Translate

‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالاتي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالاتي. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 5 يونيو 2013

(لقد رأى من آياتِ رَبِه الكبرى)

زيد يحيى المحبشي
يحتفل المسلمون في أنحاء المعمورة في 27 رجب من كل عام بذكرى عظيمة على قلوب المؤمنين هي ذكرى "الإسراء والمعراج" إمتثالاً لقوله سبحانه وتعالى: "ومن يُعَظِم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب" الحج/32 .
معجزة الإسراء والمعراج واحدة من الآيات الإلهية الكبرى التي أيد الله بها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بعد حصار قريش لبني هاشم في الشعب وموت الناصر - أبي طالب شيخ الأبطح -  والونيس - خديجة الكبرى - ونكبة وصد أهل الطائف، فكان فرج الله لنبيه بالإسراء والمعراج: "لنُرِيَهُ من آياتنا.." الإسراء/1
(من) تبعيضية بمعنى بعض آياتنا وليس كل آياتنا؛ تثبيتاً لقلب نبيه حتى يتحمل كل ما يلاقيه من سخرية واستهزاء وعذاب قريش وغيرها.
الإسراء والمعراج هدية ربانية أتت لتنفيس وتفريج كرب المصطفى عما كان يلاقيه من ألم صدود وجحود أهل الطائف وألم تعقب ورفض كفار قريش، وهي بالمرتبة الأولى رحلة استكشاف للكون .. وما في قوله تعالى: "لقد رأى من آيات ربه الكبرى" النجم/ 18
(من) تبعيضية بمعنى بعض آيات ربه الكبرى وليس كلها، من الغموض وعدم الإفصاح وعلامات التعجب والاستفهام عما رآه صلى الله عليه وآله وسلم ما يكفي لتبيين أهمية هذه المعجزة التي كرم الله بها نبيه.
معجزة الإسراء والمعراج التي يحتفي بها المسلمون في السابع والعشرين من شهر رجب الأغر كما هو واضح من مسماها تتكون من مرحلتين
الأولى: الإسراء من المسجد الحرام - محطة الإنطلاق - على ظهر البراق إلى المسجد الأقصى - محطة الإستراحة - والصلاة بأرواح الأنبياء إماماً في تلك البقعة الطاهرة والتهيؤ النفسي والمعنوي لبدء المرحلة الثانية: من الرحلة المقدسة وهي العروج إلى السماوات العلى؛ والمعراج كالسلم يصعد فيه إلى سماء الدنيا ثم إلى سِدرة المنتهى وهي مجرد رمزية لتوصيف عملية الانتقال من عالم الخلق الى عالم الخالق .. وفي كليهما تنقل صلى الله عليه وآله وسلم روحاً وجسداً .. وفي كليهما لم يتحدث صلى الله عليه وآله وسلم عن كل ما رآه بل عن شيئ يسير فقط تناقله الرواة فأضافوا إليه ما خُيل لهم أنه صالح لشرح آيات الله الكبرى التي رآها صلى الله عليه وآله وسلم .. فكان بعضها بحسن نية وبعضها من دس المنافقين ليشوشوا علينا أمر ديننا وليجعلوه مع العقل السليم والفطرة السليمة والسنة السليمة على اختلاف وتناقض .. فيتسرب الشك إلى القلوب ثم الكفر والجحود.
وحسبنا أن القرآن الكريم قد وصفها بـ"الكبرى" وهذا الإجمال في الوصف لطفٌ من الله لنا .. لأن عقولنا أقل من مستوى تلك المعلومات التي اختص الله بها نبيه مع أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يرى إلا ما أذن الله له أن يراه .. وقد وصف سبحانه وتعالى محافظة نبيه على حدود اللياقة والأدب وعدم مد النظر إلى ما لم يُأذن له برؤيته فقال سبحانه: "ما زاغ البصر وما طغى، لقد رأى من آيات ربه الكبرى" النجم/17 – 18
ولنا أن نتصور ما شئنا من آيات الله الكبرى التي أطلع عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكن شريطة أن نعرض ذلك على كتاب الله فما وافقه فهو الصواب وما خالفه فهو باطل مردود .. وعقل المخالف بلا شك محتاج إلى طبيب وليس القصد الإطالة وتصحيح وتنقية ما روي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الرحلة العظيمة المباركة وإنما الوقوف على الحكمة من هذه المعجزة الإلهية ..
وقد عرفنا أن القرآن الكريم جعل الحكمة "الصريحة" في ذلك: تثبيت قلب الرسول الخاتم بما رآه من آيات ربه الكبرى ليزداد هُدى ونوراً وصبراً على تحمل ما لاقاه ويلاقيه بعد موت أبي طالب وخديجة من ضروب الإهانة والسخرية والتعذيب ..
 والحكمة "الضمنية": اشعار الرسول الخاتم وأمته بوحدة الشريعة السماوية المنزلة عليه والرسل من قبله فهو صلى الله عليه وآله وسلم لم يأتِ بشيئ جديد ولم يكن أول من تلقى الإهانة والتعذيب في سبيل الله، فقد تلقاها من قبله إبراهيم الخليل وموسى الكليم، ويشير إلى هذا رحلته صلى الله عليه وآله وسلم إلى بلد الأنبياء "القدس الجريح" وتعريجه على طور سيناء جبل الكليم موسى عليه السلام وإتفاقه بأرواح الأنبياء عليهم السلام.
لذا وجدت قريش في هذه الحادثة التي سمتها "خرافة" مرتعاً خِصباً لنشر الأقاويل والأكاذيب والدعايات المغرضة ضد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .. ويأبى الله إلا أن يُتِمَ نوره ولو كره الكافرون .. وتظهر آيات ذلك في وصفه صلى الله عليه وآله وسلم لبيت المقدس وصفاً دقيقاً كأنه يراه الساعة وإخباره صلى الله عليه وآله وسلم ببعير لقريش في الطريق وما شرد منها وما جرى لماء قافلتهم ومتى يصلون مكة .. وبرغم من كل ذلك: أمن من أمن وصدق، وكفر المعاند الجهول الغوي.
الاسراء والمعراج ببساطة إعجازٌ أبهر الكافر والمعاند والزنديق والمنافق .. وأظهر مدى علم الله وضآلة العلوم الحديثة التي لا زالت تدور في محك بسيط من سماء الله المليئة بالأسرار والعجائب

