Translate

السبت، 7 مارس 2015

الوحدة اليمنية القلب ينبض جنوباً

زيد يحيى المحبشي
الوحدة اليمنية في مفهوم الراحل محمد أحمد نعمان: أمٌ لكل اليمنيين، وينبغي التعامل معها على هذا الأساس كأم وليس كزوجة, فالأم في هذا السياق لا يمكن إلاّ أن نحبها مهما كانت، وبأي شكل بدت، أما الزوجة فنحن نختارها أو أقل شيء نقبل بها لهذا لا مناص من أن الوحدة هي بالنسبة لليمنيين (الأم), قدرنا الذي لا يمكن أن نوجد بدونه.
ظللت الوحدة في مختلف المراحل التاريخية ثابتةً في وجدان الشعب اليمني, رغم تقاسم الحكم في بعض الفترات بين أكثر من دولة, إلاّ أن هذه الدويلات لم تنجح في إرساء أي شكل من أشكال الانفصال, لأن الوحدة الجغرافية والتاريخية والاجتماعية والثقافية كانت أقوى وأكثر صلابة من النزعات الانفصالية الشاذّة والغريبة على اليمن وشعبه الواحد الموحد في مساره ومصيره منذ فجر التاريخ.
 وهذا ليس كلاماً أو رأياً سياسياً بل حقيقة تاريخية وجودية لا يختلف عليها اثنان, خصوصاً في أوساط أبناء المناطق الجنوبية والشرقية وفي مقدمتها محافظة حضرموت الزاخر تاريخها بشهادات أبنائها واعتزازهم منذ ما قبل ميلاد المسيح بيمنيتهم وبتقاربهم مع إخوانهم في الجوف ومأرب والبيضاء أكثر من إخوانهم في المناطق الجنوبية.
الأحداث التي شهدتها المناطق الجنوبية في الأعوام الثلاثة الأخيرة أعادت إلى الذاكرة الأحداث المصاحبة لاستقلال شطري اليمن سابقاً وما بعده, بذات السيناريو وبذات الدوافع, ويكفينا هنا للتأكيد على هذه الحقيقة العودة إلى محاضرة لعبد الفتاح إسماعيل ألقاها أمام القيادات النقابية العمالية بتاريخ 20 شباط/ فبراير 1975, شخَّص فيها الوضع بدقة متناهية: معروف تاريخياً أن الإقطاع – أكان في الجنوب أو في الشمال- لم يكن يوماً مع الوحدة اليمنية، ولم يكن تفكيره في يوم من الأيام يقوم على أساس الموقف اليمني الوحدوي.. إن مثل هذه الإقطاعيات لاشك أنها أوجدت العديد من رواسب التخلف والتفكير الضيق والإحساس بالانتماء العشائري والقبلي والإقليمي.. في وطنٍ عانى الكثير من ويلات التجزئة الإقطاعية ومن الإقطاعيات المتخلفة...
لذا فقد كان عبدالفتاح إسماعيل يرى أن البلاد بحاجة ماسة إلى وعي حقيقي بخطورة المفاهيم التشطيرية التي غرسها الاستعمار والإمامة والإقطاعيين, وبضرورة العمل الجاد لتصحيحها, دون أن يفوته التأكيد على أن تلك المفاهيم لا يمكن أن يكون لها تأثير في شعبنا مستقبلاً, ومن يرفعها لا يمكن أن يقود نضال هذا الشعب, لأنهم لا يؤمنون بمجرى النضال الثوري اليمني في الوطن عموماً, داعياً أصحاب النزعات الانفصالية للعودة إلى التاريخ لأخذ الدروس والعبر: لو نأخذ عبراً ودروساً من الماضي لوجدنا أن كل المواقف الانفصالية كان مصيرها الفشل، وانتهت وسقطت تماماً، فلو نأخذ مثلاً, مواقف الرابطة [رابطة أبناء الجنوب العربي] سنجد أن مصيرها كان الفشل، فقد كانت في أواخر 1958 من أقوى الأحزاب السياسية الموجودة في جنوب الوطن، ولكن رغم قوتها وتأثيرها سقطت، لسبب رئيسي هو أنها كانت أولاً: مشبوهة بارتباطها بالاستعمار، وثانياً: لأنها كانت ترفع شعار الجنوب العربي!! وكانت لا تؤمن بوحدة المنطقة ووحدة الوطن اليمني، وفي نفس الوقت كانت لا تريد أن تعتمد على جماهير الشعب، فكان لا بُد أن تسقط وأن تفشل وأن تتخلى عنها الجماهير، لأنها بالفعل لم تكن لتمثل طموح شعبنا من حيث الأهداف الوحدوية.
كما أننا بعد الاستقلال نذكر جميعاً, كيف أن التيار اليميني في الجبهة القومية، عندما كان يعجز يلجأ إلى الاستعانة والاستنجاد بالتقاليد القديمة بكل قيمها العشائرية والقبلية في محاولةٍ منه لإشعال صراعات إقليمية مشبوهة من أجل إخفاء مواقفه وحقيقته, فالتيار اليميني, هو أيضاً، لم يستطيع أن يستغل قضايا الشماليين والجنوبيين.. بل أدى في الأخير بسببٍ من مواقفه تلك إلى أن يُهزم وينتهي إلى الفشل بفعل الخط الوحدوي داخل إطار الجبهة القومية..
نحن على ثقة بأن أية تيارات انفصالية سوف يكون هذا هو مصيرها, مهما ادعت وتسترت بأسلوب يميني أو يساري.
تاريخياً شهدت حقبة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي رواجاً فاقعاً للمقولات التشطيرية، سواء في أوساط أعداء الثورة والتحرر من الاستعمار والإمامة أو في أوساط أعداء الأنظمة الاستقلالية الثورية, بالتوازي مع سعي بعض قادة الجبهة الوطنية المتحدة وفي مقدمتهم أبو بكر باذيب لترسيخ فكرة التمايز النضالي: إن ثورتي 14 أكتوبر و 26 سبتمبر تسيران في خطين متوازيين متعارضين لا يلتقيان!! في حين سعت رابطة أبناء الجنوبي العربي والجمعية العدنية إلى ما هو أبعد من ذلك, وهو نفي يمنية أبناء المناطق الجنوبية والشرقية.
وسط هذه الأجواء الضبابية وجدت الحركة الوطنية نفسها منقسمة إلى تيارين, الأول: انفصالي آمنت به الرابطة الجنوبية والجمعية العدنية ومن لف لفهم, والثاني: وحدوي كانت في نطاقه حركة التحرر ممثلة في الجبهة الوطنية المتحدة فالجبهة القومية وتحديداً في العام 1955 الذي يعد عام الفصل في النضال الوطني على أساس وحدة الأرض والإنسان اليمني أو النضال خارج هذا الإطار، ومن حينها أصبح الموقف من إعادة الوحدة سلباً أم إيجاباً عاملاً حاسماً: إما أن تتحطم عليه القوى السياسية وتتعرى وطنياً إن كانت مبتعدة عن إعادة الوحدة أو يتقوى عمودها الفقري وتزداد نفوذاً وتوسعاً في أوساط اليمنيين, وبمعنى أخر أصبح الموقف من الوحدة هو الموقف من ثورتي سبتمبر وأكتوبر والعكس.
صحيح أن قضية الوحدة قد وُضعت على بساط البحث في أهم مراحل نضال الشعب اليمني, وفي كل محطات تاريخه المليئة بالصراعات من أجل الوحدة، وهذا أيضاً لا يعني عدم وجود قوى ذات نزعات انفصالية ضيقة الأفق وجدت في كل مراحل التاريخ اليمني لتسير عكس تيار الوحدة تبعاً للعلاقة البندولية، بين الثقافة المحلية والثقافة الوطنية, وبين الهويات المحلية والهوية الوطنية, وبين الصراعات المحلية ومكانة الدولة المركزية من حيث الضعف والقوة, وبين الاستعمار والوحدة اليمنية.
ونحن اليوم وبعد مرور 20 عاماً من عمر الوحدة اليمنية مازلنا نشهد نتوءات انفصالية متقطعة هنا وهناك تتبدى في الممارسات المشدودة إلى الماضي وتظهر عبر بعض الأفكار والطروحات الشوفينية المغايرة لاتجاه حركة التاريخ الوحدوي اليمني, ما دعانا إلى هذه الوقفة السريعة ليس لتأكيد المؤكد وإثبات الثابت (الوحدة اليمنية) بل لكشف زيف وادعاءات الانفصاليين الجدد وتفنيد آرائهم وطروحاتهم الدخيلة على اليمن وتاريخه.
الوحدة في أدبيات الاستعمار
احتل الانجليز مدينة عدن في 1839 بتواطؤ من العثمانيين, لإيقاف زحف محمد علي باشا وبالتالي عودة العثمانيين إلى اليمن ثانية في 1849 وهو ما فتح الباب على مصراعيه لسيناريوهات غرس مفاهيم التقسيم الجغرافي والسياسي لأول مرة في تاريخ اليمن الواحد وإن اختلفت الأهداف.
اللافت هنا تزامن الدخول العثماني الأول إلى اليمن 1535, مع تفرق أيدي سبأ, ومع ذلك فقد كان العثمانيون حريصون على إبقاء اليمن تحت رايتهم موحداً باستثناء بعض المناطق ليتم إخراجهم فيما بعد تحت ضغط المقاومة الوطنية المستمدة قوتها من وحدتها الوطنية, في حين كان الدخول الثاني للعثمانيين 1849 بالتوازي مع التمدد الانجليزي, في وقت كانت فيه اليمن قد وصلت ذروة الانقسام والتشرذم, لذا كان من الطبيعي أن تسجل المقاومة الوطنية فشلاً ذريعاً, لأنها كانت تتم في غياب الوحدة.
كما أن إخراج العثمانيين في المرة الأولى أعقبه قيام دولة يمنية موحدة هي الدولة القاسمية, التي لم تدم طويلاً بفعل الانقسام المزري بين أئمتها والذي أغرى في نهاية المطاف الإنجليز والأتراك لاحتلال اليمن وبدء توجههما منذ القرن الثامن عشر إلى إنشاء كيانين جغرافيين وسياسيين عرفا لاحقاً باليمن الشمالية والجنوبية وتم تعميد هذا الانشطار بخط حدود النفوذ البريطاني- العثماني (1902- 1904) وتسجيله رسمياً في 1914 عندما وقع الطرفان معاهدة ترسيم الحدود والتي مثلت أول إقرار رسمي موثق لتقسيم اليمن سياسياً وجغرافياً والإشارة الأولى أيضاً لوجود شطرين منفصلين.
 ورغم ذلك فقد بقي اليمن موحداً في علاقاته الاجتماعية والثقافية والنضالية ضد الاستعمار الانجليزي والوجود العثماني الأمر الذي مكّنه من إجلاء العثمانيين في نهاية 1918 ولكن عن جزء من اليمن, بينما بقي الجزء الآخر تحت الاستعمار الانجليزي ومن ثم تسلم آل حميد الدين حكم المناطق الشمالية والغربية من اليمن, بعد أن كانوا قد استطاعوا بفضل رفعهم لشعار إعادة الوحدة اليمنية من طرد العثمانيين تمهيداً لتحرير الجنوب المحتل.
حرصت السياسة الانجليزية في المناطق اليمنية المحتلة في طابعها العام على تعميق تمزيق الوحدة اليمنية, وتعميق اليأس في أوساط أبناء الشعب اليمني من عودة التحام جسدهم الواحد, في وقت تجزأ فيه اليمن إلى ثلاثة أجزاء هي الانجليز والأدارسة والإمامة؛ في حين كانت عناوين السياسة الاستعمارية واحدة في معانيها ومبانيها منذ عام 1839 بدءاً بسياسة فرق تسد ومروراً بسياسة معاهدات واتفاقيات الحماية وانتهاءاً بسياسة التقدم نحو الأمام وإعمال نظام الانتداب والاستشارة تبعاً لمقتضيات التجزئة ومتطلبات كبح جماح نمو الوعي الوطني الواصلة ذروتها في 1959 بإنشاء اتحاد الجنوب العربي, أملاً في تمديد سيطرة الاستعمار السياسية والعسكرية على المنطقة أكبر مدة ممكنة.
وتكمن خطورة ذلك في توجه الاستعمار منذ بداية عام 1934 إلى سلخ هوية الأجزاء الجنوبية والشرقية من اليمن عن هويتها التاريخية والجغرافية عبر تغليب الثقافات والهويات المحلية وتغذية النزعات الانفصالية, لضمان طمس الثقافة والهوية الوطنية اليمنية وإسكات الصوت اليمني الوحدوي.
ولهذا الغرض الاستعماري المقدس تم إيفاد وليم هارولد إنجرامز (1897- 1973) الضابط السياسي الانجليزي ومهندس معاهدة الصداقة الانجليزية - المتوكلية وأحد أخطر منظري التجزئة بين أبناء اليمن الواحد وطمس الهوية اليمنية لصالح الثقافات المحلية وتعميق التناقضات الداخلية, والمسؤول الأول عن المفاوضات حول الحدود مع الأئمة وتنفيذ سياسة التقدم نحو الأمام.
حيث حرص منذ وصوله إلى عدن 1934 على تأليف عدة كتب عن اليمن كان الغرض منها سلخ حضرموت وشبوة عن اليمن وحصر مصطلح اليمن على الأجزاء الواقعة تحت نفوذ الأئمة, فيما أعاد الأجزاء الجنوبية والشرقية الأخرى من اليمن إلى ما أسماه بالجنوب العربي مدعياً بأنه استخدم هذا المصطلح كما استخدمه الجغرافيون والمؤرخون العرب لتمييز تلك المناطق, في وقت كان فيه الانجليز يطمحون إلى خلق دولة بالجنوب اليمني على النمط الغربي وتحويل عدن إلى قاعدة لإطلاق ما أسموه بالعالم الحر.
يأتي هذا بعد فشل السياسات الاستعمارية المتبعة قبل 1934 وإدراكهم بخطورة تنامي الوعي الوطني اليمني على مخططاتهم البعيدة المدى وبالتالي تطلب المرحلة ضرورة دق إسفين التجزئة وإشاعة التمايز التاريخي والاجتماعي بين أبناء الشعب الواحد في خطوة مكشوفة لإحباط أحلام إعادة التحام الجسد اليمني.
ويكفينا للدلالة على هذا التوجه الخطير الوقوف عند مقولة انجرامز في كتابه اليمن: الإئمة والحكام والثورات صـ45- 47: لقد وصفت اليمن ككيان طبيعي ضمن العالم العربي على الرغم من عدم اندماجها في كيان سياسي متحد.. إنها إقليم عربي معترف به تاريخياً وجغرافياً واؤلئك الذين يعيشون فيه أصبحوا يحملون في أعماقهم شعوراً مناطقياً مشتركاً.. إنه لم يكن لهذا الكيان على الإطلاق صفة الأمة الموحدة, بالمعنى الذي يفهمه الأوربيون من كلمة الأمة، فلم يحدث أبداً أن اعتبر اليمنيون أنفسهم بهذا المعنى حتى الوقت الحاضر.. إن العرب واليمنيون جزء أصيل منهم ميالون بطبعهم إلى الاختلاف والفرقة والتنافس على السلطة, ولذا فهم فرديون وأصحاب طفرات وفورات مفاجئة, ومفهومهم للوحدة ليس إلا فكرة غامضة وصوفية يمكن أن تتغلب عليها المغريات المادية..
ومع إطلالة العام 1952 بدأ الانجليز بترجمة سياستهم الجديدة عبر الترويج لإقامة كيانين اتحاديين فيدراليين حسب التقسيم الإداري في الإمارات ومستعمرة عدن وتوحيدها في دولة جديدة تسمى دولة الجنوب العربي الاتحادية على أن تبقى مستعمرة عدن خارج الاتحاد, وفي 1954 قدموا وجهة نظرهم بشأن الاتحاد الفيدرالي وإدارته على أن تتكون من المندوب السامي, وتكون له رئاسة الاتحاد والعلاقات الخارجية والقرار الأول في حالة الطوارئ, ومجلس رؤساء يضم رؤساء البلاد الداخلية في الاتحاد, ومجلس تنفيذي وآخر تشريعي. وفي 19 شباط/ فبراير 1959 أُعلن رسمياً عن قيام اتحاد إمارات الجنوب العربي بالتوازي مع إعلان الإمام أحمد الانضمام للجمهورية العربية المتحدة وهو ما جعل الجامعة العربية تنتقد اتحاد الجنوب بشدة محذرة من خطورته في ترسيخ التجزئة.
حدث إعلان دولة الجنوب العربي المزيف والمجافي للحقائق التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية لم يشذ عن مخطط تدجين الهوية الوطنية لصالح الهوية المحلية المصطنعة, وتعميق الهوة بين علاقات أبناء هذه المناطق وهويتهم الوطنية الأم, وتعميق النزعة الانفصالية التي وجدت في الجمعية العدنية ورابطة أبناء الجنوب العربي ضالتها المنشودة على أمل الحلول مكان الاستعمار بعد رحيله لتنفيذ مخططاته.
والحقيقة أن الاستعمار وجد حينها أن قوة وجوده واستمراره ومقومات أمانه متوقفة على التجزئة لأنها ستبقى إذا اُضّطر للرحيل, وذلك ما نجد دلالته في قراءة انجرامز لمستقبل اليمن بعد زوال الوجود المصري والبريطاني: سيبقى [اليمن] على عادته القديمة في الانقسام، لأن طبيعة الأثرة والفردية عند العرب كفيلة بذلك, ولأن لهفتهم للفوز بالمغانم المادية... ستقودهم حتماً بعيداً عن التسامي الروحي.. ومعنى ذلك أن التحديث سيأخذ مدى أبعد ولكن دون أن يكون هناك اتجاه أكثر من وحدة متماسكة إلاّ إذا كان نكاية في حكم مكروه من الشعب أو استجابة لبريق فكرة جديدة، وإذا ولدت هذه الوحدة في اليمن فلا شك أنها ستدفع اليمنيين إلى الأمام ولكن لابد أنه سيمر وقت طويل قبل أن يمكن لأي أفكار جديدة أو وعي اجتماعي عميق أن يتغلب على تلك الأفكار القديمة.
الوحدة في أدبيات الإمامة
