Translate

الخميس، 21 مايو 2020

صفحات مشرقة من تاريخ الوحدة اليمنية



زيد يحيى المحبشي، 21 مايو 2020
الوحدة اليمنية في مفهوم الراحل محمد أحمد نعمان: " أمٌ لكل اليمنيين، وينبغي التعامل معها على هذا الأساس، كأم وليس كزوجة, فالأم في هذا السياق لا يمكن إلاّ أن نحبها مهما كانت، وبأي شكل بدت، أما الزوجة فنحن نختارها أو أقل شيء نقبل بها، لهذا لا مناص من أن الوحدة هي بالنسبة لليمنيين (الأم), قدرنا الذي لا يمكن أن نوجد بدونه".
وحدة اليمن أرضاً وإنساناً من المسلمات الثابتة ثبوت وجود الشعب اليمني والأرض اليمنية، والسمة الغالبة على تاريخ هذا الشعب، والقاعدة العاكسة لجوهر الإرادة اليمنية، النازعة على الدوام إلى التوحد والاتحاد، باعتبار ذلك من عوامل القوة في مواجهة أخطار الطبيعة وتطويعها لصالح الإنسان اليمني ومواجهة الأطماع الاستعمارية الخارجية.
ورغم تقاسم الحكم في بعض الفترات بين أكثر من دولة, إلاّ أن هذه الدويلات لم تنجح في إرساء أي شكل من أشكال الانفصال, لأن الوحدة الجغرافية والتاريخية والاجتماعية والثقافية كانت أكثر قوة وصلابة ومتانة من النزعات الانفصالية الشاذّة والغريبة على اليمن وشعبه الواحد الموحد في مساره ومصيره منذ فجر التاريخ.
في الاتجاه الأخر شكلت حالات التجزئة والانشطار التي شابت اليمن في بعض المراحل التاريخية، ظاهرة استثنائية وعابرة، فرضتها ظروف استثنائية، وصنعتها إرادة غير يمنية، أي أنها لم تكن في يوم من الأيام أمراً طبيعياً بل ظاهرة غريبة ودخيلة على اليمن وشعبه وتاريخه الوحدوي المشرق.
ومن خلال قراءتنا السريعة لتاريخ اليمن الوحدوي منذ الألف الخامسة قبل ميلاد المسيح عليه السلام وحتى أخر نموذج للوحدة اليمنية في العام 1990، تأكد لنا أن فترات التوحد كانت على الدوام الأطول زمنياً وأحد أهم عوامل القوة والأمن والاستقرار والازدهار والانتعاش الاقتصادي والفكري والحضاري ليس لليمن فحسب بل ولمحيطها الإقليمي، في حين كانت فترات التجزئة قصيرة جداً, كما أن ما شهدته اليمن من ممالك ودول متعددة سواء قبل الإسلام أو بعد استقلال اليمن عن الدولة العباسية وصولاً إلى العام 1914 إنما كان تعدد وتنوع يثري قاعدة التوحد ويعززها، لسببين هما:
1 - استمرار بقاء التواصل والاتصال الثقافي والمعيشي, ناهيك عن حرية تنقل الناس فيما بينهم.
2 - عدم تجاوز سقف الاختلاف المستوى السياسي، ودون أن يتعداه إلى المستويات الأخرى سواء كانت اقتصادية أو ثقافية أو اجتماعية, وهو ما حافظ على وحدة الشعب ووحدة خصائصه، كما لم تشهد تلك الفترة وجود حدود سياسية مرسومة بالمعنى المتعارف عليه بين الدول.

* الوحدة اليمنية قبل الإسلام
ذُكِرت اليمن في الكثير من الكتب القديمة كالتوراة وكتب مؤرخي الإغريق واليونان ووصفت باليمن السعيد ولم يوصف أي بلد غيرها بهذا، ووصفها القرآن الكريم بالجنة والبلدة الطيبة، ولم يصف أي بلد سواها بهذا, وخصها بسورتي سبأ والأحقاف ولم تكن سبأ سوى مملكة اليمن القديمة، وهو تعبير لغوي مجازي المقصود منه السلطة اليمنية والشعب اليمني وحضارته الضاربة التي قامت بسبأ مأرب وأحقاف حضرموت.
وسبأ والأحقاف أسماء لمناطق يمانية، ومن القصص القرآنية الخاصة باليمن: أصحاب الجنة وأصحاب الأخدود والفيل وأبرهة الأشرم وإرم ذات العماد وذو القرنين السيار وملكة سبأ والسيل العرم وقوم تبع.
وعندما أسلم أهل اليمن طواعية خصهم الله بسورة النصر، وقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو يستقبل وفودهم: "جاءكم أهل اليمن ....".
هكذا تحدث القرآن والرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم عن أهل اليمن ومملكة سبأ في إطار منطق الوحدة وليس منطق التجزئة، وعن مكانة هذا البلد ودوره الحضاري قبل مجيء الرسول الخاتم، على أن هذا الدور وتلك المكانة لم تأتي من فراغ، بل كان هناك شعب عظيم وقادة كبار استطاعوا توحيد أيادي سبأ منذ فجر التاريخ في كيان حضاري موحد، توفرت له كل أسباب القوة والازدهار، بما جعله يصل إلى مستوى تنظيم نفسه، في نُظم سياسية قوية، فرضت نفسها على قبائل الجزيرة العربية وما وراءها من الأمم، وما كان لها أن تصل إلى هذا المستوى لو لم تكن موحدة أرضاً وإنساناً، في وقت تعاقبت على حكم اليمن العديد من الممالك هي معين وسبأ وحمير، وفي فلكها أوسان وقتبان وحضرموت.. إلخ.
وهناك أكثر من 5000 نقش أثري، تتحدث عن هذه الممالك، وما شهدته من بروز قادة كبار، كان لهم الكأس المُعلا في تحقيق الوحدة اليمنية والحفاظ عليها، وكان بين كل وحدة وأخرى فترات من الضعف والتفكك العابرة.
وشهدت تلك الحقبة التاريخية تحقيق نوعين من الوحدة، هي:
1- الوحدة الشاملة: ضمت اليمن والجزيرة العربية وما وراءها من الأمم، ومن أبرز قادتها: "يعرب وسبأ والحارث الرائش وذو القرنين وكرب آل وتر" وغيرهم.
 2– الوحدة القُطرية: اقتصرت على اليمن أو الجزء الأكبر منه، كما هو حال دولة حضرموت وأوسان وحبان وسمعي حاشد قبل الإسلام , والرسوليين والصليحيين والقاسميين في التاريخ الوسيط.
وفي كليهما فقد كان لتوحد اليمن أهمية كبيرة في استقرار وأمن الجزيرة العربية، والعكس في حالة التفرق والتشرذم، وهذه الحقيقة لا تزال السمة الغالبة إلى يومنا، كون اليمن المركز الرئيسي للأمن والاستقرار الإقليمي، نظراً لأهميتها الموقعية والجيوسياسية، وهذه أحد أهم أسباب عدوان تحالف الاستعمار السعودي الإماراتي اليوم، لأن وحدة اليمن وقوته يعني ببساطة "كش ملك" لصنائع الاستعمار البريطاني في الجزيرة العربية وأسيادهم في لندن وواشنطن ومن ورائهم ربيبتهم إسرائيل، ولهذا السبب حرصت السعودية منذ قيام دولتها الأولى وحتى يوم الناس على تكبيل اليمن بالمؤامرات وإغراقه بالصراعات المحلية، كي يظل على حاله من الضعف والتشضي.
مرَّ اليمن قبل ظهور الإسلام بمرحلتين هما:
1 - المرحلة المشرقة: استمرت من القرن 15 قبل الميلاد وحتى العام 115 ق.م، وهي مرحلة الدولة السبئية.
2 - المرحلة المظلمة: استمرت من العام 50 ق.م وحتى القرن 6 الميلادي، وهي مرحلة الدولة الحميرية، وذلك بسبب وقوعها تحت تأثير الأطماع الخارجية كالبطالسة اليونان والرومان والأحباش والفرس.

الممالك القديمة الكبرى:
1 - معين:
وهو اللقب الثاني لـ"عبد شمس بن يشجب بن يعرب" إلى جانب لقب الشهرة "سبأ الأكبر"، ومعين وسبأ من أعظم دول العهد القديم وبينهما تداخل كبير، ظهرت معين من الجوف في نحو 4000 - 900 ق.م، وقد عثر على نصب تذكاري بابلي ذُكرت فيه معين وصِلاتها بمملكة بابل، يعود تاريخه إلى 3750 ق.م، وما يهمنا هنا أنها كانت دولة تجارة وفتح اقتصادي وسلام، وفي عهدها تحققت وحدة اليمن والجزيرة، ووصل نفوذها الاقتصادي إلى حوض البحر الأبيض المتوسط، وإليها يعود فضل اكتشاف فنون الملاحة البحرية، وكان نظام الحكم فيها ملكي وراثي معتدل واستشاري، واقتصر تدخل الملك فيها على المسائل العليا المتعلقة بحقوق الملك والشعب فقط.
2 - سبأ:
مؤسسها "سبأ الأكبر بن يشجب بن يعرب"، ومرت بمرحلتين هما:
أ - سبأ الأولى: عاصرت الحضارة السومرية في بلاد الرافدين، وعثر على وثائق سومرية تعود إلى الفترة 5000 - 3500 ق.م، تكلمت عن وجود علاقات ربطتها بمملكة سبأ الأولى السابقة لظهور معين.
ب - سبأ الثانية: قامت خلال الفترة 950 - 115 ق.م، واستطاعت القضاء على معين والحلول مكانها، وكانت دولة حروب وفتح، وربطتها صلات مع ملوك "آشور"، وأكثر ملوك سبأ كانوا من موحدي اليمن والجزيرة العربية.
وينقسم عهد سبأ إلى مرحلتين هما:
أ - مرحلة المكارب 850 - 620 ق.م وفي عهدهم تم الجمع بين الحكم والكهانة والرياسة الدينية.
ب - مرحلة الملوك 610 - 115 ق.م.
وشهدت فترة دولة سبأ مقاومة عنيفة من ملوك وأمراء الإقطاع، الذين اصطدمت سياسة توسعها بمصالحهم واستقلالهم, وكان النظام فيها ديني أكثر منه سياسي.
3 - حمير:
تنسب إلى "حمير بن سبأ", قامت خلال الفترة 115 ق.م - 525 م، ويسمى عهدها بعهد "التبابعة"، وفيه تطورت الألقاب الرسمية للملوك تبعاً لتوسع نفوذ الدولة، وشهدت بعض فتراتها توحد اليمن والجزيرة.
 وكانت سبأ المملكة وحمير الملوك والدولة، وكان بينها وبين ملوك سبأ وكهلان تنافس وتداخل, لا صراع وتنافر، وكل منهما كان يسعى لتوحيد اليمن تحت نفوذه بشتى الوسائل من تحالفات ومعاهدات واندماجات وحروب.

عمالقة الوحدة قبل الإسلام:
زخرت مرحلة ما قبل ظهور الإسلام بالعديد من عمالقة التوحيد منهم على سبيل المثال:
1 – "يعرب بن قحطان" 5700 - 5000 ق.م: الجد الجامع لكل اليمنيين والعرب، وأول الملوك في التاريخ القديم، وأول من أقام دولة يمانية موحدة عاصمتها صنعاء، دامت من بعده قرابة 500 سنة.
وإسمه "يمان" أو "يمن" أو "يامن" بحسب الهمداني، وبه سميت اليمن، وكونه أول من اشتق وحذف واختصر وأوجز وأعرب في كلامه لُقِّب بـ"يعرب"، ومن حينها ظهر اسم العرب، وفي هذا يقول بن أبي الحديد في الجزء الثاني من شرح نهج البلاغة ص 495: "إن يعرب أول من أقام دولة يمانية عربية في التاريخ القديم، أي وحدّ القبائل القحطانية، وكانت قد تكاثرت وانتشرت وانتقلت إلى أطوار الحضارة، بما جعلهم يقيمون دولتهم".
2 – "عبد شمس - سبأ الأكبر- بن يشجب بن يعرب" 3750- 3500 ق.م: أول من أعاد وحدة اليمن الطبيعية مع الجزيرة العربية، واهتم بالزراعة والري والتجارة، واشتهر بكثرة غزواته، وأسس الإمبراطورية السبئية بعهديها المعيني والسبئي، وكان يمارس السلطة بواسطة ممثلين عن الشعب من ثلاث طبقات، هي: المزود والأقيال والأذواء.
3 – "عبد شمس وايل – سبأ الثاني- بن وائل بن الغوث" نحو 2750 ق.م: ثالث الموحدين، وإليه يعود فضل إنشاء سد مأرب، ومن بعده ظلت اليمن موحدة في عهد خلفائه.
4 – "تبع ذي مرائد- الرائد تبع الأكبر" نحو 2150 ق.م: الموحد الرابع، واستمرت الوحدة في عهد ابنه "شمر ذو الجناحين الأول"، والملك الصعب "ذو القرنين السيار" - تبع بن تبع الأقرن بن شمّر يرعش بن إفريقيس - وعهد الملك "شدد بن قيس بن صيفي" في نحو 1500 ق.م، وصولاً إلى أخر الموحدين قبل الإسلام وهو سيف بن ذي يزن 575 - 596م.
واشتهر هذا العهد بالكثير من العمالقة الذين استطاعوا أن يوحدوا اليمن والجزيرة، وأن يفرضوا أنفسهم على غيرهم من الأمم، وبين كل وحدة وأخرى فترة ضعف ووهن وتشرذم، لكنها ظلت في إطار الحدود السياسية دون أن تطال الجوانب الأخرى، كما شهدت تلك الفترة تنافس بين ملوك اليمن، ترك بصماته على المنطقة، ولذا كان من الطبيعي أن يجتمع العرب ويتحدوا باجتماع ملوك اليمن وتوحدهم، ويتفرقوا بتفرقهم.

مظاهر الوحدة:
1- وحدة الأرض والإنسان:
بإجماع المؤرخين ظلت اليمن في مساحتها الطبيعية وحدة لا تتجزأ منذ أن سكنها نبي الله نوح وحتى منتصف العقد الثالث من القرن العشرين، مع عدم ورود أي ذكر لشمال أو جنوب، وعليه يحدد المؤرخون مساحتها الطبيعية بالقسم الجنوبي من شبه الجزيرة العربية والذي يشمل ما بات يُعرف اليوم بـ الجمهورية اليمنية وسلطنة عمان والجزء الأعظم من جنوب السعودية، وهي الأرض التي أخذت مُسمّاها من الملك "يمن بن قحطان" الملقب بـ"يعرب"، وقحطان ليس الأب المباشر ليعرب، بل بينهما نحو ثلاثة آلاف سنة، وسُمي شعبها باليمنيين ودولتها باليمن، ومن ذرية هذا الملك تناسلت قبائل العرب قاطبة، يقول ابن هشام: "ان يعرب بن قحطان سمي يمناً، وبه سميت اليمن"، ويضيف ابن منظور: "وهو أبو اليمن كلهم".
ولا زالت القبائل اليمنية عبر العصور تحتفظ بأنسابها وأصولها وفروعها المكونة فيما بينها نسيجاً اجتماعياً واحداً، ناهيك عن التجانس في العادات والتقاليد والقيم والأهداف والهموم والطموحات والتطلعات.
2 - الوحدة الاقتصادية والحضارية:
من الأمور اللافتة إدراك الممالك اليمنية مُبكراً مساوئ تعدد الكيانات القبلية ذات النفوذ المحلي والكيانات الإقطاعية، لما لها من ضرر على وحدة اليمن، فحاولت تلافي ذلك عبر إقامة روابط اجتماعية على أُسس اقتصادية، قُسِّمت بموجبها قبائل اليمن إلى وحدات "مجمعة" زراعية وصناعية ومهنية، وربطت بينها بروابط العمل والإنتاج بدلاً من أواصل القرابة والدم.
 أي أن تلك الممالك فضلت ربط القبائل بالروابط الدينية والاجتماعية والاقتصادية لا رابطة الدم والنسب، وعلى أساسه برز ما يسمى بالعمل الجماعي التعاوني.
وتعددت وتنوعت صور الحضارات القديمة، ما نجد دلالته في آثارها ونقوشها، وفي وضع أسس السدود وإنشاء المحافد والمدن والقصور والمدرجات الزراعية والمعابد وشبكات الري والصهاريج والحاميات التجارية والمنارات, وأقامت مستوطنات حضارية في مختلف المناطق وسنّت ما يستلزمها من التشريعات والتنظيمات.
والطابع العام للنظام السائد قبل الإسلام هو النظام الإقطاعي, لكنه كان أقرب إلى التعاونيات الجماعية, فيما كانت الحياة الاجتماعية تتسم بالطابع القبلي مع هيمنة واضحة للسلطة الدينية.
وشهدت تلك الفترة حضارة إنسانية رفيعة من أبرز مظاهرها اللغة السبئية القديمة والخط المسند, وأظهرت الآثار والنقوش المنتشرة في أنحاء اليمن تشابهاً وتجانساً كبيراً بين أسماء الأوائل في السكن ومحال الإقامة.
3 - الوحدة السياسية:
ضمت اليمن عدداً من مراكز القوى الساعي كل منها إلى مد النفوذ والاستقطاب على سائر المجال الحيوي لليمن، في وقت كانت الوحدة فيه تمثل قوة وسلاح في وجه الغزاة والمحتلين وغضب الطبيعة، وغالباً ما كان يصحبها نُظم سياسية شوروية، تعطي للشعب حق المشاركة الفعلية في صناعة القرار، سواء عبر اتحادات مجالس القبائل أو المجالس الاستشارية "المسود".
ومن مظاهر الوحدة السياسية أيضاً الأسماء والمسميات التي أُطلقت على الأماكن، والتعاريف الفنية كـ"المحفد" و"المخلاف"، حيث أطلق الأول على القصور والقلاع المحصنة، والثاني على الأقاليم، وهي تسميات إدارية, ويعد "يعرب" أول من قسّم جزيرة العرب إلى ولايات، وجعل على كل منها والي، فيما كان "سبأ بن حمير" أول من وضع التقسيمات الإدارية، فجعل "المحفد" مسمى للناحية أو المديرية عليها أمير، و"المخلاف" مسمى للإقليم عليه قيل/ جمع أقيال, وتحدث الهمداني عن 30 مخلاف يمني، سُمّي كلٌ منها بمن سكنه من ملوك حمير وكهلان المتغلبين في عصورهم، ومن الطبيعي أن تكون أسماء أماكن سُكنة الممالك اليمنية القديمة وأسماء أعلامها ومشاهيرها متشابهة ومتجانسة.

