Translate

‏إظهار الرسائل ذات التسميات دراسات. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات دراسات. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 9 مارس 2023

أهمية الموالاة والمعاداة في حفظ دولة الإسلام من الضياع والانهيار

مركز البحوث والمعلومات: زيد يحيى المحبشي

 

المُوالاة والمُعاداة من المفاهيم الأكثر إثارة للجدل والانقسام في أوساط علماء المسلمين في الـ 14 قرناً الماضية، وتباينهم في تفسير مفهومهما، والأحكام المترتبة عليهما، ولعلى أحد أهم أسباب هذه البلبلة تصادم مدلولاتهما مع شهوة الأنا الإستئثارية التسلُّطية الإستحواذية لدى حكام وملوك وسلاطين المُلك العضوض، وهو ما كان له عظيم الأثر في توهين وإضعاف دولة الإسلام، وجعلها مرتعاً للغزاة والمحتلين والطامعين من طُغاة العالم.

 

ولا عجب عندما تتعارض الإرادة البشرية التسلُّطية مع الإرادة الإلهية أن تتهدّم أركان الدين، وتنهار حضارة الإسلام، وتتحول أمة الضاد، التي جعلها الله خير الأمم، وأمة وسطاً شاهدة على الناس، من العزة والعلِّية الى الشتات والتقزّم والتيه، وهذا نتاجٌ طبيعي لـ:

 

1 - ابتعاد الأمة الإسلامية عمن أمر الله بموالاتهم وولايتهم وتولِّيهم وتوليتهم من أهل الحق المُحقِّين بنص مُحكم التنزيل، وجعله مودّتهم والولاء لهم أمنٌ وأمانٌ وحِصنٌ حصين من مهاوي السقوط والانزلاق في بركة الباطل الآسنة.

 

2 - رضوخ المسلمين لإرادة من أمر الله بمعاداتهم من أعد الحق وأهله، خوفاً من سياطهم وسيوفهم.

 

إذن فنحن أمام قاعدة إلهية ثُنائية الأبعاد، لا يُعذر بتركها أحد من المُكلّفين بإجماع كل علماء الدين من خارج بلاط سلاطين المُلك العضوض، من تمسك بها نجا في الدنيا من الذل والاستعباد والتيه والهوان، وفاز في الأخرة بالأجر الجزيل والثواب الكبير ورضا الرب الجليل.

 

روى الإمام الناصر عليه السلام في "البِساط" عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أن الإمام علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لو أن عبداً قام ليله وصام نهاره، وأنفق ماله في سبيل الله عِلْقاً عِلْقاً وعَبَدَالله بين الركن والمقام، ثم يكون آخر ذلك أن يُذْبَحَ بين الركن والمقام مظلوماً لما صعد إلى الله من عمله وزنُ ذرةٍ، حتى يُظهر المحبة لأولياء الله والعداوة لأعدائه".

 

يقول الشهيد القائد السيد "حسين بدر الدين الحوثي" رضوان الله عليه في تعليقه على هذا الحديث:

هذا حديثٌ خطير، القرآن يشهدُ لهُ فيما يتعلق بخطورة المُوالاة والمُعاداة؛ ولهذا قال الله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، أليس الله هنا يُخاطب مؤمنين؟ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ"؟، قال: "وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ"، أي: منكم أيها المؤمنون، "فَإِنَّهُ مِنْهُمْ"، يُصبح حُكمه حُكمهم، فيكون يُصلِّي وهو يهودي، يُسبِّح وهو يهودي، يصوم وهو يهودي، يُزكّي وهو يهودي.

خطيرة هذه جداً، يقول: "ومن يتولهم منكم"، منكم أيها المؤمنون، من يشملهم اسم الإيمان فإنه منهم، حُكمه حُكمهم، ومصيره مصيرهم.

 

فما هي الموالاة والمعاداة، وما أنواعهما، وما هي الأحكام الشرعية المترتبة عليهما، وما أهميتهما في حياتنا المعاصرة؟.

 

ماهية الموالاة وأنواعها

 

تعددت مُسمياتها وأصلُها ومعناه واحد، منها: الموالاة، الولاية، التولّي، الولاء.

 

وهي تعني في لغة العرب: المحبة، المودة، النُصرة، التقرُّب، الإكرام، ..، وفي الشرع: محبة المحاسن للغير، وكراهة المساوئ مع النصيحة وعدم الخذلان حسب الإمكان، لأن من خذل لم يكن منه ضد المعاداة ضرورة، والتقرب إلى الله في الأقوال والأفعال، وخُلوص النية له سبحانه وتعالى، واتخاذ المولى، وتقديم كامل المحبة والنُصرة للمُتوليَّ، وإتباع نهجه وسيرته.

 

والموالاة بحسب النوع:

 

1 - عامة:

 

مثال ذلك موالاة المؤمنين والمؤمنات بعضهم لبعض، قال الله سبحانه وتعالى:

"وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أولئك سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ".

 

2 - خاصة:

 

وهي ما أوجب الله سبحانه وتعالى على المؤمنين من طاعة أولي الأمر منهم ومودتهم، وتوقيرهم وسُؤالهم، والرد إليهم، والاقتفاء لآثارهم في الدين قولاً وعملاً واعتقاداً.

 

وبحسب الظرف:

 

1 - مستترة:

 

مثال ذلك موقف أهل الكوفة من ثورتي الإمام الحسين عليه السلام، وحفيده الإمام زيد بن علي عليه السلام، فقد كانت قلوبهم مع الثورتين، لأن قادتهما على حق، وخرجا ضد باطل طغى واستفحل شره، لكن ساعة المواجهة بين الحق والباطل تبدّلت النوايا وتحوّلت سيوفهم الى صدر سبط الرسول وحفيده عليهما السلام، خوفاً من بطش الطُغاة والظلمة من بني أمية، ولهثاً وراء بريقٍ خادع من متاع الدنيا الفانية.

 

2 - بارزة:

 

ما نجد دلالتها في موقف الناس في موسم الحج من الملك الأموي "هشام بن عبدالملك" والإمام السجاد "علي بن الحسين" عليه السلام.

 

يذكر المؤرخون أن "هشاماً" ذهب الى الحج وأراد استلام الحجر الأسود، لكن زحمة الناس حالت دون ذلك، رغم أنه الملك والسلطان، لكن لا هيبة لهما في ذلك المكان الطاهر، وصادف وجود الإمام "السجاد" في نفس المكان والموسم، وعند اقترابه سلام الله عليه من الحجر، أفسح الناس له تهيُّباً وتكريماً وإجلالاً وتعظيماً، فغضب جلاوزة وعبيد "هشام"، وسألوه عن هوية ذلك العبد الصالح، فرد سيدهم العفن المُتسلِّط: "لا أعرفه".

 

 حينها برز من بين الجُموع الشاعر العربي الشهير "الفرزدق"، وقال: "أنا أُعرِّفكم به"، وردد على مسامعهم قصيدته المشهورة:

 

هَذا الَّذي تَعرِفُ البَطحاءُ وَطأَتَهُ .. وَالبَيتُ يَعرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ

هَذا اِبنُ خَيرِ عِبادِ اللَهِ كُلِّهِمُ .. هَذا التَقِيُّ النَقِيُّ الطاهِرُ العَلَمُ

هَذا اِبنُ فاطِمَةٍ إِن كُنتَ جاهِلَهُ .. بِجَدِّهِ أَنبِياءُ اللَهِ قَد خُتِموا

وَلَيسَ قَولُكَ مَن هَذا بِضائِرِهِ .. العُربُ تَعرِفُ مَن أَنكَرتَ وَالعَجَمُ

كِلتا يَدَيهِ غِياثٌ عَمَّ نَفعُهُما .. يُستَوكَفانِ وَلا يَعروهُما عَدَمُ

سَهلُ الخَليقَةِ لا تُخشى بَوادِرُهُ .. يَزينُهُ اِثنانِ حُسنُ الخَلقِ وَالشِيَمُ

حَمّالُ أَثقالِ أَقوامٍ إِذا اِفتُدِحوا .. حُلوُ الشَمائِلِ تَحلو عِندَهُ نَعَمُ

ما قالَ لا قَطُّ إِلّا في تَشَهُّدِهِ .. لَولا التَشَهُّدُ كانَت لاءَهُ نَعَمُ

عَمَّ البَرِيَّةَ بِالإِحسانِ فَاِنقَشَعَت .. عَنها الغَياهِبُ وَالإِملاقُ وَالعَدَمُ

إِذا رَأَتهُ قُرَيشٌ قالَ قائِلُها .. إِلى مَكارِمِ هَذا يَنتَهي الكَرَمُ

يُغضي حَياءً وَيُغضى مِن مَهابَتِهِ .. فَما يُكَلَّمُ إِلّا حينَ يَبتَسِمُ

بِكَفِّهِ خَيزُرانٌ ريحُهُ عَبِقٌ .. مِن كَفِّ أَروَعَ في عِرنينِهِ شَمَمُ

يَكادُ يُمسِكُهُ عِرفانُ راحَتِهِ .. رُكنُ الحَطيمِ إِذا ما جاءَ يَستَلِمُ

اللَهُ شَرَّفَهُ قِدماً وَعَظَّمَهُ .. جَرى بِذاكَ لَهُ في لَوحِهِ القَلَمُ

 

وبحسب الأهمية:

 

1 - إيجابية:

 

كولاء المسلمين لدينهم وكيانهم الإسلامي، يقول الله سبحانه وتعالى: "وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ"، أي تنتمون لأعلى كيان أو مجتمع، كما يقول الحق سبحانه: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ"، فجعلت الآية الأمر بالمعروف ولاء للإسلام، لأن فيه حفاظٌ على قيم الإسلام، وترسيخٌ لمبادئه.

 

2 - سلبية:

 

كولاء المسلمين لمن يُعادون الإسلام أو أولياء الله، قال الحق تبارك وتعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ"، والمودة هنا "الولاء المُتبادل"، وقال سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ".

 

ماهية المعاداة وأقسامها

 

تنوعت مُسمياتها وضابطها واحدٌ، منها: المُعاداة، العداوة، البراء، البراءة، التبرّي.

 

أصلها من "عدا" إذا غَشم وظَلم، ونقصد بها في لغة العرب البُغض والبُعد والكراهية والمُباينة، ..، وفي الشرع: محبة المساوئ، وكراهة المحاسن، والبُعد عن طريق الصلاح والإسلام، وإتباع الكافرين والمنافقين، والبُعد عن الله تعالى بالمعاصي والشرك والنفاق.

 

وهي على قسمين:

 

1 - المُبارأة لكل عاصٍ لله تعالى بالقلب واللسان مع جواز البر له والإقساط إليه - إذا كان مُسالماً - بكل ممكن.

2 - المُبارأة لمن حارب أئمة الهُدى، وظاهر على حربهم، والمعاداة لهم.