الخميس، 16 مايو 2013

قراءة في مفهوم التغيير

زيد يحيى المحبشي
التغيير الحقيقي والشامل حسبما قرئنا في العلوم السياسية يختلف كليةً عن التغيير الجزئي في مبناه ومعناه, لسبب بسيط هو أن الثاني مجرد محطة ترانزيت غايتها ترميم وتجميل الموجود القائم دون إحداث أي تحول فعلي في المنظومة العامة  المثار عليها (تغيير في الأشخاص دون المساس بالسياسات ممزوجاً ببعض المحسنات الاقتصادية الممرحلة).
 بينما يقوم الأول على إحداث تحولات فعلية عميقة ونهائية على نحو يقطع مع عصر استبدادي كامل, وإقامة نظام جديد يتسع لكل أبنائه ودولة جديدة لم يعد فيها البلد مزرعة لأحد, وشعب يؤمن بحتمية التغيير كخيار وقدر غير قابل للمساومة والمتاجرة, شعب مستعد للتضحية ودفع الأثمان المترتبة على التغيير, وصولاً إلى امتلاك زمام المبادرة, شعب قادر على أن يحدد بالدستور والقوانين والشرعيات شروط ومواصفات "من يحكمه وكيف يحكمه", شعب لديه من الضمانات ما يكفي لمنع أي سلطة رئاسية أو حكومية من التحول مجدداً إلى سلطة قمعية واستبدادية..
ضمانات تنبني على انشاء عقد اجتماعي جديد يضم دستور وأركان نظام ديمقراطي مؤسساتي مدني, يُؤسَسَ على أنقاض سلطة الرأي الأوحد والحزب الواحد, عقد اجتماعي جديد يُسمح فيه للمجتمع – بعيداً عن أهواء السلطة الديكتاتورية المتهاوية وسيوفها التي لا زالت مسلطة على رقاب الناس- بوضع قواعد وأسس دولة مدنية عصرية, لا رغبات فيها لسلطة تسعى إلى تأييد وتأليه وتقديس الأنظمة القفصية الاستبدادية, ولا ينفرد فيها الحاكم بالتحكم في غرفة الأقدار.
التغيير الحقيقي والشامل ببساطة هو نتاج طبيعي وترجمة عملية لتوافر الثقة المتبادلة بين أطياف الفعل الثوري والسياسي وإعمال الولاء الوطني وتقديمه على ما عداه من ولاءات ضيقة وقبل هذا وذاك وجود إرادة وطنية تؤمن بحتمية وضرورة التوجه الجِدِي الجمعي لتجاوز الرؤى الكلاسيكية القائمة على ثقافتي الغالب والمغلوب وإبدال التنابذ والتحاقد والتحارب بالتحاور والتدافع, والتوافق على معايير وآليات واضحة, تسهم بشكل ناجز في بناء منظومة علاقات متينة بين أطياف الفعل السياسي والثوري, علاقات واثقة ومطمئنه تضمن استمرار الطاقات المتعددة والمتنوعة وتضمن الاختلاف المذهبي وخصوصياته وتكفل طبيعة المحتوى الثقافي والفكري وخصائصه المتنوعة وتدفع بأطياف المجتمع "معاً" إلى ساحة الفعل الحضاري والتنموي, حسب رؤية المواطنة المتساوية والعيش الواحد المشترك والوطن المتسع لجميع أبنائه, ومن خلال روافد المحبة والتسامح والإقرار بمبدأ تكافؤ الفرص بين أبناء الوطن عامة.
وكل هذا لا يتأتى ولا يكون إلا في حالة واحدة وواحدة فقط, هي امتلاك القدرة والإرادة الجمعية لبناء منظومة متنوعة من الأسس والمرتكزات المُتَنَاغَم والمُتَوَافق عليها وإليها, تضمن البناء السليم للحاضر والانطلاقة الواثقة نحو المستقبل...  