العوامل المؤثرة على وحدة اليمن:
يأتي في مقدمتها نزعات التسيُّد والاستئثار بالسلطة إلى جانب العوائق الطبيعية والنزعات السياسية وجماعات المصالح والضغط خصوصاً أمراء الإقطاع، مع دخول العامل الخارجي منذ النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد، وتحديداً في العام 24 ق.م، عندما حاول الرومان احتلال اليمن ومن بعدهم الأحباش والبطالسة اليونان والفرس، وما أوجده هذا التنافس الاستعماري الحاد على موقع وثروات اليمن من صراعات وتعصبات لازالت اليمن تكتوي بنارها إلى يومنا.
ناهيك عن ضعف بعض ملوك تلك الفترة وخلودهم إلى الترف والاسترخاء، وتخليهم عن القيم السياسية لبناء الأسرة والمجتمع والفرد، ما جعل القرون السبعة المستبقة ظهور الإسلام نقطة مظلمة في تاريخ اليمن القديم باستثناء فترات متقطعة منها.

* الوحدة اليمنية بعد الإسلام
أتى الإسلام واليمن في ذروة الانقسام والتشرذم والتمزق والحروب، الأمر الذي ساعد في مسارعة أبنائه إلى اعتناق هذا الدين حُباً وطواعية، لأنهم وجدوا فيه الطريقة المُثلى لاستعادة وحدتهم، وبالفعل تمكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من توحيد أبناء اليمن والقضاء على الطبقات وحكومات الأقاليم والأقيال، فأرسل إليها رجالاً كثيرين، ليسوا جميعاً حُكاماً أو ولاة بقدر ما كانوا يحققون التوعية بالإسلام، وتحقيق سيادة الدولة المركزية، وبالتالي التعامل مع اليمن كوحدة إدارية وسياسية متكاملة.
ورغم نجاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معالجة الصراعات التي سادت اليمن قبل ظهور الإسلام, لكن ذلك سرعان ما عاد إلى الواجهة تحت مسميات آخر مع نهاية العام 40 هـ، وقفت حجر عثرة أمام توحد اليمن باستثناء فترات قصيرة ومتقطعة, كما أتاح ذلك فسحة وفرصة ذهبية للأطماع الخارجية في اليمن كالعثمانيين والجراكسة والأيوبيين، والفاطميين والمماليك والاستعمار الغربي، وخاتمة الأثافي الاستعمار السعودي الإماراتي وهو أكثرها قذارة وبشاعة، وما بينهما شهدت اليمن العديد من الإمارات والممالك والدول كانت تتوسع وتنكمش حسب الظروف الداخلية والخارجية وشخصية الحكام.

عمالقة الوحدة بعد الإسلام:
1 – "محمد بن عبدالله بن زياد": أول من وحد معظم أجزاء اليمن في العصر الوسيط، وأول من أقام إمارة يمنية مستقلة عن الدولة العباسية عام 207 هـ الموافق 819 م، واستمرت الوحدة في عهده ثلاثة عقود، ومما ساعد على ذلك تحقيقه رزمة من الإصلاحات العمرانية والثقافية، ومن بعده نجح "حسين سلامه" مولى بني زياد في توحيد اليمن لفترة قصيرة وامتد سلطانه من الشحر إلى مكة المكرمة.
2 – "علي بن مهدي الحميري": تمكن في 1159م من القضاء على الدولة النجاحية في تهامة، وإخضاع معظم أجزاء اليمن، وإقامة نظام قريب من الاشتراكية، ما أدى الى تأليب القوى الإقطاعية ضده، وتحالفها مع الأيوبيين لإسقاط دولته  1173م.
وبالفعل استطاع الأيوبيين بالتعاون مع أمراء الإقطاع المحليين من احتلال اليمن باستثناء القسم الأعلى الواقع تحت نفوذ أئمة الزيدية، وما أشبه الليلة بالبارحة فقد نجح الاستعمار السعودي الإماراتي بالتعاون مع أمراء الإقطاع المحليين المتضررين من إقامة دولة يمنية حرة مستقلة ذات سيادة بعد ثمانية عقود من الهيمنة السعودية على القرار والسيادة اليمنية، في السيطرة على معظم أجزاء اليمن باستثناء القسم الأعلى الواقع تحت نفوذ أنصار الله، والذي ظل على الدوام عصياً على الغزاة والمحتلين ومنطلق دحرهم من اليمن، وهو أمل اليمن الحاضر للتحرير والاستقلال وإعادة الوحدة وتصحيح الاختلالات التراكمية، المتوالدة من رحم التدخلات والهيمنة السعودية ما بعد اتفاقية الطائف.
3 – "علي بن الفضل الخنفري" 889 – 914م: شملت دولته أغلب أجزاء اليمن، لكن ذلك لم يدم سوى 17 عاماً، ومما ساعده على إقامة دولته نجاحه في إسقاط إمارات الإقطاعيين.
4 – "عمر بن علي بن رسول" 1230 - 1455م: أحد أشهر موحدي اليمن بعد الإسلام، واستمرت في عهد خلفائه قرابة 93 سنة، ووصل نفوذه الأدبي إلى عمان شرقاً والحجاز غرباً.
5 - "علي بن محمد الصليحي" 1048 - 1150م: ثاني الموحدين لليمن بكاملها بعد بني رسول، واستمرت إلى آخر عهد الملكة "سيدة بنت أحمد الصليحي"، ومما ساعده على ذلك أخذه أمراء الإقطاع وإسكانهم في العاصمة صنعاء، ليكونوا تحت رقابته المباشرة، وامتد نفوذه الأدبي إلى الحجاز.
6 - الإمام المتوكل على الله "إسماعيل بن القاسم" 1654- 1686م: آخر الموحدين في العصر الوسيط، وخُطب له في الحرم المكي وبسط نفوذه على معظم أجزاء اليمن.
7 – وحدة 22 مايو 1990: أخر نموذج لوحدة اليمن في العصر الحديث، أتت نتاج مخاضات أربعة عقود، وتعمدت بدماء الشهيد "إبراهيم الحمدي" والتي كانت بمثابة الدينمو المحرك لعجلة الوحدة المتباطئة، لتعم الفرحة وتزهر دمائه الطاهرة حلما انتظره الشعب بفارغ الصبر في 22 مايو 1990، بعد 12 ربيعاً من رحيل الأب الروحي للوحدة اليمنية "إبراهيم الحمدي".
أخطاء كثيرة رافقت السنوات الأولى لقيام الوحدة، عجلت بوضعها في العام 2007 على مفترق الطرق، ليأتي تحالف عدوان العاصفة في العام 2015 ويرمي بكل ثقله لصالح مشاريع التقسيم والتشضي، وتلغيم الأمن والسلم المجتمعي في اليمن، لأهداف وغايات استعمارية قديمة متجددة لا يتسع المقام للحديث عنها بل تحتاج الى دراسة مستفيضة في مباحث مستقلة.
كل ما سبق يؤكد لنا بوضوح أن تعدد الدول والدويلات في اليمن، وتداخلها واستعانة بعضها بالقوى الخارجية، قاد في نهاية المطاف إلى إنهاكها وضعفها وتلاشيها، وكون العامل الاقتصادي في طبيعته من العوامل القابلة للتفجير في أية لحظة، فإننا نلحظ جلياً أهمية تعامل الدول اليمنية المتعاقبة والمتداخلة مع أمراء الإقطاع، باعتبار معيار التحكم فيهم من العوامل الحاسمة في توحيد اليمن وأمنه واستقراره، في حال تمكن ملوك تلك الدول من تحجيم الإقطاعيين وتقليص نفوذهم والعكس في حالة الفشل، ما نجد دلالته في السمات العامة لفترات التوحد والتي حملت معها الأمان والاستقرار والانتعاش الاقتصادي النسبي والرضا الجماهيري وحماية البلاد من أطماع الغزاة والمستعمرين.

* المراجع:
- محمد ناصر ناصر حسن هادي, عمالقة الوحدة اليمنية في التاريخ القديم والحديث, مركز عبادي, ط1, 2001.
- محمد سالم شجاب, الوحدة والثورات اليمنية عبر العصور, ط1 , 2007.
- القاضي عبدالله الشماحي, اليمن الإنسان والحضارة, منشورات المدينة - بيروت, ط3 , 1985.
- محمد يحيى الحداد, التاريخ العام لليمن, ج 1- 4, منشورات المدينة - بيروت, ط1, 1986.
- سلطان أحمد عمر, نظرة في تطور المجتمع اليمني, دار الطليعة, ط1, شباط 1970.
- حسن قاضي, متى تجزأت اليمن؟ بدلاً من: متى توحدت اليمن؟, مجلة الحكمة, اتحاد الأدباء والكتاب - صنعاء, العدد 149, سبتمبر1987.
- د. أحمد الأصبحي, قراءة في تاريخ اليمن الوحدوي, معهد الميثاق 20 مايو 2007.
- د. عبدالعزيز الشعيبي, الخلفية التاريخية للوحدة اليمنية, معهد الميثاق 20 مايو 2007.

الأربعاء، 29 أبريل 2020

دردشة حول انفصال جنوب اليمن



زيد يحيى المحبشي
* انفصال الجنوب لا زالت المراحل طوال لاسباب تتعلق بالجنوبيين انفسهم
وعن اتجاه اليمن فلا وجهة لها غير الهاوية وتاريخها طافح بالنثرات والارتكاس في مجاهيل الهاوية
وبالنسبة للامارات فهي كما السعودية تتعامل بالاساس مع الحقائق على الأرض والحقائق على الارض لا زالت في حدود تقاسم النفوذ بين الرياض وابو ظبي المتفق عليها في طنجة المغربية نهاية 2016 وبما ان الحراك محصور في عدن وأبين وليس كلها لذا فالامارات مع الانفصال وضد الانفصال في نفس الوقت على الاقل في الوقت الراهن وبالاصح الى ان تتغير الوقائع على الارض .. وموقف السعودية ايضا اتى على لسان الحقائق على الارض بسيل من البيانات الرافضة لخطوة الحراك من قيادات شبوة والمهرة وحضرموت ولحج ..
وعن الحوثيين فهم ملتهون ببناء دولتهم وكما قال أحد قادتهم قبل سنوات يكفي ان نتديول ولو على محافظة واحدة أهم شي نقيم دولتنا وسبق لهم وان دعوا الحراك لاقامة دولة الجنوب في اكثر من مناسبة وابدوا كامل الاستعداد لدعمها .. ولذا لا نستبعد وجود تنسيق ايراني اماراتي حوثي حراكي في كل ما يجري ..
كما ان الاصلاح لن يسلم بسهولة بانفصال الجنوب ليس حبا في الوحدة بل خوفا على مصالح علي محسن الأحمر وحميد الاحمر في الجنوب والتي ستكون الضحية الاولى للانفصال .. ما يعني اننا سنكون امام فصل ساخن من الاغتيالات المدوية في حال أصر الحراك على المضي في اجراءات الانفصال الناجز والتي لا زالت حتى اللحظة ضمن سقف الادارة الذاتية وتحت مظلة التحالف العربي اي لا زال الحراك محافظ على شعرة معاوية لحاجة في نفس يعقوب
* في تسعينيات القرن العشرين ذهب مجموعة من شباب قرية جبل المحبشي الى الأردن للعلاج فدخلوا أحد مطاعم مدينة عمان فوقع بينهم وهم متجمعين حول طاولة المطعم صفاط ومزاح ثقيل من حق اليمنيين في الشمال انتهى بسكبان العصير فوق أحدهم وكان لابس سنج عشرة .. فالتفت اليهم بغضب قائلا: والله نحن اليمنيين لو دخلنا الجنة ننجسها ..
يعني ما جرى بالمحافظات الجنوبية والشرقية من متهبشي المحافظات الشمالية والغربية بعد الوحدة ليس بالأمر الهين؛ فلا لوم عليهم فيما أقدموا عليه ولا زالوا .. ولله في خلقه نظر
* اعلان الانتقالي الجنوبي الادارة الذاتية للمحافظات الجنوبية والشرقية في حدود 1989 يعني تحمله كامل المسؤولية فيها وبالتالي اعلانه رسميا وفاة اتفاق الرياض وانتهاء ولاية هادي وحكومة الاخوان على الجنوب .. فهل نحن امام اتفاق سري لبدء تطبيق سيناريو الدويلات الثلاث بتوافق الاثافي الثلاث: السعودية؛ الامارات؛ ايران، ورعاية كريمة من الطغاة الثلاثة: أميركا؛ بريطانيا؛ روسيا ..
مع العلم ان هذا السيناريو سبق لواشنطن طرحه في نهاية 2016 كمخرج وحيد لتحالف الاعراب في اليمن وأعادة التذكير به بريطانيا في 2018 وها هو اليوم يخرج للنور بعد ان تم تهيئة البيئة المحلية لتقبله
ومن شأنه الحفاظ على مصالح أقطاب الصراع الاقليمي ورعاتهم الدوليين بالمقام الاول وتاليا وهو الأهم تكريس وشرعنة الحقائق على الأرض ..   لاستحالة عودة الأوضاع باليمن الى ما كانت عليه قبل 2011 للأسف باتفاق أطراف الصراع المحلي وتوافق الدول المتصارعة على اليمن

الاثنين، 27 أبريل 2020

شاب يمني يسبق الزمن ويبتكر جهازا تنفسيا اصطناعيا

صحيفة 26 سبتمبر؛  26 أبريل 2020
 المهندس المحبشي: أنا بحاجة لدعم مادي ومعنوي لتصنيع كميات تجارية من الجهاز
يسابق مبتكر يمني شاب الزمن في اختراع جهاز أشد ما تكون الحاجة إليه مُلِحّة هذه الأيام في ظل اكتساح جائحة كورونا للعالم أجمع .. الجائحة التي لم يرحم شبحها من هم في سن الصبا ولا من يقفون على عتبات آخر العمر.. حتى باتت أغنى الدول وأفقرها على السواء تعاني نقصاً حاداً في المعدات الطبية التي تتطلبها مواجهة هذه الجائحة.. ولعل جهاز التنفس الاصطناعي (Continuous Positive Airway Pressure
CPAP)
هو من أهم الأجهزة الطبية طلباً هذه الأيام وندرة في نفس الوقت حيث يهاجم فيروس كورونا الجهاز التنفسي للمصاب فيوقفه عن العمل.
المهندس اليمني الشاب, الذي عمل في صمت لإنجاز جهاز (CPAP) تلبية لدعوة الواجب فلم يتوقف عن التفكير والبحث والدراسة حتى تمكن من تصميم الجهاز وتنفيذه بشكل يتناسب مع الوضع الاقتصادي الصعب الذي يخيم على الكرة الأرضية جمعاء.. لؤي طه المحبشي الذي حول فكرته الصغيرة إلى واقع ملموس يلبي حاجة الملايين الذين ينتظرون أن تنفتح لهم نافذة الحياة من أنبوب جهاز تنفس.
بداية يقول لؤي:” إن عملي كمهندس للأدوات الطبية في المستشفى الجمهوري بحجة جعلني ألمس الحاجة الملحة لهذه الأجهزة وضرورة أن يتوفر منها القدر الكافي لمواجهة الأزمات الصحية التي لانعرف متى قد تخيم علينا إحداها, و الهلع الكبير الذي أحدثته جائحة كورونا حول العام الأمر الذي رافقة انكشاف البنية التحتية الطبية في البلدان المتقدمة والمتأخرة على السواء. برزت الحاجة بشكل مصيري لإنتاج اجهزة تنفس اصطناعي محلياً في ظل توقف حركة الاستيراد والتصدير وإغلاق المنافذ بين الدول.. ومع أن بلدنا والحمد الله لم تصله الجائحة بعد لكن الأمر لا يسلم.. لذا فكرت أنه من الواجب ابتكار جهاز يساعد في مواجهة الفيروس.. فقرأت الكثير من الدراسات حول طريقة عمل أجهزة التنفس الاصطناعي وفكرتها والمواد و القطع المكونة لها.. وإمكانية تنفيذه محليا وعندما شعرت بتوفر المواد شرعت في العمل.
وعن فكرة الجهاز وطريقة عمله يوضح المهندس بالقول: أمضيت فترة معقولة في دراسة آلية عمل الجهاز والقطع المكونة له و طرق تنفيذه والتعرف على أحدث النماذج المصنعة منه.. وبعد الدراسة والبحث تخمرت الفكرة في رأسي وعكفت على عمل تصميم أولي للجهاز وبما يتناسب مع المواد المتوفرة محلياً.. بعدها قمت بمسح السوق للبحث عن القطع المطلوبة للجهاز وعندما وجدتها شرعت في تنفيذه .. وبحمد الله تكللت التجربة بالنجاح وخرج الجهاز للنور.. وتمت تجربته ومراقبة أدائه وكانت النتائج مبشرة.. حسب إدارة المستشفى الجمهوري في حجة التي واكبت الفكرة منذ البدء.
وأكد أن الاختلاف كبير من حيث آلية العمل والتكلفة بين الجهاز الذي ابتكره وجهاز التنفس الاصطناعي المعروف فآلية عمل الجهاز المتوفر في الاسواق تعتمد على دخول أنبوب الجهاز إلى الرئتين لإيصال الهواء للجسم وهذا مؤلم ويرهق المريض ويزيد من معاناته لكن الجهاز الذي قمت بابتكاره يعمل عن طريق الأنف حيث يقوم الجهاز بمعايرة كمية ونوعية الهواء الذي يحتاجه المصاب كل بحسب حالته الصحية فيصل إلى الرئتين عن طريق الفم بسهولة ويسر.. كما أن تكلفة جهاز التنفس المعروف تزيد عن خمسين ألف دولار وهذا مبلغ مرتفع جداً في ظل الحاجة لأعداد كبيرة منه في حين لا تزيد قيمة الجهاز الذي ابتكرته عن ألفي دولار.. فنكون قد سهلنا طريقة العمل وقللنا التكلفة.. حيث يصبح بالإمكان انتاج الكثير منه بكلفة جهاز اصطناعي واحد.
ويعمل الجهاز على مساعدة عملية التنفس عندما يكون قناع الأكسجين غير كافي (Oxygen Mask) ويجعل المصابين الذين يجدون صعوبة في التنفس وخاصة المصابين بكورونا من القيام بعملية التنفس بسهولة أكبر ويمكن لهذا الجهاز أن يساهم في إنقاذ العديد من الأرواح من خلال التقليل بصورة كبيرة من استخدام أجهزة التنفس الاصطناعي وكذلك العناية المركزة والعاملين عليها، إلا للحالات الحرجة فقط.
ويشير لؤي إلى أن هناك نسبة كبيرة من المصابين بكورونا اكتفوا باستخدام أجهزة ( CPAP) وقضوا على الفيروس ولم يحتاجوا الى أجهزة التنفس الصناعي خاصه في الصين وإيطاليا.,
مؤكداً ان ما يميز الجهاز إمكانية استخدامه للمرضى, سواء في المستشفى أو البيت لكل من يعاني من صعوبة في التنفس, ويعمل الجهاز على إدخال كمية من الأكسجين مع الهواء عن طريق الفم والأنف بدرجة معينة وبصورة مستمرة.. حيث يجعل مجرى التنفس مفتوحا ويزيد من كمية الأكسجين في مجرى الدم.

