستير - الكثير من المواقف عن مكانة الإمام علي عليه السلام عند اليمنيين، ومكانتهم عند الإمام علي، وأثرهم في تشكيل وظهور التشيع، ودورهم في مبايعة ومناصرة الامام علي "ع"، ومشاركته في كل المعارك التي خاضها، مؤكداً بأن لهم مواقف قوية ومؤثرة منذ اليوم الأول لمبايعة الامام بالخلافة بعد مقتل عثمان بن عفان بالمدينة المنورة سنة 35 للهجرة، حيث بلغ عدد المبايعين من اليمنيين 40 شخصاً في حين لم يتجاوز عدد المبايعين من النزاريين "القرشيين" 17 رجلاً.
وفي هذا دلالة على المكانة الرفيعة للإمام علي لدى اليمنيين، وهي امتداد لما لقيه عليه السلام من حفاوة لدى الهمدانيين عندما أتاهم داعياً للإسلام، فأسلموا جميعاً حباً وطواعية، وكانوا منذ رحيل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، مياّلين للإمام علي، لعدة أسباب كما عرفنا آنِفاً، وبعد مقتل عثمان أرسلوا وفداً من أكابرهم الى المدينة المنورة لمبايعة الامام علي والتعبير عن سرورهم بولايته.
ولعظيم مكانتهم لدى الامام علي عليه السلام أرسل منهم في ولايته 37 رجلاً الى الأقاليم المختلفة في المجتمع الإسلامي، توزعوا ما بين إيران والعراق والجزيرة العربية وبلاد الشام، مما يدل على سلطتهم التي تزيد كثيراً عن نسبة الوجود العدناني "القيسي"، وفي معارك الجمل وصفين والنهروان، يظهر لليمنيين الأثر البارز، بحيث إن من بين 35 قائداً من قادة الإمام علي عليه السلام في معركة الجمل، 13 قائداً من أصل يمني، و18 من أصل نزاري "عدناني".
ومما يفتخر به اليمنيون، شنهم في حرب صفين حملة واسعة بقيادة مالك الأشتر النخعي اليماني على جيش الخصم، شارك فيها من أبناء قبيلة همدان اليمنية 800 فارس، وثبتوا في المعركة حتى استشهد منهم 180.
ومما يفتخر به اليمنيون في معركة صفين شهادة الصحابي الجليل عمار بن ياسر العنسي المذحجي اليماني وبعض الأصحاب من اليمنيين، ويُعَدُّ استشهاده رضي الله عنه دليلاً عن كون الإمام علي عليه السلام إمام "الفئة العادلة"، ومعاوية إمام "الفئة الباغية"، مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " عمار مُلئ إيماناً من رأسه الى أخمص قدميه وستقتله الفئة الباغية"، وكان عمار يومها يقاتل في صف الإمام علي.
وممن استشهد من اليمنيين الى جانب عمار من القادة الكبار، والذين كان لاستشهادهم أثر بالغ في إضعاف موقف الإمام علي عليه السلام، خزيمة بن ثابت وعبدالله بن بديل الخزاعي وأبو الهيثم بن التيهان.
وفي همدان يقول الإمام علي عليه السلام، كما يروي العلامة الحُجة "مجدالدين بن محمد المؤيدي" في كتابه "التحف شرح الزلف": "يا معشر همدان أنتم درعي ورمحي، وما نصرتم إلا الله ورسوله، وما أجبتم غيره".
ومن ذلك قصيدته الغراء سلام الله عليه، التي قلّد فيها قبائل اليمن في معركة صفين، كما يذكر المؤرخين "وسام الفخر" الى يوم القيامة:
ولما رأيتً الخيل تقرع بالقنى .. فوارسها حُمرُ النحور دوامي
ونادى ابنُ هند في الكلاع ويحصب .. وكندة في لخم وحي جذام
تيمَّمتُ همدان الذين هُمُ هُم .. إذا ناب أمرٌ جُنّتي وسهامي
فناديتُ فيهم دعوةً فأجابني .. فوارسٌ من همدان غير لئام
فوارس ليسوا في الحروب بُعزَّلٍ .. غُداة الوغى من شاكر وشبام
ومن أرحب الشُم المطاعين بالقنى .. ونهم وأحياء السبيع ويام
ووادعة الأبطال يخشى مصالها .. بكل صقيل في الأكُفِ حسام
ومن كل حيٍ قد أتتني فوارسٌ .. كِرامٌ لدى الهيجاء أي كرام.
الى أن قال سلام الله عليه:
جزى الله همدان الجنان فإنهم .. سمام العدا في كل يوم سمام
لهم تُعرفُ الرايات عند اختلافها .. وهم بدؤا للناس كلَّ لحام
رجالٌ يحبّون النبي ورهطه .. لهم سالفٌ في الدهر غير أيام
همُ نصرونا والسيوف كأنها .. حريقٌ تلَظَّى في هشيم ثُمام
لهمدان أخلاقٌ ودينٌ يُزينُها .. وبأسٌ إذا لقوا وحدُّ خِصام
وجدٌّ وصدقٌ في الحديث ونجدةٌ .. وعلمٌ إذا قالوا وطيبُ كلام
فلو كنت بوَّاباً على باب جنة .. لقلت لهمدان ادخلوا بسلام.
ومن روائع رسائل الإمام علي عليه السلام الى ولاته، رسالته الى مالك الأشتر النخعي اليماني، والتي كانت بمثابة الدستور المنظم لعمل الحكام، وتنظيم العلاقة بين مكونات الدولة المختلفة وبينها وبين الرعية، والحقوق والواجبات التي تخص كل فئة، وهي من أهم الوثائق التي تُدرّس لطلاب العلوم السياسية في أعرق الجامعات الغربية.
هؤلاء هم اليمنيين أهل الولاء والعشق للحق وأربابه، وذلك هو إمام المتقين، الحاكم الذي حكم الناس 5 سنوات تحت شعار: "المال مال الأمة والفقراء مسؤولية الحكومة".
وكانوا عنده في الحق سواء، وخاطبهم: "إنما أنا رجل منكم، لي ما لكم، وعلي ما عليكم".
جاع مع شعبه، وعاش بين الفقراء، وضد الفقر، ومع المحرومين، وضد الحرمان، ومع الجماهير، وضد الطغيان.
وقاوم كل أشكال الظلم، والعنصرية، والاستحواذ، والفساد، والاستغلال، والاحتكار، والاستعباد.
ورفض النصر بالجور، والحكم بالمخادعة، والاستقرار بالاستسلام.
وخاض أكثر من 60 حرباً، ولم يكن لديه أي مانع من أن يقاتل جيشاً كاملاً، إذا تعدّى هذا الجيش على مظلومٍ واحدٍ حتى يأخذ حقه منهم.
فأين نحن من سيرته وأين حكام العرب والمسلمين من نهجه، ومما يفعله شذاذ بني "سعود" وبني "نهيان" باليمنيين، للسنة السادسة على التوالي، من مجازر وجرائم وفظائع، تقشعر لها أبدان جن بني الأصفر، ولا يرف لها جفن أحدٍ من حكام العرب والمسلمين المتخمين بالخزي والعار والشنار؟؟.

الأربعاء، 26 فبراير 2020

اليمنيون يحتفلون بإسلام أجدادهم في الجمعة الأولى من رجب



زيد يحيى المحبشي 26 فبراير 2020
"للجمعة الأولى من شهر رجب أهمية وذكرى مميزة وعزيزة، من أعز وأقدس الذكريات لشعبنا اليمني المسلم العزيز، وتعد أيضًا من الصفحات البيضاء الناصعة في تاريخ شعبنا المسلم، هذه الذكرى هي واحدة من ذكريات ارتباط شعبنا العزيز بالإسلام العظيم، في الجمعة الأولى، حيث التحق عدد كبير من أبناء اليمن بالإسلام، في ذكرى تاريخية عظيمة ومقدسة ومهمة.
ولذلك هي مناسبة مهمة في الحفاظ على هوية شعبنا المسلم، وفي تجذير وترسيخ هذه الهوية لكل الأجيال الحاضرة والمستقبلية، الهوية التي يمتاز بها شعبنا اليمني، الهوية الإسلامية المتأصلة، هي تعود إلى تاريخ أصيل لهذا الشعب، فعلاقته بالإسلام، وارتباطه بالإسلام، وإقباله على الإسلام منذ فجره الأول كان على نحوٍ متميز، وعلى نحو عظيم.
وفي الجمعة الأولى من شهر رجب كان هناك الإسلام الواسع لأهل اليمن، والذي أسس لهذه المناسبة في الذاكرة والوجدان التاريخي لأهل اليمن، فكانت مناسبة عزيزة يحتفي بها أهل اليمن، في كل ما تأتي هذه المناسبة في كل عام، الجمعة الأولى من شهر رجب، وما عرف في الذاكرة الشعبية بالرجبية.
فإذاً هذا الإقبال والواسع إلى الإسلام طوعًا ورغبةً وقناعةً، وكان دخولًا صادقًا وعظيمًا ومتميزًا، أهل اليمن سواءً من كان منهم مهاجراً في مكة مثل عمار وأسرته، والمقداد وغيرهما، مثلما هي حكاية الأنصار في يثرب المدينة، مثلما هو الواقع للوفود التي توافدت من اليمن والجماهير التي دخلت في الإسلام.
عندما أتى الإمام علي عليه السلام، هو أتى حسب الاستقراء التاريخي لثلاث مرات إلى اليمن، وفي البعض منها كان يبقى لشهور متعددة يدعو إلى الإسلام، ويعلِّم معالم الإسلام، وينشط في الواقع الشعبي والمجتمعي، وتنظيم الحالة القائمة في البلد على أساس تعاليم الإسلام ونظام الإسلام، ومبتعثين آخرين أيضا أكملوا الدور في بعض المناطق كما هو معاذ بن جبل، وهكذا نجد أنَّ الدخول اليمني، والتاريخ اليمني، والهوية اليمنية الأصيلة المرتبطة بالإسلام ارتباطاً وثيقاً ودخولاً كلياً.
الجمعة الأولى من رجب، والتي كان فيها دخول جماعي وكبير في دين الله أفواجاً، على يد الإمام علي “عليه السلام”، بقي اليمنيون- على مر التاريخ- يحتفون بهذه الذكرى؛ لأنها ذكرى للنعمة الإلهية، للتوفيق الإلهي، والله “سبحانه وتعالى” يحث عباده على التذكر للنعم، وفي مقدمتها نعمة الهدى، وهي أعظم النعم على الإطلاق، ونعم الله “سبحانه وتعالى” جديرة بالتذكر، والتذكر للنعم والتذكير بها هو عامل مساعد في التقدير لها؛ وبالتالي الشكر للنعمة، بكل ما يترتب على الشكر من المزيد من رعاية الله سبحانه وتعالى وإنعامه".
بهذه الكلمات النفّاعة اختزل السيد عبدالملك الحوثي عظمة وماهية وأهمية الجمعة الأولى من شهر رجب، ومكانتها في ذاكرة ووجدان وتاريخ اليمنيين.
الجمعة الأولى من شهر رجب يوم من أيام الله وعيد من أعياد الله، اعتاد اليمنيين كابر عن كابر تعظيمه وإظهار كل مباهج الفرح والسرور فيه، وهو لا يقل أهمية ومكانة وقداسة في حياتهم عن أعياد الفطر والأضحى والغدير والهجرة والمولد النبوي الشريف والإسراء، يحييونه بالحمد والشكر على ما إمتنّ الله به على أبائهم من نعمة إعتناق دين الرحمة المهداة، والإيمان برسالة خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آل الطيبين الطاهرين، طواعية، بلا جدال ولا مماراة ولا وخوف، بل حُباً وعِشقاً للحق وأربابه.
تُرافق الاحتفال بذكرى دخول الإسلام إلى اليمن طقوس متوارثة منذ مئات السنين، ففي السنة التاسعة للهجرة دخل الإسلام إلى اليمن، وتحديدا في أول جمعة من شهر رجب حينما وصل الصحابي الجليل مُعاذ بن جبل إلى منطقة الجَنَد بمحافظة تعز، ليبني أول جامع حيث وقفت ناقته، ويدعو الناس إلى الدين الجديد، فدخل اليمنيون في دين الله أفواجا ولا زالت الصوفية تحتفل بهذه الذكرى العظيمة في ذات المكان والزمان الى يومنا، يخرج الناس رجالاً ونساءً وأطفالاً إلى جامع الجند، يستمعون الخطب والأناشيد والمدائح النبوية التي تقام على هامش الذكرى, ويمكثون أياماً يعيشون خلالها أجواء الإسلام وتاريخ الإسلام في اليمن.
وفي عيد رجب تظهر كل مباهج الأعياد من فرح ومرح وإبتهاج وغبطة ولبس لجديد الثياب، وتطيب وتطييب للبيوت والجوامع بأنواع البخور ورشها بماء الورد، والتوسعة على الأهل والأولاد، وتبادل الزيارات والهدايا والتهاني وصلة الأقارب والأرحام، وإختضاب النساء والفتيات بالحناء والنقش، وذبح الذبائح وتوزيعها على الفقراء والمساكين والأرحام، وإقامة الولائم، وشراء الحلوى وتوزيعها على الأطفال المبتهجين، وإقامة الندوات والاحتفالات وإنشاد الموشحات الدينية في المساجد والمقايل والصالات، وتذاكر ما كان عليه الفاتحين من أجدادهم من محامد الأخلاق والشجاعة والإقدام والنجدة والعزة والنخوة والإباء وإغاثة الملهوف والتفريج عن المكروب ونصرة المظلوم ورفض الضيم.