الأربعاء، 8 مايو 2013

الربيع العربي وعقدة الأسلمة

 لا يمكن لجماعة دينية متزمتة ومتكلسة أن تتحول بين ليلة وضحاها من جماعة متطرفة في رؤيتها ومنهجها وشعاراتها, إلى جماعة حضارية ومدنية تفتح أبوابها للجميع وتحتضن الجميع وتدافع عن الجميع!!.
تجارب الثورات البشرية الكبرى كانت على الدوام تظهر أن أصحاب الأفكار الجذرية والمتشددة, لم تكن تتصدر واجهات الثورات في البداية, ثم لا تلبث أن تنقض عليها بوحشية لتسيرها بحسب أهدافها الايديولوجية المتشددة ومنطلقاتها الفكرية المتخشبة وطبائعها العنيفة القهرية الإقصائية الاستحواذية.
التفشي المخيف والمرعب اليوم لظاهرة استغلال الدين والثقافة التي تُدِين أفكار وضمائر البشر – ثقافة تأمثُل الذات وشيطنة الآخر - وتتكلم بطريقة مطلقة وكأنها المالك الحصري للحقيقة والمسئول المفوض عن توزيعها وتفسيرها وبيعها وشرائها ومنحها ومنعها, والاكتفاء بظاهر الأشياء.. أمرٌ لا يستطيع إنكاره سوى أعمى البصر والبصيرة.
 هذا الوضع الكارثي المتمخض من رحم الربيع العربي ليس بالأمر الجديد علينا, فهو بحسب الكاتب علي أبو طالب: " فرز طبيعي لما يشهده واقعنا العربي والإسلامي من تراجعات حادة على مختلف النواحي الإنسانية والتنموية والحقوقية .. يساهم فيه بشكل واضح تلك الصورة السياسية المحنطة, فضلاً عن الجمود والتكلس اللذين يشهدهما الخطاب الديني بالتحديد .. فلا غِرو إذن إن عاشت شعوب العالم العربي هامش التقدم والحضارة, وهي تفتقر إلى أقل ما تتمتع به الشعوب الأخرى من استحقاقات سياسية أو مدنية .. فما يزال الإنسان العربي بعيداً كل البعد من أن ينخرط في عملية تنافسية ونزيهة ذات طابع ديمقراطي حقيقي للوصول إلى مواقع صنع القرار..!!".
اسباب كثيرة افضت بنا إلى هذا الوضع الكارثي ابشعها تضخم وطغيان عقدة الأنا المثالية(التأمثل وادعاء الطهرانية) في السلوكيات والممارسات, وتزايد الصراع بين ثقافتي الغالب(الغلبة) والمغلوب(المغلوبة), والتي لا تزال تتحكم في مسارنا ومصيرنا, مع فارق نسبي هو أن "الأولى" تأخذها العزة بالإثم ومن منطق نشوة الانتصار تُجِيز لنفسها أن تفعل "ما تشاء وقت ما تشاء" دون أن يردعها قانون أو يُلزمها عهد أو ميثاق؟!, و"الثانية" المغلوبة على أمرها تظل في غيها مكابرة, تلتقط من الماضي ما يدغدغ  مواطن النشوة الوهمية لديها..
الانتشار المخيف للجماعات والتيارات الدينية المتزمتة الخارجة من جحورها بعد سقوط الديناصورات العربية و سعيها إلى نسج علاقاتها مع الآخر المختلف معها في الفكر والمعتقد والرؤية وفق مبدأ امتلاكها للحقيقة المطلقة أو أنها تمثل النموذج  الطهراني الفريد.. نهج كارثي موغل في الظلام ومجافي لكل الحقائق والنواميس الكونية المجمعة على أن: "الدين واحد والشرائع مختلفة, وأن مشكلتنا ليست في الأديان بقدر ما هي في المعارف والأفهام البشرية, وأن الإنسان نفسه يبقى اللاعب الأبرز وراء كل المعطيات الحيوية والقيمة الحقيقية ليس لفهم الوجود فحسب بل باعتباره المسئول الأول عن تشخيص علاقته بنفسه وبالأخر أيضاً..في قُبالة معطيين رئيسيين هما: الدين بمجموعه التاريخي والتراثي والحيوي, والواقع بكل تفاصيله وتساؤلاته المكثفة..".
العجب كل العجب ان تلك الجماعات المتزمتة الخارجة من كهوف الظلام والنسيان التاريخي بعد قرون من تقيدها الصارم بفقه الخنوع والخضوع القائم على قاعدة الولاء المطلق والطاعة العمياء لحكام الجور والظلم ولا تتوان أو تتورع عن مزج ذلك بفتاوى تحريم الخروج مهما كانت فضاعت وفُحش افعال وأعمال الحاكم باعتباره قدر إلهي والاعتراض عليه اعتراض على الارادة الالهية والاعتراض على الارادة الالهية موجب للكفر ومهدر للدم والمال والعرض.. بحيث صار يطلق على هذه الجماعات اسم(مذهب ذيل بغلة السلطان) .. فإذا بها فجأة تعلن رغبتها في المشاركة بالعمل السياسي والحزبي الذي ظل إلى عهد قريب من المحرمات والكبائر الموجبة لسخط الله, على الأقل لدى بعضها, والسؤال هنا: (هل هذا التحول المفاجئ والصادم وغير المفهوم عن اقتناع أم أنه فقط لإقناع أو خداع الساذجين؟!!)..
 خصوصاً وأنه قد تجاوز حدود الرغبة في المشاركة إلى خطف الثورة والدولة كما هو الحال في تونس ومصر وإلى حد ما اليمن وليبيا, بما يحمله هذا الخطف والاستحواذ من مخاطر كارثية قاتلة على الديمقراطية والمدنية المنشودة.. لم تعد مدخلاتها خافية على أحد, وبدعم غربي أميركي غير مسبوق هذه المرة.. مصحوباً بشن حملة إعلامية مكثفة يقودها الإعلام المسبح بحمد الغرب وأميركا لتلميع صورة أحزاب وحركات الإسلام السياسي وتقديمها كحليف بديل عن الأنظمة العربية المتهاوية للغرب وأميركا وتهوين المخاوف منها وبالتالي العمل على تهيئة المناخ الملائم لتصدرها واجهة المسرح السياسي العربي الجديد وإدارة دفته, وهذا لغز أخر من ألغاز الربيع العربي بحاجة إلى قراءة مستفيضة, لأنه ينم عن قصة حب عذري غريبة الأطوار ومغازلة أضداد مفضوحة أشعلتها ايديولوجية "تبدل المصالح والأثمان" القائمة على لهيب المساومة والمقايضة, فالغرب وأميركا بحاجة إلى ضمان مصالحهم ونفوذهم وحركات الإسلام السياسي بحاجة الى الاعتراف بشرعيتها والدعم اللازم لضمان تسيدها وتمددها, أي أنهما أصبحا سمن على عسل أو هكذا اعتقد ساركوزي عام 2011 عندما قال بانتشاء فاضح: "إن الثورات العربية لم ترفع شعارات إسلامية ولم تطلب الموت للغرب, وهي تناضل من أجل سيادة القيم الغربية, فلماذا نتردد في دعمها؟!!".
أما الصورة في سورية فتبدو اكثر فضاعة بعد أن حولت جماعات الإسلام السياسي احلام التغيير الاكثر من مشروعة الى فرامات اغتيال وقتل مدمر للأرض والإنسان والحضارة, فرامات ممهدة بفتاوى شيوخ التابو والذعر المحرم الاكثر فتكاً وفُحشاً واستباحةً وإباحةً لكل المحرمات؟!! وسكوت وصمت طغات العالم ودعم مستميت من حلفائهم الإقليميين, إنها فرامات ملونة بصبغة الدين تبتغي القتل والخراب والدمار لأخر قلاع الصمود والممانعة بذريعة التغيير وهذه أم المصائب.
ربيع متلاشي وحركات متزمتة تخرج وتتمدد بهستيرية باعثة على الغثيان وتدخل خارجي موغل في الفحش.. وأنظمة متوالدة من رحم الأمل المأساة, أنظمة لا جديد فيها, أنظمة لا زالت بفعل طغيان العقل الجمعي الاستحواذي "مجرد ديكور جديد لمعطيات ثابتة وعقائد جامدة" دون أن يكون هناك أي أثر على صعيد الحرية والديمقراطية, التي هي أساس المشكلة وأساس الحل.
والنتيجة الفاقعة لمحصلة الربيع الممنوع من الصرف "سر مكانك" وبلغة الكاتب   والمبدع الطاهر بنجلون(فبراير 2012): " الثورات العربية التي كشفت في بداياتها أن خطاب الإسلامويين لا يتناسب مع تطلعاتها.. صارت تجد نفسها اليوم فريسة بين الحركات الاسلاموية.. مما يدفعنا للقول إنها ليست في مرحلة الديمقراطية.. الالتباس وقع لما اعتقد البعض أن ممارسة حق الانتخاب تكفي لادعاء الديمقراطية .. الانتخابات هي تقنية.. الديمقراطية شيئ آخر, هي ثقافة تتجسد في قيم أهمها: الاعتراف بالفرد والاقرار باختلافه وبحقوقه وبواجباته أيضاً .. ثقافة احترام حرية الآخر ما تزال تبحث عن مكان لها في الدول العربية".



