زيد يحيى المحبشي
ليس بوسع حرفة الكتابة أن تكون شيئاً في
عالم الفقراء, سوى حرفة غير مشروعة, يمارسها صحفيون لا حرية لهم, أمام مواطنين لا سلطة
لهم, بموجب قانون كامن في حرفة الكتابة ذاتها.
ولذا نجدها في عهد الجاهلية الأولى سلاحاً
إدارياً فتاكاً بيد الإقطاعيين والمؤسسات الدينية, لتتحول بعد ظهور الإسلام إلى أداة
راقية, معنية بعمل رسالي غايته خدمة شرع الناس ودعوتهم إلى تحرير أنفسهم من أغلال الإقطاعيين
والمؤسسات الدينية معاً.
أما اليوم فهي مجرد أداة مسلوبة الإرادة
والهدف, تحركها السلطات الحاكمة والكارتلات الرأسمالية, لتسجيل ما ترى أنه يستحق التسجيل,
وتزوير ما ترى أنه يستحق التزوير, وترك قضايا الواقع تتكلم في الشارع إلى ما لا نهاية,
بعد أن صار الحديث عن قضايا أخرى خيالية ربما لا تنقصها الإثارة أو حُسن الصياغة بقدر
ما ينقصها صوت الناس، أي صوت السواد الأعظم من البسطاء.
والأهم من هذا وذاك بروز طائفة من الصحفيين،
لا هم لهم سوى التركيز على ترويج الشائعات وإثارة الفتن وتغذية النعرات والحساسيات
بين الطوائف والمذاهب والعرقيات, وتأجيج نيران الصراعات السياسية والحزبية ومعاداة
قضايا الفقراء وتلميع سلطات الأقفاص الزجاجية والتفنن في التحايل الإعلاني وغيرها من
الأثافي والأساليب الملتوية واللآوية لعنق الحقيقة والسالبة لقُدسية وطُهر وأخلاقيات
صاحبة الجلالة.
هي إذن الجاهلية الثانية تطل بقرونها المتشيطنة
من جديد, ولكن هذه المرة من بوابة الصحافة العصرية في زمن صارت فيه العلاقة بين صاحبة
الجلالة – الصحافة - وصاحب الجلالة - رأس المال - علاقة ملوكية قولاً وفعلاً قوامها
الذهب والفضة.
فرأس المال يضمن وجود الإعلانات ويضمن في
الوقت ذاته إسفين الصراعات السياسية والدينية والثقافية والفكرية والاجتماعية .. والذي
بدوره يقود إلى فتح مناجم الذهب والفضة، وفتح طاقة ليلة القدر في سوق الصحافة، ما يجعل
منها حرفة مجزية ومثيرة للرهبة، من حرقت الملكات، ولا زالت.
والعكس صحيح ففي غياب رأس المال تتحول الصحافة
إلى مجرد سيدة من دون ألقاب, وفي مثل هذه الحالة لا يتوقع أحدٌ صحافةً اسمها "صاحبة
الجلالة", وإذا ما حدثت فارقة وظهرت مثل هذه الصحافة فجأة, فإنها لا تكون صاحبة
الجلالة حقاً، بل مجرد سيدة جائعة تعرض جسدها الجائع للبيع.
الصحافة في مفهوم الشرع الجمعي وسيلة اتصال
وصوت مفهوم يتحدث عن واقع الناس, وينقل حديثهم عنه, لذا فهي لا تتعمد الانتشار بل تنتشر
تلقائياً، لأنها صوت الناس أنفسهم كما يتردد في بيوتهم وشوارعهم، لا كما يتردد في ردهات
وأروقة القصور وصالات وبورصات الكارتلات الرأسمالية والسلطات القفصية، المؤصدة الأبواب
والأذان عن صرخات وآلام وأنين الفقراء.
الصحافة الرسالية لا تحفل بالمانشيتات العريضة
والعناوين الضخمة, والتي أضحت في عالم اليوم أشبه بوسيلة التخدير ضد كل ما يحدث في
الواقع, وهي في الزمان والمكان ومع ذاتها والآخرين ومع أشكال الحياة وأخطارها, تتقاسم
العامل الأخلاقي والأمانة المهنية والنزاهة والتجرد والحيادية والموضوعية والمصداقية, وتنأ بنفسها عن التهويل والتلميع والترويج المجافي للحقيقة والواقع.
لذا فهي ليست وسيلة من وسائل جمع المال,
ولا أداة من أدوات الارتباطات الأمنية, ولا بوقاً من أبواق إثارة الفتن والصراعات وإشعال
الحرائق في صيغة التعايش المشترك, ولا جهازاً من أجهزة إرضاء خفافيش وعشاق الظلام وأعداء
الحرية والرأي والرأي الآخر, وهي لا تضع رأيها الشخصي من وحي الاستدعاءات القضائية
أو الأمنية أو الارتزاق الإعلامي أو الحقد الثأري أو الوثنية التي لا تعرف العبادة
إلا مع الأصنام.
إنها باختصار شديد مهنة رسالية, تقاوم زمن
الشبهة والزيف والمجاملة والمحاباة, لزمن القصابين والجلادين والعطارين وحملة المباخر.
فإذا كنت واحداً من أبناء هذه المهنة المتعبة,
فعليك أن تعي جيداً أنك ستجد نفسك في بيئة, لا تعدك بغير التضحية والتعب والإرهاق وتلف
الأعصاب, وبالقدرة على تحويل ترفك إلى نوع من الإثارة الطبيعية والتكيف الطبيعي, حتى
مع ما يهدد أمنك واستقرارك ويخترق جميع حدود ذاتك ورغباتك, حينها فقط تصبح جزءاً من
بناءات الذات الإنسانية الرسالية, المتبدد والمندثر داخلها كل ما هو أناني وانتهازي
ووصولي, وتعويضها بوسام الشرف وعهد الوفاء للمهنة الرسالية.
أما عندما تتوحد الغاية مع الوسيلة توحيداً
عضوياً, سمته الانفصالية والازدواجية, فستكون عاقبة المآل الدخول في دوامة الانفصام
والالتباس والديماغوجية, وحينها تتحول حرفة الكتابة إلى مجرد صحافة خرساء مُهِينة وفاتكة
بسمعة وشرف المهنة الرسالية, وحينها فقط نقول على الدنيا السلام ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق