Translate

الأربعاء، 3 يونيو 2009

سوات .. معركة على قلب باكستان


زيد يحيى المحبشي

بعد مرور 35 يوماً من اتساع رقعة المواجهات بين الجيش الباكستاني ومقاتلي طالبان بوادي سوات, تمكن الجيش في 30 أيار/ مايو الفائت من استعادة مينجورا, إحدى أهم مدن الوادي, في سياق حملته الواسعة لتطهير الحدود الباكستانية الشمالية الغربية, من الجماعات الدينية المتطرفة الموالية للقاعدة, بعد ثمان سنوات من الصراع الدامي,والذي أضحت بموجبه حركة طالبان الباكستانية خطراً محدقاً ومهدداً هذا البلد بطلبنة قاعدية جديدة.
اتجاه باكستان نحو الحسم العسكري هذه المرة يأتي بعد تردد كبير, خصوصاً وأن طالبان باتت تسيطر على 90 بالمائة من وادي سوات وسط تنامي نفوذها خارجه وتزايد عملياتها في وزيرستان أيضاً - المكونة مع سوات إقليم صوبة سرحد المتمتع بحكم ذاتي مستقل عن الحكومة المركزية- وتصاعد المخاوف الغربية من تمددها بإقليم البنجاب حيث تنشط جماعة عسكر طيبة وغيرها من الجماعات الدينية المتطرفة,وبالتالي السيطرة على باكستان, إذا ما استمرت على ذات الوتيرة, ما يعني وضع هذا البلد على أعتاب مرحلة جديدة.