الاثنين، 20 أبريل 2020

لمعلوماتك

* ‏لم نتخلى عن سقطرى في ٨٥١م
لم نتخلى عن مسقط في ١٦٥٠
لم نتخلى عن البحرين في ١٧١٧
لم نتخلى عن البصرة في ١٧٧٥
لم نقاطع مصر في ١٩٧٨
لم نتخلى عن الكويت في ١٩٩٠
لم نقصف العراق في ٢٠٠٣
لم نحارب اليمن في ٢٠١٥
لم نقاطع قطر في ٢٠١٧
فمالذي يدعو البعض للاعتقاد بأننا سنتخلى عن فلسطين اليوم
* باب المندب الأسم والمعنى
 الأساطير حول باب المندب: كانت الأساطير القديمة تطلق على البحر المحيط بجزيرة ميون اسم "بحر الموت"، ربما بسبب كثرة الشعاب المرجانية والجزر الصغيرة التي تعترض طريق الملاحة  فيه وتعرض السفن التي تمخر عبابه لكثير من المخاطر، ومن هنا جاءت تسمية "باب المندب" أو "بوابة الدموع"، نظرا لما يعانيه البحارة المغامرون بالإبحار في مياهه من الفزع والموت. وقيل  أن "المندب" هو الموضع الذي  يندب فيه الناس الموتى، وقيل تتجمع في المندب دموع العصاه وتضفي على البحر لونه واسمه، وقيل جاءت التسمية من دموع النساء اللاتي يودعن احبابهن المسافرين بين ضفتي المندب.
.. الدكتور محمد أحمد جرهوم
* ‏الصمصام
هو سيف "عمرو بن معد يكرب" تغنت به العرب وقالت فيه الشعر فلما سمع به عمر بن الخطاب أرسل إلى عمرو أن يبعث إليه بالسيف، فبعثه إليه، فلما ضرب به وجده دون ما كان يبلغه عنه فكتب إليه في ذلك، فردَّ عمرو: (إنما بعثت إلى أمير المؤمنين بالسيف، ولم أبعث إليه بالساعد الذي يضرب به)
* ‏الدوغمائية : هي حالة من الجمود الفكري،يتعصب فيهاالشخص لأفكاره لدرجة رفضه الاطلاع على الأفكار المخالفة،وإن ظهرت له الدلائل التي تثبت ان أفكاره خاطئة،سيحاربها بكل قوة ويصارع من اجل اثبات صحة أفكاره .. حالة شديدة من التعصب للأفكار والمباديء والقناعات لدرجة معاداة كل مايختلف عنها
* معلومات طريفة
س: هل يجوز أن يذبح الرجل خاله للأضحية؟
ج: يحوز؛ لأن الخال في اللغة معناه البعير الضخم
س: هل يجوز أن تصوم المرأة وهي في ضحك؟
ج: لا يجوز، لأن الضحك في اللغة معناه الحيض
س: هل يجوز للإنسان أن يبيع الريحان؟
ج: لا يجوز، لأن الريحان في اللغة معناه الولد
س: هل يجوز لجابر أن يأكل أمه؟
ج: يجوز، لأن أم جابر في اللغة معناها الخبز
س: ما الفرق بين اليتيم واللطيم والعجي؟
ج: اليتيم من مات أبوه،
واللطيم من مات أبواه،
والعجي من ماتت أمه وهو تحت سن الاحتلام

تغاريد حرة يكتبها زيد المحبشي

* زرت جامع الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله في دماج أواخر العام 1995 فدخلت المكتبة وعلى بابها مكتوب اخلع نعلك انت في مكان علم ثم صعدت الى الجامع وكان في الدور الاخير ولم أجد لافتة تحث على خلع النعال ومع ذلك خلعته ودخلت فإذا الأنظار تحلق في العبد لله وكأني ارتكبت جرما لا يغتفر فحدثني رفيقي ارجع والبس الصندل قبل أن يحدث لنا مكروه ففعلت ودخلت به الجامع  وبدأت اتفحص الداخلين فرأيت العجب العجاب الكل يتقاطرون إلى ساحة الجامع بنعال تقطر .. من الحمام عزكم الله الى الجامع مباشرة وعندما سألنا أحدهم قال هذه سنة وعجبا لتلك السنة التي تدنس دور العبادة بالقاذورات وتنزه المكتبات منها
* موظف بلوشي مصطلح علمي يطلق حصريا على الموظفين العاملين في المؤسسات الحكومية غير الإيرادية التابعة لدولة صنعاء
* لا فرق بين
الحب في زمن الكوليرا
والحب في زمن كورونا
كلاهما ممنوع من الصرف
* ثلاثة أنظمة تعاقبت على حكم البلاد وحملة المباخر والمطبلين والمتسلقين على عهدهم القديم لم يتغيروا بل ولا زالوا يتمتعون بالحضوة والشوكة
وهذا الذي مودي البلاد في ستين داهية مع احترامنا للمستغفرين بالأسحار لكن لا فائدة من الاستغفار بدون استفادة من الدروس ومراجعة للنفس وتقويم للفعل ولله عاقبة الأمور
* لعنة مارس
في 21 مارس 2011 انقسم النظام بكل مكوناته والشعب بكل أطيافه بين مؤيد للساحات ومعارض ومناوئ لها
وفي 26 مارس 2015 انقسم النظام بكل مكوناته والشعب بكل أطيافه بين مؤيد للعاصفة ومعارض ومقاوم لها
فضاعت اليمن وتاه اليمنيون وتكالبة عليهم الأمم وتبددت كل احلام الاستقرار والرفاه والعيش الكريم
.. إنها لعنة الساحات
* س: هل للمجوسية الايرانية وجود في اليمن؟
ج: المجوسية لم يعد لها وجود في ايران فكيف للمعدوم وجود في اليمن .. والمجوس هم من يعبدون النار وكانت المجوسية سائدة في إيران قبل ظهور الاسلام وفتح بلاد فارس على يد أجداد اليمنيين؛ وفي اليمن كان لها وجود في عدة مناطق قبل الاسلام ولا تزال معابدها بعدن شاهدة على حقبة نصرتهم لسيف بن ذي يزن؛ ولهذا فهي من الأديان الأرضية المنقرضة؛ وبالنسبة للمذهب الجعفري السائد في ايران والعراق وأجزاء من السعودية والكويت والبحرين وغيرها من دول العالم فهو من المذاهب الاسلامية المعتبرة بشهادة مشائخ الأزهر المعتبرين في مقدمتهم الشيخ شلتوت ولا مشكلة لنا مع المذاهب الاسلامية بتلاوينها فكلها تعدد وتنوع تحت مظلة الاسلام دين الرحمة والتسامح والسلام؛ كي تكون الصورة واضحة؛ انما مشكلتنا مع  سياسات الهيمنة والوصاية التي تمارسها بعض الدول أيا كانت اسلامية أو عربية أو دولية وعدم احترامها لحقوق الجوار وسيادة الدول الاخرى
* اذا كانت الكوليرا قنبلة الفقراء النووية بيد الدول العظمى لتحقيق مخططاتها الإجرامية في دول العالم الثالث الأكثر فقرا وبؤسا وشقاءا
فهل سيكون الكورونا قنبلة الأغنياء الذرية وبوابة الأمل لتخليص الفقراء من عبث وطغيان الدول العظمى واعادة التوازن والعدالة والتراحم والإنسانية الى عالمنا المتوحش
* محطات الحوار  بين جماعة هادي وجماعة الحوثي
جنيف ١ يونيو ٢٠١٥
جنيف ٢ ديسمبر ٢٠١٥
الكويت ١ إبريل ٢٠١٦
الكويت ٢ يوليو ٢٠١٦
جنيف ٣ سبتمبر ٢٠١٨
استكهولم ديسمبر ٢٠١٨
ناهيك عن مفاوضات ظهران الجنوب ومفاوضات مسقط السرية والعلنية وكلها حرث في الهواء وسراب بقيعة فماذا نأمل بعد؟
* ارتفاع مخيف في الأوبئة العاصفة باليمن  منذ بداية العاصفة وتحذيرات من موجة رابعة من وباء الكوليرا بالتوازي مع تزايد حالات الاصابة بإنفلونزا الخنازير وتزايد المخاوف من تسونامي كورونا في بلد قطاعه الصحي منهار ولا يمتلك المواد والأجهزة الخاصة بفحص كورونا باستثناء مقياس الحرارة وهو ما فتح باب التكهنات حول وجوده من عدمه والخلط التشخيصي بينه وبين انفلونزا الخنازير كما حدث اليوم من احد الزملاء بوكالة سبأ بنشر تغريدة عن وجود حالة اشتباه ثم شطبها
ولو وجدت المواد الخاصة بفحص كورونا لما حدث هكذا خلط ولبس واشتباه
وعموما لا تزال مناطق سيطرة أنصار الله خالية حتى اللحظة
* من طرائف التاريخ ان الحسن بن أبي الحفاظ كان له ثلاثة اولاد وكانوا دعاة للدولة الفاطمية وكانت لهم دولة بالشرفين وعاصمتها الجريب في بني جل في حدود سنة 470 هجري قمري وكان سليمان الاكبر والملك وكان الخطاب الاكثر حكمة وشقيقا لاروى الصليحية من الرضاعة وأصغرهم أحمد ولهم أخت شك احمد في عفتها فقتلها لمجرد الشك ..  فقام سليمان بقتله فنشبت بسبب ذلك حرب طاحنة استمرت عشرين سنة بين سليمان والخطاب أكلت الاخضر واليابس وقتل فيها خلق كثير
وفي الأخير جاء من قرشهم مع دولتهم وذهبوا مع دولتهم الى حيث القت ام قشعم برحلها غير مأسوف عليهم ..
ولله في خلقه نظر
* ‏نسأل الله العظيم أن يكفينا شر الأشرار وكيد الفجار وشر طوارق الليل والنهار وأن يصرف عنا كل شر ويصلح الحال ويعيد الأمن والاستقرار الى الوطن والبسمة والأخوة الى المواطنين ويرفع عنا ما حل بنا من بلاء ويعجل بالفرج فقد ضاق الحال وبلغ الضر منتهاه وأن يسحق الظالمين المستبدين والغزاة المعتدين وأن يجعل لنا مخرجا جميلا
اللهم إنا غافلون ليس لنا حول ولا قوة إلا بك وأنت لست بغافل عما يعمل الظالمون والمعتدون وتجار الازمات وأمراء الحروب
اللهم رد كيدهم في نحورهم وانصر المواطنين المستضعفين في اليمن يا أرحم الراحمين
أنت حسبنا ونعم الوكيل
* بعد خمس سنوات من التجييش وحرق الحجر والشجر والبشر وقادمون يا صنعاء؛ سقوط مدينة صنعاء اليمنية بيد الحوثيين؛ وتوقعات باحتلالهم محافظة مأرب السعودية وتضييق الخناق على محافظة الجوف القطرية واشتعال المعارك في محافظة الحديدة الإماراتية ..
.. اللهم احقن دماء اليمنيين واجعل لهم مخرجا جميلا
* في تسعينيات القرن العشرين ذهب مجموعة من شباب قرية جبل المحبشي الى الأردن للعلاج فدخلوا أحد مطاعم مدينة عمان فوقع بينهم وهم متجمعين حول طاولة المطعم صفاط ومزاح ثقيل من حق اليمنيين في الشمال انتهى بسكبان العصير فوق أحدهم وكان لابس سنج عشرة .. فالتفت اليهم بغضب قائلا: والله نحن اليمنيين لو دخلنا الجنة ننجسها ..
يعني ما جرى بالمحافظات الجنوبية والشرقية من متهبشي المحافظات الشمالية والغربية بعد الوحدة ليس بالأمر الهين؛ فلا لوم عليهم فيما أقدموا عليه ولا زالوا .. ولله في خلقه نظر
* ‏‎لو ينزل سلاطين الامر الواقع من ابراجهم العاجية ويختلطوا بالبسطاء ويتلمسوا حوائجهم وأحوالهم لتكشفت لهم حقيقة شعاراتهم ولخجلوا من أنفسهم ولا أحسبهم فاعلون
* أنصار الله: قوة ضاربة لا يستهان بهم
الاخوان: قوى ضاربة لا يستهان بهم
الحراك: قوة ضاربة لا يستهان بهم
طارق: قوة ضاربة لا يستهان بها
المواطن: قوة مضروبة لا محل لها من الاعراب في قاموس القوى المتصارعة
‏والحقيقة المرة التي تتجاهلها القوى المتصارعة هي أن هناك وطن اسمه اليمن للاسف لم يتبقى منه سوى مسماه على خريطة مهترئة وواقع ممزق ودم يمني لم يتوقف عن النزيف ومواطن يتلوى من الجوع دون أن يرق لحاله أحد
* سنة 1437 استقبلنا رمضان بلا كهرباء
سنة 1438 استقبلناه بلا مرتبات وبلا كهرباء
سنة 1439 استقبلناه بلا مرتبات وبلا كهرباء وبلا غاز
سنة 1440 استقبلناه بلا غاز وبلا بترول وبلا مرتبات وبلا كهرباء
سنة 1441 استقبلناه بلا ملابس وبلا فيوزات وعاد زد الكورونا والسيول الجارفة كملت السيرة 😂😂😂😂

السبت، 18 أبريل 2020

هلال رمضان: قراءة دينية فلكية

زيد يحيى المحبشي؛  18 أبريل 2020
منذ سنوات والأمة الإسلامية منقسمة على نفسها حول تحديد دخول وخروج أهم فريضة من فرائض الإسلام، وهي شهر رمضان المبارك، بعد أن صار للسياسة دورها في هذا الانقسام المقيت والمزري، في ظل هيمنة الوهابية السعودية على المشهد الديني الإسلامي، واختزاله فيما تراه ويريده أولياء نعمتها في البيت الأسود، لا ما يراه الله ويريده من سدنة البيت الحرام، وتوظيفه لما يخدم مصالحها وأجندتها المشبوهة وصراعاتها الإقليمية، وإفراغ العبادات والفرائض من محتواها، والتلاعب بمواقيتها، وتحويلها الى مجرد طقوس روتينية ميتة في مارثون الانسلاخ والتغريب والتهجين والترويض.
 فهل سيكون رمضان هذا العام بعيداً عن آفة السياسة ولعنة الساسة، لنشهد ولو لمرة واحدة صوماً موحداً يلملم شتات الأمة المكلومة، ويعيد لفريضة الصيام روحانيتها ودورها التربوي في بناء الذات المؤمنة الرسالية؟!.
 لا أعتقد ذلك، فما نشهده اليوم من انقسامات وصراعات على كل الأصعدة، لا يبشر بخير.
في هذا المبحث لن نتطرق لدور السياسة والساسة في تحديد دخول شهر القرآن، بعد أن أفقَدَنا المال السعودي، وفتاوى الوهابية السلطانية الأمل في توحدهم، بل سنكتفي بتقديم قراءة سريعة ومتواضعة لموقف الشريعة المحمدية وموقف علماء الفلك من تحديد ولادة هلال الشهر الكريم، لعلّها تقود إلى توحيد المنقسم السياسي.