* مشروعية الاحتفال:
دأبت الجماعات التكفيرية على محاربة كل ما يذكر الناس بدينهم ونبيهم، بدعاوى ما أنزل الله بها من سلطان، وتفسيق وتكفير وتبديع المحتفين من المؤمنين والموحدين بميلاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو هجرته أو ذكرى الإسراء أو عيد الغدير أو عيد الجمعة الأولى من رجب ذكرى دخول أجداد اليمنيين الإسلام ..، دون أن يكون لديهم أي دليل عقلي أو منطقي أو نصي مقنع، بل مجرد أهواء تُتبع ونزوات تُبتدع وعصبيات جاهلية تُخترع، خدمة لأولياء نعمتهم من الملوك والسلاطين، وهذه أم الأثافي.
ولنا هنا أن نسألهم: ما المحرمات المرتكبة في إحياء ذكرى عيد جمعة رجب على سبيل المثال كي يستشيطوا غضباً ضد المحتفين بها، قد ربما هي مظاهر البهجة والشكر بما تكرّم الله به على أباء اليمنيين من نعمة الإسلام وسجود خير الأنام شكرا لإسلامهم، وقد ربما يكون تذكر ما كان عليه جيل الفاتحين من الأنصار والمهاجرين من تفاني في خدمة ونشر الدين الخاتم، وقد ربما ما يرافق ابتهاج اليمنيين بدخول أجدادهم الاسلام وما يصاحبها من فعاليات تذكر الأحفاد بهويتهم الإيمانية، وقد ربما يكون ما سبق من الكبائر الموجبة لغضب وسخط الجبار، هكذا فهمهم للأسف، لكن ما رأي علماء الدين في الاحتفال بجمعة رجب؟.
- العلامة يحيى بن حسين الديلمي: قد يشوه البعض على هذه الذكرى العطرة، فيقول هؤلاء: أنها بدعة، والبدعة مالا أصل له في الإسلام – مالا يوجد له أصل في الإسلام فهو بدعة – والقرآن يخبرنا آمِراً ومرشداً أن نفرح برحمة الله وبفضله، ومعلوم أن الإسلام رحمة والقرآن رحمة والرسول صلى الله عليه وآله وسلم رحمة "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ"، أن يتغنى الإنسان ويبتهج بأنه انتقل من الضلال إلى الهدى، من العذاب إلى الرحمة، من الشر إلى الخير؛ ويجعلها مناسبة "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ".
ثم كان الناس في جمعة رجب يلبسون الجديد ويتزاورون؛ ويلقي بعضهم على بعض تحية العيد، فلا أدري أين تكمن البدعة؟؛ وبالتالي يتذاكر اليمنيون قصة إسلام أهل اليمن، وكيف دخلوا في دين الله أفواجاً؟، ولماذا سجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين أتاه خبر إسلام أهل اليمن؟.
 خصوصا تلك القبائل التي أقبلت على الإسلام من دون مجادلة، ومن دون معاندة وقتال ونزل قول الله تعالى "إذا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً".
- العلامة عدنان الجنيد: إحياء ليلة جمعة رجب والاحتفال بيومها، داخلة في عموم قوله تعالى: "وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ"، وقوله تعالى: "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ"
فالآية الأولى تشير إلى أن تعظيم شعائر الله تُعد من التقوى، والشعائر هي معالم الدين - كما قال المفسرون - وإذا كانت مناسك الحج تسمى بالشعائر،  فإنما لكونها علامات للتوحيد والدين الحنيف، وكل ما هو شعيرة لدين الله فإن تعظيمه مما يقرب إلى الله، ولاشك بأن مسجد الجند ومسجد الأشاعر والجامع الكبير الذين أشرق نور الإسلام منهم من أبرز علامات دين الله تعالى، وتخليد هذه المناسبة فيهم مما يقرب إلى الله تعالى .
وأما الآية الثانية فهي تأمرنا بأن نفرح بفضل الله وبرحمته المهداه، نعم فلقد تفضل الله علينا بالإسلام ورحمنا بنبيه عليه وآله الصلاة والسلام، فأخرجنا من الجهالة الجهلاء إلى الأنوار واللألاء، فيحق لجميع اليمنيين أن يفرحوا بيوم جمعة رجب، ويقيموا في تلك المساجد الاحتفالات الدينية والمحاضرات المحمدية، ويربوا أجيالهم على ذلك حتى يعرفوا عظمة ما هنالك.
- العلامة محسن الرقيحي: يتم الاحتفال بهذه المناسبة انطلاقاً من قول الله تعالى "ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ"، وهذه المناسبة من أعظم الشعائر الإسلامية، كونها ذكرى إسلام اليمنيين،ن في أن يحتفلوا بها، ويتذكروا فيها مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما علم بإسلامهم.
- العلامة حسين أحمد السراجي: الاحتفاء بهذه المناسبة وجعلها عيداً فيه ذكرٌ وحمدٌ وثناءٌ وصلة أرحام وتفقد للفقراء والبائسين والإكثار من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر عظيم وسنة حسنة دعانا إليها العلي العظيم في محكم تنزيله ونبيه الهادي في صحيح مسنونه.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ".
"وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ".
وقال سول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا"، قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله؟، قال: "حِلَق الذكر".
 وقال سول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء".
فهل هناك أعظم من الابتهاج بالهداية والتوحيد المتضمن حمد الله وشكره والثناء عليه وصلة الأرحام والتوسعة على المحتاجين والصلاة على الهادي وآله؟.
بل إن كل واحدة من هذه الخصال تعد مشروعاً خيرياً متكاملاً يعتبر من صميم روح الإسلام وجوهر دعوته.
لعمري إن أهل الاحتفاء والبهجة، هم أهل قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :"ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله تعالى لا يريدون بذلك إلا وجه الله إلا ناداهم مناد من السماء: أن قوموا مغفوراً لكم قد بُدِلَت لكم سيئاتكم حسنات".

* فضائل أهل اليمن:
يقول مفتي الديار اليمانية العلامة شمس الدين شرف الدين الباشا: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكد منذ فجر الإسلام على الهوية وأن الدين سيكون له كلمته في أنحاء المعمورة على أيدي رجال من أهل اليمن، عندما، قال: " وأمدني بملوك حمير يأتون فيأخذون مال الله ويقاتلون في سبيل الله، وقوله لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم، وأشار بيديه إلى اليمن .
ويتحدث العلامة محمد بن علي الأهدل في كتابه: "نثر الدر المكنون في فضائل اليمن الميمون" عن نزول 6 آيات في فضائل أهل اليمن؛ منها سورة النصر، ومنها: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ" الى غيرها من الآيات، وورد فيهم 120 حديثاً، منها قول الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "أتاكم أهل اليمن أرق قلوبا وألين أفئدة، الإيمان يمان والحكمة يمانية والفقه يمان" "إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن" إلى غير ذلك من الأحاديث التي تبين مقام و مكانة أهل اليمن، ويكفيهم من عظيم الشأن نزول سورة بإسم سبأ.
يذكر أصحاب السير أن رسول الله صلى عليه وآله وسلم بعث عدة أشخاص الى اليمن منهم كما ذكرنا آنفاً معاذ بن جبل ومنهم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ومنهم خالد بن الوليد وأبو موسى الأشعري وغيرهم، وكان بعث النبي للإمام علي الى اليمن عدة مرات منها الى همدان ومنها الى زبيد ومنها الى مذحج ومنها الى نجران.
يقول الصحابي الجليل البراء بن عازب بعث النبي  صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد إلى اليمن، فكنت مع خالد، فأقمنا ستة أشهر يدعوهم الى الإسلام، فلم يجيبوه، ثم أن النبي بعث علياُ عليه السلام، فأمره أن يقفل خالداً، إلا رجلاً ممن كان مع خالد، أحب أن يعقب مع علي عليه السلام فليعقب معه.
 فبعث علياً - عليه السلام - وكنا فيمن عقّب على "علي" ثم صفّنا صفاً واحداً، وتقدم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  فأسلمت همدان جميعاً فكتب إلى رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم بإسلامهم، فلما قرأ صلى الله عليه وآله وسلم الكتاب خرّ ساجدا،ً ثم رفع رأسه، فقال: "السلام على همدان" ( كررها ثلاثاً ) ثم قال: "نعم الحي همدان، ما أسرعها إلى النصر، وأصبرها على الجهد، منهم أبدال، وفيهم أوتاد الإسلام."
يقول العلامة عدنان الجنيد: في أول جمعة من رجب أجتمع للإمام علي عليه السلام مع مشائخ همدان - آنذاك - وبعد أن أعلنوا إسلامهم على يديه بأجمعهم صلى بهم العصر في المكان المعروف حاليا بجامع علي في سوق الحلقة بصنعاء القديمة، وبعد أن أسلمت همدان، أسلمت جميع القبائل اليمنية.
وقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن همدان يعد دليلاً واضحا على ما هو واقع ويجري في عصرنا الحاضر"وما اصبرها على الجهد"، إذ لا يوجد شعبٌ من شعوب الأرض قد صبر هذا الصبر، رغم الحصار الجوي والبحري والبري من قبل تحالف عدوان العاصفة، والذي لا يزال مستمراً منذ ست سنوات.
وأجمع المسلمون على أن أهل اليمن جميعاً أسلموا على عهد رسول الله عكس غيرهم من الأقوام، ومن لطيف ما يرويه إبن جرير في تفسيره لقول تعالى: "ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا"، عن "عبدالله بن عباس"، قال: بينما رسول الله بالمدينة، إذ قال: "الله أكبر الله أكبر، جاء نصر الله والفتح وجاء أهل اليمن".
قيل يا رسول الله: وما أهل اليمن.
قال: "قوم رقيقة قلوبهم، لينة طباعهم، الإيمان يمان والحكمة يمانية".
وعن "جبير بن مطعم"، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يطلع عليكم أهل اليمن، كأنهم السحاب، هم خيرُ أجناد أهل الأرض".
ومن حديث "عمرو بن عنبسة"، مرفوعاً: "خيار الرجال رجال أهل اليمن، والإيمان يمان وأنا يمان"
ويكفي اليمنيين فخراً أن أول سابق الى الإسلام وشهيد فيه بمكة، هو: أبو عمار "ياسر بن عامر العنسي المذحجي".
وأول مسلم من أهل اليمن فيه كما يذكر صاحب "الإصابة والإستيعاب"، هو "ذؤيب الخولاني"، فسماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "عبدالله"، وأراد مدعي النبوة الأسود العنسي الكذاب، إحراقه بالنار، فلم تضره.
ونختم مبحثنا هذا بقول العلامة محمد بن علي الاهدل في كتابه القيم "نثر الدر المكنون في فضائل اليمن الميمون"، وكفى اليمن شرفاً أن يجد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم نفس الرحمن من قِبله، وسجوده شكراً لله تعالى على إسلام أهله، الذي دلّ مصدره ببرهان ساطع على سعة مداركهم وسلامة عقولهم ومعرفتهم الحق الواضح، وتمييزه عن الباطل، فكانوا أسرع الأمم انقياداً الى الدين الإسلامي، والإيمان به، بدون احتياج الى حرب أو مناقشات جدلية، وإنما عرفوا الحق فأذعنوا له وسلموا اليه طائعين.
لا يجهل أحدٌ دروس التاريخ أن أخلاق الأمم لا تتبدل إلا بمرور الأزمان الطويلة والأيام الكثيرة، لأن السنين العديدة بالنسبة لحياة الأمة كساعات يسيرة بالنسبة لحياة الفرد، فإذن نقدر أن نقول أن اليمن الذي خضع للدين الإسلامي منذ بزوغ نوره غير مقسور ولا مكره ولا معاند، يدلنا فعله على مكانة أهله في الجاهلية وأنهم كانوا على بينة من أمرهم وأن آثار العظمة الماضية لا زالت باقية في أخلاقهم، لهذا كانوا يسيرون مع الحق جنباً لجنب.
جاء الإسلام بنوره الساطع فأشرق على قلوبهم النيرة، ووجد مرتعاً خصباً في صدورهم الواسعة، فمنحهم إيماناً صادقاً، ومعرفةً حقةً، فاتبعوه في كل الأدوار، ولذلك لا ترى أغلبهم إلا في صف الإمام العادل منذ وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحتى عصرنا.