 

موقف الشرع منهما

 

تنفرد الزيدية عن سائر المذاهب الإسلامية الأخرى بالخروج على الظالمين أياً كانوا، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإعمال مبدأ الموالاة والمعاداة، أو ما يسمى بالولاء والبراء، وتتشدد في أحكامها تشدُداً كبيراً، ولا تُجَوِّز موالاة الظالمين إلى حد تحريم مُجالستهم ومُؤانستهم ومُداهنتهم، كما تُحَرِّم مُعاداة أولياء الله ولو بمجرد الكراهية النفسية، بل وتعتبر الموالاة والمعاداة من مسائل أصول الدين، وأحد أركانه الوثيقة التي لا يُعذر بتركها أحد.

 

والولاء والبراء في مفهوم علماء الزيدية، ومنهم الإمام الأجل "حُميدان بن يحيى القاسمي" عليه السلام، من جُملة البلوى، أي من الأمور التي أُبتلي بها المؤمنين في هذه الدنيا الفانية من أجل التمحيص والاختبار، وهما مأخوذان من وجوب إكراه النفس على البُغضة والمُهاجرة لمن وَلِعَت نفسه بمحبته، وأَنِست بصُحبته، من الآباء والأبناء، والسادة والأخلاء، إذا كانوا مُحادِّين لله ولأوليائه، وإكراهها على ما تكره من الموادّة، والموالاة لمن عاداهم.

 

ووجوبهما، ظاهرٌ بما في كتاب الله من الأمر بموالاة أوليائه، وأوليائه هنا "العترة الطاهرة" ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم، والوعد على ذلك بالثواب، والنهي عن مُوادّة أعدائه، ويندرج في ذلك المناوئين والمُبغضين لأئمة الحق، والوعيد على ذلك بالعقاب.

 

وبما في أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأفعاله، واشتراطه للولاء والبراء على من تابعه.

 

قال الإمام الناصر "الحسن بن علي" عليه السلام: فيما حكاه عنه مُصنف "المُسفر":

"لا إيمان إلا بالبراءة من أعداء الله وأعداء رسول الله، وهم الذين ظلموا آل محمد، وأخذوا ميراثهم، وغصبوا خُمسهم، وهمّوا بإحراق منازلهم".

 

وقال الإمام الهادي "يحيى بن الحسين" عليه السلام في جوابه لأهل صنعاء:

"وإلى الله أبرأ من كل رافضٍ غوي، ومن كل حروريٍ ناصبي، ومن كل معتزليٍ غال".

 

وقال سلام الله عليه في "الأحكام":

"لا يجوز مُكاتبة الظالمين، ولا يحِل مُؤانستهم بكتاب ولا غيره، ..، يجب على المؤمنين إنكار المُنكر على الظالمين بأيديهم إن استطاعوا ذلك، فإن لم يستطيعوا وجب عليهم إنكاره بألسنتهم، فإن لم يستطيعوا وجب عليهم الهجرة عنهم والمعاداة للظالمين بقلوبهم وترك المقام بينهم والمجاورة لهم"، وكذلك جاء التشديد في مصنفاته، فكيف يصح التولِّي من جهتهم، وذلك من أعظم الإيناس لهم!، ويلزم منه مساكنتهم، وعدم الهجرة من بينهم مع ترك النكير عليهم، لأن عوائدهم جائرة بالتجبر والتكبر وعدم الرضا بالنكير عليهم.

 

ولا خلاف في وجوب الولاء والبراء على الجُملة، لأن أهل كل مذهبٍ يوجبونهما على أتباعهم، ويدّعون أنهم هم "الفرقة الناجية".

 

لكن يبقَ الخلاف في معرفة الفرق بين "ولي الله" و"عدوه"، ومعرفة الفرق بينهما فرع على معرفة الفرق بين "الحق" و"الباطل" بصفاتهما وأدلتهما التي من عرفها لم يُوالِ من تجب مبارأته، ولم يبارِ من تجب موالاته.

 

ومعرفة الفرق بين الحق والباطل فرعٌ على معرفة الفرق بين أدلة العقل وما يُعارضها من الشُبه المُتوهمة، وبين مُحكم الكتاب والسنة، وما يُعارضهما من المُتشابه، والآراء المُبتدعة.

 

وبمعرفة هذا الأصل وهذه الجملة من مُقدمات البلوى يُعرف الفرق بين الحق والباطل، وبين أهلهما، وبمعرفة ذلك كله يُستعان على معرفة البلوى بما أوجب الله تعالى على الأمة من طاعة من جعله الله ولياً لهم بعد رسول الله، وأميراً لهم في حياته وبعد مماته، ونقصد بذلك الإمام "علي بن أبي طالب" عليه السلام ومن توافرت فيهم شروط الدعوة والقيام من ذريته الطاهرة الى يوم البعث والنشور، وما يستوجبه الشرع الشريف من موالاتهم ومعاداة من نازعهم، ولا يجوز رفض كليهما لما في ذلك من تجويز خروج الحق من أيدي جميع الامة.

 

ومن التقولات المتهافتة الواجب التنبُّه لها، ادعاء البعض بأن البراء يتنافى مع كرامة الإنسانية، ومع المحبة والمودة والترابط والتعاطف بين أبناء المجتمع الإسلامي، لأنه يعمل على تأليب القلوب على أشخاص آخرين، ونشر الكراهية والحقد بين أبناء المجتمع الإسلامي، لذا فهو غير حضاري بحسب زعمهم.

 

وهذا زعمٌ باطلٌ، وكلامٌ ممجوجٌ ومردودٌ عليه، لأن البراء موجهٌ في الأساس لمن يجاهرون بالعداء للإسلام والمسلمين، لكن لا مانع من إقامة علاقات صداقة مع من يحترموننا ويحترمون ديننا ومُعتقداتنا من الديانات الأخرى، يقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا"، وقال الحق سبحانه: "لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ".

 

الأهمية والغايات

 

الحُب والبُغض، والولاء والبراء، والمودة والعداء، في مفهوم العلامة "محمد الرصافي المقداد" أحاسيس تنمو في البشر، وتتفاعل زيادة أو نُقصاناً، كلما طرأ على القلب طارئ، فأنت عندما تُحبُ أحداً، يكون لحبك سببٌ دفع بقلبك إلى أن يُفسح المجال لذلك الإحساس، كي يستقر فيه وينمو.

 

والدين كل الدين ليس إلا تولِّياً وتبرِّياً، تولِّياً لأولياء الله، وما يستوجبه ذلك من المعرفة والحب والاقتداء والإتباع والنُصرة والمؤازرة، وتبرياً من أعدائه وما يستوجبه ذلك من معرفتهم وبغضهم ومقاطعتهم ومناوئتهم وحربهم.

 

وإن كنت من أهل الدين، فابحث داخل قلبك عن التوِّلي والتبرِّي، فإن وجدت لهما مكاناً، فإنك على خير، وإن لم تجد أحدهما، فإنك تتأرجح بين طريقي الهداية والغواية، وإن لم تجد كليهما فكبّر على دينك وعُمرك اللذين ضيعتهما خمساً.

 

إذن فهما كما يرى السيد العلامة "محمد بدرالدين الحوثي" أساسٌ من أُسس الدين القويم، وقاعدةٌ عريضةٌ ارتكزت عليها دولة الإسلام يوماً ما، وعندما فقد المسلمون التزامهم بهذه القاعدة الإلهية، وركنوا إلى أعداء الله الظالمين والمُستكبرين، انهارت دولة الإسلام، وتهاوى ذلك البناء الشامخ، وتخطّفهم المستعمرون، واحتلوا بُلدانهم، وسيطروا على ثرواتهم.

 

ولا خلاف بين علماء أهل البيت بمختلف مذاهبهم وتوجهاتهم ومراتبهم ومُسمياتهم بأن التولِّي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام، ومودّتهم، ومحبّتهم، تكليفٌ إلهي لا عُذر لأحدٍ فيه، وولائهم، ولاءٌ للإسلام والرسالة المحمدية، وأمانٌ من الانحراف واتباع الهوى، ورُكنٌ وثيقٌ من أركان الدين، وأحد أهم العوامل المُساعدة على ترسيخ العقيدة في قلوب المؤمنين.

 

ذكر القاضي "عيّاض" رحمة الله عليه في "الشفاء"، أنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "معرفة آل محمد براءةٌ من النار، وحُب آل محمد جوازٌ على الصراط، والولاية لأهل محمد أمانٌ من العذاب".

 

ورُوي أنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "ألزموا مودّتنا أهل البيت، فإن من لقي الله وهو يودّنا، دخل الجنة بشفاعتنا، والذي نفسي بيده لا ينفع عبداً عمله إلا بمعرفة حقنا"، والمودة في الحديث هي الموالاة والولاية بمفهومها الشرعي الواضح المتمثل في التولّية والحكم.

 

والموالاة لهم أيضاً لا تعنِ الحُب المُتعارف عليه بين المُتحابِّين، بل الالتحام المنهجي والفكري والسياسي للإنسان المسلم في كافة الميادين والمناشط الحياتية مع قادة وأئمة أهل البيت عليهم السلام، قال تعالى: "ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ".

 

وهناك فرقٌ كبير بين "الحب"، و"الولاء"، كي تتوضّح الصورة وتكتمل الفائدة، فالأول يعني "الميل النفسي والقلبي" لشخصٍ أو جِهةٍ ما، بسبب وجود صفةٍ أو شكلٍ أو سلوكٍ مُعين جاذب، بينما يعني الثاني "الارتباط المنهجي"، والارتباط أكبر وأعظم من الحُب، وهذا يعني اعتبار الموالاة "رمزاً" و"مثلاً" و"قدوة"، لأنها نهجٌ رباني شمل الكون والحياة، نتيجة التخلُّق بأخلاق الله، والتولّي لأوليائه، ورفض كل أشكال الانحراف والازدواجية في شخصية الانسان المؤمن، كون الانسان لا يستطيع أن يُوازي بين فعل الخيِّر الذي يتولاه الولي، والفعل الشنيع الذي يتولاه أعداء الله، ما يجعل من الموالاة لأهل الحق شِفاءٌ ناجع لأمراض النفس، والسمو بها في سلالم اليقين والتقوى.

 

من هنا تأتي أهمية هذه القاعدة الإلهية في الحفاظ على دولنا وثرواتنا وسيادتنا وكينونتنا وديننا وكرامتنا وهويتنا الإيمانية من دنس وعبث الغزاة والمحتلين والمخذولين والمنبطحين والمُتصهينين من أبناء جلدتنا، وهذا لا يكون إلا بموالاة من أمر الله بموالاتهم في محكم التنزيل، وجعل موالاتهم حِصناً وأمناً لأهل الأرض من مهاوي الضلال والضياع والتيه، ونوراً يستضيئُ به الباحثين عن الحق والهُدى والحرية والكرامة والعلِّية والعزة والرفعة.

 

كما للعمل بهذا المبدأ الديني السامي أهمية كبيرة في تربية المسلمين على رفض الظلم من أي جهةٍ كانت، قال تعالى: "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ"، وقال سبحانه: "إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ".

 

وعليه يمكننا القول بيقينٍ قاطع وإيمانٍ ساطع بأن الموالاة والمعاداة ثقافة إسلامية وقرآنية أصيلة، مطلوبٌ من المسلمين اشاعة هذه الثقافة التي يُشكِّل أهل البيت عليهم السلام محورها، إذا ما أرادوا الظفر والعلِّية.

 

المراجع:

 

1 - السيد العلامة أحمد بن محمد بن صلاح الشرفي، اللآلئ المضيئة، الجزء الأول.

2 - مجموع الإمام القاسم بن محمد عليه السلام.

3 - السيد العلامة حسين بدر الدين الحوثي، الموالاة والمعاداة، اليمن ـ صعدة، شوال 1422هـ.

4 - مجموع السيد حُميدان بن يحيى القاسمي عليه السلام.

5 - الشيخ الدكتور عبدالزهراء البندر، الولاية ومفهوم التولي والتبريء، مؤسسة الأبرار الإسلامية، 23 مارس 2018.

6 - السيد العلامة محمد بدر الدين الحوثي، الولاء والبراء الأهمية والأثر، المنطلقات والضوابط، دائرة الثقافة القرآنية بالمكتب التنفيذي لأنصار الله، 7 مارس 2018

7 - العلامة محمد الرصافي المقداد، ولاية الله تعالى، مركز الأبحاث العقائدية، تونس.

8 - العلامة منير الخباز القطيفي، الولاء المقدس، شبكة المنير، 1 يناير 2009.

9 - موقع شبكة عريق، التولي والتبري.

الجمعة، 27 يناير 2023

التجلِّيات التاريخية لجُمعة رجب في اليمن

بقلم زيد يحيى المحبشي


"يكفي اليمن شرفاً أن يسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شكراً لله تعالى على إسلام أهله، دلّ مصدره ببرهانٍ ساطع على سِعة مداركهم وسلامة عقولهم ومعرفتهم الحق الواضح، وتمييزه عن الباطل، فكانوا أسرع الأمم انقياداً الى الدين الإسلامي، والإيمان به، بدون احتياج الى حرب أو مُناقشات جدلية، وإنما عرفوا الحق فأذعنوا له، وسلّموا إليه طائعين".


.. العلامة "محمد بن علي الاهدل":


يحتفل اليمنيون في الجمعة الأولى من شهر رجب الأصب بدخول أجدادهم في الإسلام على عهد رسول الله دون غزوٍ أو قتال، بل حُباً وعشقاً وطواعية.

وتُقام في هذا اليوم المُبارك احتفالات الذكر والصلوات والإبتهالات في العديد من المناطق اليمنية بمختلف توجهاتها وانتماءاتها المذهبية والسياسية، وتتجلّى فيه الهوية الإيمانية بأسمى صورها.


هذه الإحتفالات ليست وليدة اللحظة أو دخيلة على اليمنيين، بل إعتادوا إحيائها كابر عن كابر منذ مئات السنين، وكلها حمدٌ وشُكرٌ وتسبيحٌ وتهليلٌ ووعظٌ وإرشاد، ولا يوجد فيها ما يدعو للتشنيع والتبديع كما ترى قوى التكفير الظلامية، وأي شيئٍ أعظم من تعظيم شعائر الله، وشكر الله على نعمة الإسلام من أعظمها وأجلِّها.


قطعاً إحياء هكذا شعائر يُنغّص على القوى التكفيرية الظلامية حياتهم، لأن فيها إعادة وصل لما إنقطع بين أحفاد الأنصار وأجدادهم، وتجديد للعهد على استكمال مسيرة أجدادهم في الدفاع عن الإسلام ورفع رايته وتنقيته من شوائب التدجين "الصهيو - وهابي"، وإعادة بياضه المُتلاشي الى محجَّته الناصعة.


في هذه القراءة سنكتفي بالوقوف على التجلِّيات التاريخية لإسلام اليمنيين، ووفادة الإمام علي عليه السلام الى اليمن، وما كان لها من فضل في إخراج اليمن من مُستنقع الظلام الجاهلي إلى نور الدوحة المحمدية، وفي تقديرنا فالوقوف على السرديات التاريخية ومقاربتها أكثر أهمية من الكتابات الإنشائية، على صعيد إنعاش ذاكرة أحفاد الأنصار، وإعادة الاعتبار للهوية الإيمانية.

 

سابقة الإسلام والوفود:


أجمع المؤرخون على إسلام السواد الأعظم من اليمنيين في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عكس غيرهم من الأقوام، وتحديداً خلال الفترة 6 - 10 هـ، على دفعات، فُراداً وجماعات.

بعضهم أسلم في اليمن دون الهجرة، والبعض ذهب إلى المدينة المنورة إما لإشهار إسلامهم كـ"عمرو بن معدي كرب الزُبيدي" و"المهري بن الأبيض" و"فروة بن مُسيك المرادي"، و"رُهاء" و"بجيلة" و"أزد" و"غامد" و"بارق" و"طيّء"، أو سبق لهم الإسلام وأرادوا إخبار النبي بذلك كـ"دوس" و"نخع" و"غافق" و"تُجيب" و"صدف" و"خولان" و"كندة"، أو لإخباره بأن قومهم أصبحوا على دين الإسلام كإرسال الحميريين "مالك بن مرارة الرُهاوي".

ومنهم من أسلم والرسول في مكة المكرمة، كما هو حال "عمار بن ياسر بن عامر العنسي المذحجي" وأمه وأبيه.

ومنهم من أسلم بعد هجرة الرسول الى المدينة وقبل فتح مكة المكرمة، كما هو حال "الأوس" و"الخزرج" و"الأزد"، وغالبيتهم أعلن إسلامه في عام الوفود 9 هـ.

وشهدت السنوات التالية لفتح "مكة" 8 هـ، انتشار الإسلام بين أكثرية القبائل اليمنية، حيث شهدت السنتين التاسعة والعاشرة اسلام جميع القبائل اليمنية، وبعثوا الوفود إلى المدينة المنورة.

وفي حجة الوداع كان هناك حضور كثيف للوفود اليمنية من "صُداء" و"تُجيب" و"رُهاء"، وفي هذا تأكيد جلي على حُسن إسلامهم وأدائهم لفرائضهم.

ووجه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أول رسالة الى رؤساء قبيلة "حمير" وكانت لها اليد الضاربة في اليمن، منهم: "المهاجر بن أمية المخزومي"، وأبناء "عبدكلال الحميري"، "النعمان" و"الحارث" و"نعيم" و"مروح" و"عريب"، وهم أقيال "رعين"، و"معافر" و"همدان"، فأسلم كثيرٌ من زعمائها، وبعثوا برسالة مع "مالك بن مرارة الرهاوي"، وأجاب عليهم رسول الله وولاهم على بلدانهم، ومنهم "أبو زرعة بن سيف بن ذي يزن" وغيره، ثم أرسل إلى ملوك "حمير" ولاة ومُعلمين تحت قيادة الصحابي الجليل "مُعاذ بن جبل" سنة 9 هـ، وجعله مُعلِّماً لولاية "الجند".

وأرسل إلى أساقفة "نجران"، و"بني معاوية" من "كندة" في "حضرموت"، و"بني ربيعة بن ذي المراحب"، من "حمير" بحضرموت، ..، ألخ، ووصل أول مبعوث للرسول إلى اليمن في محرم 7 هـ.

على صعيد الوفود، شهدت المدينة المنورة وصول 27 وفداً من القبائل اليمنية، بلغ عدد أعضائها كما يذكر "ابن سعد" في طبقاته نحو 1070 رجلاً، منهم 50 رجلاً من قبيلة "أشعر"، و70 أسرة من "دوس"، و400 رجل من "بجيلة"، و200 من "نخع"، و15 من "طيّء"، و500 من "صداء" - شارك منهم 100 رجل في حجة الوداع. 

ولم يكن وصول هذه الوفود في العام 9 هـ فقط، بل توزّعت على الفترة "6 - 11 هـ"، وكان وفد قبيلة "نخع"، آخرها قُدوماً على رسول الله، في 15 محرم 11 هـ. 

وكانت "همدان" و"دوس" أول القبائل اليمنية إسلاماً والرسول لا يزال في مكة المكرمة، تبعتهم بطون كثيرة من "سعد العشيرة" و"مذحج" و"الأشاعرة" بتهامة، ..، وبعد عودة الرسول من غزوة تبوك وصل الى المدينة وفدٌ كبيرٌ من "همدان"، يتقدمهم أقيال ووجهاء وأعيان القوم من "خارف" و"يام" و"شاكر"، وغيرهم.

وحرص الرسول على توجيه الوفود بتحطيم أصنامهم وهدم معابدهم بعد عودتهم الى ديارهم، ومن أشهر تلك الأصنام:

1 - "عُميأنُس" بخولان.

2 - "معبد فَلْس" بآل حاتم من طيئ.

3 - "ذي الخلصة" ببجيلة.

وكان "ذؤيب الخولاني" أول من أعلن إسلامه من اليمنيين كما يذكر صاحب "الإصابة والإستيعاب"، فسماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "عبدالله"، وأراد مُدّعي النبوة "الأسود العنسي"، إحراقه بالنار، فلم تضُره.

وأول من أسلم من كبار زُعماء حمير "أبو زرعة بن سيف بن ذي يزن".

وأول سابق الى الإسلام وشهيد فيه بمكة أبو عمار "ياسر بن عامر العنسي المذحجي".


التعامل الراقي للرسول مع اليمنيين:


اتّسمت مُعاملة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع القبائل اليمنية الزائرة للمدينة بالرحمة والمُداراة، والاستقبال الحسن.، ومنح بعضهم الهدايا كـ"خولان" و"بجيلة" و"غامد" و"تُجيب".

وأرسل الكتب الى بعض زعمائهم كـ"أبي ظبيان الغامدي الأزدي".

وعقد تحالفات مع بعضهم، كزعماء "حمير" و"زُبيد" و"مُراد" و"همدان" و"خثعم" و"طيّء".

واختار أمراء وولاة من بين وفودهم على مناطقهم، أمثال: "وائل بن حجر بن سعد الحضرمي"، و"قيس بن سلمة الجُعفي"، و"فروة بن مُسيك المرادي"، و"أبو موسی الأشعري"، و"صرد بن عبد الله الأزدي"، و"جرير بن عبد الله البجلي"، و"قيس بن حصين الحارث" .. ألخ.

وترك لهمدان أرضهم، وأرسل من يُعلِّم القبائل اليمنية القرآن وأمور دينهم وأخذ الزكاة من المسلمين والجزية من أهل الكتاب، ومن لا زالوا على دينهم وهم قلة سرعان ما التحقوا بالركب النبوي الطاهر.