صحيح أن الإمامة قد رفعت شعار إعادة الوحدة وتحرير الجنوب المحتل في نضالها ضد العثمانيين, كما هو صحيح أيضاً أنها ظلت في صراع مع الانجليز, تتحرك تحت شعار الوحدة ظاهرياً, لكنها لم تكن تمتلك أي مشروع للوئام الاجتماعي التوحيدي, لسبب بسيط هو أنها رغم رفضها الاعتراف بالمحميات ودولة اتحاد الجنوب العربي, إلا أن مواقفها من إعادة الوحدة ظلت مندرجة تحت إطار الادعاءات التاريخية لأسلافها في الجنوب, وهو ما حال دون بذل مساعي جدية لتوحيد اليمن, وباعد المسافة بينها وبين الأمراء والسلاطين خصوصاً في الفترة (1918-1934)، حيث كانت كل الأمور مواتية لإعادة توحيد اليمن ما أدى في خاتمة المطاف إلى ظهور الحركة الوطنية التحررية وانكشاف حقيقة أن بقاء الإمامة والاستعمار مرهون ببقاء الوضع التجزيئي القائم والمحافظة عليه, باعتباره من مقومات الأمان والاستمرار في علاقة جدلية مفيدة للطرفين.
وما يهمنا هنا هو التأكيد على أن مطالب إعادة الوحدة قد تأطرت على مستوى اليمن في العام 1918, وأخذت طابعها التوثيقي في العام 1924 عندما قدم المصلح التونسي عبدالعزيز الثعالبي مشروعه التوحيدي إلى الإمام, داعياً فيه إلى عقد مؤتمر يمني يضم الإمام والسلاطين والمتنفذين من أبناء المناطق اليمنية المحتلة لإعلان الوحدة لكن الإمام رفض ذلك المشروع كما رفضه السلاطين وان كانوا قد ابدوا الاستجابة العلنية لسبب بسيط هو ربط الثعالبي مقترحه بضرورة توجه الإمام في المقام الأول إلى إصلاح نظامه السياسي كشرط واجب لتحقيق الوحدة وهو شرط يتفق مع مطالب السلاطين لكن شريطة التخلي عن الادعاءات الإمامية التاريخية في الجنوب, والإيمان بالمواطنة اليمنية المتساوية في ظل سلطة وحدوية يكون فيها الشعب هو صانع القرار.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الإمام كان قد عين القاضي محمد الشامي مفاوضاً رسمياً لمملكته مع السلاطين والاستعمار منذ عشرينيات القرن الماضي, كما انه أنكر اتفاقية الحدود بين الانجليز والأتراك لعام 1914 غير أن إصراره على الادعاءات التاريخية دفعه في نهاية حزيران/ يونيو 1915 إلى استنكار هجوم الأتراك على عدن معتبراً إياه تعديا على حقوقه وهو موقف عجيب وغريب يشي بما لا يدع مجالاً للشك بوجود علاقة سرية تربطه بالانجليز منذ ما قبل الاستقلال بدت بصماتها واضحة في الحرص على عدم تضمين اتفاقية دعان لعام 1911 بين الإمام والأتراك أي إشارة إلى الوحدة اليمنية ما يعني موافقته الإستباقية على نظرية التجزئة, وفي هذا السياق فقط يمكن تفسير رفض الإمام يحيى نداء الوالي العثماني اثناء رحيل القوات التركية نهاية 1918 لتسلم لحج وتوجهه بعد الاستقلال مباشرة إلى إعلان استحالة إعادة الوحدة موثقا ذلك باعتراف رسمي في 1934 عندما وقع معاهدة الصداقة والتعاون مع الانجليز المتضمنة إبقاء الوضع القائم في الجنوب على ما هو عليه لأربعة عقود قادمة إلى أن تنشأ ظروف تسمح بإعادة فتح التفاوض.
 كل هذا يجعلنا أمام عدة حقائق أبرزها:
- وجود مؤامرة انجليزية إمامية لإضاعة الجنوب اليمني نسجت خيوطها قبل استقلال الشمال عن الأتراك وتعمقت في 1934 دافعها في البداية خوف الإمام من دعم الانجليز لخصومه الأدارسة وفي النهاية تخّوف الانجليز من الأفكار القومية العربية ونفوذها إلى اليمن.
وقد شهدت نهاية الخمسينيات حركة مكوكية لتقارب الانجليز والإمامة حول حلول وسطية اقتصرت مخرجاتها على دفع ترسيم الحدود إلى نهاياتها وتراجع الأعمال العدائية ضد بعضهما البعض والتعاون في وقف المد الثوري الوطني في شطري اليمن.
- اعتماد الإمامة والانجليز على كل ما هو متخلف من مؤسسات الحكم الطائفية والقبلية والسلاطينية والاستبدادية ما حال في بداية الأمر دون حصول الحركة الوطنية التحريرية التوحيدية على مقومات النجاح لكنها سرعان ما استعادت عافيتها منذ منتصف العام 1955.
- تدعيم المعارضة للادعاءات الإمامية في مستعمرة عدن والمحميات وكشف حقيقة عدم جدية الإمامة في إعادة توحيد اليمن وعدم استعدادها لتقديم الوحدة على الأطماع السلطوية ولو تطلب ذلك التنسيق مع الاستعمار والتغاضي عن أعماله في تعميق الهوة بين أبناء الشعب الواحد وتفتيت قوة اليمن الواحد وضرب وحدته الوطنية.
الوحدة في أدبيات الحركة الوطنية
مرت الحركة الوطنية بأربع مراحل هي: مرحلة العمل السياسي والإعلامي السري في الثلاثينيات، مرحلة الإيقاظ والتيقظ في الأربعينيات، مرحلة الاحتجاجات في الخمسينيات، مرحلة التمرد والثورة في الستينيات والتي أنهت عهداً مظلماً من تاريخ اليمن. في حين كانت قضية الوحدة اليمنية حاضرة في كافة مراحل النضال السياسي المعاصر فكانت تارةً: مركزاً للتقارب بين أقطاب الحركة الوطنية في الشطرين, وتارة أخرى: بؤرة للصراع بين الاتجاهات الوحدوية والاتجاهات الانفصالية وسبباً في الاستقطابات السياسية.
الانقسام حول شعار الوحدة اليمنية احتل مكانة خاصة في العام 1955 تمثلت في انعقاد اجتماع موسع بعدن ضم الأحزاب السياسية والنوادي والهيئات وانبثق عنه خطان, الأول, انفصالي آمنت به رابطة أبناء الجنوب العربي والجمعية العدنية ومن لف لفهم، والثاني: وحدوي كانت في نطاقه حركة الأحرار والجبهة الوطنية المتحدة المنبثق عنها فيما بعد الجبهة القومية, وما بينهما كان الموقف من حقائق التاريخ والجغرافيا هو الفيصل في تكذيب توجه الاستعمار وأتباعه من القوى الانفصالية وهزيمتهم وانتصار القوى الوطنية المؤمنة بوحدة اليمن الطبيعي بعد فشل الجمعية العدنية في تقديم أي مشاريع تذكر في مضمار الحركة الوطنية الثورية, وعجز الرابطة الجنوبية عن بناء موقف وطني يمني يعطي للثقافة والفكر الشمولي وطنيته على صعيد الوطن اليمني الواحد.
أولاً: الحركات الانفصالية
واكب تعجيل الاستعمار بطبخة اتحاد الجنوب العربي انقسام حاد بين قوى الحركة الوطنية من حيث موقفها من الاحتلال ومقاومته, وموقفها من شعار إعادة تحقيق الوحدة اليمنية. حيث فضّل الفريق الأول الكفاح السياسي, والاكتفاء بإقامة دولة اتحاد الجنوب العربي تحت رعاية المندوب السامي, وترسيخ التمايز والاختلاف بين شطري اليمن, وبذلك تطابقت شعاراته مع مخططات الاستعمار ما جعل من هذا التيار بمثابة القوة الاحتياطية للاستعمار والتي كانت تمثلها وقتها الجمعية العدنية ورابطة أبناء الجنوب العربي.
وتشير وثيقة صادرة عن الرابطة في 1958 نشرتها مجلة اليمن التابعة لجامعة عدن في ايار/ مايو 2004, إلى نوعين من الأحزاب القائمة حينها من حيث درجة الموالاة للاستعمار, أولاها تعمل على تنفيذ مخططات الانجليز وفي مقدمتها الجمعية والرابطة وحزب الشعب الاشتراكي والاتحاد الوطني وتيار عريض من السلاطين والأمراء ، والأخرى: غير موالية للاستعمار مع بعض التحفظات كالبعثيين وجزء من حزب الشعب الاشتراكي والإخوان المسلمون والقوميون العرب (جناح قحطان الشعبي وفيصل عبداللطيف) وعدد من السلاطين والأمراء الذين عزلتهم حكومة الاستعمار بسبب معارضتهم لسياستها.
ومعلومٌ أن الجمعية العدنية كانت تنادي بعدن للعدنيين فيما كانت الرابطة الجنوبية في بداية عملها تسعى إلى توحيد أراضي الجنوب المجزأة تحت رايتها, غير أن دخول سموم ذوي السلطة والسلطان في صفوفها دفع بالكثير من قادتها إلى الانفصال عنها وإعلان النضال ضد طروحاتها والذي وصل ذروته في 1954 عندما أعلنت الرابطة أنها تمثل قوة احتياطية للاستعمار.