الاثنين، 24 فبراير 2020

المهريون عنوان المجد اليماني القادم


زيد يحيى المحبشي 25 فبراير 2020
قبل مجيئ الاحتلال السعودي في نوفمبر 2017 ، كانت المهرة تنعم باستقرار سياسي واقتصادي وأمني نسبي مقارنة بالمحافظات اليمنية الأخرى، وكان المجلس العام والسلطة المحلية محيدين سياسياً، وكانت الميزانية التشغيلية للمحافظة بفضل الإيرادات الجمركية للمنافذ، قادرة على تأمين رواتب موظفي الخدمة المدنية، على عكس المحافظات الأخرى، لكن الصورة بعد نشر القوات السعودية فيها، تغيرت 180 درجة، ودخلت المحافظة مرحلة جديدة من الصراع والاستقطاب السياسي والشرخ المجتمعي حول النفوذ والوجود الأجنبي.
وهذه واحدة من أكثر جرائم عدوان تحالف العاصفة بشاعة، نجحت الرياض في إحداث انقسام سياسي غير مسبوق بالمهرة، طالت شظاياه السلطة المحلية والمجلس العام ومشائخ القبائل، بهدف اغراق المحافظة في مستنقع الصراع الداخلي، لكن الاحتلال لم يفلح حتى الان ولن يفلح،  بسبب "العادات والتقاليد" القبلية المحلية، التي تؤكد على وحدة وتماسك أبناء المهرة والتسوية السلمية للنزاعات، مهما كانت الصعوبات المحيطة بهم، والتي كانت على الدوام الحصن المنيع في وجه أعاصير التقسيم والتفتيت.
انقسام سياسي فج بين "مؤيد" و"معارض" للوجود السعودي، وغضب شعبي متنامي، جعل السلطان "عبدالله بن عيسى آل عفرار"، باعتباره رئيس المجلس العام وأحد الشخصيات الأكثر تأثيراً في المجتمع المهري، يُبدي معارضته للجيش السعودي بصفته الشخصية كمواطن، لا بصفته كرئيس للمجلس العام، وذلك للحفاظ على حياد المجلس، وعدم التسبب بعزل الأعضاء المنحازين للسعودية، وفي نفس الوقت احتضان الغضب الشعبي المتصاعد.
 ولم تكتف الرياض بعسكرة الصراع بل وقامت بعزل كل من يعترض طريقها من قيادات المحافظة وفي مقدمهم المحافظ السابق "بن كده" ووكيل المحافظة السابق "الحريزي" ومدير أمن المحافظة السابق "قحطان"، وتنصيب موالين وإيجاد أجهزة أمنية بديلة ..الخ.

* مستمرون في مواجهة الاحتلال:
مثلما قاوم سكان المهرة الاحتلال الاماراتي 2015 - 2017 لمحافظتهم، لم يرضخوا للاحتلال السعودي منذ اليوم الأول لتدنيس قواته أرضهم أواخر عام 2017، عبر تنظيم الاحتجاجات والوقفات والمهرجانات والاعتصامات، والاشتباكات المسلحة، وعرقلة مرور القوات السعودية، وإعاقة استحداث الثكنات العسكرية، ومنع عمليات شق الطرق ووضع العلامات الخاصة بتمديد انبوب النفط السعودي، والأهم من هذا مقاطعة رموز المهرة ووجاهاتها الاجتماعية والسياسية الفاعلة "مؤتمر واتفاق" الرياض، ورفع مذكرة احتجاجية تحذيرية في 14 أبريل 2019 للرئيس المستقيل "هادي" وحكومته وبرلمانه، رفضوا فيها صفقات أنابيب وقناة بحر العرب، وقضم حدود الخراخير.
زيادة حركة الاحتجاجات والتظاهر ضد التواجد السعودي ردة فعل طبيعية فرضتها عدة معطيات، أهمها:
1- تزايد أعداد القوات السعودية المتواجدة بالمهرة، وإنشاء العديد من المعسكرات لهذه القوات.
2- تزايد عدد الحواجز ونقاط التفتيش التي اقيمت على الطرقات في المحافظة الى جانب المنطقة الحدودية والمنافذ البرية مع سلطنة عمان.
3– محاربة الناس في أرزاقهم بسيل من الاجراءات التعسفية على واردات اليمن عبر المنافذ البرية الحدودية، ومضايقة الصيادين ورعاة المواشي، ومنع الاصطياد، واعتقال بعضهم على خلفية اعتراضهم على تحويل موقع الإنزال الرئيسي لقوارب الصيد في مديرية سيحوت إلى منشأة عسكرية سعودية.
4– قتل المتظاهرين السلميين الرافضين للوجود السعودي بالأباتشي ورصاص الميليشيات القادمة من خارج المحافظة وبعضها تم استقدامه من خارج اليمن، وبإشراف مباشر من سفير السعودية لدى اليمن "محمد آل جابر" ومحافظ المهرة المعين من قبل السعودية "راجح باكريت".
5 - اختطاف الوجاهات الاجتماعية والمواطنين والناشطين والصحفيين المعارضين  للاحتلال ونقل بعضهم الى الرياض كما حدث في منفذ الشحن بتاريخ 9 ديسمبر 2019.
6 – تزايد عمليات الإخفاء القسري والسجن والتعذيب والتهديد والاعتقال التعسفي لمن ينتقد الوجود السعودي والتحقيق معهم خارج إطار القانون.
7 - قمع حرية الرأي والاعتداء على الممتلكات الخاصة وتجريف الوظائف العامة وفصل العشرات من الموظفين العموميين بسبب معارضتهم للاحتلال، وتعيين آخرين موالين للسعودية.
8 - اغتيال وتصفية العديد من أئمة وخطباء المساجد والشخصيات الاجتماعية، ومداهمة المنازل ونهبها.
9 - توزيع أسلحة على بعض القبائل الموالية كقبائل "بوقي بن حميد"، من أجل ضرب المهريين ببعضهم، وقد أعرب زعماء قبائل المهرة في أكثر من مناسبة عن قلقهم المتزايد من تأثير عسكرة المحافظة على السلام والتماسك والهوية الاجتماعية.
10 - بناء السجون والمعتقلات السرية، وتنشيط أماكن للقتلة المأجورين، وأكثرها فضاعة المعتقل السري بمطار الغيضة.
ومن النكات المتداولة بين المهريين عند مناقشتهم قضايا الحرب أو السياسة أو الوجود السعودي: "شكلك تشتي تروح المطار"، في اشارة الى ما يجري من انتهاكات لا انسانية في سجن  مطار "الغيضة"، والذي حوّلته القوات السعودية الى قاعدة عسكرية محرم على أبناء المهرة الاقتراب منها، تمارس فيه كل الفظائع، ما أعاد للذاكرة المهرية فظائع سجن "أبو غريب" العراقي، وبالتالي تحفظهم عن توجيه أي نقد علني للسعودية خصوصاً خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2018 وما شهدته من تعتيم مريب حول العمليات المدعومة سعودياً في المحافظة.
11 – اغراق محافظة المهرة والمنافذ الحدودية مع سلطنة عمان بالجماعات الدينية المتطرفة، والتي تم استقدامها من محافظات يمنية اخرى ومن خارج اليمن، وتشجيعهم على شراء الأراضي كما حدث في مدينة "قشن"، وتوزيعهم على بعض المساجد، وإنشاء مراكز دينية لهم، كخطوة لتعزيز وجودها العسكري، وفرض خطاب ديني يتماشى مع سياسات الرياض، الهادفة إلى خلخلة وضرب وتقويض السلم المجتمعي وتغيير النسيج الاجتماعي للمحافظة، وإشاعة خطاب ديني متطرف يمارس التحريض على أي مظاهر مدنية في المحافظة، ويتبنى التكفير ضد أي مطالب سياسية أو اجتماعية.
ووفقا لصحيفة "الإندبندنت" البريطانية، شجعت السعودية الجماعات المتطرفة على الانتقال إلى المهرة، التي تعارض بشدة التفسيرات المتطرفة للإسلام وتعتبر السلفية تهديداً لها، ويتبع المهريون نسخة معتدلة نسبياً من الإسلام السني، ويرفضون الأيديولوجيات المحافظة المتطرفة مثل السلفية.
12 – تسريب وثائق سرية تؤكد سعي الاحتلال السعودي لمد انبوب لتصدير نفطه عبر السواحل المهرية.
هذه الأمور مجتمعة جعلت أبرز قادة ووجاهات المهرة، مثل وكيل المحافظة السابق الشيخ "علي سالم الحريزي" والسلطان "عبدالله بن عيسى آل عفرار" وقائد شرطة المهرة السابق "أحمد محمد قحطان" ومعهم الألاف من المهريين الأحرار، يعتبرون السعودية، "قوة احتلال" في سعيها لاستغلال موارد المهرة.
28 شهراً من الاحتجاجات السلمية المتواصلة، محركها المطالبة برحيل قوات الاحتلال السعودي واحترام السيادة اليمنية وتسليم المنافذ البرية والبحرية للسلطات المحلية، وخروج القوات السعودية والميليشيات الموالية من مطار الغيضة المدني، وإقالة المحافظ الموالي للاحتلال راجح باكريت؛ لتواطئه مع أطماع المحتلين في السيطرة على المحافظة وعبثه بالمال العام – تم استبداله في 23 فبراير 2020 بمحمد ياسر في محاولة بائسة لتهدئة الغضب الشعبي المتصاعد بعد أن انتقلت الاحتجاجات السلمية إلى الاشتباكات العسكرية -، ومنع استحداث مواقع عسكرية تحاول السعودية بين الفينة والأخرى إنشاءها في مناطق مختلفة من المحافظة، ورفض تمرير صفقة الانبوب والقناة.
وضوح في المنطلقات مند الاعتصام الاول لهم حول منزل السلطان عبدالله بن عيسي آل عفرار 9 مايو  2018 ، وإعلانهم مطالبهم الستة الشهيرة التي لا زالت حتى اللحظة غير قابلة للمساومة والتفريط، هذا ما نريده:
1 - إعادة تنصيب إدارة وإجراءات محلية في منفذي شحن وصرفيت وميناء نشطون الخاضعين للإشراف السعودي.
 2 -  تمكين السلطة المحلية بالكامل من اتخاذ قرارات الحكم في المهرة.
 3 - ضم القوات السعودية بالوكالة وتلك الخاضعة لسلطة المحافظ إلى السلطة المحلية.
 4 - عودة مطار الغيضة للسيطرة المدنية.
 5 - استبدال أفراد الأمن الحاليين في منفذ "صرفيت" و"شحن" الحدوديين وميناء نشطون وإعادة سيطرة الميناء إلى القوات المحلية.
 6 - عدم تدخل السعودية في تشغيل المنافذ الحدودية وميناء نشطون.
ووضوح في التأكيد على سلمية المطالب، وعدم التفريط في الثواب الوطنية مهما كانت الظروف، وأكثرها قداسة وحدة الأرض والإنسان اليمني وسيادة الوطن، ووضوح في قدسية مطالب التحرير من الغزاة والمحتلين وعدم قابليتها للمساومة أو التفريط.

* النتائج والتوقعات:
بعد مرور 28 شهراً على نشر السعودية لقواتها وإنشاء ثكناتها العسكرية في المهرة، أصبح من الواضح أنها عاجزة عن وقف المعارضة المحلية لوجودها، وأن رمال المهرة ليست وديعة ومسالمة ومفروشة بالورود والرياحين كما كانت تعتقد.
ورغم أن المحافظ شخصية مؤيدة للسعودية، والحكومة معتمدة وجودياً على الرياض، وآلاف القوات السعودية والميليشيات المحلية والأجنبية منتشرة في جميع أنحاء المحافظة، إلا أن النفوذ السعودي في المهرة يمر بعقبات متزايدة بسبب المعارضة المحلية المتنامية.
وكل محاولات السعودية لإخماد حركات الاحتجاج المهرية وما رافقها من اعتقالات واختطافات واغتيالات وتضييقات معيشية وخنق للحريات، لم تمنح ولن تمنح الاحتلال السعودي ما يحلم به، بل أدت بالعكس إلى تقوية عزيمة معارضي وجودها الاحتلالي في المحافظة، وبدافع من تطلع جماعي للسيادة، نابع من تاريخ الاستقلال الطويل الذي تمتعت به المنطقة، ومن ثقافة محلية تؤكد على وحدة السكان، أبدى بعض الزعماء وشيوخ القبائل المهرية استعداداً ثابتاً لمقاومة محاولات التحالف إنشاء نفوذ له في المهرة.
وعلى الرغم من عدم نجاح المقاومة المحلية في طرد قوات الاحتلال السعودي حتى الأن، إلا أنها أثبتت في العديد من الحالات قدرة فاعلة على منع تنفيذ القرارات السياسية التي لا تحظى بشعبية، مثل إنشاء مواقع عسكرية ونشر قوات يمنية وكيلة مدعومة سعودياً، والتصدي لكل المحاولات الهادفة لتمرير أنابيب النفط السعودي عبر أراضيهم، واحباط محاولات العبث بالنسيج الاجتماعي وتفخيخ السلم المجتمعي، وإبطال مفاعيل محاولات اغراق المحافظة في مستنقع الحرب الداخلية ومستنقعات الحرب بالوكالة.
وتذهب التوقعات بالنظر الى التخريجات الدولية المختمرة، الرامية الى تقسيم اليمن وتثبيت خيار "الأقلمة" كمدخل للسلام تحت مظلة كونفدرالية فضفاضة تحقق مصالح الاحتلال السعودي والاماراتي وتمنع انقطاع شعرة معاوية، ما يجعل السعودية في مواجهة مستميتة لتحويل المهرة وحضرموت القريبتين من أراضيها إلى وحدة مستقلة في أي حل مستقبلي خدمة لطموحاتها القديمة المتجددة المتعلقة بمد انبوب نفطي الى سواحل المهرة وشق قناة مائية تربطها بسواحل حضرموت، ولن تفلح والأيام بيننا.