ومن طريف ما يذكر المؤرخون أن بعض القبائل كانت غارقة في الصراعات والحروب كما هو حال "مذحج" و"همدان"، فأرسلوا بعض رجالهم الى رسول الله لطلب الدعم والمُساندة ضد بعضهم، لكن أسلم رُسلهم، وعادوا الى قومهم مبشرين بالدين الجديد، وإستل الإسلام السخائم والاحقاد والضغائن من قلوبهم.

هذا التعامل الراقي من حضرته الشريفة مع الوفود اليمنية، ترك أثر كبير في نفوس زعمائهم، ظهرت تجلِّياته في حُسن إيمانهم، وتسابقهم لإعلاء كلمة الله في أنحاء المعمورة، وتقدُّمهم صفوف الفاتحين، ورفعهم لواء الدين، فكانوا بشهادة الكثير من المؤرخين عمود الإسلام وقوته.

يروي ابن جرير في تفسير قوله تعالى: "ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا"، أنها في اليمنيين، قال "عبدالله بن عباس": بينما رسول الله بالمدينة، إذ قال: "الله أكبر الله أكبر، جاء نصر الله والفتح وجاء أهل اليمن".

قيل يا رسول الله: وما أهل اليمن.

قال: "قوم رقيقة قلوبهم، لينة طباعهم، الإيمان يمان والحكمة يمانية".

ويذكر الكاتب التايلاندي "برمود صمدي" أن الإسلام عندما دخل اليمن وجد تربة خصبة في شعب نشأ على الزراعة والتجارة، فكانوا من أكثر الشعوب صبراً على ما تتطلبه الزراعة من عناء وصبر ومُكابدة، بالإضافة إلى ما تتطلبه التجارة من مُصابرة لأجل تنمية رأس المال والربح، لذا لم يكن اليمنيون عالة على الإسلام، بل كان في طليعة الشعوب التي جابت دول الشرق والغرب جهاداً للكافرين واستيطاناً للبلاد المفتوحة وإعزازاً لدين الله.

وكان لهم نصيبٌ وافر من الشهادة النبوية الكريمة بأنهم أصحاب "إيمان وحكمة"، فكم نحن بحاجة لاستشعار ذلك وفهمه واستيعابه.


الامام علي في اليمن:


يختلف المؤرخون حول عدد مرات ذهاب الإمام علي عليه السلام إلى اليمن، وهل كانت كلها في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم بعضها في عهده وبعضها بعد وفاته، والمؤكد ذهابه إلى اليمن عِدة مرات، وزار مناطق عديدة شملت في بعض الروايات "همدان" و"زبيد" و"مذحج" و"نجران" و"عدن لاعة" بحجة و"عدن أبين" وغيرها.

وكان لتلك الزيارات عظيم الأثر في جذب اليمنيين إلى الإسلام دون حرب أو قتال، بل حُباً وطواعية وإمتثال للحق وأربابه، وبفضلها ترسّخت محبّة أهل البيت عليهم السلام في قلوب اليمنيين، وتقدّموا صفوف الفاتحين، وبعد انتهاء عصر الفتوحات الإسلامية كانوا في طليعة المُدافعين والمنافحين عن أئمة الحق، والمُؤازرين والمُناصرين والمُعاضدين لهم.

ذهب الإمام علي عليه السلام الى اليمن في بعض التقديرات 4 مرات، بعض المؤرخين قال أنها كانت في عهد رسول الله، وبعضهم قال 3 منها على عهد رسول الله وواحدة في عهد أبوبكر.

ويذكر إبن سعد في طبقاته أن للإمام سريتين الى اليمن، إحداهما في رمضان 10 هـ.

وذكر الجندي أن له 4 خرجات إلى اليمن، إحداهما في أيام أبي بكر.

ويُرجِّح الباحث "حمود الأهنومي" رواية ابن سعد، ويرى أن خروجه الأول في الفترة "رجب - ذي القعدة 9 هـ"، الى قبائل "مذحج"، و"زبيد" - ومساكنها "خولان بن عامر" بصعدة، ووصل الى منطقة "كُشر".

وخروجه الثاني الى قبيلة "همدان" في بداية سنة 10 للهجرة وليس في رمضان 10 هـ، الموافق ديسمبر 631 م، كما يذكر بن سعد، أرسله النبي قائداً وأميراً وقاضياً ومُرْشِداً، وكانت وفوداً من "همدان" شاملة "حاشد" و"بكيل" وصلت المدينة المنورة في سنة 9 هـ وأشهرت إسلامها، إلا أن الأغلب أو القبائل الأقوى لم تشأ الدخول في الإسلام، بل وعاندت "خالد بن الوليد" - وصلت سريته في ربيع الأول 10 هـ إلى بني "عبد المدان" بنجران ومانعته 6 أشهر، فلم يستجيبوا له - حتى جاء علي عليه السلام.

وبعضهم قال أنه ذهب الى اليمن مرتين فقط في عهد رسول الله، وبعضهم 3 على عهد رسول والبعض رأى أنها عدة مرات، ونكتفي هنا بالوقوف على تحديد فترات الخرجات، وما نراه أن له أربع خرجات الى اليمن في عهد النبي وخامسة في عهد أبو بكر لا تزال محل جدل وبحث.


الخروج الأول:


يُرجِّح الباحث القاضي "عبدالوهاب المحبشي" بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي عليه السلام إلى اليمن للمرة الأولى في الفترة المحصورة بين "ذي القعدة 7 هـ - رمضان 8 هـ" لعدم وجود ذكر للإمام في أحداثها بالمدينة المنورة، وحديث كُتب السِير عن سرايا كثيرة للإمام في هذه الفترة، وهذا يؤكد بأنه كان في اليمن لتعزيز إسلام "باذان" وأصحابه.

الشاهد الأخر وجود توثيق يؤكد بناء جامع الامام علي في سوق "الحلقة" بصنعاء القديمة في سنة 8 هـ.

وما نميل إليه أن وصوله صنعاء كان في الجمعة الأولى من شهر رجب الأصب سنة 8 هـ، ومن يومها صار هذا اليوم عيداً عند اليمنيين يحتفلون به كل عام.

نزل عليه السلام بمنزل امرأة يمنية تُسمّى "سعيدة البزرجية"، وقام بتعليمها القرآن الكريم والعلوم الإسلامية والفرائض الدينية، وصلّى في منزلها، وخطب في الناس من على سطحه، فقررت المرأة تحويله إلى مسجد، قُربة إلى الله، وأسمته بمسجد "الإمام علي عليه السلام"، يقع اليوم في سوق "الحلقة"، وسُميت المنطقة بسوق "الحلقة" لأن الناس تجمّعوا حول الإمام بشكل "حلقة"، وهو يقرأ عليهم كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وبعد فراغه من قراءة كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أسلمت همدان جميعاً، فصلّى بهم العصر في نفس الموضع، وكتب من فوره بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما قرأ صلى الله عليه وآله وسلم الكتاب خرّ ساجداً، ثم رفع رأسه، فقال: 

"السلام على همدان"، كررها ثلاثاً.

ثم قال: "نِعم الحي همدان، ما أسرعها إلى النصر، وأصبرها على الجهد، منهم أبدال، وفيهم أوتاد الإسلام"، وفي كلامه صلى الله عليه وآله وسلم شهادة لليمنيين بأنهم أهل صبرٍ وجلَد وثبات، وأنهم يمثلون عمود الإسلام وقوته.

وقيل أن وصول الإمام علي إلى صنعاء في ذي الحجة 7 هـ، بصورة سرية، وتم خلال زيارته بناء مسجده بها كما تقدم.

وشَهِد العام 7 هـ إسلام "باذان"، وتحديداً في رمضان منه، وكان والياً على اليمن، وهذا العام يُمثل أيضاً تاريخ بداية الإسلام في "صنعاء".

بينما يرى العلامة "محسن الأمين"، وصول الإمام علي إلى صنعاء من بلاد "همدان" للمرة الأولى في نهاية العام 8 هـ، وكانت زيارته الرابعة إلى "مذحج" في رمضان 10 هـ.

ويرى البعض أن تحديد إحياء جمعة رجب يعود لوصول الصحابي الجليل "معاذ بن جبل" إلى "الجند"، في سنة 7 هـ.

ويذكر المؤرخ اليمني "محمد بن يحيى الحداد"، أن مُعاذاً عندما قَدِمَ إلى اليمن، دخل من "صعدة"، وأمر أهلها ببناء مسجد لهم، ثم انصرف إلى "صنعاء"، واجتمع بأهلها، وألقى عليهم كتاب رسول الله، وأمرهم ببناء جامع لهم في بستان "باذان"، وهو ما يُعرف اليوم بالجامع الكبير، وفي أواخر جمادى الآخرة وصل الى "الجند" بتعز، واجتمع له الناس في أول جمعة من رجب، وخطبهم وبيّن لهم رسالة الإسلام التي جاء بها سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لكنه لم يوضح ما إذا كان وصوله إلى صنعاء في حياة "باذان" أم بعد رحيله.

وأمر ببناء مسجده المعروف بمسجد "الجند"، وبعد اكتمال بنائه أُقيمت فيه صلاة الجمعة، والتي صادفت أول جمعة من شهر رجب.


الخروج الثاني:


عقب غزوة "حُنين" شوال 8 هـ، وعاد إلى المدينة قبل سفر النبي إلى "تبوك" رجب 9 هـ.

وتذكر كُتب السِير أنه خرج إلى "نجران" في سنة 9 هـ، لجمع صدقاتهم وجزيتهم، وبعد رجوعه إلى المدينة وصل وفد "نجران"، وحدثت قصة المُباهلة الشهيرة.

كما وصلت بعد عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من "تبوك" وفود يمنية كثيرة، من "همدان"، و"مراد"، و"عمرو بن معدي كرب الزبيدي"، و"المعافر"، ووصلت رسالة ملوك حمير كما عرفنا سابقاً، وهذه قرينة على أن تلك الوفود ثمرة طبيعية لخروج الامام الى اليمن بعد فتح "مكة" وقبل غزوة "تبوك"، وهذا يعني أن الخروج الثاني لم يكن إلى نجران بل تجاوزها إلى صنعاء ومخاليفها ومحيطها لرعاية أسرة الخروج الأول إلى "باذان".


الخروج الثالث:


عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من "تبوك" في شعبان سنة 9 هـ، وقدِمت عليه الوفود اليمنية فيها، فأرسل مع "همدان" خالداً، وأقام فيهم 6 أشهر "رمضان 9 هـ - صفر 10هـ"، وذهب إلى اليمن في صفر 10 هـ، كما يرى القاضي "المحبشي"، وتمّكن خلال هذا الخروج من تثبيت الإسلام كدين عام لأهل اليمن، ولا يُستبعد أنه زار أيضاً عدن في أقصى الجنوب خلال هذه الزيارة، أو التي تليها، وبدأ بناء أساس الجامع الكبير من الصخرة الململمة كما يتواتر على ألسنة الناس جيلاً بعد جيل.