* الرؤية الشرعية
يقول الله سبحانه وتعالى: (ونزلّنا عليك الكتاب "تِبياناً" "لكل شيئ" وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين) النحل 89، الملاحظ في الآية الكريمة أن كلمة "تِبياناً" أتت منكرة – أي مجردة من أحرف التعريف (ال) – والتنكير في الخطاب القرآني، كما هو متعارفٌ عليه لدى علماء اللغة، يعني أن الخطاب موجه للعموم وليس للخصوص، وفي الكلمة التالية "لكل شيئ" توضيح لا جدال فيه، ما نجد مداليله في قوله تعالى: (يسألونك عن الأهِلّة قل هي "مواقيت" للناس "و" الحج ) البقرة 189 .. فقد وردت كلمت "مواقيت" منكرة، وهذا يعني أنها للعموم وليس للخصوص، لأن الله لم يقصر ذلك على فريضة "الحج" حصراً، بل جعل "الحج" عطفاً على "مواقيت للناس"، أي لكي يسترشد بها الناس في معرفة دخول الأشهر القمرية عموماً وشهر رمضان منها.
لقد جعل الله سبحانه وتعالى فرائض الإسلام من صلاة وصيام وحج، مرتبطة بأشياء حسية، يشترك في معرفتها كل من أحسن المراقبة لتلك العلامات، وكلها متعلقة بالشمس والقمر، وجعل الأهِلَّة "مواقيت" يُعرفُ بها بداية العقود ونهايتها، إذا رُبِطَت بالأشهر القمرية، كما هي مواقيت ركنين من أركان الإسلام، هما الصوم والحج.
وسُنّة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم هي الفيصل في هذا، والتي أولت اهتماماً كبيراً بدخول وخروج شهر الصيام, لأنه من أهم الأشهر, لما يترتب عليه من أداء فريضة الصيام، التي افترضها الله على أمة محمد مرة واحدة من كل عام، وجعلها في المرتبة الثالثة في قائمة أركان الإسلام بعد الشهادتين والصلاة، لما لها من أهمية كبيرة في البناء الروحاني الإنساني، واختصها لذاته عكس بقية الأركان: "الصيام لي وأنا أجزي به"، وجعلها طُهرة وزكاة وجُنّة لبدن المؤمن من العام الى العام.
لهذا لا غرابة أن نجد الشريعة المحمدية حريصة أشد الحرص على توضيح وتبيين هذه الفريضة، بأتم بيان، وربط دخولها وخروجها بالأهِلّة، كما هو واضحٌ في آية المواقيت، حيث جعل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الرؤية شرطاً في تحديد ولادة هلال الشهر القمري.
والمشكلة هنا لا علاقة لها بموقف السُنّة النبوية من تحديد ولادة الشهر القمري المشروطة بالرؤية المجردة، بل بما حدث من خلاف كبير حول شروط الرؤية وماهيتها بين علماء المسلمين في القرون التالية للحقبة المحمدية، فهناك من قال بأن الرؤية لا تكون بالعين المجردة فقط، وهناك من أفسح المجال في حال تعذر الرؤية المجردة لإمكانية الاعتماد على الحسابات الفلكية لإثبات ولادة الهلال القمري، وهناك من أجاز الرؤية بالمناظير المكبرة - المراصد الفلكية - بالنظر إلى ما شهده العالم من تقدم تكنولوجي كبير، ومنهم من رأى جواز استخدام الأقمار الصناعية لتحديد ولادة الهلال القمري.
وبعيداً عن اختلاف علماء المسلمين حول الوسيلة الأنجع لتحديد ولادة الهلال القمري، فقد حَفِلَت السُنّة المحمدية بالكثير من الأحاديث الدالة على الرؤية، وأبرزها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غُمّ عليكم فأقدروا له" كما في رواية البخاري ومسلم، وفي لفظ: "لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غُمّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين"، وهو حديث متفق عليه، وفي رواية مسلم: "فأقدروا ثلاثين"، وفي رواية مسلم والبخاري: "فصوموا ثلاثين يوماً"، وفي رواية عبدالله بن عباس: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حال بينكم وبينه سحاب فكملوا العدة ولا تستقبلوا الشهر إستقبالاً".
هذه الأحاديث وغيرها الكثير تصب في خانة واحدة هي الاعتماد على الرؤية المجردة لا الحسابات الفلكية ولا حسابات الحاسب الآلي، والسر في اشتراط الرسول الأكرم للرؤية المجردة دون سواها، ما أورده العلامة أحمد بن قاسم العنسي في "التاج المذهب لأحكام المذهب"، من أحاديث توضيحية: "إنا أمةٌ أُمِّية لا نكتب ولا نحسب، .."، "لا تصوموا حتى تروه ..".
حيث يقول رحمة الله عليه: ولا عبرة بحساب المنازل وغيره من الأمور المستندة الى أمور التجربة، كما روى "بعض" علمائنا، أنهم عرفوا بالتجربة، أن الهلال متى طلع مع الفجر، فاليوم الرابع من أول الشهر الثاني، وأنهم جربوا ذلك 40 سنة، قلنا: لم يعتبر ذلك الشارع، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته".
ومن قال بحساب المنازل فقوله مردودٌ بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إنّا أمّةٌ أُمِّيةٌ لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا"، لأن الناس لو كُلِّفوا بذلك، لضاق عليهم، لأنه لا يعرف الحساب إلا أفراد في الأمصار .. ألخ.
ومعنى: "لا نكتب ولا نحسب"، أي أننا لا نعتمد لعبادتنا الحساب والكتابة، وإنما نعتمد على ما أمرنا الصادق المصدوق، طاعة لله سبحانه واعتقاداً منا أنه الحق.
ويذهب فريق من علماء الإسلام إلى أنه صلى الله عليه وآله وسلم لو أجاز العمل بالحسابات الفلكية، لأصبح ذلك تكليفاً على جميع المسلمين في تحديد دخول الأشهر القمرية.
ومعلومً أن أكثرية الأمة على عهد رسول الله أُمِّية، ولذا سيكون في إقرار العمل بالحسابات الفلكية تعسير ومشقة كبيرة على المسلمين، في حين أن الإسلام دين يُسر، ألم يقل صلى الله عليه وآله وسلم: "بعثة بالشريعة السهلة السمحاء", "يسروا ولا تعسروا قربوا ولا تنفروا".
صحيح أن تحفظ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على مسألة الحسابات الفلكية، كان لمصلحة عموم المسلمين، لأن غالبيتهم على عهده لا تجيد الكتابة والقراءة، لكن بالعودة الى القرآن الكريم المبتدأ تنزيله بالحض على القراءة وما يترتب عليها من كتابة، والخاتم تنزيله بالنهي عن الظلم، فهذا يعني أن الإسلام دين "العلم والعدل"، وعليه يمكن تفسير توجيه الرسول الأكرم على أنه توجيه وقتي ومرحلي، إلى أن يأتي من الأمة الإسلامية أجيالٌ تفقه علم الكتابة والقراءة وما يترتب على ذلك من علوم فلكية، لا سيما وأن الحسابات الفلكية كما أثبت العلم الحديث فيها شيئ من الواقعية.

* الرؤية الفلكية
تعميماً للفائدة نورد هنا نبذة مختصرة عن رؤية علماء الفلك حول تحديد ولادة الهلال القمري إجتزئناها بتصرف من دراسة مطولة للشيخ محمد أديب قبيسي نشرها موقع العلامة محمد حسين فضل الله رحمة الله تغشاه في شهر رجب عام 1425هـ.
تتم الولادة الفلكية للهلال القمري عندما يقع مركز الشمس والأرض والقمر بينهما على خط وهمي واحد، يقال له: "لحظة الإقتران" أو "فترة المحاق" أو "المحاق المركزي".
حسابات ولادة الهلال القمري "الاقتران" وإن كانت دقيقة جداً ويقينية، بحيث لا يمكن احتمال الخطأ فيها من الناحية الواقعية، إذا رُوعِيت الحسابات بدقة, إلا أن هذا لا يعني أن الهلال القمري يمكن أن يُرى لحظة الولادة، وهو ما دفع علماء الفلك قديماً وحديثاً إلى وضع معايير معينة وشروط محددة للتنبؤ بإمكانية الرؤية بعد تحديد لحظة ولادة الهلال القمري.
أولاً: المعايير القديمة: وهي التي تم العمل بها حتى بداية القرن العشرين الميلادي، وأهمها:
(1) معيار الـ 12 درجة: والمقصود به من الناحية العملية أن رؤية الهلال القمري ممكنة مساء 29 من الشهر القمري، إذا كان غروب القمر متأخراً عن غروب الشمس بمقدار 12 درجة، أي بمقدار 48 دقيقة من الناحية الزمنية، وعلى أساس هذا المعيار وُضِعَت الجداول من قبل علماء المسلمين المسماه بالأزياج، وأبرزها زيج الخوارزمي.
(2) معيار انخفاض الشمس: تكون رؤية الهلال ممكنة إذا كان انخفاض الشمس تحت الأفق الغربي عند غروب القمر يساوي مقداراً معيناً يبلغ 9 درجات، (أي بمقدار 36 دقيقة، طيب إذا كان الفارق بين غروب القمر وغروب الشمس أو ما يسمى بمدة مكوث القمر أقل من 36 دقيقة، مثلاً في حدود 23 دقيقة كنموذج، حينها تستحيل رؤية الهلال بالعين المجردة بسبب ضعف وخفوت الضوء المنبعث من القمر).
هذه المعايير والتعديلات التي جرت عليها، قائمة على علاقة هندسية بين موقع القمر والشمس والمشاهد، سواء من حيث الزمان كالمعيار الأول، أو من حيث لمعان ضوء الشمس وأثره في الأفق بعد الغروب كالمعيار الثاني.
ثانياً: المعايير الحديثة: توالت التعديلات للشروط المقترحة المساعدة على التنبؤ بإمكانية رؤية الهلال، وهي في غالبها مبنية على اعتبارات هندسية وفلكية، حتى من قبل علماء فلك العصر الحديث وأهمها:
(1) المنظار الفيزيائي: تمكن الباحث الفرنسي في المرصد الفلكي للجامعة الأميركية ببيروت "فرانس برون" في العام 1977 من إحداث تطور نوعي في هذا المجال، عندما تطرق إليه من منظار فلكي فيزيائي، مركزاً على الظروف الحقيقية والخاصة بالمشاهد، والتي لاحظ فيها قدرة العين المجردة على التقاط صور الأجسام الساطعة.
(2) معيار "يالوب": يقوم على المعايير القديمة، لكنه أكثر تطوراً وتعقيداً، بالاستفادة من خبرته الطويلة في مجال الرصد، حيث كان يعمل مديراً لمرصد غرينتش ورئيساً للجنة الأزياج التابعة للاتحاد الفلكي الدولي.
يعمل معيار "يالوب" على تقسيم إمكانية الرؤية إلى أربع حالات، لأنه حسب اعتقاده يمكن رؤية الهلال بالمرقب أو بالمنظار فقط أو بمساعدة ذلك أولاً، ثم من الممكن رؤية الهلال بالعين المجردة، كما في حالات الصحو التام، وأخيراً الرؤية بسهولة بالعين المجردة مطلقاً، ووضع "يالوب" ثلاثة عوامل رئيسية لعمل معياره، هي:
أ – "عمر الهلال": وهو مقدار الزمن الممتد بين لحظة الإقتران ولحظة غروب الشمس في منطقة معينة، وهذا يختلف من مكان إلى أخر، وتشير احصائيات ما يزيد على 50 سنة، أن أصغر عمر للهلال تمت رؤيته بالعين المجردة كان 14 ساعة و48 دقيقة.
ب – "مكوث الهلال": وهو مقدار بقاء الهلال بعد غروب الشمس، أي الفترة الممتدة بين غروب الشمس وغروب القمر, ومعلومٌ أن أقل مكوث للقمر تمت رؤيته بالعين المجردة كان 29 دقيقة.
ج – "الاستطالة": وهي بُعد مركز القمر عن مركز الشمس بالدرجات، كالنور الذي يرى من الأرض، ويقال له "قوس النور- الشفق الاحمر بلهجة اليمن"، وذلك لأن الرؤية ممكنة إذا كان الهلال "مركز الهلال" قد ابتعد عن مركز الشمس، بحيث صار القمر يعكس مقداراً ممكناً من الضوء، يمكن من خلاله رؤية ذلك، ومعلومٌ أن أقل استطالة مسجلة كانت 6 – 7 درجات (24 – 28 دقيقة).
نسبة اضاءة القمر من العوامل المهمة أيضاً في إمكانية الرؤية، فإذا كانت الاستطالة بين الشمس والقمر "صفر درجة"، فإن الرؤية مستحيلة، لأن القمر يكون في فترة المحاق، وهذا يعني أنه مظلم ظلاماً تاماً، أما إذا كانت درجة الاستطالة بين الشمس والقمر "180درجة " (12 ساعة)، فإن القمر يكون بدراً.

* قاعدة عامة
(1) إذا كانت ولادة الهلال قبل غروب الشمس، وكانت فترة مكوثه بعد غروب الشمس، بحيث يكون غروب الهلال بعد غروب الشمس، أمكن القول بأن اليوم الثاني هو بداية الشهر الجديد.
"اذا كانت ولادة الهلال قبل غروب الشمس وغروب الهلال بعد غروب الشمس، فإن اليوم الثاني بداية الشهر القمري الجديد".
(2) إذا كانت ولادة الهلال بعد غروب الشمس أو كان غروب القمر قبل غروب الشمس، كان اليوم التالي مكملاً للشهر الأول.
"إذا كانت ولادة الهلال بعد غروب الشمس أو كان غروب الهلال قبل غروب الشمس، فإن اليوم التالي المتمم للشهر الاول".

* يوم الشك
وهو اليوم المشكوك فيه هل هو المتمم لشعبان أم الأول من رمضان وهو يوم الثلاثين من شعبان، لعدم وضوح رؤية هلال رمضان بسبب الغيوم والضباب أو بسبب قلة إضاءة الهلال وقربه من الأفق عند غروبه، وفي هذه الحالة استحسن الفقهاء صيام يوم الشك بنية التخيير لا بنية القطع لمن أراد الحِيطة في دينه، بمعنى أن تصومه بنية مشروطة إن كان من رمضان فواجب تؤديه، وإن كان من شعبان فنافلة تتقرب بها الى الله، والمتفق عليه بين الفقهاء تحريم صيام يوم الشك بنية القطع على أنه من رمضان، لأن القطع في موضع الشك لا يجوز، ومن أفطر يوم الثلاثين من شعبان ثم انكشف له أنه من رمضان وجب عليه الإمساك بقية اليوم، حرمة للشهر الكريم، والقضاء بعد انقضاء رمضان.
يقول الإمام الهادي يحيى بن الحسين عليه السلام في "الأحكام": الذي رأينا عليه أشياخنا، ومن سمعنا من أسلافنا أنهم كانوا يصومون يوم الشك، وفي ذلك ما حدثني أبي عن أبيه علي أمير المؤمنين رحمة الله عليه، أنه قال: "لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان"، وينبغي لمن صام يوم الشك أن ينوي إن كان هذا اليوم من شهر رمضان فصيامي من رمضان، وإن كان من شعبان فهو تطوع، فإنه إذا فعل ذلك، وكان ذلك اليوم من شهر رمضان فقد أدى صومه بما اعتقد من نيته، وإن لم يكن من رمضان كُتِبَ له من تطوعه.
ولا ينبغِ لأحدٍ يفهم أن يفطره – يعني لا يجوز على من يفهم هذا الكلام إفطار يوم الشك -، لأنه إن كان من شهر رمضان لم يستخلفه ولم يلحق يوماً مثله – أبداً – ويومٌ من شهر رمضان أهلٌ أن يُحتاط له ويُطلَب بكل سبب صومه، وإن كان يوماً من شعبان لم يرزأه – يضره - صيام يومٍ، وكان له تطوعاً وأجراً، فأما ما يزخرفه كثيرٌ من الناس في ترك صيامه فذلك مالا يصح ولا يجوز القول به لبعده من الاحتياط والصواب، وقربه من التفريط في الصوم والارتياب، بل الصحيح في ذلك مالا يشك فيه من أنصف، من أن يوم الشك والإحتياط فيه أفضل وأقرب إلى الله وأسلَّم.
وبحسب القراءات الفلكية فإن يوم الخميس 23 نيسان/ أبريل 2020 يوم شك لدى معظم الدول العربية، بسبب تعذر روية الهلال ليلة الأربعاء 22 نيسان/ أبريل 2020 لخفوت ضوئه، لذا تذهب تلك الدول الى أن الخميس هو المتمم لشهر شعبان، والجمعة 24 نيسان/ أبريل 2020 هو الأول من شهر رمضان لسنة 1441، بسبب إنعدام الرؤية، بينما يرى الفلكي اليمني الشهير الشيخ عبدالواسع يحيى الواسعي في كتابه "كنز الثقات في علم الأوقات" أن يوم الخميس  23 نيسان/ أبريل 2020 هو الأول من شهر رمضان لسنة 1441 هجري قمري، وعلى العكس من ذلك تقول حسابات موقع "طقس العرب"، ليوم الأربعاء 22 أبريل 2020 في اليمن أن غروب القمر في صنعاء سيكون في تمام الساعة 14.55، وغروب الشمس الساعة 15.19، بالتالي غروب القمر قبل مغيب الشمس بـ 24 دقيقة، ما يجعل رؤية هلال رمضان ليلة الأربعاء مستحيلة بالعين المجردة والتسلكوب لضعف الضوء المنبعث منه، نظراً لغروب القمر قبل الشمس في معظم الدول العربية، ناهيك عن عدم حدوث الإقتران وعدم تولُّد الهلال، ووفقاً لهذه الحسابات، فإن اليوم التالي/ الخميس مكملاً للشهر الأول، لكن ليس كل علماء الفلك متفقون مع هذه الحسابات بما فيهم العلامة الواسعي كما عرفنا آنفاً.
لهذا يظل يوم الخميس 23 أبريل من أيام الشك بسبب استحالة الرؤية، وفي هذا يقول الإمام الهادي عليه السلام: فإن كانت في السماء علة من سحاب أو غبار أو ضباب أو غير ذلك من سبب أوفيت أيام الصيام ثلاثين يوماً، وكذلك رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " صوموا لرؤيته فإن غُمّ عليكم فعدوا ثلاثين يوما"، يريد صلى الله عليه وآله وسلم من يوم رأيتموه وصح عندكم أنه قد أهلَّ – ظهر - فيه، وهذا الحكم خاصٌ بهلال رمضان وهلال شوال.
وتبقى الرؤية بالعين المجرد هي الأحوط والأسلم، كما عرفنا آنفاً، لتحديد دخول الشهر الكريم، لأنها من الأخبار المتواترة الغير قابلة للشك، ويكفي لذلك خبر عدلين أو عدلٌ وعدلتين، للإخبار برؤية الهلال أو توارد الأخبار بذلك – لجنة مختصة بمتابعة الأهِلّة كما هو حال اللجنة المختصة بالحديدة – أو تأكيد مرور 30 يوما من يوم رؤية هلال شعبان أو رمضان، أو يخبرا بأن حاكماً أو مفتياً موافق لمذهبهما، قال صح عندي رؤية الهلال، أو أن أول الشهر كذا، فإذا أخبرا بأي هذه الوجوه وجب على السامع العمل بقولهما، ويلزم في حالنا اليوم متابعة دار الإفتاء للدولة التي تقع تحت نفوذها وفوق أراضيها، وهي من يجب السمع له، ومن يتحمل كامل المسؤولية أمام الله، ولا يجوز تقليد دولة أخرى بأي حال من الأحوال.
وإذا انفرد أحد الناس – غير المفتي والحاكم - برؤية هلال رمضان أو هلال شوال، ولم يرى ذلك غيره من الناس، وجب عليه الصيام والإفطار وكتمان ذلك، لئلا يتعرض للتهمة في دينه وعقوبة السلطان، والاكتفاء بالتعريض، لا التصريح، كأن يقول: إن رجلاً رأى الهلال، لجواز أن يشهد بذلك معه غيره، لا أن يقول: رأيته، لأنه ينافي شرط كتمان الصوم والافطار.

الثلاثاء، 17 مارس 2020

القدس في ليل الإسراء


زيد يحيى المحبشي،  17 مارس 2020
يحتفل المسلمون في أنحاء المعمورة في ليلة 27 رجب، من كل عام، بذكرى عظيمة على قلوب المؤمنين هي ذكرى "الإسراء"، امتثالاً لقوله سبحانه وتعالى: "ومن يُعَظِم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب" الحج/32 .
معجزة الإسراء واحدة من الآيات الإلهية الكبرى التي أيد الله بها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم, بعد حصار قريش لبني هاشم في الشعب، وموت الناصر أبي طالب شيخ الأبطح، والونيس خديجة الكبرى، ونكبة وصد أهل الطائف, فكان فرج الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالإسراء: "لنُرِيَهُ من آياتنا .." الإسراء/1 ، "من" تبعيضية، بمعنى بعض آياتنا وليس كل آياتنا, تثبيتاً لقلب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم حتى يتحمل كل ما يلاقيه من سخرية واستهزاء وعذاب قريش.
الإسراء هدية ربانية أتت لتنفيس وتفريج كرب المصطفى عما كان يلاقيه من ألم صدود وجحود أهل الطائف، وألم تعقب ورفض قريش, وهي بالمرتبة الأولى رحلة استكشاف للكون، وما في قوله تعالى: "لقد رأى من آيات ربه الكبرى" النجم/ 18 - "من" تبعيضية بمعنى بعض آيات ربه الكبرى وليس كلها -, من الغموض وعدم الإفصاح وعلامات التعجب والاستفهام عما رآه صلى الله عليه وآله وسلم، ما يكفي لتبيين أهمية هذه المعجزة التي كرم الله بها نبيه.
أسرى الله بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم من المسجد الحرام بمكة المكرمة،محطة الانطلاق، على ظهر البراق إلى المسجد الأقصى، محطة الاستراحة، والصلاة بأرواح الأنبياء إماماً في تلك البقعة الطاهرة، ثم العودة الى مكة المكرمة في ذات الليلة، كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى في الآية الأولى من سورة الإسراء: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير"، ابتدأت الآية الشريفة بتنزيه الله والتأكيد على قدرته المطلقة، وفي هذا دلالة واضحة أن انتقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من مكة الى بيت المقدس كان بالروح والجسد.
وسمى الله سبحانه وتعالى سورة كاملة باسم هذه المعجزة الربانية للتأكيد على أهميتها، رغم أنه لم يرد فيها سوى آية واحدة تتحدث عن حادثة الإسراء، وصفتها بدقة ووضوح - عكس حادثة المعراج وما فيها من اختلاف وجدل بين علماء المسلمين، لسنا بصدده في هذه الفسحة لطول الحديث فيه - وهو ما جعل قضية الإسراء محل إجماع بين علماء المسلمين، مع الاختلاف فيما رآه صلى الله عليه وآله وسلم خلال تلك الرحلة المقدسة وطريقة الانتقال وهل كانت بالروح والجسد أم بالروح فقط، والراجح كما هو واضح من منطوق القرآن أنها بالروح والجسد، وهو ما أكسبها أهمية خاصة وجعلها منطلقا لمرحلة جديدة في حياة الرسول والدعوة الاسلامية.
أُسرِي به صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة بسنة من دار أم هانئ بجوار المسجد الحرام بمكة المكرمة ليلا الى بيت المقدس، مهبط الملائكة ومقر الأنبياء، والمباركة أكنافه بالزروع والثمار والأنهار، وعاد في ذات الليلة، متعدياً عامل الزمن، وكانت الرحلة الى القدس في حينها تستغرق أشهراً ذهاباً وإياباً.

* لقد رأى من آيات ربه الكبرى
في هذه الرحلة المقدسة لم يتحدث صلى الله عليه وآله وسلم عن كل ما رآه، بل عن شيئ يسير فقط تناقله الرواة فأضافوا إليه ما خُيِّل لهم أنه صالح لشرح آيات الله التي رآها صلى الله عليه وآله وسلم، بعض هذه الإضافة كان بحسن نية وبعضها كان من دس المنافقين، ليشوشوا علينا أمر ديننا، وليجعلوه مع العقل السليم والفطرة السليمة والسنة السليمة على اختلاف وتناقض، فيتسرب الشك إلى القلوب ثم الكفر والجحود.
وحسبنا أن القرآن الكريم قد وصفها بـ"الكبرى"، وهذا الإجمال في الوصف لطفٌ من الله لنا، لأن عقولنا أقل من مستوى تلك المعلومات التي اختص الله بها نبيه، مع أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يرى إلا ما أذن الله له أن يراه، وقد وصف سبحانه وتعالى محافظة نبيه على حدود اللياقة والأدب وعدم مد النظر إلى ما لم يُأذن له في رؤيته: "ما زاغ البصر وما طغى, لقد رأى من آيات ربه الكبرى" النجم/17 – 18.
قال الإمام زيد بن علي عليه السلام في تفسير قوله تعالى بسورة النجم: "ما زاغ البصر وما طغى، لقد رأى من آيات ربه الكبرى": ما عدل البصر وما حار مما رآه من علامات وعجائب الله في الكون، وفي تفسير الامام القاسم بن الحسين العياني عليه السلام: ما أخطأ البصر ولا مال، ولم يتعد الى غير الحق، بل أصاب، والآية الكبرى التي رآها النبي هي جبريل عليه السلام، وهو آية عظيمة باهرة منيرة، وفي البرهان يقول الإمام الهادي يحيى بن الحسين عليه السلام: ما زاغ بصر النبي وما عدل عنه ولا شبهه ولا تخايله، ولا ظنه، بل قد رآه بحقائق الرؤية وأبصره، وما طغى رسول الله فيما أخبركم به ولا دخله في ذلك أشر ولا بغي، بل قد صدقكم عما أبصر ورأى، وقيل ما تجاوز صلى الله عليه وآله وسلم ما رآه من العجائب التي أُمر برؤيتها، ومُكِّن منها، ويضيف الهادي عليه السلام في توضيح ماهية الآيات الكبرى التي شاهدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: رأى من جبريل عليه السلام آية من آيات الله العظمى لا يشبهها شيئ من الأشياء، وفي تفسير العلامة عبدالله بن أحمد بن إبراهيم الشرفي: رأى كبرى آيات ربه وعُظمَاهَا حين عرج الى السماء، من عجائب الملكوت في تلك الليلة.
ولنا أن نتصور ما شئنا من آيات الله الكبرى التي أطلع عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكن شريطة أن نعرض ذلك على كتاب الله، فما وافقه فهو الصواب وما خالفه فهو باطل مردود، وعقل المخالف بلا شك محتاج إلى طبيب، وليس القصد الإطالة وتصحيح وتنقية ما رُوي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الرحلة العظيمة المباركة، وإنما الوقوف على الحكمة من هذه المعجزة الإلهية.
وقد وجدت قريش في هذه الحادثة التي سمتها "خرافة"، مرتعاً خِصباً لنشر الأقاويل والأكاذيب والدعايات المغرضة ضد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويأبى الله إلا أن يُتِمَ نوره ولو كره الكافرون، وتظهر آيات ذلك في وصفه صلى الله عليه وآله وسلم لبيت المقدس وصفاً دقيقاً كأنه يراه الساعة وإخباره صلى الله عليه وآله وسلم ببعير لقريش في الطريق وما شرد منها وما جرى لماء قافلتهم ومتى يصلون مكة، ومع ذلك آمن من آمن وصدّق، وكفر المعاند الجهول الغوي.

* دلالات نهتدي بها
حملت معجزة الإسراء العديد من الدلالات والرسائل ليس للنبي فحسب بل وللأمة المحمدية الى قيام الساعة:
1 - تثبيت قلب الرسول الخاتم بما رآه من آيات ربه الكبرى ليزداد هُداً ونوراً وصبراً، على تحمل ما لاقاه ويلاقيه بعد موت أبي طالب وخديجة من ضروب الإهانة والسخرية والتعذيب.
2 - اشعار الرسول الخاتم وأمته بوحدة الشريعة السماوية المنزلة عليه والرسل من قبله: "إن الدين عند الله الإسلام" - ولنا بحث مطول حول واحدية الأديان السماوية وأن الإسلام هو دين كل الأنبياء والمرسلين -، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يأتِ بشيئٍ جديد، ولم يكن أول من تلقّى الإهانة والتعذيب في سبيل الله, فقد تلقاها من قبله إبراهيم الخليل وموسى الكليم, ويشير إلى هذا رحلته صلى الله عليه وآله وسلم إلى بلد الأنبياء "القدس الجريح"، وتعريجه على طور سيناء جبل الكليم موسى عليه السلام واتفاقه بأرواح الأنبياء عليهم السلام.
3 - توجيه رسالة ربانية للأمة الإسلامية في كل زمان ومكان لتأكيد ارتباط حرمة الحرم المكي والمسجد الأقصى الى قيام الساعة، ووجوبية رعاية حرمتهما، ومواجهة كل من يريد بهما شراً، وتأكيد وحدة مسار ومصير المسجدين وأن ما يقع على أحدهما سيكون له تداعيات كارثية مباشرة على الأخر.
بعد حادثة الإسراء اهتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بفتح بيت المقدس وتجهيز جيشاً لهذه المهمة المقدسة قبيل وفاته بقيادة أسامة بن زيد 11 هـ / 632 م، لكن وفاته صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين حالت دون إنفاذ الجيش، وبعد وفاة الرسول الأكرم بأربع سنوات 15 هـ / 635م، فتح المسلمون بيت المقدس، وتسلم عمر بن الخطاب مفاتيح القدس الشريف مباشرة من بطريكها "حفرونيوس" وتم بناء المسجد الأقصى في البقعة التي صلى فيها، وتحققت أمنية الرسول الخاتم وتطهرت بيت المقدس من رجس ودنس اليهود.
تتابعت الأحداث بعدها وتمكن اليهود من انتزاع القدس وتهويده وتدنيسه خلال فترة تمدد الحروب الصليبية في المشرق العربي في العهد الوسيط، لكن المسلمون تمكنوا من استعادته في سنة 1187م، وبقي في حوزة المسلمين حتى نكبة حزيران يونيو 1967، ومن يومها والكيان الصهيوني الغاصب لا يدخر وسيلة لتسريع عملية تهويد الأماكن المقدسة في القدس وأكنافه، وتغليب العرق اليهودي وتحويل القدس إلى عاصمة أبدية لكيانه اللقيط، بمباركة هيئة الأمم ودعم رعاة البقر وتمويل بعران العرب.

* القدس الجريح
عندما احتل الكيان الصهيوني الغاصب مدينة القدس عام 1967 لم تكن مساحتها تتجاوز 6 كيلو متر مربع، بينما هي اليوم أكثر من 300 كيلو متر مربع، ويعمل الاحتلال لضم 25 بالمائة من أراضي الضفة (1413 كيلو متر مربع) بعد أن كان قد اقتطع في السابق أكثر من 5 بالمائة من الضفة.
إعلان الاحتلال مدينة القدس بموجب قانون عام 1980 عاصمة أبدية وموحدة له، معناه أن القدس الفلسطينية لم تعد تتجاوز الأحياء العربية خارج حدود الجدار، وبالأصح خارج حدود 1967 كما طرح ترامب في مبادرته المسماة بصفقة القرن، وهذه قد تم ملئها بالمستوطنات، أي أن أي تفاوض مستقبلي حول ملف القدس - حسب نتنياهو – بات مقتصراً على أحياء محدودة من القدس الشرقية وعلى المقدسات الإسلامية في المدينة القديمة – مساحتها واحد كيلو متر مربع فقط - والتي هي من ضمن مقدسات مسيحية ويهودية، بما لذلك من تعقيدات كثيرة ليست فلسطينية وإسرائيلية فحسب بل ودولية.
ملف القدس يظل من أكثر الملفات تعقيداً، لكن بصورة عامة لا تزال القدس حسب القرارات الدولية محتلة ولا يزال الفلسطينيين يأملون في الحصول على الأحياء العربية لتكون عاصمة لهم، وبالسيادة الكاملة على المسجد الأقصى، وإمكانية التوصل إلى ضمانات بخصوص حائط البراق، بهدف إتاحة المجال لوصول اليهود إليه والصلاة أمامه، فيما يرى الاحتلال أن كل التعهدات التي أطلقها في مفاوضات كامب ديفيد الثانية عام 2000 لجهة تقسيم القدس وموافقته المبدئية بإمكانية التخلي عن السيادة على الحرم القدسي ملغية، في إشارة واضحة لمبادرة بيل كلينتون حينها، المتضمنة انسحاب الاحتلال من الأحياء العربية وتقسيم البلدة القديمة، وإبقاء سيادة رمزية لإسرائيل على حائط البراق، وخلق حد أقصى من التواصل الجغرافي لكلا الطرفين، والتوافق على وجود مراقبة دولية لتوفير الثقة المتبادلة.
ومع ذلك فكل الوقائع والحقائق الميدانية تصب في خانة استحالة إمكانية تقسيم القدس الشرقية تحت أي ضغط، ويكفينا هنا لتأكيد هذه الحقيقة العودة إلى تصريح رئيسة وزراء الاحتلال "غولدا مائير" عندما أقدم كيانها على إحراق المسجد الأقصى عام 1969 حيث تقول أنها لم تنم تلك الليلة لتخوفها من تحرك الجيوش العربية والإسلامية وعندما استيقظت صباح اليوم التالي ولم يحدث شيء اطمأنت إلى مستقبل إسرائيل!!.

* مشروع التهويد (القدس 2020)
أُطلق قبل نحو 10 سنوات، وهو أحد أهم مشاريع التهويد وتغليب الوجود اليهودي في القدس، ويرى في العام الجاري 2020 مرحلة فاصلة لحسم هوية القدس لصالحه، خصوصا بعد نقل الادارة الأميركية سفارتها إلى مدينة القدس، واعتراف عرّاب صفقة القرن الرئيس الأميركي رونالد ترامب بها عاصمة موحدة لإسرائيل في 6 ديسمبر 2017.
والهدف العام للمشروع تقليص عدد الفلسطينيين في القدس إلى 25 ألف فلسطيني، مقابل 400 ألف متدين يهودي، في وقت أصبح فيه عدد الفلسطينيين في الأحياء العربية أقلية لأول مرة في التاريخ، ولذا وجد عرب القدس أنفسهم أمام خيارين: إما التهويد والأسرلة أو المغادرة.
وهذه واحدة من معطيات قانون الاحتلال لعام 1973 الذي حدد نسبة عرب المدينة بـ22 بالمائة مقابل 70 بالمائة يهود، لكن رغم كل الأعمال الوحشية التي قام بها الاحتلال، لم يفلح حتى الآن في تغليب الكفة اليهودية، لاسيما في المدينة القديمة، حيث لازال هناك 30 ألف عربي مقابل 4 ألف يهودي، ونسبة الفلسطينيين في القدس بشطريها نحو 35 بالمائة (300 ألف فلسطيني) مع توقع الاحتلال بتجاوزهم 40 بالمائة في العام الجاري 2020 .
ميدانياً، لا تزال مدينة القدس، مدينة طاردة لليهود، وهذه من المفارقات العجيبة، حيث تمت مغادرة نحو 105 آلاف يهودي خلال الفترة 1980- 2005 فقط، وهي واحدة من الإشكاليات الكبيرة المعترضة مشروع التهويد، ما دعا الاحتلال في آب/أغسطس 2007 لاعتماد خطة بقيمة 200 مليون دولار والإقرار في نهاية تشرين الأول 2010 مشروع جديد يقضي باعتبار القدس منطقة ذات أولوية وطنية (مشروع القدس 30 - أ), وهو واحد من 38 قانون عنصري صدرت حتى نهاية 2010، منها 15 قانوناً صدرت في غضون عامٍ واحد فقط من ولاية نتنياهو و23 قانوناً صدرت في العقود السبعة الماضية، الى جانب سلسلة أخرى من القوانين الصادرة خلال الفترة 2010 - 2020.
وكلها تهدف لتحقيق غاية واحدة هي: إكساب مشاريع الاستيطان والتهويد والجدار صفة الشرعية القانونية والسياسية, في حين ينفرد قانون "30 – أ" بإعطاء الضوء الأخضر لتحويل القدس إلى مدينة عصرية جاذبة للسكان والمستثمرين اليهود، على غرار تل أبيب وإقامة سكة حديدية ومستوطنات جديدة فيها، تضم أكثر من 60 ألف وحدة سكنية وتوسيع القائم منها، وزيادة تضييق الخناق على ما تبقى من الفلسطينيين فيها، على أمل أن يسهم ذلك في خفض نسبة عرب القدس إلى 12 بالمائة وليس 22 بالمائة كما كان مُخططاً له بموجب قانون عام 1973، وتالياً خفض نسبة عرب 1948 من 20 بالمائة في 2010 إلى 5 بالمائة في 2020، لأنهم باتوا يشكلون خطراً على أمن واستمرار ووجود الاحتلال, والعمل على اجتذاب نحو نصف مليون يهودي إلى القدس.
ولهذا الغرض فعّل الكيان الصهيوني قانون حسم الهوية (يمين الولاء) وقانون الاستيلاء على أملاك الغائبين والإفصاح عن مشروع الخريطة الجديدة لمدينة القدس العاصمة الأبدية والموحدة/ 2010، وكلها من شأنها إعطاء إسرائيل المسوغ القانوني لضم القدس الشرقية من جانب واحد، في حال نجحت هذه الخطوات، وهو ما لم تجرؤ عليه إسرائيل طول الـ60 سنة الماضية، وما صفقة القرن سوى تحصيل حاصل.
مما سبق نفهم سر توقيت طرح الإدارة الأميركية لصفقة القرن بعد ثلاث سنوات فقط من نقل سفارة واشنطن الى القدس والاعتراف بها عاصمة أبدية للكيان الصهيوني الغاصب، بالتوازي مع تغير المزاج العربي الرسمي وتحديداً مملكة الدرعية الراعية للحرم المكي من القضية الفلسطينية وقضية القدس بشكل خاص وتقدمها صفوف المطبعين وتوظيف كل إمكانيتها للضغط من أجل تنضيج وإنجاح صفقة العار الأميركية.
فهل يُرضِيك يا حبيبي يا رسول الله ونحن نحتفي بذكرى الإسراء، ما يجري في مسراك، بتواطؤ ودعم رعاة المسجد الحرام؟؟.
ووالله لو هب صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله من مرقده لأخذ سوطاً يلهب به ظهور زعماء وقادة أمته، لتفريطهم في القدس الشريف وتواطؤهم مع الكيان الصهيوني اللقيط في كل جرائمه بحق الفلسطينيين، وصمتهم المخزي على مخططات تهويد القدس الشريف والمسجد الأقصى وطمس المعالم الإسلامية في فلسطين المحتلة بأريحية ومباركة سعودية غير مسبوقة.