تبني الرابطة لدولة اتحاد الجنوب الفيدرالي تمت مواجهته حينها بمقاومة جماهيرية قوية وتُوجت بانتفاضة 24 أيلول/ سبتمبر 1962 ضد المجلس التشريعي بعدن والحكم الذاتي ومقاطعة الانتخابات التشريعية قبل ذلك في 1955 تحت شعار يمنية المنطقة ووحدتها, لكن إجادة الرابطة لفن التلاعب بشعارات الوحدة اليمنية والوحدة العربية أعطاها فسحة للتمويه على مواقفها الانفصالية, وكذا إرباك الحركة الوطنية التوحيدية وبلبلة صفوفها, في وقتٍ كانت شعارات الرابطة غامضة وغير صريحة من قضية الوحدة اليمنية وحدة شعب الجنوب الكبير!.
 والأخطر من هذا لجوءها إلى طرح الوحدة اليمنية في إطار الوحدة العربية, أي ليس بوصفها قضية قائمة بذاتها بل كقضية معلقة بقضية أخرى ومشروطة بها ما جعلها تدفع باتجاه تعجيل الاستعمار بولادة اتحاد الجنوب العربي 1959 لقطع الطريق على دعاة الوحدة اليمنية.
هذه الأمور مجتمعة كشفت مدى عمق النفس الانفصالي لدى الرابطة بدلالة حرصها على تضمين دستورها الدعوة إلى اعتبار الجنوب العربي وحدة طبيعية سياسية واقتصادية في كيان منفصل عن اليمن وهو ما جعل هذا التوجه المنكِر ليمنيته محكوم في خاتمة المطاف بالسقوط الذريع عشية إطلالة 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1967.
ثانيا: الحركات الوحدوية
تساعد الوثيقتان الصادرتان عن مؤتمر الطلبة اليمنيين الدائم بالقاهرة عام 1956 في تكوين صورة عن طبيعة المشاريع المطروحة حينها فيما يتعلق بالوحدة اليمنية, وكذا مشروع قيام دولة مستقلة بمعزل عن الشطر الشمالي, حيث حذر المؤتمر في بيان له من خطورة هذا المشروع على حاضر ومستقبل اليمن وما يرمي إليه من تجذير ممنهج لفكرة وجود شعبين متمايزين في اليمن, معلناً في الوقت ذاته تمسكه بالوحدة.
 ومن هنا جاءت الجبهة الوطنية المتحدة عام 1955 التي رفعت لأول مرة في تاريخ المنطقة شعارات وطنية منادية بالاستقلال السياسي الناجز عن الاستعمار وبوحدة اليمن، إلاّ أن نجاح الاستعمار في تدجينها قاد إلى عدة انشقاقات كانت من نتائجها في بداية الأمر ترسيخ دعائم حكومة الاتحاد الفيدرالي وبلبلة المواقف من الوحدة اليمنية والتي سرعان ما تحولت إلى صراع مسلح بين فصائل الحركة الوطنية المتحدة في 1966 (جبهة التحرير والجبهة القومية).
وسط هذه المعمعة برزت في الساحة الجنوبية رؤيتان فيما يتعلق بموقع شعار الوحدة في سلم الأولويات بالنظر إلى طبيعة المرحلة, الأولى: ترى أن المرحلة هي مرحلة وطنية (وثيقة حزب العمل- النقابات العمالية)، فيما رأت الثانية: أنها مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية (نشرة اتحاد الشعب), وبالتالي إقرار التيار الأول بان الوحدة هي المهمة الأساسية للمرحلة الوطنية الحاضرة ولها الأولوية على ما عداها لأنه بحلها تُحل المهام الأخرى بما فيها المهام الاجتماعية؛ فيما أصر التيار الثاني: على أن تحقيق الوحدة أمرٌ مشروطٌ بإقامة حكم وطني- ديمقراطي في الشمال, والى حين تحقق ذلك ينبغي الحفاظ على النظام الديمقراطي في الجنوب.
 التيار الثاني بدوره انقسم إلى فريقين فيما يتعلق بموقع الوحدة في إطار مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية ومستقبل قضية الوحدة حيث ذهب الأول: إلى استحالة انجاز مرحلة الثورة بدون قيام الوحدة (أنيس حسن يحيى، سلطان أحمد عمر، عبدالعزيز عبدالولي) باعتبار الوحدة مهمة أساسية وان الثورة تجري على مستوى الوطن؛ فيما شكك الثاني: في إمكانية الانتقال إلى الاشتراكية من دون الوحدة (عبدالفتاح إسماعيل). ناهيك عن بروز تيار ثالث: يرى أن الاستقطاب الدولي الذي إنشّد إليه شطرا اليمن قد جعل تحقيق الوحدة أمراً مستحيلاً وهذا ما يفسر حقيقة نجاح أعداء الثورة اليمنية في جعل قضية الوحدة مسألة ثانوية في فترات زمنية ربما وصلوا فيها إلى قمة السلطة سواء في الشمال أو الجنوب.
نجيب قحطان الشعبي في مقالة له نشرها موقع تاج عدن بتاريخ 9 شباط/ فبراير2010 تحت عنوان الوحدة اليمنية: نشوء وتطور الفكرة واهتزاز الانجاز, خلُص إلى أن الوحدة ظلت الشعار المحرك لكافة القوى الوطنية المنبثقة عن الجبهة الوطنية المتحدة رغم تباين تياراتها وتصارعها فيما بينها وتباين مواقفها من الاحتلال وفي مقدمتها الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل 1963 بقيادة قحطان محمد الشعبي وفيصل عبداللطيف والذي وضع حينها وثيقة هي من أهم الوثائق السياسية عن الاتحاد الجنوبي المزيف, ومن حينها لا تكاد تخلو وثيقة أو بيان أو تصريح للجبهة الوطنية من الحديث عن الوحدة اليمنية وفي مقدمتها ميثاقها الوطني الذي أكد في ديباجته على أن إعادة وحدة شعبنا العربي في إقليم اليمن شماله وجنوبه سيراً نحو وحدة عربية متحررة مطلب شعبي وضرورة تفرضها المرحلة. كما أفرد الميثاق باباً خاصاً أثبت فيه وحدة الكيان اليمني عبر التاريخ. في حين تضمن البرنامج التنظيمي السياسي للجبهة الحديث عن آفاق وحدة النضال اليمني: إن وحدة الأرض ووحدة الشعب اليمني ظلت عبر التاريخ على الرغم من حالات التمزق والتجزئة الآنية، وحدة متماسكة على كافة المستويات.. ولم تتمكن أية نهضة أو حضارة حقيقية أن تقوم إلا في ظل هذه الوحدة.
نخلص مما سبق إلى أن الوحدة ظلت حاضرة في مختلف مراحل النضال الوطني باعتبارها من الأهداف النبيلة, ولذا ليس من قبيل المفارقة أن نجد الحديث عنها تاريخياً في المناطق الجنوبية والشرقية كان سابقاً للحديث عنها في المناطق الشمالية والغربية, كما تشهد بذلك كل أدبيات ووثائق الحركة الوطنية الجنوبية, وهو ما يؤكد دورها التاريخي والريادي في إعادة الوحدة ويكشف زيف المتنكرين اليوم للوحدة والمطالبين بإعادة كيان الجنوب العربي الدخيل على وحدة اليمن أرضاً وإنساناً.
 وبالمناسبة فإن مقولة الاستعمار التي يرددها البعض فيما يتعلق بأن الجنوب إقليم ذو تاريخ سياسي مستقل عن شمال اليمن تعد مقولةً ساقطة تاريخياً. ولو عدنا إلى عهد التبابعة لوجدناهم يذيلون ألقابهم الملكية بلقب (ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات وتهامت) دون أي ذكر للجنوب العربي. والملاحظ على ذلك النص أيضاً إضافة لفظة يمنات في الوقت الذي أضيفت فيه حضرموت, مما يدل على وجود صلة وثيقة بينهما. والاهم من هذا وذاك أن إطلاق يمنات حينها, إنما أُريد به الإشارة إلى سواحل اليمن الجنوبية, فيما أطلقت لفظة تهامت على سواحل اليمن المطلة على البحر الأحمر, وهي حقيقة تاريخية وثقتها أمهات كتب التاريخ العربي القديم التي حاول الاستعمار تزييفها بهدف تشويش الموقف من الوحدة اليمنية, وطمس هويتها الوطنية التاريخية, ووحدتها الجغرافية الضاربة في أعماق التاريخ, ومن ثم دفع اليمنيين إلى التحليق فوق رمال الطبقات وصراعاتها الدامية, لأنه يعلم في قرارة نفسه أنه عندما تغيب بوصلة الانتماء الوطني والهوية الوطنية, يصبح الوقوع في تيه ومستنقع الانتماءات والولاءات العشائرية والطبقية أمراً طبيعيا وذلك غاية أماني أعداء اليمن ووحدته قديماً وحديثاً.
شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 25/أيار/2010 - 9/جمادى الآخرة/1431