الخروج الرابع:


تذكر الروايات أن النبي دعا الإمام في رمضان سنة 10 هـ، فعمّمه بيده، وأمره بالخروج إلى "اليمن" قاضياً، فقال الإمام: "إنك تبعثني إلى قوم ذوي أسنان وأنا شاب ولا علم لي بالقضاء"، فمسح النبي صلى الله عليه وآله وسلم على صدره، وقال: "اللهم اهد قلبه وثبت لسانه".

قال عليه السلام: "فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين"، فخرج إلى اليمن وبقي فيها حتى قَدِمَ بحُجاج اليمن في حجة الوداع.


الخروج الخامس:


في عهد خلافة "أبو بكر"، وفيها دخل "عدن أبين" للمرة الثانية، وخطب على منبرها، وكانت زيارته الأولى لها على الأغلب خلال خروجه الثالث إلى اليمن، ومع ذلك يظل هذا الخروج محل جدل بسبب اعتزاله وتفرُّغه للعبادة خلال خلافة "أبو بكر".


المراجع:


1 - العلامة "أحمد بن محمد بن صلاح الشرفي"، اللألئ المُضيئة، الجزء الأول.

2 - الشيخ "أصغر مُنتظر القائم"، دور القبائل اليمنية في الدفاع عن أهل البيت في القرن الأوّل الهجري، مطبعة إسراء، الطبعة الأولى، 2010.

3 - "برمود صمدي" - كاتب تايلاندي، اليمنيون: عراقة في الدعوة إلى الإسلام، موقع إسلام ويب، 18 أغسطس 2001.

4 - العلامة الدكتور "حمود عبدالله الأهنومي"، إسلام أهل اليمن على يد الإمام علي عليه السلام، موقع رابطة علماء اليمن.

5 - "زيد المحبشي"، اليمنيون يحتفلون بإسلام أجدادهم في الجمعة الأولى من رجب، مركز البحوث والمعلومات، 27 فبراير 2020.

وكذا: اليمن تحتفل بعيد رجب الأصب، 17 فبراير 2021.

6 - القاضي الأديب "عبدالوهاب المحبشي"، الإمام علي واليمن والإيمان صورة ثلاثية الأبعاد، موقع رابطة علماء اليمن، 5 أبريل 2018.

7 - العلامة "محسن الأمين العاملي"، أعيان الشيعة، الجزء الاول.

8 - المفكر المصري "محمد أبو زهرة"، خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم.

9 - "محمد يحيى الحداد"، التاريخ العام لليمن، الجزء الثاني، شركة دار التنوير للطباعة والنشر - بيروت، الطبعة الأولى، 1986.

10 - الدكتور "محمد أمين صالح"، تاريخ اليمن الإسلامي، مكتبة الكيلاني - القاهرة، الطبعة الأولى، 1975.

11 - العلامة "محمد بن علي الأهدل الحسيني"، نثر الدر المكنون في فضائل اليمن الميمون، مطبعة زهران - القاهرة، الطبعة الأولى.

12 - موقع "أخبار الشيعة"، اليمنيون يُحيون أول جمعة من رجب بذكرى حلول أمير المؤمنين عليه السلام بينهم، 18 فبراير 2021.

الأربعاء، 23 فبراير 2022

مزارع شبعا أرضٌ صغيرة يتصارع عليها الكبار


مركز البحوث والمعلومات: زيد المحبشي


برزت أهمية مزارع "شبعا" على المسرح الدولي لأول مرة عقب انسحاب الاحتلال الصهيوني من جنوب لبنان عام 2000، بفضل المقاومة الإسلامية اللبنانية، وكان قبلها الجنوب اللبناني مُستباحاً من العدو الصهيوني.

بعد استعادة الجنوب وتنظيفه من أوساخ اليهود، كانت هناك ضغوط دولية كبيرة على لبنان من أجل تجريد المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله من السلاح، فرفض الحزب تسليم السلاح والتخلي عن المقاومة، بسبب استمرار العدو الصهيوني في احتلال "مزارع شبعا" و"كفر شوبا"، واختراقه الدائم للحدود الدولية مع لبنان، والتعدي على حقوق لبنان في الثروة الغازية والنفطية في مياهه الإقليمية بحوض البحر الأبيض المتوسط.

 وفي العام 2008 حاولت الولايات المتحدة الأميركية اقناع الكيان الصهيوني بالانسحاب من المزارع، من أجل سحب ذرائع "حزب الله" في التمسك بسلاحه، لكن تل أبيب رفضت ذلك.

ومن يومها مارست واشنطن ولا زالت كل الأساليب القذرة من أجل سحب سلاح حزب الله، لأنها ترى فيه خطراً وجودياً على الكيان الصهيوني الغاصب، دون أي تعاطي جاد مع قضية "مزارع شبعا" و"كفر شوبا" بل مجرد توهيم وتعويم وبيع كلام.

وعملت واشنطن في السنوات التالية على تمييع قضية المزارع، ومحاولة طمس "الحق التاريخي" للبنان فيها بالتواطؤ مع موالي الصهاينة في البيدر اللبناني، الذين عملوا بكل صفاقة على نفي لبنانية المزارع خدمة لأسيادهم في البيت الأسود وتل الربيع "تل أبيب".

ورغم عدم حسم جدلية "الحق التاريخي" في المزارع تعتبر الحكومات اللبنانية المتعاقبة "مزارع شبعا" و"كفر شوبا" أراضي محتلة، وتعترف في مواثيقها بشرعية المقاومة المسلحة لاسترجاعها، وهو ما أعطى المقاومة حصانة في وجه المخططات الصهيونية والأميركية، وحال حتى الآن دون سحب سلاحها.

وتأتي أهمية الحديث عن المزارع اليوم، بسبب المفاوضات التي يخوضها لبنان مع الكيان الصهيوني بواسطة واشنطن لترسيم حدوده البحرية الجنوبية، وبموازاتها مفاوضات أخرى مع قبرص كانت قد قطعت شوطاً كبيراً ثم توقفت بسبب الأحداث التي شهدها لبنان في الأعوام الثلاثة الأخيرة، وتسريبات عن تدخل تركي خفي في الملف أدى الى تجميده.

ويهدف لبنان من وراء هذه المفاوضات ترسيم حدوده البحرية في حوض البحر الأبيض المتوسط، كي يتمكن من استخراج الثروات الكامنة في مياهه الإقليمية وأهمها الغاز، من أجل معالجة أوجاعه الاقتصادية المتفاقمة والمتناسلة من رحم الصراعات السياسية والتدخلات الخارجية.

بينما تأمل واشنطن من وراء رعايتها لهذه المفاوضات أن تفتح المجال للتفاوض حول ترسيم الحدود البرية بين لبنان والاحتلال الصهيوني، واستكمال تنفيذ أهدافها القديمة الخاصة بسحب ذرائع حزب الله للتمسك بسلاحه، وليست المفاوضات الجارية لترسيم الحدود البحرية سوى مقدمة لترسيم الحدود البرية، وأي تحرك في هذا الملف لا بُد أن يمر عبر "مزارع شبعا"، بما لها من أهمية جيوسياسية، تجعل العدو الصهيوني مع مرور الزمن أكثر تمسكاً بها.

والنتيجة إبقاء ملف الحدود البرية مفتوحاً على كافة الاحتمالات وفي مقدمتها الاحتمال العسكري، وسنحاول الوقوف على مدخلات ومخرجات المفاوضات الحدودية البحرية في قراءة أخرى إن شاء الله، ونكتفي في هذه القراءة بالوقوف على ملف المزارع وما تشكله من أهمية لأطراف الصراع ومستقبلها في خضم هذا الصراع.


الأهمية الجيوسياسية للمزارع

تكتسب المزارع أهميتها من بُعدين:

1 - أمني عسكري:

انتشار المزارع في موقع جغرافي بالغ الحساسية، وعلى ارتفاعات تتراوح بين 1200 - 2700 متر، جعل منها منطقة رقابة عسكرية بالغة الأهمية لمتابعة كل ما يجري في المنطقة، بدءاً من هضبة "الجولان"، ومروراً بـ"حوران" سورية و"الجليل" و"الخليل" وسهول "الحولة" وجبل "عامر" و"البقاع" في لبنان، وصولاً الى محافظة "أربد" في شمال الأردن. 


2 - مائي:

تشكل المزارع المصدر الرئيسي لمعظم روافد نهر "الأردن" – "بانياس"، "اللدان"، "الوزاني" - وجريان نهر "الحاصباني" في ناحيتها الجنوبية، واختزانها كميات كبيرة من المياه المُتوالدة بفعل ثلوج جبل "الشيخ"، ناهيك عن كونها تُمّثل الامتداد الطبيعي لخزان المياه الجوفية في المثلث "اللبناني - الفلسطيني - السوري"، وفي قسمها الشمالي ناحية السفح الغربي لجبل "الشيخ" أماكن للتزلج على الثلوج لا نظير لها في المشرق العربي.

في ضوء ما سبق لم يعد غريباً أن هذا "الجيوبوليتيك" اللبناني المنسي غالباً في ظل الأحداث الكثيرة والكبيرة التي مرّ بها البيدر اللبناني في العقدين الأخيرة، يظل من أهم بؤر التوتر الساخنة في خارطة الوضع الإقليمي والمُهدد بالانفجار في أية لحظة أمام عجز الأمم المتحدة في تطبيق قراراتها على كيان الاحتلال الصهيوني، وإصرار كل من لبنان وكيان الاحتلال الصهيوني وما بينهما سورية وحزب الله على مواقفهما، ما يجعل الصراع مفتوحاً على كل الاحتمالات، لاسيما وأن أهمية المنطقة في القاموس اللبناني تُماثل، وهذا ما لا يُدركه الكثيرون ربما، أهمية خط حدود 4 يونيو 1967 لدى سورية، بينما تُماثل أهمية القدس في القاموس الصهيوني.


 شبعا قلب لبنان وستر سورية

تتخذ مزارع شبعا شكل "لسان" ممتد على مُنحدرات وتلال مُتدرجة في الارتفاع عن سطح البحر يبدأ من ثاني قمة في جبل "الشيخ" – "زلقا" 2669 متر - وينتهي عند "النخيلة" و"مغر شبعا"، وصولاً إلى وادي "العد" وسهل "الحولة" وبحيرة "طبرية" جنوباً، وجبلي "السماق" و"رويس" شمالاً، ولذا فحدُّها الفاصل في الجنوب الطريق العام الوحيد الرابط "سورية" بـ"لبنان" - "المجيدية" اللبنانية بـ"بانياس" السورية.

والمزارع الرئيسية حسب القائمة السورية لعام 1960 والتقرير الأممي الصادر في 30 أكتوبر 2007، هي: مغر شبعا، زبدين، قفوة، رمتا أو مشهد الطير، برختا التحتا والفوقا، مراح الملول، فشكول، خلة غزالة، رويسة القرن، جورة العقارب، الربعة، بيت البراق، ظهر البيدة، كفر دوره أو كفر الحمام، بسيطرة.