الاثنين، 29 أبريل 2013

الحرية والربيع المتصرم



زيد يحيى المحبشي
الحرية كلمة بسيطة النطق مكونة من ستة حروف, لكنها عميقة المعنى, لأنها تلخص تاريخ كفاح البشرية نحو الإنسانية والسلام, لذا فمن المستحيل لأي أمة من الأمم أن تتحرك نحو الحضارة والتقدم, دون أن تستنشق رحيق الحرية والاستقلال.
حب الحرية يتعارض كلية مع حب القوة.. حب الحرية هو حب الآخر وحب القوة هو حب النفس
حب الحرية الايمان العملي بالتعدد والتنوع والمواطنة المتساوية والتنمية المتوازنة والعدالة الاجتماعية, انها ببساطة حكم الشعب, حكم المؤسسات, مشاركة الجميع في بناء الحاضر والمستقبل.. حب القوة يقوم على الضد.
حب الحرية ثورة شعب ثورة أمة ضد طغيان سلطة قفصية تديرها دكتاتورية الآنا المتسلطة والمتحكمة دون سواها بغرفة الأقدار لأمة مسحوقة مظلومة مقهورة.
حب الحرية ثورة من ثلاثة مراحل متلازمة ومتداخلة هي:(الهدم وهو اسهلها, التحول/الانتقال وهو اخطرها لأنه يمثل جسر العبور الآمن بالثورة الى المرحلة الثالثة ونقطة الفصل في الحكم على نجاح الثورة من عدمه, البناء بناء اوضاع ونظام جديد يتوافق مع الاهداف التي قامة الثورة من اجلها).
وهذا يعني أنه لا قيمة للهدم مالم يكن بهدف البناء, فهدم نظام فاسد بدون وجود خطة حقيقية لإقامة نظام عادل هو اخطر من النظام الفاسد ذاته والمستقبل الواضح المعالم لا يُبنى بالهدم فقط بل برؤى علمية واضحة الترتيب لما بعد الهدم.
انفجار ثورات الربيع العربي المتصرم على ايدي شباب الطبقات الوسطى والدنيا بقدراتهم المادية البسيطة وخبرتهم السياسية والتنظيمية والحزبية الضحلة بعيدا عن الاحزاب ودون قيادة واضحة تدير الفعل الثوري ورؤية عملية واضحة المعالم لما بعد الهدم.. لكن رغم ما سجلوه من مواقف ثورية جسورة بالنظر الى مشروعية المنطلقات الدافعة بهم الى ساحات وميادين الحرية والكرامة.. إلا أن وثبتهم الثورية المتطلعة الى المستقبل وصمودهم الاسطوري امام جبروت الديناصورات المتغولة, لم يكن سوى عامل واحد من عدة عوامل أخرى لعبة دور المساعد وبالأصح المخرج لفيلم السقوط المدوي وخدش طهر ونقاء الربيع العربي ومنعه من الانتقال نحو حسم الصراع لصالح الحرية في الوقت ذاته, ورغم النجاح الساحق لشباب الربيع في اسقاط الديكتاتور/ الديناصور فقد مني الفعل الثوري بالفشل الذريع عندما اراد التطلع للإطاحة بالمنظومة الديكتاتورية/ الديناصورية التي خلفها الديكتاتور العربي المتهاوي.
عوامل كثيرة قادة الى فشل الفعل الثوري في اسقاط المنظومة الديكتاتورية منبعها غياب القيادة الكارزمية الثورية وغياب الرؤية الثورية الواضحة لما بعد الهدم مضافا إليها بروز ثلاثة ظواهر متلازمة ومتداخلة لعبة دورا محوريا في خدش مشروعية احلام وتطلعات الفعل الثوري وخلق الارضية الملائمة لخروج افاعي وخفافيش الابواب الخلفية من جحورها  وانقضاضها على حصان الثورة وكبح جماحه, وهي:(انقسام المعارضات, عسكرة الثورات, الاستنجاد بالأجنبي وطلب التدخل الخارجي).
ولهذا قلنا ان عملية الهدم المتمثلة في تغيير أو اسقاط أو رحيل أو هروب أو قتل الديكتاتور لا تعني بالضرورة تغيير النظام وسقوط منظومته الديكتاتورية(اعوانه, قيمه, أجهزته القمعية) ولا تعني بالضرورة ان طريق الاصلاح والبناء بات مفروشا بالورود, لأن مرحلة التحول ملغومة وحافلة بالكثير من المفاجآت الكفيلة بنسف واجهاض كل الآمال المعلقة على التغيير الآمن والسلس, خصوصا أن الحرس القديم بتلاوينه – وليس صانعي الثورة – هو الذي يضمن ويشرف ويدير هذا  التغيير بدعم وإسناد وتوجيه منقطع النظير من طغاة الامبريالية العالمية وأعوانهم الاقليميين.
والحقيقة المرة أن الحرس القديم ما كان له تسنُم ظهر الثورة والثوار وما كان لقوى النفوذ الاقليمي والدولي هذا التدخل الموغل في الفحش لو كانت هناك قيادة ثورية موحدة ورؤية ثورية واضحة الترتيب لأولويات التحول والبناء.. وهو ما لمسناها في تغير وتزايد وتضارب مطالب الثوار كل يوم وتخبط رؤاهم وتشعبها وتضادها وما خلفته من كوارث ونتائج غير محسوبة العواقب.
والنتيجة استحالة بناء مستقبل واضح المعالم على رؤى غير واضحة واستحالة الانتصار للحرية لأن هدم الباطل يفوق بكثير القدرة على اقامة الحق بديلاً.
اليمن أحد بلدان الربيع العربي المتصرم كنموذج لم يحرز شيء بعد عامين من عمر الفعل الثوري, فالجمعة الجمعة والخطبة الخطبة والديمة الديمة, باستثناء متغير وحيد ويتيم الاحزان طبعا انصافا للتاريخ هو: (الانتقال من خطف الثورة إلى خطف الدولة والسيادة) وهكذا تحولت الحرية الحلم الوردي الى غابة اشواك اقحوانية فتاكة والثورة المحقة في منطلقاتها الاكثر من مشروعة الى كابوس وذعر ومخاوف لا تنتهي من اهاويل حاضر متشضي ومستقبل غير واضح المعالم وحرية لم تجد لها مكانا في عالمنا العربي بعد.. إنها ببساطة فتنة الفوضى بعد سكرة الثورة!!.