الدولة المدنية بين الواقع والخيال



زيد يحيى المحبشي
الدولة المدنية لم تكن في يوم من الأيام دينية أو بوليسية بل مدنية مدنية في مبناها ومعناها.. الدولة المدنية كانت ولا تزال الأمل والملاذ لكل من يؤمن بالتعدد والتنوع والحرية للجميع دون تفرقة عنصرية على أساس المذهب أو العرق أو الجنس أو المستوى الاجتماعي..
الدولة المدنية الحلم والحضن الدافئ لكل من يؤمن بأن عملية التحول نحو المدنية لا يمكن ترجمتها دون توافر النية الصادقة والعزيمة النافذة والإرادة القوية والثقة المتبادلة بين مكونات الفعل السياسي وتجذر الولاء الوطني الخالي من شوائب التبعية وتقديم المصلحة الوطنية على ما عداها من المصالح والحسابات الضيقة والابتعاد عن التشنجات والنعرات الدينية والمذهبية والفكرية..
الدولة المدنية المرفأ الآمن لك وطني غيور يطمح إلى بناء المستقبل على أسس ومبادئ جامعة يؤمن بها جميع أبناء وطنه باختلاف مشاربهم ومأربهم واتجاهاتهم السياسية والثقافية والمذهبية والعلمية..
المدنية هي التعلم من التاريخ لا التغني به لأن المجد الحقيقي ما نبنيه في الحاضر ويحياه الناس دون أوهام ماضوية ماتت وشبعت موت..
المدنية تعني ضرورة أن يعادل رفضنا للماضي الفاسد شجاعتنا في بناء المستقبل، والانتقال من الهدم إلى البناء ومن الشجب إلى العمل ومن اتهام الآخرين أو تخوينهم إلى اتهام النفس ومحاسبتها قبل الآخرين (جدية التخلي عن ثقافة اتهام وتخوين الآخرين للتهرب من مسؤوليتنا)، والانتقال من سياسة الاستحواذ والإقصاء والتفرد بمفاتيح غرفة الاقدار إلى ثقافة المواطنة والمشاركة الوطنية المتسعة للجميع..
 المدنية تعني ضرورة أن يدافع كل فرد من أفراد المجتمع عن حقوق الآخرين بنفس القوة التي يدافع بها عن حقوقه، دفاع المجتمع عن المظلوم والمقهور، دفاع القوي عن الضعيف وليس العكس، لأن التحضر يقاس بدرجة حماية الأكثرية للأقلية..
المدنية تعني خلق بيئة ثقافية وفكر إنساني حر لا يخاف بطش الاكثرية أو قوى النفوذ بتلاوينها ولا يبحث عن دغدغة المشاعر باللعب على وتر الدين، ووجود مثقفين يدافعون عن الحق والمجتمع دون تصفيق أو رياء لأصحاب السلطة والنفوذ، دون أن يبيعون أفكارهم وآرائهم لمن يدفع أكثر..
المدنية تعني وجود ارادة شعبية حقيقية ومؤثرة (قاعدة شعبية يمكن البناء عليها بشجاعة) تفهم معنى مدنية الدولة، ومستعدة لفعل أي شيء من أجل الوصول إليها، ووجود قائد قوي يملك حجة الحديث والمنطق لا قوة السلاح والبطش، قائد لديه رؤية علمية واضحة المعالم وواضحة الترتيب لأولويات البناء، ومستعد للموت من أجلها، لإيمانه بالوطن وبالمستقبل..
والمدنية قبل هذا وذاك تتطلب وجود قادة جدد يقدرون الثورات الشعبية السلمية ويحترمون ارادة شعوبهم ويحمونها ويمنعون الفساد ويضعون حداً للانتهازيين والمتسلقين على أكتاف ودماء وتضحيات الثوار والثورات..
المدنية حلم وردي يحمل في طياته كل معاني الجمال، حلم اشبهه بطيف علان (قوس قزح) توشح سماء ما بات يعرف بالربيع العربي.. غير أن فجائة الظهور السريع بما اشاعه من أحلام وأمال وطموحات، سرعان ما تلاشت وبذات الطريقة، مخلفة ورائها كومة من الاسئلة المتعثرة عن مستقبل شعوب ما يزال مكتنفا بالغموض الكبير، مستقبل شعوب سمية ظلما بسلة ورد الربيع المتفتح، ورد لم تنال منه سوى السراب/الطيف القزحي، ورد سرعان ما تحولت سلته العابقة الى اشواك متوحشة في تنمرها متوحشة في شدة ايلامها، وفي وسط غُدرة الربيع بدت الهوة شاسعة بين فساد الانظمة وحاشيتها ورغبات الشعوب وطموحاتها، بين اسقاط الديكتاتور المستبد وبقاء الديكتاتورية، بين شعوب تحلم بالتغيير وتخشاه، شعوب تصيح بالثورة وترفض دفع الثمن، بين عقل جمعي لا يزال يمارس سطوته العنفوانية في الساحات والميادين الربيعية القزحية، ولا يزال يتمنع التفكير على اصحابه، وهواجس تحل محل الأفكار، محولة في طريقها احلام المدنية الوردية الى كابوس مخيف وحلم مرعب
zeid231@gmail.com
شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 14/آيار/2013 - 3/رجب/1434

الأحد، 1 فبراير 2015

الازمة اليمنية بين خيارين



الخيار الدستوري:
 وهذا الخيار يقود الى مجلس النواب الفاقد للشرعية ناهيك عن مخاطر استئثار المؤتمر بغالبية مقاعده ولهذا الخيار وجهان: الاول  رفض المجلس استقالة هادي وبحاح والزامهما بالاستمرار في تصريف الاعمال لمدة تتراوح بين ٦٠ و٩٠ يوما تجرى في نهايتها انتخابات مبكرة رئاسية وبرلمانية والثاني تسلم الراعي مقاليد الحكم لذات الفترة تعقبها انتخابات مبكرة وكلاهما يمثلان الوجه الاخر للأقلمة لجهة التداعيات الكارثية
فاذا كنا عاجزين ماديا واداريا ونفسيا عن تقسيم البلد المرفوض جملة وتفصيلا الى ست دويلات لما يتطلبه ذلك من امكانيات مفقودة بل ومستحيلة لسبب بسيط هو عجزنا عن خلق دولة مركزية لم يعد لها اي وجود فكيف بخلق ست دويلات أو اجراء انتخابات مبكرة بحاجة الى امكانيات مادية وتوافقية ومعنوية تفوق قدراتنا وطاقتنا وظروفنا المنيلة بسبعين نيلة وبالتالي فالخيار الدستوري وان كانت له مبرراته القانونية لكنه اشبه بمن يلقي بنفسه من شاهق فلا هو نجا من الموت ولا هو سلم من وزر الانتحار ..
خيار المجلس الرئاسي:
 وهو طرح عقلاني وموضوعي وواقعي على ان يهيئ لمرحلة انتقالية ثانية لا تقل عن العامين كحد ادنى يقوم خلالها المجلس بتشكيل حكومة طوارئ يناط بها حلحلة كل الملفات العالقة وفي مقدمتها القضية الجنوبية وانجاز الدستور والاتفاق على هوية الدولة واعادة الاعتبار لمؤسسات الجيش والأمن وخلق جيش وطني خالي من الولاءات الضيقة وتفعيل مبدأ الشراكة الوطنية بمفهومها الواسع  وترجمة مخرجات الحوار الوطني كسلة متكاملة دون تحيز أو انتقاء ومعالجة الملف الاقتصادي والامني المتردي بما يهيئ البلد لانتخابات حرة ونزيهة ..
وايا كان خيار الخروج من الازمة فنجاحه متوقف على خلوص النية واعمال المصلحة الوطنية والمسارعة الى بناء جسور الثقة والتوافق الخلاق والجاد واخذ معانات الناس بعين الاعتبار وقبل هذا وذاك نحن في حاجة ماسة اكثر من  أي وقت مضى الى أن نحب بعضنا وأن نتنازل لبعضنا من أجلنا ومن أجل وطننا الذي لم يعد يحتمل ترهاتنا والكف عن المزايدات والمكايدات والمراهنات المفضوحة على المخلص الخارجي والذي لم نجني منه سوى الويل والثبور وعظائم وقديما قالوا:  ما حك جلدك مثل ظفرك

الجمعة، 14 نوفمبر 2014

نبذة عن سيرة الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام

نسبه:
هو: زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام؛ وكنيته

" أبو الحسين " - الإمام الذي تنسب إليه الزيدية.

جده الأعلى من قِبَل أمه: محمد بن عبد الله، رسول الله وخاتم النبيين.

جده الأعلى من قِبَل أبيه: الإمام علي بن أبي طالب فارس الإسلام، وباب مدينة العلم، وابن عم رسول الله، الذي قال فيه صلى الله عليه وآله وسلم: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي ".

جده: الحسين بن علي، أحد سيدي شباب أهل الجنة، وشهيد كربلاء.

أبوه: علي بن الحسين الذي قال فيه صلى الله عليه وآله وسلم: " إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: ليقم سيد العابدين، فيقوم علي بن الحسين ".

أمه: جارية سندية اسمها "جيدا " ، تحلت بالدين والخلُق والأدب والحياء. اشتراها المختار بن أبي عبيد الثقفي وقال: ما أرى أحد أحق بكِ من علي بن الحسين عليهما السلام، وذلك لما رأى فيه من شرف النسب وسعة العلم والورع والتفقه في الدين. وعن علي بن الحسين (ع) أنه أصبح ذات يوم فقال لأصحابه: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليلتي هذه، فأخذ بيدي فأدخلني الجنة، فزوجني حوراء فواقعتها فعلقت، فصاح بي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي، سمّ المولود منها زيدًا. فما أن حلّ اليوم التالي حتى أرسل المختار بأم زيد. فلما ولد زيد أخرجه علي بن الحسين وهو يقول:

{ هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقًا }.

مولده ودراسته:

... ... ولد (ع) بالمدينة المنورة في سنة 75 هـ ، وحين زفت البشرى إلى زين العابدين قام فصلى ركعتين شكراً لله، ثم أخذ المصحف مستفتحًا لاختيار اسم مولوده ، فخرج في أول السطر قول اللّه تعالى: { وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا } ، فأطبق المصحف، ثم قام وصلى ركعات، ثم فتح المصحف، فخرج في أول السطر: { ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون }، ثم قام وركع، ثم أخذ المصحف وفتحه فخرج في أول سطر: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعدًا عليه حقًا في التوراة والإنجيل ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم }. عندها أطبق زين العابدين المصحف وقال: "إنا لله وإنا إليه راجعون، عزّيت في هذا المولود، إنه زيد" ...

ترعرع زيد في ظل أبيه الإمام زين العابدين الذي انكبّ على دراسة علوم عصره بالمدينة المنورة حين كانت المدينة آنذاك مركزًا لتفسير القرآن ولحركة علمية واسعة؛ حيث كان الصحابة والتابعين يتعرفون على أحكام القرآن ويتفهمون معانيه بحسب ما وصلوا إليه من العلم مع الإدلاء بآرائهم واجتهاداتهم الخاصة. وهكذا اكتسب المعارف النبوية من مصادرها النقية، فتوفرت له بذلك مقومات تربوية رفيعة، وعرف معنى الفضيلة والتربية القويمة، ففتح الله عليه بالعلم حتى قال أخوه محمد الباقر (ع): " لقد أوتي أخي علمًا لدُنّيًا، فاسألوه فإنه يعلم ما لا نعلم ". وقال لمن سأله عنه : " سألتني عن رجل ملىء إيمانًا وعلمًا من أطراف شعره إلى قدميه، وهو سيد أهل بيته ". وعُرفت فيه صفات خُلُقية عظيمة، حتى صار شامة أهل زمانه وإمام أهل بيت النبوة في وقته عليهم السلام، وعُرِف في وقته بـِ " حليف القرآن ".