الأحد، 23 فبراير 2020

أهداف التوسع السعودي في محافظة المهرة اليمنية


مركز البحوث والمعلومات: زيد يحيى المحبشي 23 فبراير 2020
منح الانتشار العسكري المكثف لقوات الاحتلال في المهرة منذ نهاية 2017 ، السعوديين سيطرة فعلية على مناطق واسعة من المحافظة، مصحوباً بقائمة طويلة من علامات الاستفهام حول الذرائع والأهداف، وما تخفيه ورائها من أجندات استعمارية، باتت مصدر خوف وقلق لدى السكان المحليين، مما يحاك ضد محافظتهم من مخططات بعيدة المدى.
ومنذ اليوم الأول لدخول قواته أراضي هذه المحافظة المسالمة والهادئة، عمل الاحتلال السعودي على عزلها عن مجالها الحيوي "الاجتماعي"، وشق طرقات إسفلتية طويلة، تقسمها وتقتطع منها وتعزلها من حدودها في "الخراخير" غرباً إلى ميناء "نشطون" شرقاً بأكثر من 320 كيلو متر، والتحكم بمنافذ العبور الرئيسية في "شحن" و"صرفيت" و"نشطون" بذريعة التفتيش ومراقبة دخول أسلحة مزعومة للجيش اليمني واللجان الشعبية من سلطنة عمان المجاورة، وتكدير معيشة وحياة الناس وقهرهم بمزاعم ملاحقة تنظيم "القاعدة" و"داعش"، وإقحام المهرة في الحرب البعيدة عن حدودها عنوة بهذه "الذرائع الكيدية"، لتسهيل السيطرة والاستحواذ على مقدراتها الحيوية وثرواتها الواعدة، واستخدامها منطلقاً لتمرير رزمة من الأهداف الخادمة لمصالح الرياض القومية وأطماعها الإقليمية، بدأت تتكشف تباعاً، بالتوازي مع تنامي الإدراك المحلي بخطورتها، وتنامي وتنوع خيارات المقاومة الشعبية.

* كسر حيادية سلطنة عمان وجرها إلى مستنقع اليمن:
من الأهداف المعلنة للتبرير التمدد العسكري السعودي في المهرة مراقبة الحدود مع سلطنة عمان، بذريعة استخدامها لتهريب "الأسلحة الإيرانية" إلى الجيش اليمني واللجان الشعبية التابعة لحكومة الإنقاذ بصنعاء، وتهريب المخدرات، وهو ما نفته السلطات العمانية بالمطلق.
وتعود شائعات تهريب الأسلحة عبر المهرة إلى العام 2013، مما دفع سلطنة عُمان إلى بناء سور مكهرب على طول أجزاء من الحدود في أوائل نوفمبر 2017،  وفي 2018 تم نشر قوات أميركية خاصة في المهرة لدعم عمليات مكافحة التهريب المزعومة.
شماعة تهريب الأسلحة مدعاة للسخرية، بالنظر لطول المسافات وسيطرة القوات السعودية والإماراتية وميليشيات هادي على الطرق التي تؤدي إلى شمال اليمن، وورقة توت مفضوحة لتبرير الانتشار والتواجد العسكري البعيد المدى بالمهرة، واستخدامها منطلقاً لاستفزاز "مسقط"، ونوعاً من تصعيد الضغوط على "السلطنة" خاصة فيما يتعلق بموقفها العروبية من العدوان السعودي الإماراتي على اليمن والأزمة الخليجية، بخلاف تقاربها المعلوم مع طهران، والهدف الأهم: إبعاد السلطنة عن السياسة الخارجية المحايدة التي انتهجتها، وإجبارها على الانخراط في الحرب الجائرة على اليمن، من خلال الضغط في فنائها الخلفي عبر بوابة اليمن الشرقية.
ولم تكتف الرياض بتسويق أكذوبة تهريب الأسلحة بل وعملت على إفشال النهج العماني، الذي دأب على منح الجنسية للمئات من أبناء المهرة من مختلف الخلفيات الاجتماعية، واستخدام القوة الناعمة متمثلة في المعونات الإنسانية والمشاريع الخيرية والخدمات المجتمعية لتحسين صورة الاحتلال القبيحة لدى أبناء المهرة، وتقويض الطموح العُماني الذي ينظر إلى المهرة كجزء منه، خارج حدوده وامتداد لأمنه القومي، وتلغيم المناطق الحدودية بالجماعات الدينية المتطرفة التي تم استجلابها من عدة محافظات يمنية.
الوجود السعودي بالمهرة لم يكتف بإثارة السكان المحليين بحسب صحيفة "الإندبندنت" البريطانية، بل وتسبب، وفقاً للخبراء والدبلوماسيين الأجانب في حدوث صدع متزايد مع سلطنة عمان المجاورة، وترى مسقط أن الاستيلاء على جارتها المهرة، يشكل تهديداً محلياً لها ونافذة لإحداث القلاقل وتصدير الأزمات للداخل العُماني، فالعديد من العمانيين هم من المهرة، في حين تمتد الأراضي القبلية عبر الحدود مع اليمن.
وقال تقرير للصحيفة إن الكثيرين في مسقط يعتقدون أن القيادة العمانية بحاجة إلى اتخاذ موقف أقوى ضد التعدي السعودي على المهرة.
ويقول الأكاديمي العُماني المتخصص بالشؤون الإستراتيجية "عبدالله الغيلاني": إن المهرة تعد أمناً قومياً بالنسبة للسلطنة، لأنها المنطقة الفاصلة بين عُمان وسائر اليمن الذي يمر بحالة احتراب وتمزق، خاصة أن مسقط استثمرت في هذه المدينة خلال السنوات الـ40 الماضية، عبر البنية التحتية والتنمية، ولديها علاقات إستراتيجية مع القبائل فيها.
وأن تحوُّل المهرة إلى منطقة احتراب ومواجهات عسكرية وقتال سينعكس بشكل سلبي على الداخل العُماني، خصوصاً أن قبيلة المهرة المتمركزة في المدينة وكبرى القبائل بتلك المنطقة لديها امتداد في "ظفار" العُمانية.

* كبح جماح الأطماع الإماراتية في البيدر اليمني:
آثار التمدد "الإماراتي" في سقطرى والمهرة وحضرموت في السنوات الثلاث الأولى  من العدوان على اليمن، مخاوف "الرياض" فيما يتعلق بعرقلة مخططاتها وأجندتها القديمة، والتي من أجلها رمت بكل ثقلها في المستنقع اليمني، رغم تشاركهما في تحالف العدوان وتوافقهما مسبقاً على تقاسم النفوذ، في اجتماع بمدينة "طنجة" المغربية في 2016، إلا أن نجاح الإمارات بالتفرد في التحكم بمجريات الأحداث ومسرح العمليات على الأرض وإجادة اللعب بأوراق القوة المتراكمة، أغراها بتجاوز خطوط "طنجة"، بالتوازي مع غرق القيادة السعودية في أزمات محلية وإقليمية لا نهاية لها.
تغول "الإمارات" في "البيدر" اليمني أجبر حكومة المرتزقة والسعودية مرارًا وتكرارًا على تقديم سيل من التنازلات مقابل إبعادها عن حضرموت والمهرة، دون جدوى، ما اضطر الاحتلال السعودي إلى بسط سيطرته العسكرية على المهرة.
وتشير صحيفة "الإندبندنت" البريطانية في تقرير لها صدر في نهاية أغسطس 2019 إلى احتمال أن تكون "المهرة" قد وضعت السعوديين في مواجهة حليفهم الإقليمي "الإمارات"، عندما حاولت الإمارات وفشلت بين عامي 2015 و2017 في بناء وتدريب قوة من النخبة في المهرة فاتجهت إلى التمدد في جزيرة سقطرى الإستراتيجية واتخاذها منطلقاً للمناورة والضغط على حليفتها.
وتعتقد المحاضرة في جامعة أكسفورد والخبيرة في شؤون محافظة المهرة، "إليزابيث كيندال": أن الوجود العسكري للسعودية في محافظة المهرة، سيوقف جهود الإمارات للسيطرة الكاملة على الجنوب، وإذا كانت لديهم قواعد عسكرية، فهذا يعني أن الإمارات لن تكون قادرةً على السيطرة على الجنوب والمهرة وسقطری.
إذن فالسعودية تسعى من وراء السيطرة على المهرة إلى خلق "توازن جيوسياسي" مع الإمارات، وكذلك الضغط عليها لخفض قواتها في جزيرة سقطرى، وتخفيف قبضتها ونفوذها في المحافظات الجنوبية والشرقية.

* نهب نفط المهرة الواعد:
المهرة من المحافظات الغنية بالبترول الذي لم يستخرج بعد، كما يشير المسح الجيولوجي، ولذا حرصت الرياض على تركيز انتشارها العسكري بالقرب من المناطق التي تحدثت عنها المسوحات الجيولوجية، كما قامت شركة "هوتا مارين" السعودية للنفط بتشييد ميناء نفطي بالمهرة، وإعداد الدراسة اللازمة لاستخراج وتصدير النفط.

* تمرير خط أنابيب نفطي عبر المهرة إلى بحر العرب:
حلم يراود السعودية منذ ثمانينيات القرن العشرين، وتطمح من خلاله للوصول إلى "بحر العرب"، بالسيطرة على ميناء "نشطون" الحيوي والاستراتيجي، وبناء بنية تحتية متطورة، تسمح باستخدامه لتصدير النفط السعودي دون المرور بمضيق "هرمز" الاستراتيجي أو "باب المندب"، وبالتالي بعيداً عن إيران، وتعتقد الرياض أن هذه المشروع سيحقق لها فوائد اقتصادية وأمنية كبيرة، منها:
أ - تخفيض التكاليف المتعلقة بنقل النفط من الآبار السعودية على سواحل الخليج العربي والمناطق الجنوبية المحاذية لليمن عبر السماح للناقلات بتجنب مضيق هرمز.
 ب – كما أن لتجاوز مضيق هرمز آثاراً هائلة على أمن النفط العالمي، بالنظر إلى التهديدات الإيرانية بإغلاق الممر، المائي الذي يمر به خُمس نفط العالم، في حال اندلاع أي صراع مستقبلي مع السعودية أو الولايات المتحدة الأميركية.
بدأت مناقشات بناء خط الأنابيب بين السعودية وحكومة اليمن الجنوبي في الثمانينيات من القرن العشرين، وفقاً لرئيس اليمن الجنوبي السابق "علي ناصر محمد"، لكنها فشلت، فعاودت المحاولة في 1990، إلا أنها لم تنجح، بسبب إصرار الرياض على ضرورة سماح السلطات اليمنية بنشر القوات السعودية في منطقة عازلة طولها 4 كيلو مترات حول خط الأنابيب المقترح، للحفاظ على أمن المنشآت – المطالبة بسيادة السعودية على عمق كيلومترين من الشرق إلى الغرب بطول 300 كم - وهو ما اعتبرته صنعاء انتهاكاً لسيادة اليمن، وتم تأجيل المشروع، ومبعث الرفض، الفقرة المتعلقة بطلب السعودية شراء الأراضي التي يتم فيها تمديد خط الأنابيب، ورغم رفض الجانب اليمني إلا أنه أبدى نوعاً من "المراوغة" السياسية بتقديمه عرض مماثل للرياض، كي لا يفقد ودها، مفاده: قيام اليمنيين بتأمين الخط، مقابل التمويل فقط، أما البيع لأرض يمنية أو تأجيرها فغير مقبول.
وعلى ما يبدو أن الأمور "اليوم" باتت سالكة أمام المشروع السعودي في عهد الرئيس المستقيل "عبدربه منصور هادي"، ولا يستبعد أن يكون هناك صفقة بينهما على غرار صفقة تأجير جزيرتي "سقطرى" و"ميون"، وكل الوقائع على الأرض تؤكد ذلك.
وسبق لوكيل محافظة المهرة الأسبق الشيخ "على سالم الحريزي"، وأن دعا إلى عدم التوقيع على أي اتفاقيات مع السعودية، أو السماح لها بمد أنبوب نفط في الأراضي اليمنية.
  ومنذ العام 2018 عملت السعودية وتحت مبرّر "مكافحة الإرهاب والتهريب"، على تعزيز قواتها في المهرة، بالمئات من الجنود والمدرعات الحديثة، بالتزامن مع بدئها بإنشاء أنبوب نفط يمتد من العمق السعودي في "شرورة" حتى سواحل المهرة.
وتقول وسائل إعلام محلية أن القوات السعودية بدأت في ديسمبر 2018 عمليات الحفر للأنبوب النفطي، ووضع بعض القواعد الإسمنتية في منطقة "طوف شحر" الحدودية، لكن قبائل المهرة تحركت إلى المكان وطردوا القوات والمدرعات السعودية، وأزالوا جميع العلامات والقواعد الإسمنتية، ونصبوا الخيام لحماية أرضهم ومراقبة أي استحداثات، بينما أكتفت السعودية حينها للتغطية على عمليات مد الأنبوب النفطي بأنها ترغب بإنشاء خط إسفلتي من المملكة إلى المهرة، وهو ما لم ينطلي على سكان المهرة.
وكان موقع "المهرة بوست"، قد نشر تحقيقات وتقارير ووثائق تؤكد المحاولات السعودية لبدء مد الأنبوب النفطي، لكن أبناء المحافظة وقفوا ضد تلك الأطماع وأزالوا علامات حددت موقع مد الأنبوب، وكشفوا للعالم النية المبيتة للسعودية في بوابة اليمن الشرقية.
وقالت وكالة "الصحافة اليمنية" نقلاً عن مصادر رفيعة أن مشروع مد الأنبوب النفطي، جاء بعد زيارة السفير السعودي لدى اليمن، المشرف العام على البرنامج السعودي لإعادة ما يسمى بالإعمار في اليمن، "محمد سعيد آل جابر"، إلى محافظة المهرة مطلع يونيو 2018.
وفي 1 أغسطس 2018 قام "هادي" بزيارة إلى المهرة برفقة السفير السعودي "محمد سعيد آل جابر" لوضع أحجار أساس كثيرة لـ "مشاريع وهمية" ضخمة في "الغيضة"، وبعد الزيارة مباشرة تداولت وسائل الإعلام "وثيقة سرية" مسربة تؤكد توجه السعودية لبناء خط أنابيب نفط عبر المهرة، يمتد من منطقة الخراخير في الحدود السعودية المحاذية لمحافظة المهرة إلى ميناء نشطون.
وأكد تحقيق لقناة "الجزيرة" بتاريخ 19 يناير 2020 بعنوان "المَهرة .. النوايا المبيتة" أن خطط سعودية تم إعدادها منذ عهد الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز للاستحواذ على محافظة المهرة، بهدف تأمين منفذ للسعودية على بحر العرب، وأورد وثائق تؤكد أن السعودية ألقت بثقلها العسكري في محافظة المهرة البعيدة عن المواجهات العسكرية، بهدف تحقيق أطماعها المتمثلة في إيجاد منفذ بحري عبر المهرة.
وتضمن التحقيق شهادات ووثائق وتصريحات من مؤلفين ومختصين في شؤون الطاقة والنفط، أكدت على أن أحد أبرز أهداف السعودية، التي يُنظر لها في المهرة كمحتل، هي تحقيق أطماعها في مدّ أنبوب النفط، في الوقت الذي تنشغل فيه البلاد بالحرب وعواقبها.
ومن المتوقع أن يستغرق تنفيذ مشروع تمديد خط أنابيب "بترولين" أو خط أنابيب "شرق – غرب" أربع سنوات، وتبلغ طاقته المخطط لها أقل من نصف مليون برميل بحسب شركة "آرامكو"، على أن تصل إلى 5 ملايين برميل من النفط عند اكتمال المشروع.
والمهريون عموماً يعارضون المشروع باعتباره انتهاكاً لسيادتهم، بينما تنظر سلطنة عُمان إلى المناورة السعودية باعتبارها انتهاكاً لنطاق نفوذها.