وتبلغ مساحة المزارع 600 كيلو متر مربع، موزعة بين لبنان وسورية وفلسطين المحتلة، منها نحو 250 - 270 كيلو متر مربع أرض لبنانية مُحتلة هي قلب بلدة "شبعا" وشريان اقتصاد "العرقوب" اللبنانية، تشكل المزارع منها نحو 80 % أي ما يزيد عن 264 كيلو متر مربع، مقسمة على 18 مزرعة كبيرة تمتلكها عائلات لبنانية منذ العهد العثماني، وفي نطاقها 100 مزرعة صغيرة مُحاطة بثلاثة فواصل شائكة.


أصل الصراع

 احتل الكيان الصهيوني اللقيط المزارع على 8 مراحل، كانت الأولى في 21 يونيو 1967 تحت مبرر إرسال رئيس وزراء لبنان السابق "رشيد كرامي" رسالة تضامنية إلى دول المواجهة، وانتهت الأخيرة في أبريل 1989، وبذلك بسط الاحتلال على 80 % من خراج بلدة "شبعا".

أي أنها كانت إحدى تداعيات حرب 1967، رغم عدم مشاركة لبنان فيها، ووجود "معاهدة هدنة" مع الاحتلال، أعلن الاحتلال يومها إلغائها من جانب واحد، فيما أصر لبنان على التمسك بها.

واللافت هنا تعامل الحكومة اللبنانية مع المزارع قبل العام 1967 وكأنها خارج سيادتها، واعتبارها ضمن الأراضي السورية، فيما كانت بعدها تضع الجنوب بصورة عامة في سلة المُهملات، باستثناء مناشدة يتيمة أرسلها "سليم الحص" في العام 1988 إلى الأمم المتحدة.

انسحاب الاحتلال الصهيوني في 25 مايو 2000 من جنوب لبنان، والمندرج حينها تحت يافطة القرارين الأمميين 425 – 426 فيما يتعلق بالأراضي المحتلة في العام 1976، والصادرة في العام 1978، فجّر صِراعاً حاداً حول المزارع، حيث اعتبرها الاحتلال الصهيوني والأمم المتحدة ومجلس الأمن ضمن القرار 242 الصادر في العام 1967 فيما يتعلق بالأراضي السورية المحتلة، إلا أن الحكومة اللبنانية وحزب الله رفضا ذلك كما رفضا الإقرار بالخط الأزرق كحدود دولية مع الاحتلال مطالبين بالانسحاب إلى ما وراء الحدود الدولية لعام 1923 وشُمولية ذلك أجواء لبنان ومياهه الإقليمية.

ومنذ إعلان السيد "حسن نصر الله" في العام 2000 أن المزارع هدفه القادم، يُصرّ الاحتلال الصهيوني على أنها جزء من الجولان السورية المحتلة بموجب اتفاقية "فك الارتباط" مع سورية في العام 1974، ولذا فهي مُتعلقة بالقرار الأممي 242 وليس القرار 425، وهو موقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وربط مصيرها بمستقبل التسوية بين الاحتلال الصهيوني وسورية، بينما اكتفى البند العاشر من القرار الأممي 1701 الصادر في أغسطس 2006، بدعوة لبنان والاحتلال الصهيوني إلى احترام الخط الأزرق، وتكليف أمين عام الأمم المتحدة بوضع تصور لحل قضية مزارع "شبعا" وترسيم الحدود، والقرار الأخير ربط مصير هكذا تخريجة بوجود اتفاق "سوري – لبناني" على ترسيم الحدود الدولية، مُصادق عليه، ومُودع بهيئة الأمم المتحدة، ويحسم بصورة نهائية تبعية "شبعا"، وتالياً تسوية سلام "سورية – صهيونية". 

يأتي القرار 1701 على خلفية العدوان الصهيوني على لبنان في يوليو 2006 وما ترتب عليه من مطالب بتسليم المزارع للأمم المتحدة، لكن حزب الله رفض ذلك وكذا سورية والعدو الصهيوني، وتشهد المرحلة الحالية إعادة بحث متجدد حول مصير مزارع "شبعا".


التعاطي السياسي اللبناني

من أجل استرداد المزارع، عمل لبنان على خطين، هما:

1 - الاستشهاد بالوثائق والأدلة القاطعة، والاعتراف السوري بلبنانية المزارع.

2 - دعم المقاومة كعمل مشروع لتحرير الأرض.

لكن ذلك ظل محكوماً بالتقلبات السياسية الداخلية والإقليمية المتباينة فيما يتعلق بسلاح حزب الله، وصولاً إلى اقتراح حكومة "السنيورة" الموالية للسعودية في حينه وضع المزارع وتلال كفر شوبا تحت الرعاية الأممية، لسحب الذرائع من يد المقاومة، وهو ما رفضه الاحتلال الصهيوني، ما يعني وجود تباين لبناني حول تبعيتها أولاً، وآلية تحريرها التي باتت تحكمها التجاذبات السياسية السورية الصهيونية أكثر من ارتباطها بـ"الحق" و"القانون".

وفي الحالتين، فالأمر يتطلب اتفاق سورية ولبنان على ترسيم الحدود، مع الاختلاف حول "شبعا"، إذ ترى سورية أن حسم أمر المزارع لا يكون إلا بعد انسحاب الاحتلال، فيما يرى حزب الله أن تحريرها لا يكون إلا بالمقاومة.


أي مصيرٍ ينتظر شبعا؟

في منطقة مضطربة كالمشرق العربي تبدو المناطق المتنازع عليها بين لبنان والاحتلال الصهيوني هادئة نِسبياً على الأرض، وساخنة في البازار السياسي اللبناني تحديداً، وشبه محسومة في "تل أبيب"، خصوصاً وأن التصريحات والمواقف الصهيونية في العقدين الأخيرة مُجمعة على عدم الاعتراف بكل الاتفاقات السابقة للعام 1967، بمختلف مسمياتها حول ترسيم الحدود التي صارت في قاموس الاحتلال الصهيوني أثرية، كونها حدوداً لا يمكن الدفاع عنها ولا العودة إليها، بما فيها أيضاً الخط الأممي الأزرق لعام 2000، أي أنها ترسيمات مؤقتة فيما الترسيمات النهائية لازالت تنتظر الوقت المناسب.

ولعل هذا ما يفسر لجوء الاحتلال في جميع اتفاقياته ومعاهداته مع دول الجوار الإقليمي إلى عدم التنصيص على حدود العام 1967 بهدف إدخال التعديلات التي يريدها في أي اتفاق مستقبلي، وبما يضمن حماية كيانه أمنياً ومائياً.

أما المشهد اللبناني فإنه على ما يبدو لازالت تحكمه المناخات الإقليمية فيما يتعلق بالآلية الأكثر فعالية لاستعادة أراضيه والمتمحورة حول الدبلوماسية الضاغطة والقوة المقاومة، في حين أن الواقع يستدعي اقتران شرعية الحق بالبندقية، وهو أمر يتطلب الكف عن السجالات الداخلية حول تبعية تلك المناطق والتوقف عن تحميل سورية مسؤولية لا تتحملها.

فمصير المزارع في المحصلة يحتاج الى صفقة إقليمية كبيرة تشمل كافة الأطراف، وهناك مساعٍ أميركية روسية لتقسيم المزارع بالتراضي بين أطراف الصراع، ومحاولة لأقناع أطراف الصراع بانسحاب الاحتلال الصهيوني من 50 كيلو متر مربع لصالح لبنان، و50 كيلو متر مربع لصالح سورية، مقابل 50 كيلو متر مربع لصالح الاحتلال، ووضع المساحة المتبقية تحت رعاية الأمم المتحدة.

والى حين نضوج صفقة مُرضية، بما لا يُفرّط بالحق التاريخي للبنان، فالمطلوب لبنانيا على المستوى الحكومي والشعبي الاستمرار في دعم المقاومة اللبنانية والحفاظ على مشروعيتها وسلاحها حتى تحرير مزارع "شبعا" وكفر "شوبا"، ودعم استقرار لبنان، ورفض التدخل في شئونه الداخلية ورفض أي طرح يتعلق بتدويل مشاكله.

وتظل المقاومة وسلاحها صمام الأمان الوحيد لهذا البلد الصغير في مساحته، والكبير بمقاومته.

الأحد، 20 فبراير 2022

سرطان المستوطنات يخنق الفلسطينيين

 



 مركز البحوث والمعلومات: زيد المحبشي

 

تتراوح مساحة فلسطين التاريخية تحت الانتداب البريطاني بين "26400 – 27000" كيلو متر مربع، يقسمها خط وهمي بحسب هدنة 1949، يُعرف بـ"الخط الأخضر"، بموجبه يسيطر الاحتلال الصهيوني على القسم الأول المعروف بفلسطين القديمة "أراضي 1948"، وهذه مساحتها نحو 20990 كيلو متر مربع ومن ضمنها القدس الغربية، والشطر الثاني المعروف بفلسطين الجديدة "أراضي 1967" ومن ضمنها القدس الشرقية، وهذه لا تتجاوز مساحتها 6010 كيلو متر مربع، وبالتالي فالتفاوض في مراحله المختلفة بات مقتصراً عليها، أي على الضفة والقطاع والقدس الشرقية.

ميدانياً، المناطق المتبقية للفلسطينيين مخنوقة بالمستوطنات وجدار الفصل العنصري، ففي الضفة وحدها تستحوذ المستوطنات على "35 – 58 %" من أراضيها، وفي القدس المحتلة لم يتبقَ للعرب سوى الأحياء العربية الواقعة خارج حدود الجدار، وهذه قد تم ملئها بالمستوطنات.

إذن ما الذي تبقى للفلسطينيين في حال كانت هناك توجهات دولية حقيقية لتنضيج خيار الدولتين كمخرج وحيد لحلحلة عُقد الصراع "الصهيوني - الفلسطيني".

ملف "المستوطنات" من أكثر ملفات التسوية تعقيداً، بسبب هالة الألغام المُحيطة به، وحجر عثرة أمام رهانات التسوية" بالنظر إلى الأهمية التي يحتلها في قائمة أجندة الاحتلال وضعف الموقف العربي وعدم جدية الإدارات الأميركية المتعاقبة في التعامل معه من منظور الحقوق والاستحقاقات، وبالنظر إلى نجاح الاحتلال في فرض وقائع ميدانية لم يعد بالإمكان تجاوزها أو إيجاد مخارج لها.

 

مخططات متوالدة:

تعود بداية تكريس الاستيطان بالقوة إلى العام 1920، ومن حيث التنظير والاهتمام إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وما شهدته من حراك عالمي واسع للحركة الصهيونية تمثّل في إقامة المراكز البحثية المعنية بدراسة مشاريع الاستيطان في فلسطين، وحشد الموارد الكفيلة بترجمتها على الأرض بدءاً بالعمل الميداني تحت حماية قوات الانتداب ومروراً بحربي 1948 و1967، وما صاحبهما من عمليات تهجير وتطهير واسعة للفلسطينيين، أدت إلى نزوح أكثر من 6 ملايين فلسطيني، وتغليب الوجود اليهودي على الوجود العربي في أراضي 1948، وانتهاءً بتوظيف أجواء المفاوضات منذ أوسلو 1993 وما تلاها لفرض المزيد من الحقائق والوقائع الاستيطانية، التي تحول دون حلم الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة.