صفته:

... كان (ع) أبيض اللون، أعين (واسع العين)، مقرون الحاجبين، تامّ الخلق، طويل القامة، كثّ اللحية، عريض الصدر، أقنى الأنف، أسود الرأس واللحية إلا أنه خالطه الشيب في عارضيه. وكان وسيمًا، جميلاً وأديبًا يُشبَّه بأمير المؤمنين (ع) في الفصاحة والبلاغة والبراعة حتى انتهت الفصاحة والزهادة والعبادة من بني هاشم إلى زيد بن علي (ع). فله في الزهد والكرم ومحاسن الأخلاق ما ليس لغيره من أهل زمانه.

وشهد له بالبلاغة والفصاحة أهل الاختصاص في عصره، فقال الكميت بن زيد الأسدي - وهو من فحول الشعراء والفصحاء - : " ما رأيت قطّ أبلغ من زيد بن علي". وقال عنه ألد أعدائه هشام بن عبد الملك: " إن له لسانًا أحدّ من السنان، وأمضى من السيف، وأبلغ من السحر والكهانة " . ويروى أن سيبويه كان يحتج بأشعار الإمام زيد (ع).

... أما عبادته (ع) فغنية عن التعريف لما فيها من سموّ ورقيّ. فقد عرف الله حق المعرفة بحيث أخذت منه كل مأخذ؛ فهو يسمع الشيء من ذكر الله فيُغمى عليه حتى يقول القائل: ما هو بعائد إلى الدنيا، ويستمع إلى آيات الله بما فيها من ترغيب وترهيب فيميل كميل الشجرة في اليوم العاصف.

قال أخوه عبد اللّه بن علي: "كان أخي زيد إذا قرأ القرآن بكى حتى نظنه سيموت".

ويكفي وصف الإمام يحيى بن زيد لعبادة أبيه اليومية إذ يقول: " رحم اللّه أبي كان أحد المتعبدين، قائم ليله صائم نهاره، كان يصلي في نهاره ما شاء اللّه فإذا جن الليل عليه نام نومة خفيفة، ثم يقوم فيصلي في جوف الليل ما شاء اللّه، ثم يقوم قائماً على قدميه يدعو اللّه تبارك وتعالى ويتضرع له ويبكي بدموع جارية حتى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر سجد سجدة، ثم يصلي الفجر، ثم يجلس للتعقيب ( للدعاء والاستغفار حال الجلوس بعد الصلاة ) حتى يرتفع النهار، ثم يذهب لقضاء حوائجه، فإذا كان قريب الزوال أتى وجلس في مصلاه واشتغل بالتسبيح والتحميد للرب المجيد، فإذا صار الزوال صلى الظهر وجلس، ثم يصلي العصر، ثم يشتغل بالتعقيب ساعة ثم يسجد سجدة، فإذا غربت الشمس صلى المغرب والعشاء " .

... وأما عن شجاعته (ع) فيقول أبو معمر سعيد بن خثيم: " كنا في دار شبيب بن غرقد فسمعنا وقع حوافر خيل فما منا من أحد إلا أرعب وارتعد وظننا أنه يوسف بن عمر، وواللّه ما رأيت رجلاً أربط جأشًا ولا أشد نفسًا من زيد بن علي، وواللّه ما قطع حديثه ولا تغير وجهه ولا حل حَبْوَته. فلما مضت الخيل وجرينا نفرج عما كنا فيه، أقبل علينا بوجهه وقال: يُرعب أحدكم الشيء يخاف أن يحل به، والله ما خرجت لغرض الدنيا ولا لجمع مال ولكن خرجت ابتغاء وجه اللّه والتقرب إليه، فمن كان اللّه هِمَّتَه ومن اللّه طلبته، فما يروعه شيء إذا نزل به " .

وما وقوفه أمام طغيان الولاة إلا دليل هذه الشجاعة وركونه على الله، فقد نادى بشعار الحق عاليًا، وحاجج الولاة بالكلمة قبل أن يحاججهم بالسلاح حتى قتل شهيدًا مازجًا الدم بالكلمة ليشتعلا مناديان بالحرية في وجه الظلم والاستبداد. وها هو الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة يصف إقدام زيد (ع): " لما أقبل عليه جنود أهل الشام من تلقاء الحيرة حمل عليهم كأنه الليث المغضب فقتل( أو قاتل ) منهم أكثر من ألفي رجل بين الحيرة والكوفة.

... كان ذا حافظة عجيبة، فهو يحفظ الرسالة التي تُلقى عليه ثم يعيدها من أولها ويجيب عما ورد فيها من السائل. وكان إذا كلمه إنسان وخاف أن يهجم على أمر يخاف منه مأثمًا قال له: " يا عبد الله، أمسك أمسك، كفّ كفّ، إليك إليك، عليك بالنظر لنفسك " .

... كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وقيل: إنه ما توسّد القرآن منذ احتلم حتى قُتِل، وهذا كناية عن قيام الليل واستكمال قراءة القرآن في صلاة التهجد حتى أثّر السجود على جبينه.

... وتكفي شهادة الإمام أبي حنيفة النعمان حيث يقول: " شاهدت زيد بن علي كما شاهدت أهله، فما رأيت في زمنه أفقه منه ولا أعلم ولا أسرع جوابًا ولا أبين قولاً، لقد كان منقطع القرين ".

... كان نقش خاتمه ( اصبر تؤجر ، أصدق تنجُ ).

حال عصره بعد مولده (ع):

لا يخفى على أحد حال الدولة الأموية وما آلت إليه من فساد وتهتك وضياع وبُعد عن التقوى، حتى باتت غير جديرة بالخلافة. وقد عاصر الإمام زيد (ع) النصف الأخير من الحكم الأموي (40-132هـ) كالتالي:

1- تولى الحكم أيام صبا زيد (ع) الوليد بن عبد الملك الذي عُرف بالترف وسفك الدماء.

2- خلفه أخاه سليمان بن عبد الملك (96-99هـ) الذي مات تخمة، فقد عرف عنه الشراهة في الطعام حتى أنه كان يعرف بالخليفة الأكول.

3- خلفه العادل عمر بن عبد العزيز(99-101هـ) الذي دان بالعدل والتوحيد، وردّ مظالم بني أمية، ومنع لعن علي (ع) على المنابر . وكان يستلم نصائح زيد عن طريق الرسائل حتى قال عنه بكل إجلال وتقدير: " إن زيدًا لمن الفاضلين في قِيله ودينه ".

4- تولى الحكم بعده يزيد بن عبد الملك (101- 105هـ) الذي جعل دار الخلافة مرتعًا للّهو والسكر والطرب، وكانت له جارية اسمها "حُبَابة" قد شغفها حبًا، رماها بحبة عنب فوقعت في حلقها فشرقت بها وماتت، فمات بعدها بيسير أسفًا عليها، ونبشها بعد الدفن ولم يدفنها حتى تغير ريحها0 وفي عهده ، بلغ الصراع القبلي أوجه الأمر الذي زعزع أركان الدولة الأموية ومزقها، ومهّد لثورة العباسيين. فقد استنزفت الثورات المسلحة التي قامت ضدهم أموالاً طائلة وقضت على عدد غير قليل من خيرة رجالهم.

5- تولى الحكم بعده هشام بن عبد الملك ، والإمام زيد حينذاك في الثلاثين من عمره. وقد تميّز عصره بسوء العلاقة بين الحكام والمحكومين، وكان هشام بخيلاً، حسودًا، فظًا، ظلومًا، شديد القسوة، بعيد الرحمة، طويل اللسان " ، وكان يخصص يومًا في الأسبوع لشرابه، حتى لقد تمنى أهل الشام أن يخلفه من يرحمهم من ظلمه وسوء معالجته الإدارة التي دامت على ما يزيد عن عشرين عامًا. وفي عصره أصيبت القوة العسكرية بانتكاسة شديدة، وكان عام 112هـ من أقسى الأعوام على المسلمين حين انهزموا أمام الترك.

دعوة زيد (ع) إلى الثورة:

دعا الإمام زيد (ع) إلى الثورة على هشام لِما اشتهر به من الفسق عند غالبية أهل عصره، فكان لا بد من تغيير الأوضاع الفاسدة، وإحياء الشريعة وفق كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. كما كان لا بد أن يعيد الإمام زيد (ع) للدولة الإسلامية طابعها الديني، وذلك باللجوء إلى قوة السلاح في سبيل نشر العدالة الاجتماعية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ أن الأحوال في عهد الأمويين كانت أبعد ما تكون عن الإيمان؛ فقد كانت حياتهم مترفة طابعها المجون والانغماس في ملذات الدنيا، وتعطيل الحدود، وشرب الخمور، وسوء الأخلاق، وقتل الأبرياء ، وتعظيم السفهاء، وإنفاق أموال المسلمين في الملذات والشهوات حتى عان بيت المال من أزمة اقتصادية عادت على المجتمع الإسلامي بكل ضيق وشظف العيش. والإساءة إلى مقدسات المسلمين وإسقاط هيبتها، وكذا الإساءة إلى أهل البيت عليهم السلام ، حتى تعرّض للسباب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول الله والحسنين عليهم السلام على منابر الجمعة. لذا نرى سعيد بن المسيب يقول في بني أمية: " ما أصلي صلاة إلا دعوت الله عليهم" . وأخطر من هذا وذاك وضع الأحاديث بما يتناسب مع أهواء الحكام. وقد عالج ذلك زيد بأن جمع الحديث ونقده وألّف أول كتاب في الحديث بيده وهو ( المجموع الفقهي ).