السبت، 22 فبراير 2020

حيثيات الاحتلال السعودي لمحافظة المهرة اليمنية


زيد يحيى المحبشي، الحلقة الاولى، مركز البحوث والمعلومات، 22 فبراير 2020
بعد مرور ست سنوات من عدوان تحالف العاصفة على اليمن وما خلفه من كوارث سنظل نعاني من تبعاتها عقوداً من الزمن، لا زال البعض يعتقد بأن هذا التحالف العبري إنما أتى لإنقاذ اليمنيين من ايران التي لا وجود لها في اليمن، وليس من أجل تمرير أطماع ومخططات وأجندة استعمارية قديمة متجددة تحركها أيادي الشر الأميركية، بشهادة مساعد وزير الدفاع الأميركي الأسبق "لاري كورب": السعودية ظلت مهتمة بمن يحكم اليمن في إطار بحثهم عن مسارات بديلة ينقلون بها منتجاتهم النفطية بعيداً عن هرمز، وحتى إن لم تتدخل إيران فإن السعودية ستتدخل لإيجاد حكومة تخدم أهدافها، والحقائق تؤكد أن السعودية متورطة في اليمن قبل تدخل الإيرانيين بكثير.
الموانئ اليمنية والمنافذ الرئيسية كانت الهدف الأول لعدوان تحالف العاصفة بقيادة خدينة العم سام كما هو واضح من كلام "لاري كورب"، والغاية من ذلك:
1 - تضييق الخناق والحصار الاقتصادي على الشعب اليمني المظلوم، من أجل الحصول إما على تنازلات من أنصار الله أو تثوير الشعب اليمني المحاصر ضد حكومة الإنقاذ بصنعاء وإسقاط نظام صنعاء، لكنها لم تنجح في أي منهما، ما جعلها تعمل على تنضيج الهدف الثاني.
2 - استخدام الموانئ اليمنية كمحطات وبؤر بديلة لتصدير البترول السعودي، عن طُرق أكثر أمناً وأقل تعرضاً لأية مخاطر قد تنجم من التصعيد مع إيران، وبمعنى أخر، تأمين منفذ بحري لتصدير النفط السعودي إما عبر اليمن وتحديدا عبر محافظة المهرة أو عبر سلطنة عمان، وبما أن الخيار الثاني خارج حدود الممكن، عملت السعودية على تنضيج الخيار الأول، مستخدمة كل الوسائل القذرة للوصول إلى غايتها.
وتتميز محافظة المهرة بهدوء نسبي كبير، قياساً بالمناطق والمحافظات الاخرى، بالرغم من حجم الدمار الكبير الذي شهدته اليمن على المستوى المادي والبشري، لكنها حياديتها وعزلتها لم تعفيها من عبث المستعمرين الجدد ومساعيهم المستميتة لجرها إلى مستنقع الخراب العبري، بعد أن تحولت إلى حلبة صراع على النفوذ الاستراتيجي بين السعودية والإمارات، ومنطلق للتصفية حساباتهم مع سلطنة عمان بسبب مواقفها العروبية من حرب اليمن وأزمة قطر والعلاقة مع إيران.
والمهرة بحكم موقعها الجيوسياسي البالغ الحساسية بمثابة الخنجر في خاصرة السلطنة، وأحد أهم بواعث الخوف على أمنها القومي، لأسباب تاريخية، جعلت المهرة منذ سبعينيات القرن العشرين محل اهتمام الراحل السلطان "قابوس بن سعيد"، واعتبار أمنها واستقرارها امتداد لأمن واستقرار السلطنة، وتعاظمت هذه الأهمية مع العدوان العبري على اليمن، والذي قررت فيه السلطنة التزام الحياد، وهو ما أدى إلى تعاظم الأخطار المحدقة بها من بوابة المهرة، بصورة تفوق ما كان عليه الحال خلال ثورة ظفار في سبعينيات القرن الماضي، والتي كانت فيه المهرة منطلق لثوار ظفار والقوات العدنية المساندة لهم، واليوم ذات الأخطار باستثناء تغير الفاعلين.
في هذه المقاربة سنتحدث وعلى مدى ثلاث قراءات متتابعة في ثلاثة محاور هي: حيثيات الاحتلال السعودي، وأهدافه، وجرائمه ودور المقاومة الشعبية في إفشال وإسقاط مخططاته.

* المهرة في سطور:
تقع محافظة المهرة في أقصى الشرق من الجمهورية اليمنية، وتمثل البوابة الشرقية لليمن، تحدها من الشرق سلطنة عمان، ومن الشمال السعودية، ومن الغرب حضرموت، ومن الجنوب بحر العرب، وهي ثاني أكبر محافظة يمنية بعد حضرموت من حيث المساحة 82 ألف و405 كيلو متر مربع، ولها أطول ساحل على بحر العرب 560 كيلو متر، ومنفذين حدوديين مع سلطنة عمان هما "صرفيت" و"شحن"، وتضم 9 مديريات، أكبر مدنها عاصمة المحافظة "الغيضة"، تليها "سيحوت"، و"قشن"، و"حصوين"، و"العيص"، ويشكل سكانها ما نسبته 0.5% من إجمالي سكان اليمن، وهي أقل المحافظات سكاناً، 88 ألف و594 نسمة بحسب تعداد 2004، وفي تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية لعام 2017 حوالي 150 ألف نسمة، ووفقاً لتقديرات محلية في العام 2019 فعددهم بما فيهم النازحون داخلياً حوالي 650 ألف نسمة، ويغلب على سكانها الطابع القبلي البدوي، وأغلبهم مغتربون في عُمان والسعودية والإمارات.
وتمتاز بخلجانها وموانئها الطبيعية، وأهمها ميناء "نشطون" الذي يستقبل حمولة 2000 طن، وبه خزانات النفط، وهو من الموانئ القابلة للتطور وزيادة النشاط، سيما وأنه يقع على مقربة من الخط البحري الملاحي الدولي في المحيط الهندي، القريب من أحد أهم المراكز الصناعية والتجارية في شرق أسيا، وهذا أحد أهم العوامل المثيرة لقلق الاحتلال الإماراتي، كون تحرك النشاط التجاري في الشريط الساحلي للمهرة سيلحق ضرراً كبيراً بميناء "جبل علي" في "دبي"، لذا تسعى الإمارات جاهدة عبر حليفتها السعودية للسيطرة عليه، بهدف إبقاء الوضع التجاري فيه راكداً وتحويله إلى ثكنة عسكرية، على غرار ما تعمله في موانئ "المخا" و"عدن" و"المكلا"، وموانئ شمال "الصومال"، بعد أن فشلت كل مساعيها لاحتلال محافظة المهرة خلال الفترة 2015 – 2017 .
ومن أهم موارد الاقتصاد المحلي: صيد الأسماك والزراعة وتربية الحيوانات، والإيرادات الجمركية لمنافذها الحدودية مع سلطنة عُمان.
والمهرة من المحافظات الواعدة باستخراج النفط، وهو أحد أهداف السعودية لاحتلالها، وقد قامت عدة شركات بترولية بالمسح فيها، أهمها: شركة "أبان أميركا" عام 1965، وشركة "النمر" عام 1992، وكلها أكدت وجود النفط والغاز بوادي "سعف" و"محيفيف" و"الغيضة" و"الفيدمي" ووادي "شحن"، كما أن البحث والدراسة والتنقيب عن النفط في بحر المحافظة واعدٌ بالخير، بحسب شركة النمر عام 1994 - 1995.
وهي غنية بالمعادن، ويتوفر الطوب الأبيض والرخام الأحمر في "الغيضة" وكسارات الحصلة وصناعة الأسمنت في جبل رأس "فرتك" وحصن السعد "حوف".
وتاريخياً، تتوسع مساحة المحافظة وتتقلص وفقاً لصراعات حكامها مع جيرانهم، وترتبط المهرة بصلات عميقة مع سلطنة عمان والسعودية، بسبب:
1-  سهولة التنقل والوصول إلى المهرة عبر الحدود مع سلطنة عُمان والسعودية.
2 - تمتع المهريين بحق السفر دون تأشيرة إلى جميع مناطق العالم العربي بجواز سفر سلطنة المهرة في الماضي.
ويتقاسم سكان مديرية "حوف"، الواقعة جنوب شرقي الساحل، صِلات قبلية مع محافظة "ظفار" العمانية، كما تمتلك العديد من العائلات المهرية جنسيات مزدوجة ومنازل على جانبي الحدود، ويوجد سياق مماثل بالقرب من قرية "الخرخير" السعودية، حيث يعيش أفراد من قبيلة "صمودة" على جانبي الحدود.
وفي حين يعيش أبناء "الخرخير" في عزلة عن أبناء عمومتهم من رجال القبائل خلف الحدود اليمنية، إلا أن القبائل التي تمتد عبر الحدود "اليمنية – العمانية"، بإمكانها التحرك بِحرية على مسافة تصل إلى 20 كيلو متر على كلا الجانبين، نتيجة لاتفاقية الحدود عام 1992 بين عمان واليمن.