فزاعة الدين
الأحداث العاصفة بباكستان أعادة إلى الذاكرة مقولة أرنولد تويبي الشهيرة في كتابه أزمة الحضارة "الإسلامية مثل إنسان نائم، ولكن علينا أن نفكر في احتمال أن يستيقظ هذا النائم" وهو ما دعا هيلاري كلينتون إلى اعتبار "الشريعة في وادي سوات تمثل تهديداً مميتاً للعالم"، في وقت تعتقد فيه واشنطن بأن دوافع ذلك, التعصب الديني, فيما ترى إسلام أباد أنه التحام متفجر للحماسة الإسلامية والتوترات العرقية المتهيجة.
الصراع في الداخل الباكستاني بين النخب الحاكمة والجماعات الأصولية المتشددة ليس وليد اللحظة, وإن كان لتحالف هذا البلد مع أميركا حصة الأسد في انفجاره بعد سقوط طالبان أفغانستان في تشرين الثاني/ نوفمبر 2002.
الفزاعة الدينية بصورة عامة مثلت الورقة الرابحة بيد باكستان منذ تأسيس دولتها عام 1947, سواء لتصفية الحسابات الداخلية بين النظام والمعارضة أو للضغط الخارجي على المسرحين الهندي والأفغاني, في حين كان الهدف الأساسي من قيام دولة باكستان استيعاب مسلمي شبه الجزيرة الهندية, ما جعل العديد من المناطق تدار من قبل الراديكاليين وزعماء القبائل الأشد تمسكاً بالمبادئ الجهادية في مراحل الدولة الأولى, لكن ذلك سرعان ما تغير خصوصاً في عهد يحيى خان, حيث شهدت فترته ضم وادي سوات لباكستان عام 1969, بعد أن كان مملكة مستقلة محكومة بالشريعة الإسلامية وقوانينها ومن ثم استبدالها بالقوانين البريطانية.
هذا التحول الدراماتيكي حدا بالرئيس الباكستاني السابق محمد ضياء الحق ( 1978- 1988 ) إلى إطلاق مقولته الشهيرة الملخصة مفرداتها المعضلة الأساسية العاصفة بهذا البلد اليوم "حين قررت تركيا العدول عن الشريعة الإسلامية، بقيت تركيا، وحين قررت باكستان التحول عن الطريق الإسلامي، عادة لتصبح هندية",وبذلك قرر إعادتها دولة إسلامية, وكون ذلك مهدد لمصالح الغرب, تم التخلص منه.
رغم أن باكستان كانت تمثل قاعدة خلفية للأصوليين الذين شاركوا في تحرير أفغانستان من الاحتلال السوفياتي بالتعاون مع "السي آي إيه" والذي أثمر أيضاً في 1995 ولادة نظام طالبان أفغانستان, وإسقاطها عام 2002, في إطار التحالف الاستراتيجي مع أميركا في الحرب على الإرهاب ما بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001, لكن مع الاستمرار في اللعب بالورقة الإسلامية, إلى أن قرر برويز مشرف في 13 تموز/ يوليو 2007 التخلص منها, تحت وطأت الضغوط الغربية, فكانت نتيجة ذلك تزلزل الأرض من تحت أقدامه وإستغناء واشنطن عنه, على خلفية توقيعه ثلاث اتفاقيات مع طالبان لتطبيق الشريعة بوادي سوات, رأت أميركا أنها أتاحت لطالبان والقاعدة حيزاً من الحرية للتمدد وترسيخ الأقدام وتحويل الوادي إلى مواقد للإرهاب وصناعته وتصديره.
اليوم وبعد مرور تسعة أشهر من تولي المعارضة الحكم بزعامة زرداري لا شيء تغير, بل زادت الأمور سوءاً, كما أنه لم يأتي بجديد عندما وقع في 16 شباط/ فبراير الماضي إفاق سلام رابع لتنفيذ الشريعة في ست مدن من وادي سوات والمصادقة عليه في 13 نيسان/ أبريل 2009 أي بعد اسبوعين من إعلان أوباما إستراتيجيته الجديدة تجاه أفغانستان في 27آذار/ مارس 2009 ووضعه باكستان في قلبها وسط تصاعد الانتقادات لهذا الاتفاق المنهار هو الأخر تحت إيقاع قمة أوباما- قرضاي- زرداري بواشنطن في 7 أيار/ مايو الفائت.
الصراع في جوهره بدا وكأنه وجودي مصيري لدى كافة أطراف اللعبة, فزرداري الذي لا تزال شرعية منصبه محل نزاع مع زعيم المعارضة نواز شريف, أراد من وراء الاتفاق الحفاظ على منصبه وضرب خصوم الداخل والرغبة بعد نسف الاتفاق في دفع الحسم العسكري نحو فك الارتباط بين طالبان والقاعدة كما هي الخشية من توجه أميركا لإحلال الهند محل باكستان في التحالف ضد الإرهاب وإنفاذ تهديداتها بإعادة نواز شريف إلى الحكم إذا لم تُتخذ خطوات جِدية لاستئصال طالبان والقاعدة.
طالبان بالمقابل، رأت في تحالف إسلام أباد مع أميركا فرصتها لتهييج الرأي العام الباكستاني وتهيئة الأرضية لقيام الخلافة الإسلامية الطالبانية في هذا البلد.
في الاتجاه الآخر أعادة الحرب الأخيرة الروح لواشنطن بعد أن كانت قد أحست بأن حليفها وترسانته النووية في خطر والتعويل في أن تؤدي هذه الحرب إلى التخفيف من خسائرها في أفغانستان وتسهيل نجاح إستراتيجيتها الجديدة.
وعليه، فالفزاعة الدينية ليست سوى ذريعة للاستثمار السياسي, كون إعمال الشريعة في الأساس مطلب سكان باكستان قبل أن تكون ورقة استغلال بيد الأطراف المتصارعة وهي كانت ولازالت إشكالية قائمة بذاتها منذ قيام الدولة وحتى اللحظة, فيما لم تكن أحداث وادي سوات سوى نتيجة طبيعية وفاتورة متوجبة الدفع لما ارتكبته المخابرات الأميركية والباكستانية من أخطاء قاتلة خلال حرب السوفيات بأفغانستان وما بعدها في صناعة هذه الجماعات المتطرفة ورعايتها قبل أن تتحول إلى ورم سرطاني مميت.