... في مقابل ذلك، كان الأمويون - في سبيل تعزيز موقفهم ومركزهم - يقولون:

" إن الخليفة في أهله خير من النبي في أمته" . وعن جابر الجعفي أنه قال لزيد حين أزمع على الخروج بكلام ذكره له محمد الباقر من صفة خروج الإمام زيد بن علي وأنه مقتول، فقال الإمام زيد: " أأسكن وقد خولف كتاب الله تعالى، وتحوكم إلى الجبت والطاغوت؟ وذلك أني شهدت هشامًا ورجل عنده يسبّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - وفي رواية أن الرجل السابّ كان يهوديًا - فقلت للسابّ له: ويلك يا كافر! أما إني لو تمكنت منك لاختطفت روحك وعجّلتك إلى النار ". فقال هشام: مه عن جليسنا يا زيد، فثار الإمام زيد (ع) على كل هذه الأقاويل التي لا يقبلها مؤمن ولا يتصورها وقال (ع): " فوالله لو لم يكن إلا أنا ويحيى ابني لخرجت عليه وجاهدته حتى أفنى" - أي على هشام. وقد تحمل زيد من هشام التلاعب به والعنت والحرج الشيء الكثير، وهو (ع) القائل:

" فوالله ليذهب دين القوم وما تذهب أحسابهم " .

ومن أمثال العنت والغطرسة والحسد لكل شريف أنه دخل زيد بن علي (ع) على هشام بن عبد الملك وقد جمع له هشام الشاميين فلما دخل الإمام زيد سَلَّم، فتجاهله هشام ومن في مجلسه، فانبرى قائلا: السلام عليك أيها الأحول، وإنك لجدير بهذا الاسم! فاستشاط هشام غضباً وقال: أنت زيد المؤمّل للخلافة، ما أنت والخلافة وأنت ابن أَمَة؟!

فقال: إن الأمهات لا يقعدن بالرجال عن حتم الغايات، ولا أعرف أحداً أحب عند اللّه من نبي بعثه وهو ابن أمَة، وهو إسماعيل بن إبراهيم، والنبوة أعظم عند اللّه من الخلافة، ثم لم يمنع ذلك أن جعله اللّه تعالى أبا للعرب، وأبا لخير النبيين محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، فلو كانت الأمهات تقصر عن حتم الغايات لم يبعثه اللّه نبياً، وما تقصيرك برجل جده رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وأبوه علي بن أبي طالب!! ثم أردف قائلا: اتق اللّه يا هشام!

فلم يتمالك هشام نفسه، وقال في غلظة: ومثلك يأمر مثلي بتقوى اللّه؟!

قال زيد: إن اللّه لم يرفع أحداً فوق أن يُؤْمَر بتقوى اللّه، ولم يضع أحداً دون أن يَأمُر بتقوى اللّه! فقال هشام: هذا تحقيق لما رُفِع إليَّ عنك. ومن أمَرَك أن تضع نفسك في غير موضعها وتراها فوق مكانها ؟ فترفع على نفسك واعرف قدرك، ولا تشاور سلطانك ولا تخالف على إمامك.

فقال الإمام زيد بكل تحدٍّ: مَنْ وَضَعَ نفسه في غير موضعها أثم بربه، ومن رفع نفسه عن مكانها خسر نفسه، ومن لم يعرف قدره ضل عن سبيل ربه، ومن شاور سلطانه وخالف إمامه هلك، أفتدري يا هشام من ذلك؟ ذلك من عصى ربه، وتكبر على خالقه وتسمى باسم ليس له، وأما الذي أمرك بتقوى اللّه فقد أدى إلى اللّه النصيحة فيك، ودَلَّك على رُشْدِك!

فوثب هشام من مجلسه، وقام قائلاً: أخرجوه من مجلسي، ولا يبيتنَّ في عسكري.

فقال له زيد: لا تجدني إلا حيث تكره! وخرج الإمام زيد وهو يقول كلمته الشهيرة: "والله ما كره قوم قط حَرَّ السيوف إلا ذلوا "، وفي رواية: " من اسْتَشْعَرَ حُبّ البقاء اسْتَدْثَرَ الذُّلَّ إلى الفناء ".

فقال هشام لأعوانه مؤكدًا الحقيقة التي لا بد منها: ألستم تزعمون أن أهل هذا البيت قد بادوا ؟ هيهات ما ذهب قوم هذا خَلَفُهم !

خط سير المعركة: ...

اتخذت دعوته منحىً سريًا مغايرًا لمنحى الحسين (ع)، فقد عرف زيد (ع) أن إعلان الدعوة قد تجعل بني أمية يترصدون له فيعينوا أنصاره على خذلانه كما فعلوا مع جده الحسين (ع).

وكان من سبل دعوته أن يبعث الرسل لمن يريدهم في صفه ثم يذهب لمواجهتهم أو أنه كان يرسل رسله دون أن يلتقي بمن يحتاجهم لتأييده. فكان اثنان من دعاة زيد (ع) يُدخلان الناس عليه وعليهم براقع لا يعرفون موضع زيد، فيأتيان بهم من مكان لا يبصرون شيئُا حتى يدخلوا فيه فيبايعونه، فأقام بالكوفة ثلاثة عشر شهرًا، وكانت بيعته الني يبايع الناس عليها أنه يبدأ فيقول: " إنا ندعوكم أيها الناس إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وإلى جهاد الظالمين والدفع عن المستضعفين، وقسم الفيء بين أهله، وردّ المظالم، ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا الحرب. أتبايعونا على هذا ؟" فإذا قالوا: نعم، وضع يد الرجل على يده فيقول: " عليك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله، لتفِينّ ببيعتي، ولتُقاتلنّ معي عدونا، ولتنصحنّ لنا في السرّ والعلانية ". فإذا قال: نعم، مسح على يده ثم قال: " اللهم اشهد ".

فكانت عناصر دعوته كالتالي:

1- " كتاب الله وسنة نبيه "؛ لذلك هبّ رجال العلم والفقهاء للنصرة وفي مقدمتهم أبو حنيفة النعمان الذي تبرّع بعشرة آلاف درهم لتساند زيدًا في ثورته.

2- " وجهاد الظالمين والدفع عن المستضعفين وإعطاء المحرومين "؛ وهذا ما دفع العديد من سكان الكوفة ممن أصابهم الضرر للبيعة لزيد (ع).

3- " وقسم الفيء بين أهله وردّ المظالم "؛ فالصراع كان قائمًا بين أهل الشام وأهل العراق لهذا السبب، مما حدا بأهل العراق أن يلتفوا حول زيد ليساعدهم في إبقاء أموالهم وعدم إرسالها إلى الشام.

4- " ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا الحرب "؛ وهذا ما دعا الشيعة لمناصرته.

وبعد توضيح دوافع الثورة كان يسألهم السؤال التالي: " أتبايعونا على هذا؟ " فإذا قالوا: نعم، وضع يد الرجل على يده فيقول: " عليك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله، لتفِينَّ ببيعتي، ولتُقاتلنّ معي عدونا، ولتنصحنّ لنا في السرّ والعلانية ". فإذا قال: نعم، مسح على يده ثم قال: " اللهم اشهد ".

... وقيل لرفيق دربه في دراساته- الإمام جعفر الصادق (ع) عن الرافضة إنهم يبرؤون من عمك زيد، فقال: " برئ الله ممن برئ من عمي. كان والله أقرأنا لكتاب الله وأفقهنا في دين الله، وأوصلنا للرحم. والله ما ترك فينا لدنيا ولا لآخرة مثله " . ومن هنا يظهر مدى قوة العلاقة التي ربطت زيدًا بجعفر، بعكس ما ادّعاه البعض أن سبب عدم اتّباع جعفر زيدًا إنما كان الحسد لا سواه. وقد استفسرت الشيعة جعفرًا في مبايعتها لزيد، فقال: " نعم بايعوه، فهو والله أفضلنا وسيدنا وخيّرنا ".وقد أراد جعفر (ع) الخروج مع زيد (ع) لَمَّا خرج المرة الأخيرة من المدينة إلى الكوفة، وقال له: " أنا معك يا عم " . فقال له الإمام زيد: " أما علمت يا ابن أخي أن قائمنا لقاعدنا، وأن قاعدنا لقائمنا، فإذا خرجتُ أنا وأنت فمن يخلفنا في حرمنا؟ ". فتخلف جعفر بأمر عمه زيد، ودفع بولديه عبد اللّه ومحمد معه. وقال: "من قُتِل مع عمي زيد كمَنْ قتل مع الحسين، ومن قتل مع الحسين كمن قتل مع علي بن أبي طالب، ومن قتل مع علي كمن قتل مع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم " .

... وقد روي أن جماعة دخلوا على زيد بن علي(ع) فسألوه عن مذهبه فقال:

" إني أبرأ إلى الله من المشبهة الذين شبهوا الله بخلقه، ومن المجبرة الذين حملوا ذنوبهم على الله، ومن المرجئة الذين طمّعوا الفسّاق في عفو الله، ومن المارقة الذين كفّروا أمير المؤمنين، ومن الرافضة الذين كفّروا أبا بكر وعمر " .