* الانتشار العسكري:
بدأ وصول قوات الاحتلال السعودي إلى المهرة في نوفمبر 2017 بعد انسحاب القوات الإماراتية، وفشلها في إنشاء مليشيات محلية تابعة لها كما حدث في منطقة شبوة وحضرموت.
في البداية حاول الاحتلال السعودي تكرار تجربة الإمارات، فشكل ميليشيات محلية من خارج محافظة المهرة، وأغلبيتها من عدن وأبين عُرفت محلياً بقوات الردع السريع، وكان لها صيت سيئ، وهي كتيبة مؤلفة من جنود ملثمين يرتدون ملابس سوداء ويتجولون في سيارات الدفع الرباعي السوداء بطريقة تشبه قوات مكافحة الإرهاب، لكنها فشلت في مهمتها، ما دفع بالسعودية إلى التدخل المباشر، فاستقدمت 1500 جندي، تحت غطاء تدريب القوات المحلية والتصدي لما أسمته بـ"تهريب الأسلحة"، ونشرت ما بين 1500 و2000 جندي سعودي في جميع أنحاء المحافظة.
وفي 11 نوفمبر 2017 وصلت أول دفعة من جنود الاحتلال السعودي إلى مطار الغيضة المدني، برفقة ضباط سعوديين و21 ضابطاً مهرياً، سبق تدريبهم في مدينة الطائف السعودية، فقامت قوات الأمن المحلية مسنودة برجال القبائل بمنعها من السيطرة على المطار، بسبب عدم تنسيق وصولهم مع السلطات المحلية أو الأجهزة الأمنية أو "هادي"، فتدخل الشيخ "عبدالله بن عيسى آل عفرار" للتوسط من أجل التهدئة، وفي 14 نوفمبر 2017 وجه الجنرال الفار "علي محسن الأحمر" بالسماح للقوات السعودية بالدخول، لكن المهريين رفضوا فتح الطريق دون موافقة من السلطة المحلية.
ولتحديد موقف جماعي لأبناء المهرة فيما يتعلق بالقوات السعودية، تم عقد اجتماع بين ممثلي السلطة المحلية ولجنة أمن المحافظة والمجلس العام والقبائل، في 15 نوفمبر 2017، حدد الاجتماع "ستة" شروط للسماح بنشر القوات السعودية، أهمها عدم تحويل المطار إلى ثكنة عسكرية، وضرورة التنسيق بين القوات السعودية والسلطة المحلية.
لكن الاحتلال السعودي سرعان ما انقلب على الاتفاق في مارس 2018 وحول مطار الغيضة إلى ثكنة عسكرية، وتضم الثكنة قيادة عمليات مركزية لجمع المعلومات الاستخبارية وتنظيم المهام والإشراف على معسكرات الجيش السعودي الرئيسية الستة في المحافظة، والتي بدورها تنسق بين المواقع العسكرية الأصغر، وأُضيفت تدابير أمنية جديدة في المنشأة، تُقيّد الوصول حتى بالنسبة لمسؤولي حكومة هادي ومسؤولي الأمن، وإلغاء الرحلات الجوية المدنية نهائياً.
ومن ثكنتها الرئيسية في مطار الغيضة، بدأت القوات السعودية بالاضطلاع بدورٍ موازٍ لدور الجهاز الأمني الحكومي في المهرة، حيث يتم إطلاق عمليات الاستطلاع الجوي وغيرها من العمليات من مركز القيادة في الثكنة، بشكل متجاوز للسلطة المحلية، والتي أصبحت مهمشة كلياً.
وفي أوائل 2018 أُنشئت ثكنة عسكرية في ميناء "نشطون" الاستراتيجي، كما تم إنشاء ثكنات رئيسية في "حات" و"جدوة" و"درفات" و"لوسيك".
صحف غربية تحدثت عن فتح 5 قواعد رئيسية أخرى، بعضها لا يزال قيد الإنشاء، و 20 موقعاً و4 نقاط تفتيش عسكرية، وتحدثت قناة الجزيرة القطرية في تقرير لها بعنوان "المهرة النوايا المبيتة"، نشرته بتاريخ 19 يناير 2020، نقلا عن وثائق سرية ومصادر محلية، قيام السعودية بنشر قواتها في مناطق إستراتيجية، على أكثر من 30 معسكراً وثكنة عسكرية، تدار بواسطة ضباط سعوديين من مطار الغيضة.
في حين رصدت منظمة "سام للحقوق والحريات" (غير حكومية ومقرها جنيف)، 33 موقعاً ونقطة عسكرية أنشأتها القوات السعودية في الأماكن الحيوية بالمهرة.
وتسيطر السعودية اليوم بشكل كلي على مطار المحافظة والمنافذ الحدودية والميناء البحري الرئيسي، وقامت ببناء أكثر من 10 قواعد عسكرية حول المحافظة، يتمركز فيها الآلاف من جنود التحالف العبري وميليشيات يمنية موالية، جرى حشدها من محافظات جنوبية أخرى.

* السيطرة المدنية:
اهتمام الرياض بمحافظة المهرة ليس وليد "العاصفة" بل هو حلم قديم، لطموحات طرحت نفسها بقوة على صانع القرار السعودي بضرورة بناء نفوذ قوي وعلاقات متينة في هذه المحافظة، تهيئ الأرضية لتمرير مخططات آل سعود.
عملياً، بدأت الرياض بتأسيس نفوذها في محافظة المهرة في ثمانينيات القرن العشرين، من خلال تجنيس شيوخ القبائل البارزين، بما فيهم "عبدالله بن عيسى آل عفرار"، ابن آخر سلاطين المهرة، ومنحهم إقامة سعودية ووثائق سفر ومزايا مالية، ويعيش في السعودية ثاني أكبر عدد من المهريين المتجنسين بعد سلطنة عمان.
ولأن "بن عفرار" كان على اطلاع بطموحات الرياض التاريخية، فقد فشلت كل محاولات الاستمالة السعودية منذ بداية انطلاق عدوان العاصفة على اليمن، ما دفع بالسعودية إلى تحريك أوراق أخرى لتمرير سياستها في المهرة، منها:
1 - شراء ولاء بعض المشايخ ورجال القبائل ومسؤولي السلطة المحلية.
2 - تقديم سيل من الوعود بتحسين الأوضاع المعيشية لسكان المنطقة.
3 – تقديم المعونات الإنسانية والمشاريع الخيرية والخدمات المجتمعية لتحسين الصورة.
4 - برامج إعادة الاعمار وشق الطرق والعمل وبناء المشافي والمدارس ..الخ.
5 - استبدال قيادات السلطة المحلية غير المتعاونين، وتعيين بدائل طيّعين، وتقديم إغراءات مادية وسيارات للبعض منهم، وأهم القيادات المقالة المحافظ السابق "محمد عبدالله بن كده" في 27 نوفمبر 2017 بعد رفضه تدخل المحتلين في شؤون المحافظة، واستبداله برجل الرياض المدلل "راجح سعيد باكريت"، وفي فترة تولي "باكريت" توسعت السعودية بشكل كبير، وارتكبت العديد من جرائم القتل والاختطافات والتعذيب.
وبين إقالة "بن كده" 27 نوفمبر 2017 ، ووصول "باكريت" للغيضة قادما من الرياض مع عدد من المشائخ المهريين "المجنسين" 1 يناير 2018، كثفت السعودية بسرعة بناءها العسكري في المحافظة، وزادت الرحلات الجوية بين الرياض والغيضة، وزاد الوجود العام للجنود السعوديين المنتشرين في مطار الغيضة، وسيطرت القوات السعودية على ميناء "نشطون" ومنفذَي "شحن" و"صرفيت" الحدوديَّين مع عُمان، وفرضت فيهما إجراءات صارمة، تحت مبررات عدة، أدت في أكثر من مرة إلى إغلاق هذه المنافذ.

* حصار خانق:
فرض الاحتلال السعودي حصار خانق على محافظة المهرة منذ اليوم الأول لدخولها في العام 2017، واتخذ إجراءات مشددة على الواردات العمانية إلى المحافظة، ويتحدث تقرير صادر عن منظمة "سام للحقوق والحريات"، عن سلسلة من الإجراءات والقرارات السعودية التعسفية بحق أبناء المهرة منها:
منع الصيادين من الاقتراب من المواقع العسكرية السعودية على سواحل بعض المديريات، ومنع الصيد بشكل كامل في فترة ما بعد العصر.
ووضع إجراءات أمنية إضافية في منفذ "شحن"، بما في ذلك تركيب جهاز "مسح بالأشعة السينية" لفحص البضائع التي تدخل اليمن، وفرضت على البضائع المستوردة العبور حصراً عبر الميناء والمنافذ الحدودية، وتسبب هذا التعسف في تشكّي السكان المحليين من تباطؤ استيراد البضائع ومطالبتهم بإعادة نقاط الدخول إلى سيطرة السلطات المحلية.
وفي أغسطس 2018 أجبر الاحتلال السعودي، السلطة المحلية، على رفع الرسوم الجمركية على العديد من الواردات، بنسبة 80%، وإصدار تعليمات تقضي بعدم قبول المستندات الجمركية الصادرة من منطقة التجارة الحرة العُمانية، في محاولة للقضاء على التجارة الحدودية مع اليمن.
 وفي يوليو 2019، فرضت السعودية رسوماً جمركية قاسية على واردات اليمن من منافذ المهرة الحدودية مع سلطنة عمان، في محاولة لمنع الصادرات العمانية، وبالتالي الحد من نفوذ السلطنة، المعيق لنفوذ الرياض بالمهرة.
وفي فبراير 2020 قررت القوات السعودية منع مرور المعدات الثقيلة التي يستوردها المواطنون من الخارج عبر المنفذ البري مع سلطنة عمان، ومنع جمركتها، ومنع إعطاء تصاريح جمركة لمعدات المواطنين، وإلزام المسافرين باستخراج جوازات سفر جديدة بالرغم من عدم انتهاء صلاحيتها.

السبت، 15 فبراير 2020

الجبهة الزراعية نهوض من تحت الركام

زيد يحيى المحبشي
رغم صعوبة تضاريس اليمن وعدم وجود أنهار وشحة المياه، تمكن قدماء اليمنيين من ابتكار نظام ري قل نظيره في العالم القديم، وابتكروا طرق فريدة لحفظ المياه، وزراعة محاصيل متنوعة، وتصديرها الى أنحاء متفرقة من بلدان العالم القديم، وحولوا الصحراء القاحلة في جنوب الجزيرة العربية إلى واحات زراعية، وصفها القرآن الكريم بالجنة، ووصف اليمن بالبلدة الطيبة، في قوله تعالى بسورة سبأ: "لقد كان لسبأٍ في مسكنهم آيةٌ جنتان عن يمين وشمال، كلوا من رزق ربكم واشكروا له، بلدةٌ طيبةٌ وربٌ غفور"، وهي دلالة على أنها أرض زراعية لا نظير لخصوبتها في العالم.
وقد أدرك الشهيد السيد حسين الحوثي مبكرا، الأهمية الكبيرة للقطاع الزراعي في تعزيز الصمود والثبات والنصر، وضرورة التحرر من قيود الأعداء، والاعتماد على أنفسنا في زراعة الأرض، مؤكداً أن الأمة لا تستطيع أن تدافع عن دينها, ولا تستطيع أن تدافع عن نفسها، وهي ما تزال فاقدة لقوتها الضروري، الذي الزراعة أساسه، والتي تعتمد على الاستيراد من الخارج، ولهذا أصبح ضروريا الاهتمام بجانب الزراعة في مجال نصرة الإسلام، فالأمة تُهدد كل يوم لأن قوتها من تحت أقدام أعدائها، من فتات موائدهم، لهذا لا بد أن تحصل على الاكتفاء الذاتي فيما يتعلق بحاجياتها الضرورية.
كما حث قائد الثورة السيد عبدالملك الحوثي في أكثر من خطاب على ضرورة التوجه نحو الزراعة والإنتاج المحلي من الغذاء، لتقليل الاستيراد الخارجي وتحقيق الاكتفاء الذاتي، لا سيما في هذه الظروف التي يعاني فيها الشعب اليمني جراء العدوان والحصار الاقتصادي.
وتعظم أهمية إعادة تفعيل الجبهة الزراعية مع تمادي دول العدوان في مواصلة الحصار المطبق للعام السادس على التوالي، ومنع دخول نحو 90 بالمائة من الواردات والمواد الغذائية والحبوب بأنواعها، بعد تدمير كل مقدرات الحياة في اليمن، على أمل أن يحقق العدوان العبري بالورقة الاقتصادية ما عجز عن تحقيقه عسكرياً وسياسياً، في محاولة عبثية لتثبيط عزيمة اليمنيين  وتركيعهم والهيمنة على أرضهم ومقدراتهم، وهيهات لهم ذلك.
لهذا تم إنشاء المؤسسة العامة لإنتاج وتنمية الحبوب في العام 2016 بقرار من اللجنة الثورية، كضرورة فرضتها التداعيات الكارثية للعدوان القائم على اليمن، بهدف رفع نسبة الاكتفاء الذاتي لتأمين الغذاء، لارتباطه باستقلالية القرار اليمني وتحرير الإرادة اليمنية، ولتكون جبهة متقدمة في مواجهة العدوان العبري، وإبطال مخططات التركيع والإذلال والتجويع، المتواصلة للعام السادس دونما رحمة أو وازع من ضمير، في ظل صمت دولي مخزي.
ومعلومٌ أن الحبوب من المحاصيل الاستراتيجية المرتبطة بسيادة الدول، وتحرر قراراتها، لذا لن يتمكن اليمنيين من نيل حريتهم وامتلاك قرارهم السيادي، إلا إذا تمكنوا من إنتاج احتياجاتهم من الغذاء.
واليمن يعاني في الوقت الراهن من فجوة غذائية كبيرة في الاقتصاد القومي، في محاصيل الحبوب الرئيسية، خاصة القمح والذرة الصفراء، ما يجعل قضية تأمين الغذاء من أهم الأولويات التي يجب الاهتمام بها، والعمل دوما على تضييق تلك الفجوة وتحجيمها، وصولا الى تحقيق الاكتفاء الذاتي، لأن من لا يملك قوته لا يملك قراره، ومن لا يملك قراره لا يملك حريته واستقلاله وسيادته.