الاثنين، 16 مارس 2020

الجهاد الإرهاب العنف تداول السلطة

الدكتور العلامة المرتضى بن زيد المُحَطْوَري الحسني، أستاذ الشريعة بجامعة صنعاء، عضو جمعية علماء اليمن
(مركز القدس للدراسات السياسية، المؤتمر الدولي: /نحو خطاب إسلامي ديمقراطي مدني/ عمَّان- الأردن)
بسم الله الرحمن الرحيم
بعد اتصال من السيدة المبجلة/ هالة سالم المدير التنفيذي بمركز القدس للدراسات السياسية، بادرت إلى كتابة ورقة أسطر فيها فهمي للإرهاب، والعنف، والتداول السلمي للسلطة؛ من خلال تجربتي ومعاناتي الشخصية التاريخية، وقد عرفت العنف عن قرب، واكتويت بنار الإرهاب الفكري، والمادي، فلا أحتاج إلى معاناة لأنبش عن ذكريات الإرهاب، والعنف، والاستبداد.
لقد بدأ المسلسل الدامي منذ شاهدت بأم عيني وأنا في سن الثالثة عشرة أو أكثر قليلا حين كنت مختبئًا في جبل شرق قريتي؛ خوفًا من الطائرات التي كانت تقصف المناطق الشمالية من اليمن أيام حرب عبدالناصر، والسعوديين في اليمن، وكانت قُرَانا آهلة بالمزارعين وحيواناتهم ليس لها أي علاقة بالنشاط العسكري، بل كنا في الصف الجمهوري، ومع ذلك لم نسلم من القصف والترويع.
إنما المشهد الذي لا أنساه حين مرت طائرة وقت صلاة الظهر، وقذفت مسجدًا في مدينة المحابشة مكتظًا بالمصلين، وكادت الطائرة أن تلامس سطح المسجد؛ إذ لا يوجد مضادات، فنسفت المسجد بمن فيه، كانوا خمسة وسبعين لم ينج منهم إلا واحد.
المشهد الثاني: يوم كنا بمسجد" القُرانة" مهاجرين لطلب العلم، فأقبلت في الصباح الباكر طائرة سوداء، فألقت من الشرق شريطا كاملا من القنابل ذرع مدينة المحابشة الوادعة المستطيلة في سفح الجبل، فألقيت بنفسي على الأرض؛ تفاديًا للشظايا كما كانوا يعلموننا، وقد كنت متعودًا على إرهاب كهذا، فصارت نيران جهنم الواصلة من الجو عبارة عن ألعاب تصيبنا ببعض الذعر، لكني لم أفر بل ذهبت لمشاهدة آثار القصف، فشاهدت شيخًا عجوزًا فقيرا قاعدا ميتًا بجوار موقد لقلي نوع من الحُبُوب يعتصر منها لقمة عيش جافة له ولأسرته.
وشاهدت طفلا في السادسة من عمره مرميًا في العراء، قد بترت رجله من فوق الركبة، وبقيت معلقة، وهو يئن وينزف، وعنده عجوز تبكي لا تدري ما تفعل له، وأنا مبهوت أعيش الجهل، والوحشة، والمشاعر المؤلمة، لم أقدم لهذا الطفل أي مساعدة، فماذا أفعل؟! فلا إسعاف، ولا وسائل ولو بدائية، ولا شيء، فما زلنا كما خَلَّفَنَا نبيُّ الله نوح عليه السلام.
والأكثر إيلامًا أن تسمع الجماهير المنحطة تهتف لهؤلاء الإرهابيين القتلة من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر: نفديك يا عبدالقاهر.. أو بالروح بالدم نفيدك يا فندم.
إن العنف والقسوة والإرهاب يمارس في هذه الدنيا بصور شتى بعضها أبشع من بعض، فبالرغم من أننا نعاني من فقر الدم، إلا أننا نعتصر ما بقي في العروق بعد الذبح؛ لنهتف بالحياة للجزارين، ولبقاء السفاحين.
إن ثقافة كهذه نبتت أيام الملك العضوض، فقد كان القمع والبطش والاستبداد يقيم بجواره علماء سلطة، يأتون بالمبررات، وينسجون الأعذار لعنف الحاكم، وحدث أن وُصِفَ مؤسس الملك بعد خلافة الراشدين بالمجتهد في إشعال معركة سقط فيها سبعون ألفًا، وتواصل مسلسل العنف، والقتل تحت هذا المسمى، فلا أقل من أن يظفر بأجر واحد.
ثم توالت الأحداث قاذفة بخلافة المسلمين إلى وراثة، أي إن الأرض وما تحويه من جماد وحيوان وساكن ومتحرك مملكة خاصة بالوالي.
في هذه الأجواء الإسلامية المشابهة لنظام هرقل وكسرى، تمخضت الساحة عن حركات إسلامية عنيفة أبرز هذه الحركات قادها أولاد الإمام علي، وكادت الثورات المناهضة لجبروت الاستبداد تنحصر على أهل البيت باستثناء ثورة أهل المدينة على يزيد، وثورة ابن الأشعث ضد عبدالملك بن مروان وعامله الحجاج؛ رغم أن حركته كانت تنتمي ولو روحيًّا للإمام الحسن بن الحسن بن علي( 1). وأما الحركات العنيفة الأخرى فقد كان الخوراج فرسانها.
وسأبين باختصار ملامح العنف، والمسببات، والميزات الخاصة بكل حركة:
الحركة الأولى: بقياة آل البيت:
رفض الإمام الحسين البيعة- والأمة تقاد لمبايعة يزيد بن معاوية كالخراف، وقد مس الحسين نفسه هذا الذل، ومعه عبدالله بن الزبير، وعبدالله بن عمر؛ حين طلب منهم معاوية- مبايعة يزيد وليًا للعهد، فامتنعوا، فقال لهم: إني سأقول غدًا مقالة فأيكم رد علي سيفقد رأسه، فقال معاوية في الحشد، وقال كلامًا في أهلية ابنه وصلاحيته للأمر، وأنه ما دفعه لإقامته وليًا للعهد إلا خوفًا على الأمة من الضياع واليتم.
ثم قال وقد بايعه فضلاء الأمة، وأشار إلى الحسين وزميله، وقد أقام على رأس كل منهم رجلين متحفزين لشدخ رأس من يعترض( 2). وعندما مات معاوية أريد من الحسين أن يبايع طوعًا أو كرها( 3). وهنا يجب التوقف للمقارنة إن جازت بين الحسين ويزيد، إني أرى أن مجرد اسم الحسين قد أصبح رمزًا لكل ما في البشر من نبل وخير، وجدير بحفيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون كذلك، واسم يزيد في المقابل رمزللإنسان السيء بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
فالحسين: عالم، تقي، ورع، زاهد، عارف بالله، كريم، رحيم، متواضع، شجاع، مؤهل تأهيلا عاليا، وبالمقابل شخص مغتصب أمر الأمة، جاهل، ماجن، عاطل.
فالثوات المسلحة بقيادة آل البيت، بدأ بالحسين، ثم زيد بن علي،وابنه يحيى ، ثم محمد بن عبدالله النفس الزكية، وأخوه إبراهيم، والحسين الفخي، ومحمد بن إبراهيم طباطبا، وغيرهم.
كانت محل رضى واحترام الأمة وعلمائها حتى وإن لم يتمكن الكثيرون من الاشتراك في تلك الثورات؛ خوفًا من البطش الذي يهلك الحرث والنسل.
ورغم ذلك فإن الإمام أبا حنيفة رحمه الله كان يفتي بالقتال مع الإمام زيد، وأرسل له مالا( 4)، وأفتى الإمام مالك رحمه الله بعدم شرعية البيعة لأبي الدوانيق ثاني ملوك بني العباس( 5)، وأوجب القتال مع الإمامين: النفس الزكية، وأخيه إبراهيم.
وكان الإمام الشافعي رحمه الله ضمن خلية يشرف عليها شيخه إبراهيم ابن محمد بن أبي يحيى، يتولون الدعوة لمبايعة الإمام يحيى بن عبدالله بن الحسن صنو محمد بن عبدالله النفس الزكية ضد هارون الرشيد( 6).
وهذا يبرهن على رشد الثورات ضد الظلم، والوثوق بقادتها لجلالتهم، ومكانتهم الدينية، وبلوغهم في العلم مبلغا يلوي إليهم الأعناق، ويؤهلهم للجلوس على منصة المرجعية العليا، أضف إلى ذلك مكانتهم الدينية، وقربهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لكن الأمراء المستبدين، والملوك الظالمين، رغم قبح وبشاعة سيرتهم يسيطرون على الرجال والثروة- لم لن يستهينوا بخطر أبناء علي فحاربوهم بضراوة. وكان الناس يرونها حربًا بين الآخرة والدنيا.
ونحن نعلم أن الناس على دين ملوكهم، وهم ميالون إلى الدنيا إلا من عصم الله.
         رأيت الناس قد ذهبوا        إلى من عنده ذهبُ
         رأيت الناس منفضة          إلى من عنده فضة
          رأيت الناس قد مالوا         إلى من عنده مالُ
الحركة الثانية: بقيادة الخوارج
فقد كانت المثال البارز للعنف الأعمى، والفكر التكفيري، والتطرف المرعب؛ إذ نجم شرهم في ملامح حرقوص بن زهير السعدي( 7)، وهو ذو الخويصرة، وذو الثدية الذي قتل في النهروان، ذلك الرجل الذي أتصوره حليق الرأس، كثيف اللحية، قصير القميص، منتفخ الأوداج، يترنح جهلا، وغرورًا، وخفة عقل( 8).
لقد اقترب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقسم غنائم هوازن في غزوة حنين فقال: اعدل يا محمد فإنك لم تعدل.. !! هكذا خاطب نبي الله بفظاظة وغلظة ووقاحة، فاستاء رسول الله وتغيرت ملامح وجهه؛إذ استشعر في هذا البدوي نذير شئوم، وطليعة قوم قادمين، فقال: ((ويحك ومن يعدل إن لم أعدل))؟!
ثم أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنه يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، ويقرأون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية))( 9).
ظهر هؤلاء أيام خلافة الإمام علي، وتحققت نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كانوا كما روى البخاري ((يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد))( 10). لقد جاءوا حقًّا بعنف أعمى، وإرهاب فكري وعملي، لم تستطع أي جماعة أن تزيد عليه إلا في امتلاك الأسلحة الفتاكة.
كان الخوارج قبل أن يصيروا خوارج عباد العراق، وقراؤُهم، وكانوا من جيش علي في حربه معاوية في صفين؛ والسبب في اختيارهم سلوك العنف المفرط، والتطرف الشديد غباؤهم، وسطحية تفكيرهم، والتلاعب السياسي بعقولهم.
فلقد أدرك معاوية أنه على وشك الهزيمة، فشاور عمرا بن العاص، فأشار عليه بجلب خمسمائة مصحف، من ضمنها مصحف بيت المقدس الأعظم، وترفع على رؤوس الرماح، ويصيح حاملوها: هذا كتاب الله حكم بيننا وبينكم.. يا أهل العراق، فإنهم إن قبلوه اختلفوا، وإن ردوه اختلفوا.
 وكان ما توقعه ابن العاص؛ إذ أقبل ما يقارب عشرين ألف من جند علي قد أثر السجود في جباههم، شاهرين سيوفهم قائلين للإمام علي: أجب القوم إلى تحكيم كتاب الله، فقال لهم وقد أدرك حجم المكيدة: إنها كلمة حق يراد بها باطل( 11)، إنهم ليسوا أصحاب دين ولا قرآن، لقد قاتلتهم على القرآن كافرين، واليوم أقاتلهم مفتونين، أعيروني سواعدكم ساعة، فما بقي فيهم إلا كلعقة كلب، فلم يزدادوا إلا عنادًا وبلادة، وإصرارا على قبول التحكيم.
فرضخ علي بعد أن هددوه بأن يسلموه لمعاوية إن لم يستجب، فعين معاوية عمرًا حكما، وعين علي ابن عباس، فاعترض أصحابه، واختاروا أبا موسى الأشعري، فانتهت المهزلة بخديعة مريرة، وفضيحة مدوية؛ إذ صعد أبو موسى وخلع عليًّا بطيب خاطر، فصعد وراءه عمرو وقال: قد خلع صاحبه، وأنا أوافقه، وقد أثبت صاحبي معاويه، فهو ولي دم عثمان وأحق بالأمر من علي، فخرج الخوارج نادمين مرددين كلمتهم: لا حكم إلا لله، وحكموا على أنفسهم وعلى المجتمع بالكفر، ثم إنهم تابوا، أو أسلموا من جديد، وطالبوا عليًّا بالاعتراف بالكفر ثم التوبة منه، وقال: قد نصحتكم وحذرتكم فعصيتموني، ثم إنها معصية لا تبلغ بصاحبها الكفر، فتوبوا وعودوا لنقاتل معاوية، فأصروا على موقفهم والهتاف بتكفير علي، وترديد شعارهم: لا حكم إلا لله( 12).
وكرر علي حكمته الشهيرة: "كلمة حق يراد بها باطل، إنه لا بد للناس من إمام يأخذ بيد الظالم، وينتصف للمظلوم، ويقوم على مصالح الناس، والقرآن" قد دعا إلى التحكيم في شأن خلاف بين الزوجين، فما بالكم بطائفتين ؟! لكنهم كما قال الشاعر:
        لقد أسمعت لو ناديت حيًّا                 ولكن لا حياة لمن تنادي
        ولو نارا نفخت بها أضاءت              ولكن أنت تنفخ في رماد
وظل الإمام علي يعاملهم مثل سائر الناس ما داموا لم يحدثوا حدثًا يتعدى الرأي والقول، وحرص على استرجاعهم بالحوار والإقناع، وكاد أن ينجح لولا رجال معاوية في صف علي كالأشعث بن قيس ونحوه أفسدوا كل شيء.
فخرجوا يقطعون السبيل، ويخيفون الآمنين، ويقتلون من لم ير رأيهم.
ومن عجيب أمرهم أنه مر بهم عبدالله بن خباب الصحابي بن الصحابي وفي عنقه المصحف، ومعه امرأته حامل، فسألوه عن رأيه في علي؟ فأجابهم بأنه إمام راشد، وأعلم بالله منكم، وأشد توقيا على دينه، وأنفذ بصيرة. فقالوا: إنك تتبع الهوى، وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحد، فأخذوه فكتفوه، ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حبلى على وشك الوضع حتى نزلوا تحت نخل فسقطت منها رُطَبة فالتقطها أحدهم فمنعوه من أكلها، وقالوا: بغير حلها، وبغير ثمنها، فلفظها وألقاها من فمه، ثم أخذ سيفه، فأخذ يمينه، فمر به خنزير لأهل الذمة فضربه بسيفه، فقالوا: هذا فساد في الأرض، فأتوا صاحب الخنزير فأرضوه، فلما رأى ذلك منهم ابن خباب قال: لئن كنتم صادقين فيما أرى فما عليَّ منكم بأس؛ إني لمسلم! ما أحدثت في الإسلام حدثا، ولقد أمنتموني، قلتم: لا روع عليك! فجاءوا به فأضجعوه فذبحوه، وسال دمه في الماء، وأقبلوا إلى المرأة، فقالت: إنما أنا امرأة، ألا تتقون الله؟! فبقروا بطنها، وقتلوا ثلاث نسوة من طيئ، وقتلوا أم سنان الصيداوية( 13).
وقد قرأت من عجائبهم المتلاحقة أن قافلة مسافرة فيها واصل بن عطاء رأس المعتزلة وقعوا في يد خوراج أمثال هؤلاء، فأيقنت القافلة بالهلاك، فقال واصل: دعوني وإياهم ولا يكلمهم غيري، فانبرى لهم وقال: ما تريدون منا؟ فقالوا: من أنتم؟ فقال: قوم مشركون نطلب جواركم، فنحن خائفون . فقالوا: مروا بسلام. فقال: ليس ذلك لكم، وقد قال قرآنكم: ( وَإنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّىَ يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَعْلَمُونَ )[التوبة:6] فلما سمعوا ذلك ذهبوا بأجمعهم لحراسة القافلة حتى أوصلوهم منازلهم( 14).
زحف علي لتطويقهم، ولم تطب نفسه بمهاجمتهم حتى دعاهم على إلى الحوار، وأزال الشبهة التي قذفوها في وجهه حين قالوا: لقد تنازلت عن إمارة المؤمنين عند كتابة وثيقة التحكيم، حين امتنع ابن العاص من قبول كتابة علي أمير المؤمنين، وقال: لو اعترفتُ به أميرًا للمؤمنين لما قاتلته. فقال: قد وقع مثلها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية، وأنا كاتب الوثيقة حين كتبت: هذا ما تصالح عليه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو، فاعترض سهيل وقال: لو أعرف أنك رسول الله لما حاربتك، بل اكتب اسمك واسم أبيك، فأمرني رسول الله بمحوها فلم تطب نفسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أرني مكانها))، فمحاها بيده الشريفة، وقبلها اعترض عمرو على "بسم الله الرحمن الرحيم" وقال: اكتب باسمك اللهم( 15).
فانضم إليه منهم ألفان، وصم الباقون آذانهم، وقالوا: لا تسمعوا له فإنه من قوم قال الله فيهم: ( بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ )[الزخرف:59]. فلما أعيته الحيلة قاتلهم وقاتلوه فلم ينج منهم سوى ثمانية.
         إذا لم يكن إلا الأسنة مركب           فليس على المضطر إلا ركوبها
إن سلوك الخوارج ضد إمام عادل ورع منصف يحترم حقوق الناس، ويحترم واجباتهم .... بإجماع المسلمين والإنسانية جمعاء، وهوالعنف- والإرهاب، والتطرف.
هل سمعتم برئيس أو ملك يوصي بخصوم شرسين كالخوارج كانوا سبب متاعبه وفشله في القضاء على تمرد معاوية وتمزيق جيشه وإنهاك قواه.
لكنه يقول: لا تقاتلوا الخوارج بعدي؛ فليس من طلب الحق فأخطأه ـ يعنيهم هم- كمن طلب الباطل فأدركه-يعني معاوية-(16).
إني وأنا أمقت مسلك هؤلاء تجاه علي؛ ليقيني بعدالة علي، أُحَمِّلُ معاوية المسئولة الكاملة، فهو السبب في جعل هؤلاء يفقدون صوابهم، وأحسوا أنهم قد انتقصت رجولتهم،واهتز دينهم إثر تلك الخديعة المذلة، كيف يصبح المصحف الشريف ألعوبة؟ كيف يصبح القرآن الذي حمل علىٌّ لواءه، وقاتل المشركين من أجله من أول يوم مع رسول الله سببًا في هزيمة علي وتمزيق جيشه؟!
ألا يحق لنا أن نعيد سبب الحركات المتطرفة إلى ألاعيب السياسيين؟!
أرجو أن تعيروني أسماعكم لأروي لكم ما أنا فيه شاهد حال، اكتويت بناره، وما زلت:
المشهد الأول: جاءنا قبل أكثر من ربع قرن أناس لحاهم وافرة، وعمائمهم بيضاء، وعقولهم خفيفة، ودماؤهم ثقيلة- فأثاروا فينا الاختلاف، وزرعوا الفتنة، وغرسوا الكراهية، وكانت معاركهم تدور حول الإرسال، والضم، والتأمين، وحي على خير العمل، والتشيع، ورؤية الله، وجلوسه تعالى على العرش، ونزوله في الثلث الأخير إلى السماء الدنيا، وخلق القرآن، وإباحة قراءة القرآن وكتابته ومسه للحائض والجنب، والمسح على الخفين، والخروج من النار، وكفر أبي طالب، وتمجيد أبي سفيان وأحفاده، وهلم جرا، وكان دعاؤهم: اللهم أهلك الشيعة والشيوعية.
علما أن التشيع الزيدي في اليمن لا يَعْدُو تقديم علي على سائر الصحابة مع توليهم ومحبتهم، والعصمة للخمسة أهل الكساء لا تعني العصمة الخاصة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
بل هي مثل التطهير الذي جاء في الآية: ( إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيــراً )[الأحزاب:33] فالعصمة تعني أن عليا وفاطمة والحسنين لا يرتكبون المعاصي، هذا كل ما في الأمر.
ولأني مثل غيري نقدس هؤلاء الأطهار، ونضعهم كالكحل في عيوننا، ولي رأيي في العصمة، إلا أني لست منزعجًا من عصمة الزيدية، فأنا أعرف أنها ترادف: أطهارا، أولياء، تقاة.
لقد واجهنا عنتا، وإرهابا فكريا وماديا، وعنفا امتد إلى المساجد، والبيوت، والأسواق، والمجالس، والمدارس، والجامعات.
ونتحسس والعياذ بالله أن هؤلاء مشحنون كراهية وحقدًا، وسينفجرون قنابل في وجوهنا أجارنا الله إن لم يتداركنا الله برحمته.
ولم أسمعهم يتحدثون عن الصهيونية وخطرها، وإنما شغلهم الشاغل الشيعة، والمراد بهم الزيدية، وحين نقول لهم: اجعلونا في الأخير وابدأوا بإسرائيل، يقولون: لا بل أنتم أخطر على المسلمين من اليهود والنصارى.
وكم أسرد من المهازل والكتيبات التي لا تعدو خطة مرسومة لتدمير الذات، وبعثرة الطاقة، وشغل المواطن العربي المسلم البائس يمثل هكذا ترهات:
1- الصواعق في تحريم الأكل بالملاعق لأبي قتادة.
2- الصواعق الرعدية في كفر الشيعة الزيدية لابي عبدالرحمن.
3- إرشاد الغبي إلى وجوب خراب قبة النبي لأبي حفص.
4- إعلام القاري في نزول الباري لأبي حيجنة.
وقد سمعت متحدثًا بجوار قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتحدث عن بدعة القبة، فتمنيت لو أن عفريتا خنقه، ثم رماه في البحر الميت، يا هؤلاء .. بعد أن تنحر رقبة المسجد الأقصى سنتفرغ لقبة النبي !!!
إن تفرغ هؤلاء وزرعهم في المجتمعات لتعكير صفوفها لهو إرهاب تنتجه حكومات، وتزرعه مخابرات محلية وإقليمية وأجنبية؛ بغرض: فَرِّقْ تسد،وبغرض: تصدير الإيذاء من بلد لآخر.
إن الأمر يشبه تجارة العبيد، ولكن بطريق آخر: ضحايا تربية خاطئة، وشحن لا يمكن التحكم فيه؛ لأنه قائم على لغة الدين. واستخدام سلاح الدين أفتك من الأسلحة الذرية.
المشهد الثاني: كنت ألحظ حماسا منقطع النظير في إرسال الشباب إلى أفغانستان للجهاد ضد الملحدين المحتلين الروس، وكانت المساجد مشتغلة بذكر فضيلة الجهاد، وبذل الروح والمال في سبيل الله.
فُتِحَ الضوء الأخضر من نافذة البيت الأبيض، وطُلب من القيادات العربية أن تنشط في إحياء مآثر الجهاد سنام الإسلام، والنبراس المشرق في غابر الأيام، فأقسموا عند الحجر الأسود على الطاعة والإخلاص للبيت الأبيض.
تدفقت كتائب المجاهدين من الشباب، وكان معظمهم يُنْتَزَعُ بدون علم أهله، وبعضهم يذهب وأمه وأبوه يبكيان.
وقد أثرى مشائخ الجهاد عندنا ثراء فاحشا من هذه التجارة، وأثروا من صناديق التبرعات المفتوحة لالتهام دعم الجهاد الأفغاني المبثوثة في كل زاوية من زوايا المساجد، ولم تخل دعامة من صندوق ربط بها بسلسلة من حديد، يفتحه خطباء المساجد –أعني أمناء الصناديق- كل يوم ثلاث مرات، بين التهليل والتكبير بالنصر الكبير –أقصد بالصيد الوفير- حتى حمامات المساجد لم تسلم من صندوق، ناهيك عن المرافق الأخرى.