الثلاثاء، 23 أبريل 2013

الدولة المدنية بين الواقع والخيال



بقلم زيد يحيى المحبشي
الدولة المدنية لم تكن في يوم من الأيام دينية أو بوليسية بل مدنية مدنية في مبناها ومعناها.. الدولة المدنية كانت ولا تزال الأمل والملاذ لكل من يؤمن بالتعدد والتنوع والحرية للجميع دون تفرقة عنصرية على أساس المذهب أو العرق أو الجنس أو المستوى الاجتماعي..
الدولة المدنية الحلم والحضن الدافئ لكل من يؤمن بأن عملية التحول نحو المدنية لا يمكن ترجمتها دون توافر النية الصادقة والعزيمة النافذة والإرادة القوية والثقة المتبادلة بين مكونات الفعل السياسي وتجذر الولاء الوطني الخالي من شوائب التبعية وتقديم المصلحة الوطنية على ما عداها من المصالح والحسابات الضيقة والابتعاد عن التشنجات والنعرات الدينية والمذهبية والفكرية..
الدولة المدنية المرفأ الآمن لك وطني غيور يطمح إلى بناء المستقبل على أسس ومبادئ جامعة يؤمن بها جميع أبناء وطنه باختلاف مشاربهم ومأربهم واتجاهاتهم السياسية والثقافية والمذهبية والعلمية..
المدنية هي التعلم من التاريخ لا التغني به لأن المجد الحقيقي ما نبنيه في الحاضر ويحياه الناس دون أوهام ماضوية ماتت وشبعت موت..
المدنية تعني ضرورة أن يعادل رفضنا للماضي الفاسد شجاعتنا في بناء المستقبل, والانتقال من الهدم إلى البناء ومن الشجب إلى العمل ومن اتهام الاخرين أو تخوينهم إلى اتهام النفس ومحاسبتها قبل الآخرين(جدية التخلي عن ثقافة اتهام وتخوين الاخرين للتهرب من مسؤوليتنا), والانتقال من سياسة الاستحواذ والإقصاء والتفرد بمفاتيح غرفة الاقدار إلى ثقافة المواطنة والمشاركة الوطنية المتسعة للجميع..
 المدنية تعني ضرورة أن يدافع كل فرد من أفراد المجتمع عن حقوق الاخرين بنفس القوة التي يدافع بها عن حقوقه, دفاع المجتمع عن المظلوم والمقهور, دفاع القوي عن الضعيف وليس العكس, لأن التحضر يقاس بدرجة حماية الأكثرية للأقلية..
المدنية تعني خلق بيئة ثقافية وفكر إنساني حر لا يخاف بطش الاكثرية أو قوى النفوذ بتلاوينها ولا يبحث عن دغدغة المشاعر باللعب على وتر الدين, ووجود مثقفين يدافعون عن الحق والمجتمع دون تصفيق أو رياء لأصحاب السلطة والنفوذ, دون أن يبيعون أفكارهم وأرائهم لمن يدفع أكثر..
المدنية تعني وجود ارادة شعبية حقيقية ومؤثرة (قاعدة شعبية يمكن البناء عليها بشجاعة) تفهم معنى مدنية الدولة, ومستعدة لفعل أي شيء من أجل الوصول إليها, ووجود قائد قوي يملك حجة الحديث والمنطق لا قوة السلاح والبطش, قائد لديه رؤية علمية واضحة المعالم وواضحة الترتيب لأولويات البناء, ومستعد للموت من أجلها, لإيمانه بالوطن وبالمستقبل..
والمدنية قبل هذا وذاك تتطلب وجود قادة جدد يقدرون الثورات الشعبية السلمية ويحترمون ارادة شعوبهم ويحمونها ويمنعون الفساد ويضعون حداً للانتهازيين والمتسلقين على أكتاف ودماء وتضحيات الثوار والثورات..
المدنية حلم وردي يحمل في طياته كل معاني الجمال, حلم اشبهه بطيف علان (قوس قزح) علا سماء ما بات يعرف بالربيع العربي.. غير أن فجائة الظهور السريع بما اشاعه من أحلام وأمال وطموحات, سرعان ما تلاشت وبذات الطريقة, مخلفة ورائها كومة من الاسئلة المتعثرة عن مستقبل شعوب ما يزال مكتنفا بالغموض الكبير, مستقبل شعوب سمية ظلما بسلة ورد الربيع المتفتح, ورد لم تنال منه سوى السراب/الطيف القزحي, ورد سرعان ما تحولت سلته العابقة الى اشواك متوحشة في تنمرها متوحشة في شدة ايلامها, وفي وسط غُدرة الربيع بدت شاسعة بين فساد الانظمة وحاشيتها ورغبات الشعوب وطموحاتها, بين اسقاط الديكتاتور المستبد وبقاء الديكتاتورية, بين شعوب تحلم بالتغيير وتخشاه تصيح بالثورة وترفض دفع الثمن, بين عقل جمع لا يزال يمارس سطوته في الساحات والميادين الربيعية القزحية يتمنع التفكير على اصحابه وهواجس تحل محل الأفكار, محولة في طريقها احلام المدنية الى كابوس مخيف وحلم مستحيل

الأحد، 21 أبريل 2013

الزيدية

بقلم زيد يحيى المحبشي
حركة فكرية وثورية وتحررية واعية وتجديدية ومنفتحة تستوعب الاخر المختلف وتحرر العقل البشري من أغلال الانغلاق والتقليد الاعمى والاستنساخ الشائه والمحاكاة غير الواعية وتأنسن الانسان ..
حركة فكرية وثورية متسعة الافق ومنفتحة المدارك على جميع المذاهب والتيارات الفكرية بشهادة الكثير من المفكرين في عالمنا الاسلامي، وهو ما جعل الزيدية على الدوام محل نزاع بين المذاهب الإسلامية، فالشيعة تعدها ضمن مذاهبها المعتبرة والسنة ترى أنها اقرب مذاهب الشيعة إليها ..
 لذا فهي بشهادة الطرفين وبلا منازع "مذهب كل المسلمين"، لماذا؟ .. لأن الهدف والغاية واحدة وهي احياء شريعة خاتم الانبياء والمرسلين بغاياتها ومقاصدها الاخلاقية الرامية الى إعمار خراب الأرواح والقلوب والعقول والديار وإشاعة مبادئ الخير والسماحة والسلام والحرية والكرامة وأنسنة الانسانية في كافة مناشط الحياة ..
ونحن هنا نتحدث عن الزيدية الخالية من شوائب التدجين وليس عن الزيدية التي لم يعد لها من زيديتها سوى مسماها ..
 وبما أن الشئ بالشئ يُذكر فكم هو جميع ان نجد ائمة وعلماء ومفكري الزيدية في غاية الوضوح والصراحة في تحديد الهدف والغاية والتأكيد الدائم على أن الأمة الاسلامية وإن اختلفت توجهاتها؛ تجمعها راية واحدة وعقيدة واحدة ونبي واحد وقبلة واحدة ..
وفي هذا  يقول الشريف المرتضى أبو القاسم علي بن الحسين رحمة الله عليه: "الله ربنا ومحمد نبينا والإسلام ديننا والقرآن إمامنا والكعبة قبلتنا والمسلمون إخواننا والعترة الطاهرين آل رسول الله والصحابة والتابعون لهم بإحسان سلفنا وقادتنا والمتمسكون بهديهم من القرون بعدهم جماعتنا وأولياؤنا، نحب من أحب الله ونعادي من عادى الله"
 فلماذا الفرقة إذن ما دامت الاهداف واحدة؟؟؟
تأملات:
* لا فرق بين سلفية الحنابلة وسلفية الزيدية في تأليه الحكام وتعطيل نعمة التفكير والعقل وتسفيه وتكفير المخالفين في الرأي والفكر وتقديس التاريخ بغثه وسمينه وتحريم الخوض فيه
* زمان اشتكى عبدالله هاشم الكبسي من تطحيس الرئيس الراحل علي عبدالله صالح لمذهب زيد بن علي:
قد قلت لك يا علي .. طحست زيد بن علي
فأين هو زيد بن علي عليه السلام اليوم وأين هو الفكر الزيدي المستنير من وجدان وسلوكيات واقوال وأفعال من يحكموننا باسمه للأسف .. حقيقة مرة .. لكنها واقع الحال .. ولا خير فينا إن لم نقولها رغم مرارتها .. بعد ان صرنا مجرد صدى للأخرين خارج الحدود والفكر والعقل والمنطق
وزمان أيضا تساءل الأكوع وله حق التساؤل:
زيدية اليوم ليست بزيدية الأمس .. فهل كان محقا؟؟
* توجه مخيف وممنهج نحو تجهيل المجتمع
كانت مساجدنا عامرة بالعلماء والمتعلمين؛ يدرس فيها علوم لغتنا واخلاق ديننا وأحكام شريعتنا وفلسفة الخلقة والأخلاق والعدل والتوحيد وأصول التشريع والاجتهاد .. كتب متنوعة هي عصارة اكثر من 1300 عام لعلماء الزيدية والشافعية تم تنحيتها  ووضعها في رفوف النسيان .. ثراء فقهي وتشريعي ومعرفي وفكري وثقافي وأدبي بدأ بالذوبان في بحيرة محدلة التجريف والتجهيل .. 1300 عام من انتاج اليمن الفكري والمعرفي والفقهي اختفى فجأة ليتم استبداله وبتوجه رسمي لم يعد خافيا على أحد بالتسطيح والطمس والتجهيل والمنع لأسباب يعلمها الله والراسخون في العلم ..
لم أتفاجأ في نهاية رمضان قبل الفائت بتواصل أحد الأخوة الأعزاء المقربين من الحكام الجدد وأحد المستائين من توجههم المتعمد نحو تجهيل المجتمع .. وهو يشكو لي بكل حرقة وألم تفشي الجهل بأحكام العبادات والمعاملات بين الشباب ووقوع الكثير منهم في المحظورات الشرعية وتجاوز نسبة الالحاد في مدينة صنعاء وحدها 10 بالمئة .. وعندما سألته عن السبب؟ .. قال: توقف تدريس العلوم الشرعية التي اعتاد أباؤنا وأجدادنا على دراستها في المساجد واستبدالها بتدريس فكر الجماعة وبالتالي توقف المساجد عن أداء رسالتها التنويرية .. ما نراه شيئ محزن ومؤسف .. يحتاج الى المراجعة وتدارك ما يمكن تداركه إن كان لا يزال هناك بقية من ضمير

السبت، 26 فبراير 2011

تونس ومصر: ثورات شعبية تضع المعارضة على المحك

بقلم زيد يحيى المحبشي

نسائم التغيير في تونس ومن بعدها مصر, أعادت على الأقل إلى قاموس الحياة السياسية العربية كائناً سياسياً اسمه "المعارضة", بعدما كان نظاما "بن علي ومبارك" يفخران وباعتداد كبير, بأنه ليس في بلديهما شيء إسمه معارضة، بل - فقط - مجرد عملاء للخارج. ثورة التغيير الشعبية أهدت المعارضة أيضاً هدية خلع رأس النظام, وهو أمرٌ ما كانت لتفعله من تلقاء نفسها, لقلة حيلتها وتشتتها وربما لضعف تمثيلها في الشارع, كما أجبرت النظامين على الجلوس مع قوى وأحزاب, لم يعترفا بها يوماً, ولم يكن من الممكن تصورها قبل اندلاع الثورة الشعبية.
لقد أعادت الثورة في كلٍ من تونس ومصر بعث الروح في جسم المعارضة المنهكة بخلافاتها الداخلية والخارجية, إذ لأول مرة تنجح قواها الرئيسية بمختلف أطيافها وتوجهاتها في إصدار بيانات تساند الاحتجاجات الشعبية وتتبنى مطالبها, ولم تغب عن ذلك القوى التي ظلت لعقودٍ من الزمن, محظورة وعُرضة للقمع والتعسف والتنكيل, وكان الاشتراك معها في النشاط السياسي, خط أحمر رسمته الدولة والتزمت به أغلب الحركات السياسية في البداية على الأقل, إلا أن تصاعد وتيرة الغضب الشعبي وارتفاع درجة الوعي والثقافة الوطنية وارتفاع الأصوات المنادية بحماية الوطن من الاحتراق وصون الدماء الوطنية, كان كافياً لإبراز الوحدة الوطنية لجميع التيارات والقوى, وهو ما كان له عظيم الأثر في تعضيد المد الشعبي ووحدة الهدف وعدم تجزئة المطالب,وفي تفويت الفرصة على السلطة لاستعداء قوى المجتمع الحية بعضها على بعض, مفتتحةً بذلك عصراً عربياً جديداً, يتاح فيه الجميع بين الحرية والحقوق وبين السيادة والمواطنة, بوسائل سلمية "لا عنفية" وبإرادة شعبية داخلية محضة، وهي واحدة من أهم الدلالات التي أثارتها رياح التغيير التونسية والمصرية على حدٍ سواء, بعد أن أدركت قواها الاجتماعية أن الحلول التي تأتي من الخارج لا تشكل ضمانة للحكام أو للمعارضات معاً, بل ستؤدي إلى إضعاف الهوية والوحدة الوطنية.
المعارضة التونسية والمصرية اليوم أمام فرصة ذهبية لدخول التاريخ مجدداً من بابه الواسع ليس بالاحترام فحسب، بل وبأن تُحب, فهل ستكون هذه المرة جاهزة لالتقاط عطايا شعوبها الأصيلة؟ وهل ستكون قادرة على جمع صفوفها وتوحيد كلمتها حول برامج إصلاحية جادة, وفق معايير ديمقراطية حقيقية تنقل شعوبها من العالم القديم إلى العالم الجديد، من حكم الفرد والعائلة والعشيرة والحزب والجهة إلى حكم الشعب وكرامة الفرد، حكم المؤسسات والقانون، حيث تُحترم كل الحريات والحقوق على أساس المساواة والمواطنة والتداول السلمي للسلطة والتعددية الايجابية, وصولاً إلى تحويل الثورة من مجرد غضب شعبي عارم إلى عمل عقلاني حكيم, يقيم أنظمة ديمقراطية حقيقية؟ على الأقل ذلك ما يحلم به المفكر التونسي راشد الغنوشي, وهو حلم يشاركه فيه غالبية مُفكري تونس ومصر, لكنه يظل مرهوناً –حسب اعتقاده- بمدى قدرة المعارضة على الارتفاع إلى مستوى الحدث وتعالي زعمائها عن حظوظهم الشخصية ومصالحهم الحزبية وخلافاتهم الأيديولوجية, بما يسمح بتلاقيهم للاتفاق على إقامة البديل الديمقراطي المنشود, تماماً كما فعلت عشرات المعارضات في أوربا الشرقية, عندما اتحدت فكان اتحادها إيذاناً بمولد أنظمة ديمقراطية حقيقية, أعادة لشعوبها الحياة من جديد, وحتى لو فشلت المعارضة التونسية والمصرية في صناعة البديل فنزا على السلطة مرة أخرى نازٍ جديد بتدبير خارجي، فستكون على الأقل في موقف يجعلها قادرة على استخدام حق الفيتو ضده, لانتزاع حقوق الشعب من بين مخالبه وفرض الإصلاحات الديمقراطية التي نادا بها الشعب منذ أكثر من نصف قرن.
اليوم لم يعد مهماً الحديث عما إذا كان تحرك الاحتجاجات الشعبية، شعبياً بحتاً بانطلاقته ولحقته أحزاب المعارضة وتبنته أم العكس، فالذي لا شك فيه أن لقوى المعارضة خصوصاً ما كان محظوراً منها في السابق دورٌ لا أحد يستطيع إنكاره في تنظيم الاحتجاجات وتلقفها وإصدار المواقف المعاضدة لها والتخطيط لكل مرحلة من مراحلها وما بعدها، وفي مقدمتها القوى ذات القواعد العريضة، لأن المهم هنا ليس إسقاط رأس النظام بل إدارة ما بعد سقوطه، وبالمقابل كانت هناك أحزاب تقليدية وقوى تاريخية كرتونية وهامشية ظلت على الدوام تدور في فلك النظام, فإذا بها فجأة تحاول ركوب أمواج الثورة في أخر لحظة وقطف ثمارها وإدعاء تمثيلها والتحدث باسمها, رغم أنه لم يكن لها أي دور في تفجيرها, ولا يستبعد أن وثبتها هذه لم تكن بعيدة عن مخطط بقايا النظام, للانقضاض على الثورة, وإيجاد شرخ بين صفوف الجماهير المنتفضة والقوى السياسية المعارضة التي ساندتهم, وخلق نوع من البلبلة في وجهات النظر في أوساط الجماهير, لجعلها غير قادرة على التفريق بين العداء للأحزاب التقليدية التي تريد سرقة الثورة بعد نضوج الثمرة وبين الأحزاب ككل, والذي يصل أحياناً إلى درجة التخوين والشطب السياسي, ما يجعل من انطلاق الثورة بعيداً عن هذه القوى التآمرية عامل قوة وفي نفس الوقت عامل ضعف, لما أوجدته من فراغ سياسي فتح المجال أمام هذه القوى, لتوظيفه من أجل مصالح حزبية ضيقة أو المساومة مع بقايا النظام لتحديد وجهاته في المرحلة الانتقالية, بما يكفل إعادة النظام لملمت صفوفه وترتيب أوراقه, بعد الصدمة التي أفقدته توازنه, تمهيداً لشن ثورة مضادة, تعيده إلى الواجهة مجدداً بذات الأساليب والسياسات القمعية السابقة وربما بصورة أسوأ من السابق.