أنشأ الصهاينة العديد من المستوطنات بعد عام 1948 على أنقاض البلدات والقرى الفلسطينية التي تشكل 78 % من أرض دولة فلسطين التاريخية المُستوّلى عليها، وبعد حرب العام 1967، استولى العدو على الـ 22 % المتبقية من أراضي دولة فلسطين التاريخية، الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة، وبدأ ببناء مستعمرات استيطانية لليهود فقط على هذه الأراضي.

وأنشأ العدو "طُرقاً التفافية" لربط مستوطنات القدس الشرقية والضفة الغربية ببعضها، وبأراضي 1948، هذه الطرق تفصل الأراضي الفلسطينية عن بعضها، ويُسمح لليهود فقط باستخدامها.

ويتعمد العدو بناء هذه المستوطنات على الأراضي الفلسطينية الخصبة والمليئة بالمصادر الطبيعية، وسلب الفلسطينيين حقهم في إنشاء دولة حتى على القطعة الصغيرة المُتبقية من أرض دولة فلسطين التاريخية في الضفة والقطاع والقدس الشرقية.

وتُعتبر تل أبيب من أوائل المستوطنات التي بناها الصهاينة في أوائل القرن العشرين.

شيّد الصهاينة الكثير من المستوطنات في سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وتضاعف عدد سكانها في السنوات الـ 20 الماضية بصورة مُلفتة، وتتحدث الأرقام الرسمية عن تجاوز متوسط ولادة المستوطنة الصهيونية 7.59 أطفال في الوقت الراهن، بينما لا يتجاوز متوسط ولادة النساء الفلسطينيات 3.2 أطفال.

ويحاول العدو من خلال رفع نسبة التكاثر تغليب العرق اليهودي على الوجود العربي في فلسطين المحتلة، أملاً في أن يقود ذلك في حال كانت هناك توجهات فعلية لإنجاز تسوية دائمة للقضية الفلسطينية الى اسقاط خيار الدولتين، وتحويل الفلسطينيين الى أقلية، وقذف هذه الأقلية في أحضان مصر والأردن والمنافي البديلة المخصصة للتوطين.

السرطان الاستيطاني يستحوذ على أكثر من 58 % من أراضي الضفة، أي نحو 3277 كيلو متر مربع من إجمالي مساحة الضفة (5650 كيلو متر مربع)، يتواجد بها أكثر من 300000 - 427800 مستوطن، و270 ألف مستوطن في القدس الشرقية، أي نحو 7 % من يهود الكيان العبري، ويتضاعف النمو السنوي لسكان المستوطنات بمقدار 3 أضعاف نمو السكان اليهود في أراضي 1948، ونسبتهم في الضفة نحو 20 % من عدد السكان الفلسطينيين.

وسيطر الاستيطان على نحو 163 كيلومتر مربع من أراضي القدس الشرقية بصورة أصبح معها الوجود العربي أقلية أمام أغلبية يهودية لأول مرة في التاريخ، أضف لذلك الحواجز المقطعة للضفة والتي تتجاوز أكثر من 640 حاجزاً وفقاً للإحصائيات المنشورة ما قبل العام 2010، واقتطاع الجدار العازل أكثر من 975 كيلو متر مربع من مساحتها، وحجز نحو 346 ألف فلسطيني خلفه، سيحرمون من نعمة التواصل مع ذويهم، وعزل نحو 154 ألف مقدسي عن مدينتهم، واقتطاع 200 كيلو متر مربع في العام 1950 بطرق ملتوية لصالح المستوطنات من أصل 555 كيلو متر مربع هي إجمالي مساحة قطاع غزة بموجب خطوط هدنة عام 1949، ونحو 20 % (72 كيلو متر مربع) تم اقتطاعها خلال العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين لصالح الجدار العنصري في القطاع، وكلها حقائق لم تعد قابلة للإلغاء أو المساومة بل المطلوب الاعتراف بها وبسيادتها كواقع لم يعد ممكناً تغييره.

وتتحدث الإحصائيات عن بناء العدو أكثر من 250 مستوطنة منذ العام 1967، تتوزع بين الضفة الغربية وغزة، وتحتل مساحة إجمالية من الأراضي الفلسطينية تُقدر بنحو 10183.5 هكتارات، منها 160 مستوطنة و200 بؤرة استيطانية في الضفة الغربية المحتلة و69 مستوطنة في القدس الشرقية، ناهيك عن 121 – 250 بؤرة استيطانية (مستوطنات بُنيت دون إذن من الحكومة الصهيونية) ما بعد العام 1993.

يعيش في الضفة الغربية المحتلة صغيرة المساحة بما فيها القدس الشرقية، نحو 427800 - 600000 مُستوطناً، في تجمعات منفصلة عن بعضها، بحسب إحصائيات العام 2014.

في العام 2010 كانت هناك مبادرة أميركية للسلام في فلسطين المحتلة، تمخضت عن اعلان الكيان الغاصب مخطط طويل الأمد يقضي ببناء أكثر من 60 ألف وحدة استيطانية في القدس الشرقية والضفة خلال الفترة "2010 – 2020".

وفي 24 أكتوبر 2021 أعلن العدو عن مخطط يتضمن بناء 3100 وحدة استيطانية جديدة في الضفة الغربية المحتلة، وفقاً لصحيفة "جيروزاليم بوست" العبرية.

وتتحدث بيانات حركة "السلام الآن" الحقوقية الصهيونية عن وجود نحو 666 ألف مستوطن إسرائيلي و145 مستوطنة كبيرة و140 بؤرة استيطانية عشوائية غير مرخصة من الحكومة العبرية بالضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية المحتلة.

وفي 15 فبراير 2022 كشف تقرير لمعهد الأبحاث التطبيقية (أريج) مخطط جديد للاحتلال يقضي بمصادرة " 70048 دونماً من الأراضي الفلسطينية التابعة لمحافظتي "الخليل، و"بيت لحم" في الضفة من أجل بناء مستوطنات تمتد من بلدات "سعير" و"الشيوخ" في "الخلیل"، الى "البرية الشرقية" لـ"بیت لحم"، تحت مبرر "محمية طبيعية".

وتعود بداية مخططات الاستيطان في هاتين المحافظتين الى العام 1983، وتم تجميده ووضعه في الدُرج، ليتم في هذه المرحلة توسيعه والإعلان عن البدء بتنفيذه.

ويستند العدو في مصادرة الأراضي الفلسطينية على أمر عسكري أصدره في العام 1969 يحمل الرقم 363، بموجبه يحق للسلطات الصهيونية المدنية الإعلان عن أي منطقة في الضفة الغربية المحتلة "محمية طبيعية"، وهو اسم الدلع لتبرير تمدد المستوطنات، في الوقت الذي تحظر فيه سلطات العدو على الفلسطينيين استخدام هذه الأراضي بذريعة أنها "محميات طبيعية".

كما يتذرع الصهاينة لتبرير التمدد الاستيطاني بالصلات التاريخية والتوراتية بالأرض، والدواعي الأمنية.

ويعتقد بعض المستوطنين أن "الرب" يأمرهم باستيطان هذه المناطق، وتتحدث الإحصائيات عن تحول التجمعات الاستيطانية الى بؤر للإرهاب الصهيوني، فثُلثي سكانها من اليهود المتشددين دينياً، وبقية المستوطنين يفضلونها بسبب رُخص العقارات فيها وتوافر الخدمات المُريحة، وهذا سيكون له تبعات خطيرة  ليس على الفلسطينيين فحسب بل وعلى اليهود ذاتهم من صراعات كامنة وخاملة مهددة بالانفجار في أية لحظة بين المتزمتين والمنفتحين منهم، ناهيك عما يمارسونه من جرائم ضد الفلسطينيين بمباركة سلطاتهم المدنية وحماية جيشهم، في ظل صمت مخزي من الأمم المتحدة بمنظماتها المختلفة.

ويزود العدو المستوطنات بالخدمات الأساسية مثل الماء والكهرباء، كما تتمتع بحماية الجيش الصهيوني، ويسمح العدو لقُطعانه في الضفة الغربية بحمل السلاح، ودفعهم للاعتداء على المواطنين والمزارعين الفلسطينيين.

وتتوزع المستوطنات في شتى أرجاء الضفة الغربية المحتلة، ولأن الكثير منها مشمولة بحماية الجيش الصهيوني ومحظورة على الفلسطينيين، فإن وجودها يفصل المدن والبلدات والقرى الفلسطينية عن بعضها البعض، ويُعقّد التواصل والانتقال والتنمية في المناطق الفلسطينية.

والأكثر خطورة مصادرة العدو الآلاف من الدونمات الفلسطينية تحت تهديد السلاح، واستغلالها كأماكن لدفن نفايات المصانع الكيميائية والنفايات النووية المتأتية من مفاعلي "ديمونا" و"ناحال سوريك"، واستعمالها كمستودع للنفايات العامة والقاذورات وأماكن تجمع الصرف الصحي بالقرب من القرى والمدن والمخيمات الفلسطينية، بما لذلك من تداعيات كارثية على الفلسطينيين، بيئياً وسُكانياً وحياتياً.

 

الموقف الفلسطيني:

رغم المقاومة الفلسطينية الشعبية المستمرة للاستيطان، فإن الاهتمام السياسي القيادي بهذا الملف أتى متأخراً جداً، وتحديداً في العام 2008 عندما قرر المفاوض الفلسطيني ربط استمراره في المفاوضات بتجميد الأنشطة الاستيطانية في الضفة الغربية دون القدس الشرقية، أي فيما يتعلق بمستوطنات ما بعد 1967 وإزالة مستوطنات ما بعد أوسلو 1993، وهو ما أثار التساؤل عما إذا كان المفاوض الفلسطيني بات على قناعة بأن المستوطنات لم تعد تُمثّل حجر عثرة أمام السلام الذي ينشده؟.

الاحتلال بغض النظر عن مسميات حكوماته المتعاقبة غير مكترث بعملية السلام بعد أن ضمن عملياً طوي الانشغال بملف الأمن الخارجي عبر الجدار والتنسيق الأمني في الضفة والحصار على القطاع، لكنه مع ذلك يظل في حاجة للمفاوضات فقط لأنها تحميه من الضغط والعزلة الخارجية.

 

مستقبل المستوطنات:

نجح الاحتلال عملياً في حصر الخلاف حول عدد محدود من المستوطنات التي تم بنائها بعد اتفاق أوسلو 1993، لأنها تمت بصورة عشوائية وغير قانونية، وهي بمجملها لا تتجاوز 250 مستوطنة يقع معظمها خارج الخط الأخضر، وتمحور خلاف واشنطن مع تل أبيب خلال إدارتي بوش الإبن وأوباما حول 100 مستوطنة من أصل 121 مستوطنة تم الاعتراض عليها.