السيناريوهات
صحيح أن ضم سوات لباكستان حوله إلى جنة سياحية مربحة حيث كانت تدر 25 مليون دولار سنوياً لكن بالمقابل كان هناك تذمر من سكانه قابلته حكومة الإقليم بالتجاهل التام, في حين وجد السكان في بروز نجم الملا صوفي محمد خان وتوجهه في 1992 لتأسيس حركة تطبيق الشريعة المحمدية ضالتهم المنشودة لإعادة الشريعة إلى الوادي.
صوفي إلى جانب الضغط على إسلام آباد لإعادة الشريعة إلى الوادي كان يطمح أيضاً لتعميمها على كامل باكستان,في محاولة منه لاستنساخ نظام طالبان أفغانستان وهو ما أدى إلى اعتقاله وحظر حركته في 2002 على خلفية مشاركته في الحرب ضد أميركا, قاد الحركة بعدها صهره الملا فضل الله وخلال ثمان سنوات من الصراع أنشاء سياسة أكثر نجاحاً بسوات مقارنة بتلك التي أنشأتها طالبان في المناطق الباكستانية النائية الأخرى حسب اعتراف الصحف الأميركية,وقيادته بعد مواجهات المسجد الأحمر في 13 تموز/ يوليو 2007 الجناح العسكري لطالبان.
طالبان اليوم أضحت رقم سياسي يصعب تجاوزه أو القضاء عليه أو فصله عن القاعدة وطالبان الأفغانية بعد أن وجدا في سوات الأرضية المناسبة لإعادة ترتيب أوضاعهما, ما يعني أن باكستان أصبحت في وضع مشابه لذلك الذي تعيشه قوات الناتو بأفغانستان,ولذا فهي اليوم أمام خيارات كلها مفتوحة على عواقب أقلها سوءاً انفصال إقليم سرحد في ظل سيادة الاعتقاد بأن الحرب الأخيرة هي في الأساس حرب أميركية بالوكالة محركاتها القضاء على الملاذات الآمنة التي بنتها القاعدة وطالبان في المناطق القبلية الباكستانية على الحدود الشمالية الغربية وغاياتها إعادة أميركا تشكيل التوازنات بالمنطقة برمتها .
كل هذا جعل من سوات إحدى أكثر المناطق خطورة في العالم وهو سيناريو عادة ما يتكرر لكن هذه المرة قد تكون نهايته مفصلية مع انتقال آلة الحرب الأميركية لخوض معاركها المركزية هناك في سياق إستراتيجية أوباما الجديدة لسبب بسيط هو أن قبائل سوات ووزيرستان عدا تحولها إلى قواعد خلفية للقاعدة وطالبان الأفغانية, أرهقت أيضاً أميركا وشركائها وأفشلت مخططاتهم طوال السنوات الثمان الماضية.

الحرب الأهلية
مباركة أوباما اتفاق السلام بين إسلام أباد وطالبان في البداية والضغط بعدها لجهة الحسم العسكري بدعوى أنها باتت تشكل تهديداً لأمن باكستان وأميركا معاً أتى في سياق الإجراءات المؤقتة ريثما تستكمل واشنطن استعداداتها لشن هجوم واسع على طالبان والقاعدة في أفغانستان ولئلا ينشغل الجيش الباكستاني عن هذه الجبهة بجبهة أخرى, ولذا ليس من قبيل المبالغة بأن الحرب الدائرة أميركية بامتياز لدى غالبية سكان باكستان وحرباً بالوكالة بعد أن كشفت أحداث العامين الأخيرين مدى ضعف حكومة إسلام أباد في بسط سيادتها على حدودها الشمالية الغربية وسط مخاوف الغرب من امتداد ذلك الإخفاق إلى الدول المجاورة وزيادة الأحقاد والنزاعات العرقية بالمنطقة.
بدا معه أي تقارب بين إسلام أباد وطالبان يقابله توتر متصاعد مع واشنطن وبالتالي فرض حربين على واشنطن، واحدة تورطت فيها أصلاً وأخرى لا تستطيع تجاهلها في بلد تشكل قدراته العسكرية وسلاحه النووي أكبر خطر يواجه العالم وهو ما جعل الحديث عن طالبان وكأنها تهديدٌ وجوديٌ لباكستان من الداخل.
يأتي هذا في وقتٍ فشلت فيه إسلام أباد عن التوصل إلى اتفاق مع واشنطن يسمح بإشراف جيشها على تحركات الطيران الأميركي في مناطقها الحدودية، والذي سبب لها إحراجاً كبيراً لدى شعبها أكد صحة ادعاء طالبان بأن حربها ذات دوافع عرقية بغطاء أميركي كون الجيش في غالبيته من البنجاب المتحكمة بالسلطة والثروة ومقاتلي طالبان من البشتون المهمشين عن صنع القرار الباكستاني بالتوازي مع تنامي الشعور في أوساط رتب الجيش الدنيا بأن ما يجري حرب أهلية تدفع فيها بلادهم ضريبة مشاركتها في الحرب على الإرهاب.
ولذا ففهم البعد العرقي للصراع يظل كلمة السر الوحيدة لفصل طالبان عن القاعدة وإحلال الاستقرار في باكستان متعددة الأعراق سياسياً ما يستدعي عسكرياً تجنب أميركا لفت الأنظار إليها من خلالها إنهائها ضرباتها الجوية على مناطق شمال غرب باكستان كونها تدفع نحو إذكاء روح الضحية لدى البشتون وبالتالي تنقيحها سياساتها لإثبات أنها تدعم رغبة البشتون من أجل موقف أقوى تجاه حكومة إسلام أباد خصوصاً وأن طالبان نشأت وترعرعت في أوساط البشتون تلك الأقلية المهمشة التي تعيش خارج السلطة.