الثورة: ماهيتها وشروط ومراحلها
الثورة من المصطلحات التي واكبت ظهور الدولة والحياة السياسية منذ ما قبل التاريخ، ومن حينها تم استخدام هذا المصطلح في سياقات مختلفة لوصف حالة التغييرات الجوهرية التي تطرأ على حياة الشعوب وعلى الحضارة الإنسانية، في حين تم استخدامه في الوطن العربي لأول مرة في العام 1915 لوصف الثورة الكبرى التي قادها والي مكة "الشريف الحسين" ضد الخلافة العثمانية, ومن بعدها تم إطلاقه على ثورات التحرر العربي من الاستعمار، في العقود الثلاثة الأولى لعهد الاستقلال العربي, كانت هناك العديد من التجارب الثورية والانقلابية, لكنها لم تكن موفقة في معظمها, حتى أن شريحة واسعة من الشعوب العربية كانت تشعر بأنه تم التغرير بها, بل وباتت تحن للعهود السابقة لما كانت توفره من حرية واستقرار غير متوفرين في الأنظمة الثورية, وباتت تتساءل عن جدوى قيام الثورات والانقلابات ما دامت الأحوال المعيشية والسياسية لم تتغير كثيراً وما دام الثوار وورثتهم يفكرون بالتوريث بأشكاله, والمشكلة هنا أن دعاة الثورة والثورية العرب تعاملوا مع الثورة وكأنها حالة متواصلة, غير مفرقين بين الثورة كأداة ونهج لهدم أنظمة فاسدة وبين مرحلة بناء تحتاج إلى فكر وممارسات, ليست بالضرورة هي فكر وممارسات مرحلة التهيئة للثورة.
خلال العقود الثلاثة الماضية برزت قاعدة تقول أن "القدرة على هدم الباطل تفوق بكثير القدرة على إقامة الحق بديلاً" بالتوازي مع تعالي الأصوات المنادية بالتغيير السلمي, بديلاً عن الانقلابات العسكرية التي ظلت تُشكِّل تاريخياً نموذج التغيير السياسي شبه الوحيد في عالمنا العربي, والتي بموجبها تم إعادة إنتاج الأنظمة الفردية والدكتاتورية ولو تحت شعار الجمهورية والحرية والعدالة والمساواة, وما صاحبه من تقويض للإصلاحات السياسية والاقتصادية, وإعادة إنتاج العائلات المالكة ونمو شبكة المصالح المُحتَكَرة من قبل فئات ضيقة, غذت السلطة واستقوت بها على جموع الناس وحالت دون إنجاز نهضة وطنية قائمة على أسس واضحة ومتينة, ومأسسة الفساد الذي نهش الثروات الوطنية, فساهم في تعميق الشروخ الاقتصادية والتنموية بين فئات المجتمع, وتهميش شرائح واسعة من المجتمع السياسي, وتعميم فلسفة سُجناء الرأي.
وهذا لا يُلغي حقيقة وجود معارضات هنا أو هناك, لكن قصورها وتقصرها في حُسن توظيف إمكاناتها للضغط على الأنظمة والسلطات المشخصنة (الفردية) التي لم يطلها التغيير من وراء كل تلك الثورات والانقلابات, كان له دور كبير في تهميش المعارضة وتأسد الأنظمة على شعوبها, نظراً لتراخي المعارضة وعدم اقتناصها تلك الثورات والانقلابات والاعتماد عليها لفرض إصلاحات حقيقية, بسبب تشرذمها وتنافسها أو بسبب تهيبها من دفع ثمن التغيير أو بسبب سوء تقديرها للأوضاع، كل ذلك أوجد حالة من الاحتقان الشعبي, دفع شرائحه الوسطى والدنيا بأدواتها السلمية المتواضعة لغسل يدها من المعارضة, والتحرك بتلقائية وعفوية لإسقاط صنم "الخوف والرعب" الذي ظل لعقود طويلة مصدر الشرعية الوحيد للدولة الفردية المشخصنة, وإسقاط مشاريع التوريث والتمديد, وإسقاط أسطورة التنمية القائمة في ظل نظام بوليسي مافيوي, وإسقاط القناع عن الديمقراطية الأبوية التي حاول النظام العربي تسويقها في السنوات الأخيرة, لاتقاء ضغوط الغرب ولتبرير شرعية سلطة بدت أوهن من بيت العنكبوت أمام غضب الشعب العارم.
ما جرى في تونس ومصر كشف عن حقيقة أن ما شهده العالم العربي في العقود الثلاثة الأولى للاستقلال, لم يكن سوى "مجرد ثورات وانقلابات لا تغيير أوضاع" رتبت أثاراً كارثية, جعلت الأنظمة الفردية اليوم تعاني أزمة شرعية وأزمة سلطة وأزمة دولة وأزمة علاقة بين الدولة والمجتمع وبين السلطة والمجتمع وبين مكونات المجتمع الإثنية والطائفية, وهذا يتطلب ضرورة التوجه لإنجاز عقد اجتماعي جديد يؤسس لمشروع وطني جديد, يقوم على أسس ديمقراطية واضحة, وبلا شك فمشروع كهذا يحتاج لنُخب سياسية جديدة, يأمل كثيرون أن يكون الشباب المنتفض في تونس ومصر نواتها, لكن دون ذلك عقبات كثيرة لا يمكن فهمها بمعزل عن فهم مراحل الثورة وما تتطلبه من شروط لابُد من توافرها, للحكم عما إذا كانت الثورة قد نجحت بالفعل أم أنها حققت نصف انتصار فقط, بينما النصف الثاني لا تزال تعترضه الكثير من العقبات, لاسيما وأن انطلاقتها هذه المرة بدون قيادة حزبية وتنظيمية واضحة.