وتعمل الإدارات الأميركية المتعاقبة على دفع المفاوض الفلسطيني للاعتراف بإسرائيل دولة يهودية نقية خالصة، والاعتراف بالواقع الديموغرافي الاستيطاني في الضفة والقدس الشرقية، وبشرعية جدار الفصل العنصري، وإسقاط حق العودة، والاعتراف بشرعية عمليات التوطين في الدول العربية المتواجد بها الفلسطينيين.

والفلسطينيون يدركون أكثر من غيرهم بأن الإدارات الأميركية بمختلف مسمياتها لم ولن تُبدي أي جدِّية في التعامل مع ملف المستوطنات، لأن الاستيطان يمثل عصب الكيان الغاصب وصمام الأمان لاستمراره إلى جانب مشاريع التهويد والجدار العازل.

ويبقى الرهان الوحيد لتخليص الفلسطينيين من كابوس هذا السرطان الخانق لأنفاسهم في إعادة توحيد صفوفهم خلف المقاومة، وبلسمة جراح التشظي، وما عدا ذلك وهمٌ وسراب.


الأربعاء، 16 فبراير 2022

العلاقات اليمنية الصينية في عهد الإمام أحمد




مركز البحوث والمعلومات: زيد المحبشي

شهدت العلاقات "اليمنية - الصينية" تقارباً نسبياً في عهد الدولة الرسولية، تمثّل في تبادل الزيارات والهدايا، وتنشيط التجارة البينية، وكانت الدولة الرسولية ذات شوكة وسطوة وحضور في محيطها العربي والإقليمي، وفاعل سياسي وازن في الأحداث الدولية، ما جعلها تفرض احترامها على الفاعلين الدوليين في عصرها، ومنهم الصين الطامحة حينها الى اكتشاف العالم وتنويع طرق التجارة العالمية، وكان لها قصب السبق في اكتشاف العالم، قبل أن يفكر الأوربيون بتدشين رحلاتهم الاستكشافية الجغرافية، ومثّل اليمن حينها إحدى محطات الرحّالة الاستكشافي الصيني "تشنغ خه"، "1418 - 1433م".
وفي الفترة "1616 - 1911م" شهدت العلاقات تراجعاً ملموساً بسبب الحكم الاستعماري الذي مارسته الدول الغربية الكبرى على الصين بعد حرب "الأفيون" 1840م، وتفشي أعمال القرصنة على طول طريق "البخور".
وبعد ثورة 1911 انهمكت الصين في معالجة شؤونها الداخلية، لتستعيد تنشيط سياستها الخارجية بعد تأسيس "جمهورية الصين الشعبية" عام 1949، فاتجهت الى إحياء صلاتها التاريخية مع الوطن العربي.
واكب ثورة الصين 1911، ثورة الإمام "يحيى بن محمد حميد الدين" على الاحتلال العثماني وتمكُّنه من انتزاع استقلال المحافظات اليمنية الشمالية والغربية، والتوجه الى انتهاج سياسة خارجية متوازنة مع الفاعلين الدوليين تقوم على الندية والاحترام المتبادل وتبادل المنافع والمصالح دون التفريط بالسيادة الوطنية، ودون الارتهان لأيٍ من الفاعلين الدوليين، وبالفعل نجح الإمام "يحيى حميد الدين" في توقيع العديد من اتفاقيات التعاون وتنشيط التبادل التجاري مع العالم الخارجي.
في العام 1949 شهد العالم مولد "جمهورية الصين الشعبية"، فانخرط التنين الوليد منذ أيامه الأول في مواجهة مفتوحة مع دول الاستكبار العالمي، ولعب دوراً محورياً في حركة "عدم الانحياز" الداعمة لاستقلال دول العالم الثالث، وخروجها من تحت عباءة الاستعمار الغربي بتلاوينه، وكانت هذه الحركة تضم في صفوفها العديد من الدول العربية، ما أدى الى تسهيل مهمة التقارب "العربي - الصيني".
التقارب في المواقف السياسية تحت مظلة حركة "عدم الانحياز" حول قضايا الساعة، وإن اختلفت أهدف هذا التقارب، شجع الصين في العام 1950 على التوجه الى العالم العربي من أجل إقامة علاقات دبلوماسية مع دوله الخارجة من تحت عباءة الاحتلال الغربي والعثماني.
التوجه الصيني نحو المشرق العربي تزامن مع صعود نجم الإمام "أحمد بن يحيى حميد الدين" وتسلُّمه الحكم في اليمن عقب استشهاد والده، وانتهاجه سياسة والده في التعاطي مع ملف السياسة الخارجية، بما في ذلك تدشين العلاقات الدبلوماسية مع بكين في 24 سبتمبر 1956، وما ترتب عليها من تنوع في مجالات التعاون المختلفة، بعد شهرٍ واحدٍ فقط من اعتراف "المملكة المتوكلية اليمنية" بـ"جمهورية الصين الشعبية"، في 31 أغسطس 1956، كثالث دولة عربية بعد مصر وسورية.
ومن وقتها دخلت العلاقات الثنائية مرحلة جديدة من التقدم والنماء والتطور في كافة المجالات.
وتضمن اتفاق 24 سبتمبر 1956 اقامت علاقات دبلوماسية على مستوى "وزير مفوض" بين اليمن الشمالي والصين.
وفي العام 1957، فتحت الصين الشعبية مفوضية دبلوماسية لها في مدينة "تعز"، وبالمقابل لم يتمكن اليمن الشمالي من فتح تمثيل مقيم له في "بكين" بسبب الظروف الاقتصادية، كما أن عدد الكادر الدبلوماسي اليمني وقتها كان ضئيلاً جداً، فاكتفت صنعاء بتعيين "عبدالرحمن عبدالصمد أبو طالب" "وزير مفوض" غير مقيم لدى "الصين". 
التقارب الدبلوماسي تُوِّج بزيارة الأمير البدر "محمد بن أحمد بن يحيى حميد الدين"، لـ"بكين"، في العام 1957، في حين يرى الدكتور "علي عبدالقوي الغفاري"، ان الزيارة كانت في صيف عام 1956، بعد زيارة "البدر" لـ"موسكو" و"براغ"، والراجح أنها في العام 1957، لعدة مؤشرات لعلى أهمها:
1 – استغراق زيارة "البدر" لـ"موسكو" و"براغ" وقتاً ليس هيِّناً.
2 - توافق الكثير من المصادر على أن زيارته للصين كانت في العام 1957.
وتم خلال الزيارة التوقيع على العديد من اتفاقيات التعاون المشترك.
وفي أغسطس 1960، أرسل الإمام "أحمد بن يحيى حميد الدين"، وفداً رسمياً الى "بكين" و"موسكو"، برئاسة "محمد عبدالله العمري"، إلا أن الوفد استشهد إثر حادث سقوط الطائرة الروسية المُقِّلة لهم، وهم في طريقهم الى بكين دون نجاح مهمتهم.

وقامت الصين حينها ببناء العديد من المشاريع الخدمية، أهمها:
1 - شق طريق "صنعاء - الحديدة" كأول طريق يربط بين المحافظات اليمنية، تم إنجازه خلال عامين فقط، دون ضجة، وفي جو من المودة الشعبية والرسمية، وهذا هو حال كل المشاريع الصينية المنفذة في اليمن في السنوات والعقود التالية، والتي عادة ما يضعها الصينيون موضع التنفيذ بمجرد الانتهاء من التوقيع على اتفاقياتها، والسبب إيمان الصينيين بأن نجاحهم في إقامة علاقات ناجحة مع هذه الدولة أو تلك مرهونٌ بمدى كفاءة وسرعة انجاز المشاريع التعاونية.
عكس التعامل الأميركي الفظ في تنفيذ المشارع التعاونية بما يصاحبه من تعقيدات ومشاكل مع العمال المحليين والأنظمة المحلية، وتعثر في التنفيذ، كما هو حال مشروع "خط النقطة الرابعة" في شق طريق "تعز – المخا".
2 - مصنع "الغزل والنسيج" بصنعاء.
3 - إصلاح ميناء "المخا" بعد أن ظل أطلالاً لأكثر من أربعة قرون، وتحديداً منذ العام 1541م، كما يذكر "إريك ماكروا".
وأرسلت الصين العديد من الأطباء إلى اليمن لتحسين الخدمات الصحية في القرى والمدن، وقدمت القروض المُيسّرة، واستقبلت الطلاب اليمنيين في معاهدها وجامعاتها.
على صعيد الاتفاقيات:
وقع الطرفين في 12 يناير 1958 بالعاصمة الصينية "بكين" معاهدة "صداقة وتعاون مشترك"، شملت: 
1 - اتفاقية للتعاون العلمي والفني والثقافي.
 2 - معاهدة تجارية.
 3 - اتفاقية لبناء مصنع "الغزل والنسيج" بصنعاء.
وكانت الطاقة الانتاجية لهذا المصنع تُقدّر بحوالي 7.8 ملايين متر من الأقمشة في السنة.
4 - اتفاق قرض، تضمن تقديم الصين 70 مليون فرنك سويسري لصنعاء، من أجل تنفيذ العديد من المشاريع الخدمية كالطرق والمصانع وحفر الآبار وشراء قطع الغيار وبناء الورش والصيانة، وكانت هناك قروض صينية أخرى من أجل دعم التنمية في اليمن، لكن قيام النظام الجمهوري في شمال اليمن حال دونها.
وفي 23 يناير 1959، وقعّت الصين واليمن بمدينة "تعز" على بروتوكول طريق "صنعاء – الحديدة".
وفتحت الحكومة الصينية أبواب معاهدها وكلياتها العلمية للطلاب اليمنيين، ووصلت أول بعثة طلابية يمنية الى "بكين" في العام 1959.
وفي ديسمبر 1961، تم الانتهاء من تنفيذ مشروع الطريق الاسفلتي الرابط بين الحديدة وصنعاء، بطول 231 كيلو متر.

وفيما يتعلق بعلاقات الصين مع عدن قبل الاستقلال عن الاستعمار البريطاني، عملت "جمهورية الصين الشعبية" في إطار حركة "عدم الانحياز" على دعم حق الشعوب العربية في تقرير المصير ونيل الاستقلال، وأعلنت تأييدها لنضال أبناء جنوب اليمن ضد الاستعمار البريطاني، أثناء زيارة رئيس وزرائها "شوان لاي" للقاهرة في العام 1964.
استمر التأييد الصيني لنضال الشعب اليمني حتى نال استقلاله عن الاستعمار البريطاني في العام 1967.
وما بعد استقلال جنوب اليمن عن الاستعمار البريطاني، وتحول شماله من النظام الملكي إلى الجمهوري بدأ فصل أخرى من العلاقات اليمنية الصينية، مُحرِّكها الصلات التاريخية.