* الزراعة في سطور
شهدت الزراعة في فترة رئاسة الشهيد إبراهيم الحمدي أخر سنوات مجدها وازدهارها، وشكلت أهم مورد للدخل الوطني، والعمود الفقري للاقتصاد الوطني، وأكبر نشاط اقتصادي في استيعاب الأيدي العاملة، وبلغت نسبة العاملين فيها أكثر من 70 % من اجمالي القوة العاملة في اليمن، حيث كان يعيش في المناطق الريفية أكثر من 90 % من السكان، ووصلت مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة 1972- 1974 ما بين 50 الى 55 %، لكنها سرعان ما انخفضت بعد رحيل الحمدي، لتصل في الفترة 1980 - 1986 الى 30 %، وكان النمط الزراعي في اليمن الشمالي خلال تلك الحقبة يتصف بسيادة محاصيل الحبوب.
واستحوذت زراعة الحبوب على 80 % من المساحة المزروعة في اليمن، وتشكل الذرة الرفيعة المحصول الأساسي، حيث بلغ انتاج الذرة والدخن في العام 1975- 1976 حوالي 785 ألف طن، وهو ما يعادل 78 % من مجموع انتاج الحبوب في نفس السنة.
ولأول مرة وآخر مرة في تاريخ اليمن المعاصر حققت اليمن في عهد الشهيد الحمدي الاكتفاء الذاتي من الإنتاج النباتي والحيواني، وأصدر الحمدي في العام 1974 عملة معدنية ذهبية، نقشت عليها عبارة: "لزيادة انتاج المحاصيل الغذائية".
وكانت الحكومة آنذاك ترى أن الزراعة، القطاع الأساسي الذي لا يتأثر بالتقلبات والعوامل الخارجية، كما هو عليه الحال في المصادر الاقتصادية الأخرى كالنفط والسياحة وغيرها.

وتتوزع أراضي الجمهورية اليمنية على النحو التالي:
1 - أراضي غير مستغلة زراعياً (صحراء أو مدينة) 300.000 كيلو متر مربع، بواقع 54.05 بالمائة.
2 - مراعي 22.600 كيلو متر مربع، بواقع 40.72 بالمائة.
3 - غابات وأحراش 1500 كيلو متر مربع، بواقع 2.70 بالمائة.
4 – أراضي مزروعة 1.202 كيلو متر مربع/ 1484852 هكتار، بواقع 2.04 بالمائة.
ووفقاً لكتاب الإحصاء السنوي لعام 2017، فإجمالي المساحة المزروعة باليمن 1.084.008 مليون هكتار، أي أنها تراجعت عما كانت عليه في عهد الحمدي بمقدار 500 ألف هكتار، بعضها توقفت عن الزراعة، وبعضها اختفت نتيجة التوسع العمراني، أو نتيجة جرف السيول، أو بفعل التصحر ..، مما يجسد حجم الكارثة التي تتعلق بمستقبل الأمن الغذائي في اليمن، في ظل تشكل فجوة كبيرة بين نمو القطاع الزراعي، وزيادة النمو السكاني، الذي يعد من أكبر المعدلات في العالم، الأمر الذي ينذر بمخاطر متزايدة على استقرار اليمن نتيجة ازدياد الجوع، وتفشي الفقر، وارتفاع نسبة البطالة.

عوامل كثيرة تسببت في هذا التراجع المريع للقطاع الزراعي ما بعد رحيل الحمدي، أهمها:
1 - تزايد معدلات النمو السكاني.
2 - اهمال الدولة للقطاع الزراعي.
3 - تصفية الدولة بعض مؤسساتها الداعمة للزراعة، وتعرض غالبيتها للفساد الممنهج، وتقليص مهام بعضها، مقابل تزايد الأهمية النسبية للقطاعات الأخرى كالتجارة والنقل والاشغال والخدمات.
4 - الاستخدام المتباين والضعيف لمدخلات الزراعة الحديثة كالأسمدة والبذور المحسنة، وضعف الاستفادة من الآلات الزراعية الحديثة.
5 - تزايد هجرة الفلاحين "الشباب" من الريف الى المدن والى خارج البلاد بحثاً عن فرص للعمل.
6 - تلاشي جيل الخبرة من قدامى الفلاحين.
7 - قلة الموارد المائية، والجفاف، وزيادة التصحر، والتغيرات المناخية المتسارعة.
8 – تنامي عدم الاستقرار والاضطرابات في اليمن منذ العام 2011 .
9 - التداعيات الكارثية للأسلحة المحرمة التي استخدمها عدوان التحالف العبري على القطاع الزراعي، والتي تسببت في:
أ - تجريد التربة من خواص الإنتاج الزراعي، سواء في المناطق التي تعرضت للقصف المباشر أو مناطق تساقط الأمطار، وبالتالي حاجة التربة لفترة زمنية طويلة، من أجل استعادة هذه الخواص.
ب - تلوث مياه الآبار الزراعية والسدود والحواجز والمخزون المائي بشكل عام.
ويساهم القطاع الزراعي بحوالي 5.14 % من حجم الناتج المحلي لعام 2015 ، في حين يستورد اليمن 3500000  طن من الحبوب سنوياً بمبلغ يزيد عن ملياري دولار، ويمثل القمح 40 % من المنتجات المستوردة و37 % مواد غذائية وصناعية، فيما تمثل الأصناف الزراعية كالبقوليات وغيرها 10 %، بينما بلغ عدد الأصناف الزراعية المستوردة 896 صنفاً زراعياً، وهو ما يمثل90 بالمائة من الاحتياجات الزراعية، رغم أن اليمن بلد زراعي ولها تاريخ في هذا الجانب.
وبالمجمل استهلك اليمن نحو 3.5 مليون طن من الحبوب، أنتج منها 100.000 فقط، بما نسبته 2.8% وهي نسبة ضئيلة جداً، مع الآخذ في الاعتبار استمرار تزايد النمو السكاني بما يفوق 3% سنوياً.
 ووفقا لإحصائيات عام 2017 استورد اليمن نحو 3 مليون طن من القمح، بينما لا يتجاوز الانتاج المحلي 7 بالمائة.
ومن أبرز المحاصيل الزراعية في اليمن: الدخن والذرة والقمح والمانجو والموز والبابايا والبطيخ والرمان والبرتقال والليمون والكمثرى والتفاح والخوخ والعنب والبن.

* المؤسسة العامة لإنتاج وتنمية الحبوب
تعمل المؤسسة على مسارين:
1 - زراعة مساحات واسعة "مزارع نموذجية".
2 - تنمية الأسر المنتجة زراعيا في مجال الحبوب وتوفير مستلزمات الانتاج سواء للمجاميع الانتاجية التابعة للمؤسسة أو الزراعية من المزارعين.
وتركز عملها بشكل رئيسي على تهامة والجوف والمرتفعات الشمالية والوسطى، من خلال زراعة الأراضي مباشرة ودعم المزارعين، حيث يتم استئجار أراضي مناسبة والقيام باستصلاحها وزراعتها، من أجل تقديم نموذج لمزارع نموذجية، باستخدام وسائل الميكنة الزراعية الحديثة، تساعد المزارع في تحسين الإنتاج وتقليل التكاليف، وتعميم هذا النموذج على المزارعين لتطبيقه على مزارعهم.
وتجسيدا للمشروع الذي أطلقه الرئيس الشهيد صالح الصماد "يد تحمي ويد تبني" تبنت المؤسسة في العام 2018 جائزة الشهيد صالح الصماد لإنتاج الحبوب، وهي جائزة سنوية تُمنح لأفضل بحث علمي في مجال انتاج الحبوب، وأفضل مزارع يحقق إنتاجية مرتفعة من محاصيل الحبوب الرئيسية "الذرة الشامية، الذرة الرفيعة، الدخن، القمح، الشعير"، من أجل خلق روح التنافس بين المزارعين في التوسع بزراعة الحبوب، وهي على مستوى المديريات وعلى مستوى الجمهورية، وجوائزها قيمة وملبية لاحتياجات المزارع نفسه، وفي نفس الوقت ستساهم المؤسسة من خلالها في تمكين المزارعين ومساعدتهم على الاستمرار في زراعة محاصيل الحبوب في مختلف المناطق الزراعية.
الأهداف:
تسعى المؤسسة لتحقيق رزمة من الأهداف، منها:
أولاً: الهدف الاستراتيجي العام:
 1 - تحقيق الأمن الغذائي.
2 - تأمين الاكتفاء الذاتي من محاصيل الحبوب.
ثانيا: الأهداف العملية:
1 - التوسع في المساحات الزراعية.
2 - زيادة انتاج الحبوب بصورة تدريجية، وصولاً الى تحقيق الاكتفاء الذاتي من الحبوب بشكل عام والقمح بشكل خاص، وفق خطط قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدي.
3 - تخفيض تكاليف الإنتاج، ليصبح بمقدور المنتج المحلي منافسة أسعار الحبوب المستوردة، وتخفيض الكميات المستوردة بصورة تدريجية، وسيكون هناك تناسب عكسي بين الكميات المنتجة محلياً وبين الكميات المستوردة.
4 - دعم وتشجيع المزارعين، وتطوير مستلزمات الإنتاج، وإدخال التقنيات الزراعية الحديثة، وتنمية المجتمعات المنتجة للحبوب.
5 - تشجيع ودعم البحوث الزراعية الهادفة إلى تطوير الإنتاجية للزراعات المطرية والمروية.
6 - تحسين التسويق وتطوير السعة التخزينية للمحاصيل.
الانجازات:
تعتمد المؤسسة آلية تمويل ودعم المزارعين بالبذور المحسنة وعملية الحراثة، مقابل حبوب يقدمها المزارع للمؤسسة في نهاية العام.
ورغم الإمكانيات المتواضعة، كان للمؤسسة بصمات واضحة في اعادة الحياة للقطاع الزراعي، وانجاز سلسلة من المشاريع الواعدة في فترة قياسية، منها:
1 - تمويل 6500 مزارع بمستلزمات الانتاج الرئيسية، في 9 محافظات، موزعة على 39 مديرية، وزراعة 450 هكتار من القمح والذرة، وتنفيذ عدد من المشاريع لخفض تكاليف الإنتاج في محافظة الجوف، عن طريق دعم وتمويل المزارعين بالغطاسات والبذور المحسنة وعملية الحراثة.
عملية التنفيذ شملت مديريات المطمة والزاهر والمتون بالجوف، ومديريات زبيد والجراحي وبيت الفقيه وباجل والمنيرة والضحي والقناوص بالحديدة، ومديريات عبس وبني قيس ومستبا وحرض وبكيل المير بحجة، والمرتفعات الشمالية بمحافظات صنعاء وذمار والمحويت وعمران، والمرتفعات الوسطى بمحافظتي إب والبيضاء، وضم محافظة تعز في العام الماضي.
2 - تحصيل 7 بالمائة من احتياج السوق للحبوب، أي توفير 7 % من حاجة الناس من الحبوب، وهو إنجاز قياسي في فترة وجيزة.
3 - تدشين حملة توعية للحد من الزحف العمراني على الأراضي الزراعية، في العديد من المحافظات الزراعية مثل عمران وصنعاء وذمار، وعمل لوحات ارشادية في القيعان الزراعية، والسعي لإصدار تشريع قانوني يوقف الزحف العمراني على الأراضي الزراعية.
4 - توزيع أكثر من 45 حراثة يدوية في 9 محافظات، في كل محافظة أربع أو خمس مديريات، تم استلام الاستمارة الخاصة بالترشح وتحليلها وعمل مهرجان في كل محافظة، لتسليم الحراثات والاعداد لتسليم الجائزة في كل محافظة.
5 - الاتفاق على أن تنشئ المؤسسة أسواقاً لشراء وبيع محاصيل الحبوب بأسعار مدعومة.
6 - إنشاء 450 مجموعة انتاج، تتشكل المجاميع من 30 مزارع، تنتخب لها رئيساً و4 أعضاء ومساعدين، ووتولى المؤسسة مهمة التسويق للإنتاج، والربط بين السوق والمزارع، والتعريف بأهمية المنتج المحلي وقيمته الغذائية.
والهدف من إنشاء المجموعات تحديد احتياجات المزارعين وتنظيم جهودهم وإمكانياتهم لإنتاج الحبوب.
وتغطي المجموعات 37 مديرية، موزعة على 9 محافظات، وتضم 11409 مزارع، بإجمالي حيازة 49000 هكتار، تتم فيها زراعة مختلف أنواع الحبوب/ القمح، الشعير، الذرة الرفيعة، الذرة الشامية، الدخن، العدس، الفول، اللوبيا ،….الخ.

المراجع:
1 - ويكيبيديا، الزراعة في اليمن
2 - محمد جميل، مقابلة مع مدير عام المؤسسة العامة لإنتاج وتنمية الحبوب "احمد خالد الخالد"، الحديدة نيوز، 9 أبريل، 2019
3 - مقابلة مع أحمد الخالد، صحيفة الثورة، 12 يناير, 2020
4 - أمين النهمي، مقابلة مع مدير مكتب وزارة الزراعة والري في محافظة ذمار المهندس "هلال محمد الجشاري"، صحيفة الثورة، 27 سبتمبر 2019
5 - فؤاد القاضي، الأمن الغذائي في الرؤية الوطنية، 26 سبتمبر نت، 9 ديسمبر 2019
6 - محمد شرف الروحاني، اليمن يواجه العدوان بالزراعة، صحيفة الثورة، 27 يوليو 2019
7 - محمد الحكيمي، آخر سنوات المجد الزراعي في اليمن، موقع حلم أخضر، 29 ديسمبر 2019
8 - أحمد المالكي، الزراعة خيار استراتيجي لتقليص فاتورة الاستيراد من الغذاء وتحقيق الاكتفاء الذاتي، صحيفة الثورة، 29 أكتوبر 2018

الأحد، 9 فبراير 2020

السلام الاقتصادي بوابة إسرائيل إلى العرب


زيد يحيى المحبشي

18 عاماً مرت حتى الآن على الرعاية الأميركية للتسوية في الشرق الأوسط بدءاً بمؤتمر مدريد 1991 ومروراً بوادي عربة فأسلو 1993 وانتهاءً بخارطة الطريق2003 وأنابوليس 2005 ، ورغم ما صاحبها من آمال عريضة لطوي الصراع العربي الإسرائيلي  لكن النتيجة كانت واحدة في ظل الانحياز الأميركي الفاضح والتعنت الإسرائيلي المتعاظم والانقسام العربي الفاقع وهي المزيد من الحروب والضغوط على العرب، والمزيد من التنازلات والقضم والهضم للحقوق الفلسطينية.