والناس عندنا طيبون متدينون مغفلون، يستطيع أي ممثل بلحية طويلة، ودمعتين، وشيء من الحشرجرة، وتلاوة بعض آيات الرحمن في جهاد الأفغان، وهي كتيبات تحكي أن بعض المجاهدين أخذ كفًّا من تراب ورماه على دبابة فاشتعلت، وبصق آخر على قاعدة صاروخية فصارت رمادًا، وأشار ثالث بإصبعه الوسطى صوب قاذفة قنابل فتناثرت، ووقع الحطام على رؤوس الجنود الروس، ولم يصب المجاهدين منه إلا ما يشبه قطع الحلوى والشكولاته السويسرية، مكتوب عليه: ( كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيّامِ الْخَالِيَةِ )[الحاقة:24].
لقد كنت أحذر كثيرًا من فوق منبر المسجد في خطبة الجمعة من هذا الجهاد الذي باركته أمريكا، ودعمته الدول العربية بالمال والرجال، فلماذا لم يهتف أحد بالجهاد ضد الصهاينة المحتلين لفلسطين، الجاثمين على الأقصى.
يعلم الله كم بح صوتي مستشعرًا عواقب وخيمة بعد تنفيذ المهمة الأمريكية، وكنت أقول: إن الأفغاني يساوي خمسة يمنيين طولا وعرضًا، وهم مقاتلون أشداء وليسوا بحاجة لجلب الأبرياء الذين نيتهم الجهاد وعشق الشهادة، ولا يدرون شيئًا عن المؤامرات.
لكن الذي حدث كان كارثة، فبعد أن انبرمت روسيا، وتفتت الاتحاد الشيوعي، وزرعت المخابرات العالمية والإسلامية والعربية ما تريد زرعه كل حسب مخططه، تركوا المجاهدين لمصيرهم الأسود.
وتحولوا من مجاهدين شرفاء إلى مجاهدين إرهابيين، وسموهم العرب الأفغان، وأضحوا خطرًا على شعوبهم، وعلى العالم بأسره، وثقفوهم على التعصب والجمود، والتحجر، وكراهية الآخر.
واستوعبت بعضهم بعض الأنظمة؛ لغرض تصفية خصومها، وتنفيذ مهمات خطرة، لكن السحر انقلب على الساحر، وفلت الزمام، وخرج المارد من قمم سليمان.
كم آلمني أن يختطف من بين يَدَيَّ طلاب أعزاء كرام علمتهم مبادئ دينهم المتسامح المنصف، ومن ضمنهم "ياسين" الخجول المؤدب الذي كان يبتسم بحياء ورقة كالنسيم العليل، وكم كانت صدمتي حين لقيته بعد أن عاد؟ وياليته ماعاد! ينظر شزرًا، ويختزن لؤمًا وحقدًا، ويتحدث عني بوقاحة وقلة أدب، لا أدري ما سبب ذلك كله إلا ما أدريه عن تشنج الخوارج. يتمنى "ياسين" لو ينفجر قنبلة في وجهي لتطير روحه إلى الجنة، ويعجل بروحي إلى الجحيم. على طريقة الذين فجروا ويفجروا أنفسهم في مساجد العراق وشوارعها، ووسط حفلات الزفاف بفنادق عَمَّان.
مالذي جرى، ما دهاك؟ ويجيب بمشقة من شدة الغيظ: أنتم بحاجة لإبادة، ونحن سنبيدكم عندما نؤمر بذلك .... يالطيف !! من أنتم، ومن نحن؟!
أعاذنا الله من شرك أيها المجاهد الحقود، وعوضنا عن مصيبتنا فيك وفي أمثالك، ولا سامح الله من غرس في قلبك الشوك، وحولك من نسيم إلى سموم، ومن بلسم إلى علقم، كيف صرتم أخِفَّاء الهام، سفهاء الأحلام؟
إن هذا اللون من البشر كالقنابل مستعدة للانفجار حسب رغبة المبرمجين لها، فهي تنفجر أحيانًا في مخزن ذخيرة الأنظمة: أحيانا بقصد، وأحيانًا بدون قصد، وأحيانا تنفجر في مستودع الأمريكان، أو في مساجد الشيعة، أو في مناسبات العزاء، أو الأفراح، أو الأسواق الشعبية.
الصورة مشوشة، والتشخيص عسير لحركات إسلامية مضطربة المزاج، متأثرةبالعوامل السياسية والدينية والاقتصادية.
والمثال الأكثر وضوحًا حركة محمد بن عبدالوهاب في السعودية، وكيف استفاد ابن سعود من عنفها وتعصبها، وتوجيه ضراوتها لإبادة المشركين الموحدين، وهم في حساب التوجيه السياسي لتصفية الخصوم، وتوسيع رقعة السلطان.
ولما أكمل بهم الملك عبدالعزيز رحمه الله آخر المشوار، وأحس بضرورة كبح جماحهم، وبناء دولة مدنية حصلت مصادمة، ثم أعقبها ترويض وتهدئة، وساعد على ذلك ثقافة وجوب طاعة ولي الأمر، وعدم الخروج عليه ما أقام الصلاة.
وقد كان للوهابيين دور مؤثر في نشر ثقافة مجتمعهم في كثير من بلدان الله، أسهم ذلك مع الغنى الفاحش في تعاظم النفوذ السياسي.
ومن أكثر البلدان تأثرًا اليمن؛ لقربها، وفقرها، وجهلها. وتغلبت الحركة الوهابية اليمنية على تنظيم الإخوان، أو أن الإخوان وجدوا السعودية أدسم فَخَفَتَ بريق الإخوانية.
كان مشروع النشاط الإسلامي هذا ماثلا كما كنا نلاحظ في:
1- دحر الشيعة والشيوعية، والمراد بالشيعة هم الزيدية، والمراد بالشيوعية أبناء جنوب اليمن.
2- الصوفية، والمراد بهم الشافعية.
3- مشروع المكارمة، وهم الإسماعلية.
والخلاصة: فقد أدخل خطابهم المجتمع اليمني في دوامة الصراع، والفتن، والنعرات، ورغم كل ذلك فقد تقدم مشروعهم تقدمًا كاسحاً لعدة أسباب:
السبب الأول: دعم السلطات الشمالية لهم؛ ليكونوا عونًا في الحرب ضد اليسار، والأهم من كل ذلك دق المذهب الزيدي وتهشيم عظامه؛ لأنه مذهب الخروج على الظالم، وهذا مبدأ مزعج حتى لملوك الزيدية أنفسهم، كذلك دق الهاشميين الذين ما زال الكثير من اليمنيين يتشيعون فيهم.
السبب الثاني: دعم السعودية اللامحدود رسميا وشعبيا.
السبب الثالث: تعلق الناس بالدين.
وكان هؤلاء يجيدون التغني بالقرآن بأصوات تطرب السامعين، وتمديد وتمطيط الأذان، والالتزام بالزي الإسلامي من قميص ولحية وافرة،وسواك لا يفارق الفم إلا أوقات الأكل.
كما نجحوا في الإلقاء الخطابي؛ بحيث تتناغم ملامح الوجه مع حركات اليدين، ورذاذ الريق، والأخطر من ذلك:قدرتهم على البكاء بزفير وشهيق، بل ونهيق أحيانا.
وفي المقابل استيقظ الشافعيون والزيديون، ودخل في خط المواجهة الإماميون، وصارت المواجهة إسلامية إسلامية حسب ما رسمه المنتجون والمخرجون، ونسيت الأطراف مبادئ الأخلاق، وأدبيات الإسلام، وغابت عن الأذهان معاناة الناس تماما.
وصرنا بهذه الصورة البائسة الجافة نمثل دور الحمير؛ لأننا قبلنا الاستحمار، فطائفة الزيدية تناضل من أجل بقاء "حي على خير العمل" ، وأحقية علي في الخلافة، وحصرها في البطنين. والصوفية تدافع عن فضائل أهل الطرق. والوهابية مهتمة هذه الأيام بفضائل الصحابة، وخاصة معاوية، وكذلك إرشاد الناس إلى مساوئ الشيعة، وإهدار حرمتهم وحقهم في الحياة.
وكل فرقة تنقسم إلى فرق، وكل مزقة إلى مزق، فالسلفية بمثابة جناح متشدد يحرم الانتخابات، ويدعو إلى وجوب الطاعة المطلقة لولي الأمر.
وبهذا الصورة الداعية للأسى جعلت الشعوب المسلمة التواقة إلى الوجه الإسلامي البشوش تفر إلى سلطان الشياطين، وتنسحق تحت وطأة الظالمين، وإن ظهرت ومضة هنا، أو بارقة هناك تنجح فيها حركة إسلامية، فهي إما لأن تلك الحركة رشيدة عرفت الباب إلى قلوب المجتمع من خلال تقديم الخدمات الماسة، وتحسس المشاكل والآلام، وتميزت بالنزاهة، ونظافة الكف، وطهارة السلوك، والتضحيات الجسام كحركة حماس، أو قباحة النظام المفرط كحركات أخرى.
وأنـا أقترح للحركات الإسلامية برنامج عمل تجعلها أكثر قبولا:
أولا: التعامل مع المجتمعات كما تعامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم جاء المدينة، وقبل بكل الفئات من غير المسلمين كرعايا للدولة الإسلامية، فما بالك بالتعامل مع أبناء دين واحد؟! فلا بد من القبول بالآخر، واحترام الرأي المخالف.
ثانيا: إغلاق أبواب التكفير، والتفسيق، والتبديع، والنبز، والغمز، واللمز.
ثالثا: فك العزلة التي وضعت الحركات الإسلامية فيها نفسها، والخروج من الطوق الذي ضرب عليها؛ نتيجة القمع والمنع، فرسخ في ذهنية أعضاء الحركات أن الإسلام حكر عليها، والأخوة الدينية لا تتعدى الجماعة.
رابعا: فتح باب الاجتهاد، ومعالجة مستجدات العصر، وعدم الإصرار على التعامل مع نصوص وردت على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالها.
الدعوة والخطاب الإسلامي والجهاد والتطرف والعنف:
الدعوة التي أراها جديرة بالاحترام هي دعوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الملتزمة بأدب القرآن ( ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ )[النحل:125]
عودوا معي إلى بدايات الرسالة يوم صعد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم الصفا ونادى: واصباح قريش، فلما اجتمعوا إليه قالوا: ما بك؟ فقال: ((أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي))؟ قالوا: نعم، فما جربنا عليك إلا صدقا. قال: ((فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)) ( 17).
هل سمعتم بكلام أعذب من هذا؟ وهل عثرتم على أسلوب أرق وألطف؟ حتى وقاحة أبي لهب، وفظاظة أبي جهل، ومكر أبي سفيان، لم تُخْرِجِ النبي الداعية من وقاره، وعندما قال أبو لهب: تبًا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ لم يرد عليه حتى تولى الرد قاصم الجبارين: )( 18) واصل الحبيب الكريم دعوته إلى الله برفق وصبر، فانساب نداها إلى قلوب كثيرة، واستنشق شذاها مؤمنون ومؤمنات، فما كان يسمع كلامه العذب الجميل إنسان إلا وأسلم، ولولا أنهم يضعون أصابعهم في آذانهم لأسلموا جميعا.
      فبما رحمة من الله لاَنَتْ              صَخْرةٌ مِنْ إِبَائِهمْ صَمَّاءُ
      رَحْمَةٌ كلُّهُ وحزمٌ وعزمٌ                ووقارٌ وعصمةٌ وحياءُ
تعرض لصنوف الأذى فاحتسب، وعذب المؤمنون وفتنوا فاعتصموا بالله، وثبتوا مع نبيهم وعلى دينهم كالجبال الراواسي، إلا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يترك أتباعه فريسة لغلاظ الأكباد، فبحث لهم عن مكان آمن، فوجده وراء البحر عند النجاشي ملك الحبشة، فأمرهم بالهجرة فهاجروا، وكانوا رسل سلام عالميين.
شاهد الملك النجاشي رحمه الله ملائكة في صور بشر، وعرف الإسلام عن قرب، فأسلم، ولو أن القارة السمراء حظيت بمثل جعفر بن أبي طالب وإخوانه وأخواته من المهاجرين لأسلمت عن بكرة أبيها.
ولو ظفرت أوربا بمثل مصعب بن عمير لدخل الناس في دين الله أفواجا، بخطابه الرصين، وعقله الراجح، وسلوكه الجميل، فقد ذهب أسعد بن زرارة بمصعب إلى دار بني عبد الأشهل، وكان سعد بن معاذ، وأسيد بن حُضَير سيدي قومهما، وكلاهما مشرك، فلما سمعا بمصعب، قال سعد لأسيد: انطلق إلى هذين الَّذَين أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما، فلولا أن أسعد بن خالتي لكفتيك أمرهما. فأخذ أسيد حربته ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فأصدق الله فيه. قال مصعب: إن يجلس أكلمه، فوقف عليهما متشتمًا غاضبًا وقال: ما جاء بكما؟ تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرًا قبلتَه، وإن كرهته كُفّ عنك ما تكرهه؟
قال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن؛ فقالا: فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهُّلِه، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله! فأسلم، ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، إنه سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد مُقبلاً، قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به؛ فلما وقف قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسًا وقد نهيتهما، فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حُدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك؛ ليُخفِرُوك.
 قال: فقام سعد مُغضبًا مبادرًا، تخوفًا للذي ذكر له من بني حارثة، فأخذ الحربة من يده، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئًا، ثم خرج إليهما، فلما رآهما مطمئنَّين، عرف أن أسيدًا إنما أراد منه أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتمًا، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة، أما والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رُمتَ هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نكره؟- وقد قال أسعد بن زرارة لمصعب بن عمير: أي مصعب، جاءك والله سيد مَن وراءه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان- قال: فقال له مصعب: أوَ تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرًا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره؟
 قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام .... فأسلم، ثم أخذ حربته، فرجع إلى قومه، قال: فلما رآه قومه مقبلاً قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأوصلنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله وبرسوله، قالا: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلمًا ومسلمة.
فأتمني على من يرغبون في الدعوة إلى الله أن يقرأوا قصة مصعب وأسعد جيدًا، وكيف استطاع مصعب وهو غريب أن يستدرج سيدي قومهما في مجلس واحد؛ بحسن أدبه ولطفه: ألا تجلس فتسمع، فإن رضيت وإلا رفعنا عنك ما تكره! أي عاقل يسمع مثل هذا ولا يسعه إلا أن ينصت.
إن الخطاب الإسلامي المحلي والإقليمي والدولي ينبع من معين واحد (اذْهَبَآ إلَىَ فِرْعَوْنَ إنّهُ طَغَىَ* فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لّيّناً لّعَلّهُ يَتَذَكّرُ أَوْ يَخْشَىَ )[طه:43-44]، ( وَلاَ تُجَادِلُوَاْ أَهْلَ الْكِتَابِ إلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ )[العنكبوت:46]، (قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إلَىَ كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إلاّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ )[آل عمران:64]، ( قُلْ هَـَذِهِ سَبِيلِيَ أَدْعُو إلَىَ اللّهِ عَلَىَ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )[يوسف:108]. رسائل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الملوك.
فأين نحن من الخطاب التكفيري المتعجرف الذي ابتليت به النحل والملل الإسلامية وأصبح التكفير والتفسيق إسلاميا إسلاميا.
أما خطابنا اليوم نحو اليهود والنصارى فهو هكذا: اللهم أهلك اليهود والنصارى، وأحرق مزارعهم، وأغرق سفنهم، وأسقط طائرتهم، ويَتِّمْ أبناءهم. ورغم هذا الجفاف، والجفاء، وجمود الفكر، وغيبوبة التفكير، فما زال الإسلام أوسع الأديان انتشارًا في ديار الغرب.
حين وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع عتاة المشركين إلى طريق مسدود تآمروا على قتله. هاجر إلى الدار التي هيأها من قبل، وهاجر إليها أصحابه، وأصبح الأمر مختلفًا؛ فمن غير المجدي أن يعالج مريض بالدهان والمهدئات، وهو محتاج لعملية استئصال ما فسد من جسده؛ لانه لو بقي لأفسد الجسد كله. ( أُذِنَ لِلّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنّ اللّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ )[الحج:39]، (الّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقّ إلاّ أَن يَقُولُواْ رَبّنَا اللّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لّهُدّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنّ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ إنّ اللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ )[الحج:40].
فالجهاد ضد المشركين رغم شراستهم لم يخلف في تاريخ جهاد النبي كله سوى بضعة مئات، والنبوة المحمدية حدثٌ عالمي هز أركان المعمورة، ولو لم تكن للنفوس حرمة عظيمة في دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحصد ملايين القتلى، لكنه عليه السلام آثر آن يطلق أسرى معركة بدر مقابل عطاء مالي، وهي أول فرصة لتأديب قريش حتى عاتبه الله، فقال: ( مَا كَانَ لِنَبِيّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتّىَ يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الاَخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )[الأنفال:67].
فالجهاد إنما هو ضد الاضطهاد، ويوجب الإسلام جهاد المسلمين إن اضطهدوا ذميا أو بوذيا، أو سعوا في الأرض فسادا، فالهدف منه تحقيق العبودية لله بترك الحرية لعباده.
ولو أن المشركين تركوا محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم يتكلم بحرية، وطلبوا منه أن يترك من لا يريد الإسلام وشأنَه مُقَابِلَ أن يتحرك بحرية على قاعدة الإقناع بالطريقة السلمية لما تعرض لهم بسيف ولا رمح؛ لأنه يعلم أن الشرك سيذوب كالملح في الماء، وهم يعلمون ذلك؛ ولذلك وقفوا في طريقه، واضطهدوه؛ فلا يجوز للشرك بهذه الصورة أن يبقى، فهو انحراف بشري، وسوأة إنسانية.
ثم إن الجهاد وإن اشتهر إطلاقه على قتال الكفار في عرف الفقهاء إلا أنه متعدد الجوانب.
فالاشتقاق اللغوي يفيد أن الجهاد بذل الجهد، فالمشقة وبذل ما في الوسع من لوازم مقومات الجهاد.
والجهاد تضحية بالنفس، والمال، وهما الأكثر بروزا في معاني الجهاد، إلا أن هناك جهاد النفس الذي سماه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الجهاد الأكبر.
والجهاد بالقول: وهو جهاد الدعوة بالنصح والإرشاد، والتعلم والتعليم، والجهاد في الحقل الصحي، والزراعي، والصناعي، وكل ماله علاقة برفعة شأن الأمة الإسلامية أو الإنسانية.
العنف
العنف: هو أعلى درجات الإيذاء، وهو درجات، وقد يكون مشروعًا، وقد لا يكون كذلك، فيصدق على الجهاد بالسلاح أنه عنف وهو مشروع، ويصدق على الإرهاب أنه عنف وهو غير مشروع.
والدين الإسلامي الحنيف يكره العنف قطعًا، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له شروط منها: (أنه لا يخشن إن كفى اللين) بمعنى أن الخشونة ليست مباحة إن كفى اللين بالقول، أو التأديب اليسير بالسوط، أو كما يحكى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يؤدب بالسواك.
وهذا الأدب الجم، والأسلوب الراقي في احترام الحياة والأحياء مفقود في عالم المسلمين خاصة: أفرادا، وجماعات، ودولا، فما تكاد تنشب مشادة حتى تستخدم بين المتخاصمين كافة أنواع الأسلحة: كالخناجر، والمسدسات، والقنابل، والبوازك ...الخ، وهل الدول العربية تكدس السلاح للعدو المشترك؟ إنها تشتريه للجوار وللإخوة في الدين واللغة.
وفي الختام دعونا نتفاءل وننتهز مثل هذه اللقاءات، ولا نضيع فرصة التعاون الجاد، وليكمل أحدنا الآخر.
الهوامش
 ([1]) ينظر المصابيح لأبي العباس الحسني ص 382، والحدائق الوردية 1/236.
([2]) الإمامة والسياسة ص 144-155.
([3]) ينظر في معناه الطبري 5/303.
([4]) ينظر مقاتل الطالبيين ص 40، وكذلك أيد ثورة إبراهيم بن عبدالله. ينظر مقاتل الطالبيين ص 364.
([5]) ينظر الطبري 7/560، ومقاتل الطالبيين ص 283.
([6]) ينظر الحدائق الوردية 1/329.
([7]) الإصابة 1/319.
([8]) هذا التصور نص حديث ساقه البخاري رقم (3166) ورقم (4094) وقد ارتسم في ذهني قبل مطالعة البخاري حين عايشت أمثاله عندنا منذ ربع قرن.
([9]) البخاري رقم (3414)، ومسلم 2/740 رقم 1063، وينظر سيرة ابن هشام 4/104.
([10]) البخاري 3/1219 رقم 3166.
([11]) وقعة صفين ص 489، ونهج البلاغة ص 163 رقم 40، ص 723.
([12]) ينظر في التحكيم: الطبري 5/70، ووقعة صفين ص 500.
([13]) ينظر الطبري 5/82.
([14]) الكامل للمبرد 3/1078، وشرح النهج 1/251.
([15]) ينظر دلائل النبوة للبيهقي 4/147، والكامل 2/138.
([16]) نهج البلاغة ص 181 رقم 59.
([17]) البخاري 4/1787 رقم 4492، ومسلم 1/194.
([18]) البخاري 4/1787 رقم 4492