شبح التقسيم
صحيح أن طالبان لا تستطيع المزايدة على عسكر وساسة باكستان المتمسكين بقضيتهم المركزية، استعادة كشمير وهذا من أهم عوامل ثقة الجيش بقدرته على التعامل مع التمرد لكن هذا لا يعني أن باكستان لا تواجه مشكلة أكثر خطورة وهي النزعات الانفصالية وسط هاجس الجيش من وجود مؤامرة هندية - أميركية للسيطرة على أفغانستان تمهيداً لتقسيم باكستان نفسها إلى أربع دويلات متصارعة ما دفعه إلى دعم طالبان سراً, لاسيما وأن للهند قنصليات في معظم المدن الأفغانية كما أنها تدعم قرضاي مالياً وسياسياً لمواجهة إسلام آباد, في وقت لا تخفِ فيه أميركا والهند قلقها من دعم الصين لباكستان بهدف جعلها نداً موازياً للقوة الهندية الصاعدة.
كل هذه العوامل أدت إلى الحد من قدرة الجيش على ضبط الحياة السياسية وإدارة توزيع الحصص وحيث ترتفع هذه النزعات تشتد الحاجة إلى حكومة مركزية قوية لا تشبه الإدارة الحالية وإلى عدو مشترك.
من هنا نفهم حقيقة الحراك الأميركي مؤخراً لإشراك نواز شريف في الحكم تمهيداً لجعله رجل المرحلة القادمة بالاستفادة من دفع الأحداث الأخيرة إلى حرق صورة زرداري الذي يبدو أن كرت صلاحيته بالنسبة لواشنطن نوعاً ما قد انتهى, كما أن ضعف حكومة زرداري وافتقارها للخبرة والإدارة في إخراج طالبان نهائياً من سوات، وتوفير الاستقرار وفرض النظام على الحدود الشمالية الغربية كلها تصب في خانة تعزيز توجه أميركا نحو دعم بروز زعماء محليين جدد أكثر حزماً ودفاعاً عن مصالحها هناك, وهو ما يظهر في التسريبات الأميركية الأخيرة حول احتمال أن يكون شريف زعيم الرابطة الإسلامية المعارض بديلاً جيداً في باكستان, والتعويل عليه في تطهير الجيش من الولاءات المزدوجة والمخابرات الباكستانية من المتواطئين مع الإسلاميين وسط مخاوف أميركا من تمكن المتشددين من إضفاء الصبغة الإسلامية على الجيش الباكستاني في المدى المنظور، لكن بالمقابل تجتاح باكستان مخاوف متصاعدة من دفع هذه الحرب البلاد نحو ديكتاتورية عسكرية جديدة.