الغاية تبرر الوسيلة

بيل كلينتون انتهج سياسة المسارات المنفصلة والحلول الثنائية لكن بوش الابن قام بهدم كل ما بناه من جسور ثقة مع العرب عندما قرر اعتماد سياسية الحروب الإستباقية والمواجهة والإهمال والتجاهل المتعمد للقضية الفلسطينية – أم القضايا- فكانت نتيجة ذلك المزيد من التورط الأميركي في ملفات الشرق المتشابكة سياسياً وعسكرياً، والمزيد من الحروب الخاسرة في العراق وأفغانستان وباكستان,وبروز منافسين كبار للنفوذ الأميركي كروسيا والصين وأوربا والهند ليجد نفسه مضطراً في سنته الأخيرة لإبداء بعض الجدية آملاً في إحراز تسوية ما في المسار الفلسطيني ـ الإسرائيلي.

أوباما اليوم وهو يرفع شعار التغيير ويعد بمرحلة جديدة من التصالح مع الشرق الأوسط يريد استكمال ما بدأه بوش بإصرار وعزيمة ظاهرها التقدم باتجاه التسوية وباطنها إيجاد المخارج للورطات الأميركية بالشرق المضطرب وما خلفته من أزمة مالية واقتصادية عالمية باتت تهدد أميركا بالإفلاس والتفكك.

إذن فالاهتمام الاستثنائي بالتسوية في سنة بوش الأخيرة وسنة أوباما الأولى ليس له علاقة مباشرة بالسلام، خصوصاً وأن الرؤية الأميركية لازالت غائبة حتى الآن لسبب بسيط هو تشابك قضايا الأوسط الكبير واستعصاء فصل مساراتها المتلازمة، ولذا نجد أوباما حريصاً على رفض المسارات المنفصلة والحلول الثنائية في وقت تعتقد قيادة الجيش الأميركي بأن حلاً للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي سوف يساعدها  في كل من العراق وباكستان وأفغانستان، بل وفي وضعه الأسيوي عموماً، خصوصاً وأنه يتواجد في 21 دولة آسيوية.

الجنرال بتريوس قائد القوات الأميركية في معرض توضيحه لهذا الاستنتاج  خلص إلى أن الصراع الحامي على فلسطين يزيد من تعقيد الوضع المتردي لقواته فيما إيجاد حل ما يساعده في الخروج من ذلك التدهور وربما المساعدة على تحقيق الأهداف التي يسعى إليها, إن لم يكن كلها فالرئيس منها؛ بمعنى آخر نحن أمام مرحلة فاصلة لتقرير مصير ومستقبل النفوذ الأميركي العالمي سلباً أو إيجاباً لاسيما حينما تكون كل الجبهات مشتعلة وتتكاثر أعداد القتلى والجرحى وتُسد آفاق الانتصار العسكري أمام أميركا ولكن هذه المرة من بوابة الشرق الأوسط تحت شعار الحل الإقليمي والسلام الاقتصادي في قالب جديد للعبة القديمة المتجددة يحاول فيها أوباما التعامل بواقعية لاعبي الشطرنج مع السياسة بالتزامن, أي منشغل في الوقت ذاته مع لاعبين آخرين إقليميين ودوليين، وحسب كيسنجر فقد افتتح أوباما لعبته بنقلة غير مألوفة عندما مدَّ يَده التصالحية مع العرب والمسلمين من قاهرة المعز وبات كل شي الآن منوطاً بما ستكون عليه ردة فعل الطرف المقابل، ثم كيف يواصل أوباما لعبته، لكن المشكلة هنا أن اللعبة حتى الآن تدور بين طرفين هما ملك الشطرنج الأوبامي والوزير الإسرائيلي فيما الطرف العربي الفلسطيني المعني أساساً بالمواجهة لا يزال غائبا وكان الأمر لا يعنيه ولا يتعلق بحاضره ومستقبله.

توافق وتناغم

ثمة حقيقة يتجاهلها الكثير وهي أن معظم تفاصيل العلاقات الأميركية الإسرائيلية لا تجرِ في العلن وأن ما يجري في الكواليس أكبر وأعمق وأكثر دلالة مما هو معلن لغايات دبلوماسية ,أي أننا أمام علاقة استثنائية لها جذورها وشروطها ومحرماتها وإن وجدت هناك ثمة اختلافات في بعض الأوقات فهي في التفسير وليس المبدأ حول ما إذا كانت رؤية أي منهما تحقق مصلحتهما معا أو أحديها في الحاضر والمستقبل, ما نجد دلالته في موقف اوباما ونتنياهو من التسوية وفق شروط وأولويات معينة وما إذا كانت تصب في هذه المصلحة أم لا.

والمتتبع لموقفهما في الفترة الأخيرة يجد اشتراكاً فاقعاً إلى حد التناغم في القضايا الأساسية، وتحديداً تلك المتعلقة بالمسار الفلسطيني وهو أمرٌ مُعتاد خاصة في قضية يتقاسم فيها  الطرفان الاهتمام والحوار والمتابعة كما هو حال التوافق على الحق الديني والتاريخي لليهود في القدس والدولة الفلسطينية المنزوعة السلاح، ورفض أي ترتيبات في إطار اتفاق سلام يمكن أن يهدد إسرائيل مستقبلاً، وحل قضية اللاجئين الفلسطينيين خارج حدود الخط الأخضر ووقف كافة أشكال المقاومة المسلحة والضغط باتجاه التطبيع والاعتراف بيهودية الكيان قبل الشروع في أي تسوية، وبذلك يكون هذا الثنائي الرائع قد ألقى الكرة في الملعب العربي في دلالة واضحة على مدى عمق أواصر الصلة بينهما، وعدم إمكانية انفصالها لأي مبرر.

على أن الايجابية الوحيدة في موقف أوباما هو القبول المبدئي بالمضي في التسوية بما يلبي طموحات أطرافها وينقل المنطقة إلى عهد جديد من المصالحة لكن مع التأكيد على أنها ستكون شاقة وطويلة ومعقدة باستثناء خلاف شكلي حول المستوطنات نفته استثناءات النمو الطبيعي ومقايضة التجميد بالتطبيع والاعتراف كيما يُصار إلى مناقشة المواصفات السيادية والأمنية للدولة الفلسطينية الموعودة ولكن في ضوء الوقائع الميدانية.

 السلام الاقتصادي

إعادة صياغة العلاقات العربية - الإسرائيلية على أسس اقتصاديه جديدة تحتل فيها إسرائيل موقع المركز والعرب موقع الأطراف, فإسرائيل الأكثر تقنية بخبراتها وأموال النفط العربي واليد العاملة الفلسطينية الرخيصة من شأنه تحويل إسرائيل إلى نقطة الاستقطاب والتصدير في نفس الوقت.

نتنياهو يطالب بإقامة مشاريع مشتركة ينفذها كيانه تتضمن تحلية مياه الخليج العربي ونقل الغاز والنفط الخليجي إلى البحر الأبيض المتوسط عبر فلسطين المحتلة واستغلال الطاقة الشمسية.

اوباما بدوره جدد مطالبته للعرب باتخاذ خطوات ذات مغزى وأفعال ذات أهمية تساعد إدارته على التحرك نحو تحقيق أهدافها فيما يتعلق بالتسوية الشاملة، وبما أن وزراء خارجية العرب قد أبدوا في 24حزيران /يونيو الماضي الاستعداد لاتخاذ ما يلزم من خطوات لتسهيل مهمة أوباما لذا فهم اليوم مطالبون باتخاذ خطوات ايجابية لإنهاء عزلة إسرائيل في المنطقة في إطار مقايضة التطبيع بتجميد المستوطنات وليس تفكيكها أو إزالتها طبعاً واللافت هنا أن ورقة التطبيع هي آخر ما تبقى لدى العرب من أوراق الضغط والقوة وهي أيضاً جوهر المبادرة العربية ولذا بدا الرهان حولها جدياً هذه المرة.

المقترحات الأميركية الأخيرة تضمنت مجموعة من الإجراءات ذات مغزى بشأن المستوطنات مقابل خطوات ذات مغزى يتخذها الفلسطينيون بشأن نبذ العنف ويعلن العرب بعض الخطوات باتجاه التطبيع لكن أميركا ستكون أمام مهمة شاقة في إقناع الأطراف المختلفة بتحقيق هذا التتابع .

في التفاصيل ما يريده أوباما حالياً من العرب:

- السماح للطيران التجاري والمدني الإسرائيلي بالمرور من أجواء دول الخليج العربي والعراق في رحلاته إلى بلدان الشرق الأقصى، وهذا من شأنه تقصير المدة الزمنية والكلفة لكن العقبة في تحقيق ذلك هي الرفض السعودي السابق والحالي خصوصاً وأنه المعني بهذا الطلب أكثر.

- اعادة فتح مكاتب لرعاية المصالح في تل أبيب والتي كانت تعمل في الماضي في الخليج العربي وشمال إفريقيا والتي اضطرت لإغلاقها في السنوات الأخيرة، وقد نشطت هذه المكاتب في كل من المغرب وتونس وعمان وقطر والسماح لإسرائيل بفتح مكاتب للمصالح التجارية في سفارات دول أخرى بعواصم عربية لا تُقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل وتحديداً الرياض وأبو ظبي.

- السماح باستقبال اتصالات الهواتف الخلوية الإسرائيلية على الشبكات المحلية العربية ودخول السياح ورجال الأعمال الذين بحوزتهم جوازات سفر تحمل التأشيرة الإسرائيلية أو أختام دخول وعقد اجتماعات مباشرة بين كبار المسئولين والتبادل الثقافي.

- مطالبة العرب بتشجيع السلطة الفلسطينية على الاعتراف بيهودية إسرائيل ودعم خيار التوطين للاجئين الفلسطينيين ودعم سلطة عباس على بناء مؤسساتها ومواصلة محاربة الإرهاب ووضع حد للتشجيع عليه، وتشجيع حماس على الإندماج في العملية السياسية ونبذ العنف.

الرد العربي كان متجاوباً في بعضه حسب ميتشل كدفعة أولية على حساب تسوية سياسية شاملة فيما يرى البعض الأخر أنه لن تكون هناك مكافئة مسبقة، ولذا فدرجة التجاوب العربي متوقفة على حجم الفعل الإسرائيلي فيما يتعلق بالمستوطنات.

وبالعودة إلى قواعد التفاوض السليمة نجدها واضحة لجهة عدم المبادرة لتقديم تنازلات لخصمك حتى لا يبدو أنك متلهف على التسوية ويتصور الخصم أنك ضعيف فإن اضطررت لتقديم تنازل كبير حتى تحرك عملية التسوية لا يمكنك أن تبادر بتنازل آخر للخصم قبل أن يقدم لك تنازلاً مُكافئاً وإلا اصطبغ النموذج التفاوضي بهيمنة واضحة للخصم حتى نهاية العملية التفاوضية.

 ولكن ذلك في الممارسة العربية طبعاً بدا على النقيض تماماً ما جعلهم مطالبين مع كل نقطة مفصلية بتقديم تنازلات محسومة لتحريك ركود التسوية بحيث لم يتبقى لديهم  من أوراق الضغط سوى ورقة التطبيع وهو سلوك مدمر للمطالب العربية.

في ضوء المقايضة الأخيرة نجد أن المقابل تجميد أو وقف الاستيطان وليس تفكيك المستوطنات التي تعد العقبة الرئيسية أمام إتمام التسوية ما يعني أن الاحتلال مازال محتفظاً بأراضٍ استولى عليها في 67 والأخطر من ذلك أن المستوطنات تمثل جوهر النظام العالمي لأمن إسرائيل، خصوصا وأنها تحتضن 550 ألف مستوطن  300 ألف منهم في الضفة و250 ألف بالقدس الشرقية بواقع 7%من يهود الكيان في حين أن نسبة النمو تتجاوز 3 أضعاف النمو داخل الكيان فكيف بنا أن نتصور إسرائيل بدون مستوطنات وغير بعيد من ذلك موافقة أوباما مؤخراً على بناء 2500 وحده استيطانية بالضفة.

كل هذا يشير باتجاه واحد لاسيما إذا ما عرفنا بأن القسم الأكبر من المساعدات الأميركية لإسرائيل يذهب لصالح المستوطنات وهذا الاتجاه هو ببيع اوباما العرب الريح مقابل تنازلات مجانية وحاسمة من شانها المساعدة على تكريس الاحتلال بصيغ التفافية ومضللة والتأكد على مطامعه في الأرض، والقبض على مستحقات السلام ومنع قيام أي ميزان قوي غير موات لأميركا وإسرائيل ما يسهل أكل الحقوق وتصريفها.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 25/تموز/2009 - 2/شعبان/1430