الأحد، 8 مارس 2020

مقابلة مع الدكتور عبدالملك عبدالله الجنداري

مقابلة عن الثأر مع القاضي الدكتور عبدالملك عبدالله الجنداري تنشر لأول مرة
أجراها // زيد يحيى المحبشي بتاريخ 26 أبريل 2004
*ماهو المفهوم العام للثأر؟ وماهي أنواعه؟
- المفهوم العام للثأر - من وجهة نظري - أن يُقتل شخص فيقوم ولي دمه - أو شخص من عشيرته أو قبيلته- بقتل أحد أقارب القاتل أو احد اعيان عشيرته انتقاما للمقتول. أما قيام ولي الدم بقتل قاتل مؤرثه فلا يُعد ثأراً، عملا بقوله تعالى ((ومن قُتِلَ مَظلوماً فقد جَعَلنا لِوَليهِ سُلطاناً فلا يُسرِف في القتل))، ومع ذلك فقد أوجب المقنن اليمني معاقبته بالحبس تعزيراً له على افتئاته على حق الدولة في إقامة القصاص. وعليه فالإسراف في القتل هو الثأر، سواء بقتل أكثر من شخص غير القاتل أو بترك القاتل وقتل غيره بحجة أن المقتول أعلى شأناً من القاتل.
* ما مسببات بروز ظاهرة الثأر واستفحالها، في ضوء القصور التشريعي والاختلال القضائي في اليمن؟
وماهي المعالجات القانونية المطلوبة والإصلاحات القضائية المتخذة لاحتواء ظاهرة الثأر؟
- إن للثأر - كفعل أحادي- أسباب عدة ، ولاشك أن ثمة قصور تشريعي وخلل قضائي بهذا الصدد.
أما الثأر - كظاهرة - فوراءه سببان رئيسان ، الأول الجهل، والثاني بروز سلطة القبيلة - في بعض المناطق - على حساب سلطة الدولة بجوانبها الثلاثة التنفيذية والتشريعية والقضائية. لذلك من التجني وعدم الإنصاف تحميل إحدى سلطات الدولة دون غيرها وزر الثأر كظاهرة. فكثيرون يزعمون أن القضاء هو المسئول الأول عن ذلك، وهذا غير صحيح بدليل أن أولياء الدم في معظم قضايا القتل - في المحافظات التي ينتشر فيها الثأر - يرفضون التقدم بدعواهم بالحق الشخصي إلى القضاء، لقناعتهم الراسخة بأن عدم أخذهم حقهم بأيديهم نقيصة كبيرة. كما أنهم يعلمون أن القضاء سيقتص من القاتل الذي يرون غالباً أنه غير كفء للمقتول.
وقد يقول قائل: إن عدم ثقتهم بالقضاء هو دافعهم لأخذ حقهم بأيديهم. فنقول: إن هذا الوهم كان سائداً إلى عهد قريب، وهذا ما حدا بالمقنن اليمني عند تعديل مشروع قانون الجرائم والعقوبات - الذي أستمر العمل به استئناساً لعدة سنوات فيما كان يعرف بالشطر الشمالي من الوطن- إلى استحداث حكم يجيز للنيابة العامة حق طلب القصاص من المحكمة في قضايا القتل العمد. في حالة امتناع أولياء الدم عن طلب القصاص . بل وأوجب على المحكمة أن تحكم بالقصاص إكتفاء بطلب النيابة العامة (المادة "50" من القرار بالقانون رقم "12" لسنة 1994م). إلا أن المقنن علَّق تنفيذ الحكم الصادر بالقصاص على طلب أولياء الدم، باعتبار أن ذلك حق شرعي لهم دون غيرهم، عملا بقوله تعالى: ((ومن قُتِلَ مَظلوماً فقد جَعَلنا لوليه سُلطاناً)). ورغم ذلك النص القانوني وتطبيقه على الواقع وصدور أحكام مقررة بالقصاص، إلا أن أولياء الدم - في المناطق المشهورة بالثأر - يمتنعون عن طلب تنفيذ الحكم انتظاراً لخروج المحكوم عليه من السجن ليقتصوا منه بأنفسهم، أو لأنهم لا يريدون المحكوم عليه بل يسعون للثأر بقتل غيره.
ومع ذلك - وكمعالجة قانونية لهذا الوضع - يمكن العمل على استحداث نص يمكن المحكمة من إجبار أولياء الدم على الحضور أمامها وتخييرهم بين ثلاثة أمور لا رابع لها: إما طلب القصاص أو الدية أو العفو، عملا بقول الرسول صلى الله عليه وآلهوسلم : (من أصيب بدم أو خَبلٍ "جراحٍ" فهو بالخيار بين إحدى ثلاث إما أن يقتص أو يأخذ العقل "الديه" أو يعفو ، فإن أراد الرابعة فخذوا علي يديه، ومن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم). وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : { من قُتِلَ له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يعفو وإما أن يقتل}. ومع ذلك فإن وجود مثل هذا النص القانوني لن يجدي إلا بتفعيله، وهذا لن يتأتي إلا بوجود آلية تنفيذية تمكن جهات الضبط القضائي - في مناطق الثأر المعروفة- من إجبار الخصوم على المثول أمام القضاء.
هذا ما يتعلق بتلافي القصور التشريعي، أما القصور القضائي بهذا الشأن - وإن كان لا يخلو- إلا أن تأثيره في بروز ظاهرة الثأر ليس بالصورة التي يتوهمها الكثيرون، بدليل العدد الكبير من الأحكام القضائية التي تصدر سنويا بالقصاص والتي ينفذ العديد منها في معظم محافظات الجمهورية، كما أن ثمة مئات منها لم تلق طريقها للتنفيذ بسبب سعي الكثيرين للتدخل بالصلح بتنازل أولياء الدم، وبسبب تدخل كثيرين أيضاً لإعاقة تنفيذها بالتشكيك بصحة أحكام القضاء، وبغير ذلك من الأسباب. المهم هنا أن القضاء اليمني - وبالذات في قضايا القتل - يقوم بدوره على نحو يفوق غيره في معظم دول العالم سواء من حيث مدد التقاضي أو من حيث سلامة الإجراءات.
ولاشك أن من بين العدد الكبير من الأحكام الصادرة في قضايا القتل ما يكون بالقصاص ومنها ما يكون بالدَية وفي أحيان قليلة بالبراءة، كل ذلك بحسب مدى كفاية الأدلة التي يطرحها الخصوم أمام المحاكم. ولمن يريد التأكد من صدق ما ذكرناه الرجوع الى أرشيف المحاكم والنيابات العامة وإحصائياتها.
هل يمكن تحديد رقم معين للقضايا المتعلقة بالثأر المطروحة أمام المحاكم اليمنية؟
- قضايا الثأر تدخل في التصنيف القضائي ضمن قضايا القتل، وهذا الصنف من القضايا ينقسم إلى قتل عمد وقتل خطأ، ولا يوجد تصنيف لقضايا القتل باعتبار السبب. ومن ثم فتحديد رقم معين لقضايا الثأر يحتاج إلى باحثين لاستخلاص ذلك من بين قضايا القتل العمد المنتهية المؤرشفة في خزائن النيابات العامة.
كيف يمكن الحد من الاختراقات العرفية، وخصوصاً قاعدة "المواخاة" وقاعدة "الرباعة"؟
- المواخاة والرباعة ونحوها هي قواعد قبلية عريقة لها جذور عميقة - ليس في تاريخ اليمن فحسب بل في التأريخ العربي عموماً - تمتد إلى عصر ما قبل الاسلام ، وهي مما قال عنه صلى الله عليه وآله وسلم "{ إنما بعثت لإتمم مكارم الأخلاق}، ومن ثم فالخلل ليس في القواعد ذاتها بل في تطبيقها، فتلك القواعد ليس على إطلاقها بل لها ضوابط وأسس استمر العمل بها بين قبائل اليمن مئات السنين. بيد أن تطبيق تينك القاعدتين- شأنهما شأن غيرهما من القواعد القبلية - قد أعتراه الكثير من الخلل بسبب تدني المفاهيم القبلية الأصيلة، نتيجة الجهل المستمر بتلك الأعراف والقواعد، وهذا نوع من ا لجهل الذي اشرنا إليه في بداية حديثنا كسبب رئيس من أسباب تفشي الثأر الذي كان وما يزال مذموماً عند عقلاء قبائل العرب منذ العصر الجاهلي حتى اليوم.
كلمة ختامية:
- أخيراً نقول إن أية معالجة لظاهرة الثأر لن تنجح إلا بتفاعل وتكاتف الجميع. ومن ثم فإن الحملة الوطنية التي تبناها فخامة الاخ رئيس الجمهورية المشير علي عبدالله صالح لمحاربة هذه الظاهرة هي الخطوة الصحيحة والطريقة المثلى للتغلب عليها. لذلك نأمل من الجميع - وبالذات مشائخ القبائل - من بذل أقصى جهودهم في المشاركة في الحملة الوطنية والتفاعل معها.