في علم الاجتماع, هناك ثلاثة شروط لا تقوم ولا تنجح الثورة أو يكتب لها البقاء بدون توافرها, هي: "أزمة نظام أو أزمة سياسية- اجتماعية أو سياسية- اقتصادية مستفحلة وممتنعة على الاستيعاب، وعي سياسي بالحاجة إلى التغيير سبيلاً أوحداً لكسر نطاق أزمة السلطة أو أزمة الدولة، تنظيم سياسي ينهض بدور التوعية والتعبئة والقيادة والإنجاز نيابة عن المجتمع كله".
رغم أن الشرط الأول "أزمة السلطة" متوفر على الدوام, فإن الانتباه كثيراً ما يشد إلى الشرطين الأخيرين "الوعي السياسي والتنظيم أو الفعل السياسي" لكونهما التعبير المباشر عن نضوج الشرط الذاتي للتغيير والذي بدوره يجب أن يمر عبر ثلاث مراحل متلازمة ومتأرجحة في نفس الوقت بين الصعود والانحدار والركود, هي:
- مرحلة الهدم (الصعود): حيث يتم إسقاط النظام القائم وهذه المرحلة تنجح فيها كل الثورات تقريباً, لكن لا يمكن وصفها بالثورة الكاملة بل نصف ثورة ونصف انتصار.
- المرحلة الانتقالية (المراوحة والركود): وفيها يظهر كثيرون ممن يريدون سرقة الثورة وحرفها عن أهدافها سواء كانوا أطرفاً داخلية أو خارجية وقد يكونوا من بقايا النظام السابق أو من أحزاب سياسية تريد ركوب موجة الثورة في آخر لحظة بما يسمى بالثورة المضادة.
- مرحلة بناء نظام بديل وأوضاع جديدة (الانحدار): أي مرحلة إقامة نظام بديل وأوضاع جديدة تتوافق مع أهداف الثورة والوعود التي قدمها الثوار للشعب, وهي الأكثر صعوبة, وفي كثير من الأحيان تتعثر الثورة في بناء أوضاع جديدة ما يدفعها إلى الانتكاسة, وهذا بطبيعته يتوقف على مدى تمكن الثوار من تجاوز المرحلة الانتقالية ومدى قدرتهم على المناورة السياسية والتصدي السياسي للثورة المضادة, التي قد تنشأ في المرحلة الانتقالية باعتبارها تمثل نقطة العبور إلى المحطة الثالثة والمحك المحكم لنجاح الثورة في مرحلتها الأولى ومدى قدرتها للانتقال السلس والسلمي للمرحلة الثالثة من عدمه, وهنا يأتي دور الأحزاب والفعاليات السياسية المختلفة من حيث الاتفاق والتوحد حول أهداف ومطالب وشعار الثورة أو الوقوع في فخ المساومات والصفقات المشبوهة مع بقايا النظام السابق أو فيما بينهما على حساب قوى الثورة.
في الحالتين التونسية والمصرية هناك جمهور ثورة من شباب غير مهجوس بالسياسة وغير متشبع بثقافة سياسية, وهناك ثورة تنجح من دون تنظيم أو حزب يقودها ويضع لها برنامج عمل, وهما معاً تضعان عقيدة سياسية كاملة في أزمة، لأنهما تنسفان اليقينيات التقليدية لشروط الثورة وأدواتها الوظيفية, والسؤال هنا: هل يمكن إنجاز هدف سياسي كبير من طراز إسقاط رأس النظام دون رؤية وشعار سياسيين ومن دون أي شكل من أشكال التنظيم ودون وعي سياسي مسبق؟ لاسيما وأن إنجاز هدف كهذا يشترط تلازم الفعل والوعي السياسي، وهذا بطبيعته يثير التساؤل أيضاً عن دور المعارضة قبل وأثناء وبعد الحدث بشقيها المعترف به من قبل النظام "أحزاب بير السلم" وغير المعترف به "المحظورة والممنوعة من الصرف".
لكن بصورة عامة هناك حركة احتجاجية اجتماعية- ديمقراطية سِلمِية وهناك تنوع طبقي غطّ كل فئات وتيارات وأطياف المجتمع, ومثّل عنصراً حاسماً في إسقاط رأس النظام وإنجاز المرحلة الأولى من مراحل الثورة, أي إحراز "نصف انتصار" وفي ذات الوقت مثّل عنصر ضعف من حيث تمييع المطالب, وهو محك اختبار عسير للمعارضة وكلمة الفصل في المرحلة الانتقالية فهل ستتمكن من تجاوزه؟.
الواضح حتى الآن أن الرؤية لدى قوى المعارضة في تونس ومصر على حدٍ سواء ما تزال مُحاطة بالكثير من الضبابية والغموض, لكن الأكيد وربما النتيجة الوحيدة القائمة على الأرض هو: أننا أمام انقلاب شعبي لم يرقى بعد إلى مستوى الثورة, قاده شباب غاضب لا ينتمي للأحزاب والتنظيمات السياسية, وغير مؤهل للحكم, اقتصرت ثورته العارمة على تغيير رأس النظام بضربة واحدة, وهذا لا يكفي, لأن النظام لا يزال قادراً على الاستمرار والانتعاش دون وجود الرأس, شباب الثورة هو الأخر لا يزال يحاول تغيير سياسات النظام دون المساس بهيكل الدولة. منطق شباب الثورة العفوي في تجييش الشارع حقق شرطاً من شروط الثورة لكن ليس كل شروط الثورة بما تتطلبه من عملية مركبة ومتعددة الأبعاد، ونقل البلاد من عهدة النظام الدكتاتوري إلى عهدة المؤسسة العسكرية, كمشرف وضامن للمرحلة الانتقالية تحت ذريعة حفظ الأمن وحماية الثورة من حالة الفوضى والنهب التي قد تصاحبها, وهي أحداث لا تكون في العادة بعيدة عن تخطيط بعض عناصر النظام السابق التي لازالت تمسك بتلابيب ما يسمى بحكومة تصريف الأعمال.

Al-mahbashi@maktoob.com