... وهكذا انضم لبيعة زيد في ديوانه ألف وخمسمائة رجل من أهل الكوفة دون سواها، وحدد يوم الأربعاء أول ليلة من صفر سنة 122هـ بداية لها وذلك بعد أن أقام في الكوفة أربعة عشر شهرًا - منها شهرين في البصرة - يرتّب للدعوة دون علم والي الكوفة يوسف بن عمر بذلك. إلا أن أحد الأمويين استطاع أن يسمع شيئًا عن التمهيد للثورة وهو في الكوفة، فأخبر هشامًا بن عبد الملك بذلك والذي بدوره أرسل ليوسف بن عمر يأمره أن يطلب زيدًا إليه ويعطيه الأمان، فإن رفض زيد ذلك قاتله. فما كان من يوسف إلا أن أرسل جاسوسًا على أنه موالٍ لزيد، ولكن باءت جميع محاولاته للعثور على زيد بالفشل لأن زيدًا (ع) كان سريع التنقل والاختفاء.

وكان نصر بن خزيمة من أهم أعوان الإمام زيد وأشدهم حماساً وإخلاصاً، تمامًا كمالك الأشتر في أصحاب الإمام علي (ع)، فأعد الجنود المحاربين مع زيد وبث فيهم الحماس، الأمر الذي دعا زيدًا للاستبشار بالكم الهائل من المقاتلين.

... وكانت خطة زيد تهدف إلى الهجوم دفعة واحدة من قِبَل جميع الأنصار في جميع الأمصار. وفي هذه الأثناء، كان هشام يترقب موعد ثورة زيد (ع) ويعدّ العدة لذلك. فكان مما استعد له أن نشر شرطته في أزقة الكوفة، وأرسل من يتتبع أثره، وجمع أهل الكوفة في المسجد وأعلن الآتي: " أيما رجل من العرب والموالي أدركناه في رحبة المسجد فقد برئت منه الذمة، ائتوا المسجد الأعظم ". عندئذ، قاد وعي زيد إياه وحنكته السياسية إلى أن يغير الموعد المحدد للثورة من أول ليلة من صفر 122هـ إلى 23 محرم 122هـ.

... غادر زيد الشام متوجهًا إلى الكوفة بعد أن أمر يوسف بن عمر الحكم بن الصلت بجمع أهل الكوفة في المسجد ومنع التجول وحمل السلاح وأن ينادي المنادي: أيما رجل من العرب والموالي أدركناه في رحبة المسجد فقد برئت منه الذمة؛ ائتوا المسجد الأعظم. وفي الليلة الموعودة - وكانت شديدة البرد - أوقد أصحاب زيد (ع) النيران إعلانًا للثورة، وعلت صيحاتهم بالنداء: " يا منصور أمت " إيذانًا ببدء الهجوم. فبقوا طوال الليل يحاولون جمع الأنصار إلا أن محاولاتهم باءت بالفشل، فأصبح زيد بن علي وجميع من وافاه تلك الليلة مائتان وثمانية عشر (218) من الرجالة، فقال زيد بن علي (ع): "سبحان الله! فأين الناس ؟ " قيل: هم محصورون في المسجد. فقال:" لا والله، ما هذا لمن بايعنا بعذر".

وقد بعث زيد بأنصاره لرفع الحصار عن أهل المسجد وطمأنة أهل الكوفة ليحرّض أهل المسجد على القتال، و توجه مع أنصاره إلى المسجد لفك الحصار. وفي طريقهم إلى المسجد اشتبك الأمويين معهم وانتصروا عليهم، ثم تقدموا إلى جوار المسجد نادى أصحابه بشعاره وأدخلوا الرايات من نوافذ المسجد، ونادى نصر ابن خزيمة: " يا أهل الكوفة! أخرجوا من الذل إلى العز ومن الضلال إلى الهدى، أخرجوا إلى خير الدنيا والآخرة فإنكم لستم على واحد منها ".، إلا أنهم لم يحركوا ساكنًا، ومكثوا في المسجد بحجة الحصار.

... وقف زيد (ع) على باب الجسر هو وأصحابه بعد أن أمرهم الإمام زيد أن ينادوا: من ألقى سلاحه فهو آمن، وجاء أهل الشام واقتتلوا مع أهل الكوفة قتالاً شديدًا، فقال الإمام زيد لأصحابه:" انصروني على أهل الشام، فوالله لا ينصرني رجل عليهم اليوم إلا أخذت بيده حتى أدخله الجنة ". وقد خطب زيد (ع) أصحابه حين ظهر قائلا: " الحمد لله الذي منّ علينا بالبصيرة، وجعل لنا قلوبًا عاقلة، وأسماعًا واعية، وقد أفلح من جعل الخير شعاره، والحق دثاره، وصلى الله على خير خلقه الذي جاء بالصدق من عند ربه، وصدق به الصادق محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى الطاهرين من عترته وأسرته والمنتخبين من أهل بيته وأهل ولايته. أيها الناس! العجل العجل قبل حلول الأجل، وانقطاع الأمل، فوراؤكم طالب لا يفوته هارب إلا هارب هرب منه إليه، ففروا إلى الله بطاعته، واستجيروا بثوابه من عقابه، فقد أسمعكم وبصّركم ودعاكم إليه وأنذركم، وأنتم اليوم حجة على من بعدكم. إن الله تعالى يقول: { ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون، ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم}. عباد الله! إنا ندعوكم إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا، ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله، إن الله دمّر قومًا اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله. عباد الله! أكأنّ الدنيا إذا انقطعت وانقضّت لم تكن، وكأن ما هو كائن قد نزل، وكأن ما هو زائل عنا قد رحل، فسارعوا في الخيرات، واكتسبوا المعروف تكونوا من الله بسبيل، فإنه من سارع في الشر واكتسب المنكر، فإنه ليس من الله في شيء. أنا اليوم أتكلم وتسمعون ولا تبصرون، وغدًا بين أظهركم هامة فتندمون، ولكن الله ينصرني إذا ردّني إليه، وهو الحاكم بيننا وبين قومنا بالحق، فمن سمع دعوتنا هذه

الجامعة غير المفرقة، العادلة غير الجائرة، فأجاب دعوتنا وأناب إلى سبيلنا، وجاهد بنفسه نفسه ومن يليه من أهل الباطل ودعائم النفاق، فله ما لنا وعليه ما علينا، ومن ردّ علينا دعوتنا وأبى إجابتا واختار الدنيا الزائلة الآفلة على الآخرة الباقية، فالله من أولئك بريء، وهو يحكم بيننا وبينهم . إذا لقيتم القوم فادعوهم إلى أمركم، فلئن يستجيب لكم رجل واحد خير لكم مما طلعت عليه الشمس من ذهب وفضة، وعليكم بسيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بالبصرة والشام؛ لا تتبعوا مدبرًا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تفتحوا بابًا مغلقًا، والله على ما أقول وكيل " .

وكان من أهم مقاصد الإمام زيد توضيح أهداف الثورة، لأنه كان يدرك أن الكثير من الأنصار إنما خرجوا لتصفية حساباتهم مع الأمويين والاستئناس بمرافقة زيد (ع) وأهل البيت - وهو أمر يستحق الجهاد من أجله ولكن أن يكون ذلك هدفًا فذلك مما لم يرتضيه لهم لأنهم (ع) إنما هم وسيلة ليس إلا- لذلك دعاهم لأن يفصلوا بين الهدف الأسمى من الثورة وبين مشاعرهم المستفيضة بالقول: " لا تقولوا : خرجنا غضباً لكم، ولكن قولوا: خرجنا غضباً لله ودينه " ، وأن يجاهدوا بنية صادقة ملؤها اليقين قائلاً:

" عباد اللّه ! لا تقاتلوا عدوكم على الشك فتضلوا عن سبيل اللّه، ولكن البصيرة .. البصيرة ثم القتال، فإن اللّه يجازي عن اليقين أفضل جزاء يجزي به على حق، إنه من قتل نفسًا يشك في ضلالتها كمن قتل نفسًا بغير حق. عباد اللّه البصيرة .. البصيرة "

... ولما خفقت رايات زيد (ع)، رفع يديه إلى السماء فقال: " الحمد لله الذي أكمل لي ديني، والله ما يسرني أني لقيت محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم ولم آمر في أمته بالمعروف ولم أنههم عن المنكر. والله ما أبالي إذا أقمت كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن أُجِّجت لي نار ثم قُذِفت فيها ثم صرت بعد ذلك إلى رحمة الله تعالى. والله لا ينصرني أحد إلا كان في الرفيق الأعلى مع محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين. ويحكم! أما ترون هذا القرآن بين أظهركم جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونحن بنوه ؟ يا معاشر الفقهاء ، ويا أهل الحجا، أنا حجة الله عليكم؛ هذه يدي مع أيديكم على أن نقيم حدود الله ونعمل بكتاب الله ونقسم فيئكم بالسوية، فسلوني عن معالم دينكم، فإن لم أنبئكم عما سألتم فولّوا من شئتم ممن علمتم أنه أعلم مني. والله لقد علمت علم أبي علي بن الحسين وعلم علي بن أبي طالب وصيّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعَيبة (وصمة) علمه، وإني لأعلم أهل بيتي. والله ما كذبت كذبة منذ عرفت يميني من شمالي، ولا انتهكت محرمًا لله منذ عرفت أن الله يؤاخذني. هاؤم (هلموا) فسلوني!" .

ثم قال: " اللهم لك خرجت، وإياك أردت، ورضوانك طلبت، ولعدوك نصبت، فانتصر لنفسك ولدينك ولكتابك ولنبيك ولأهل بيتك ولأوليائك من المؤمنين، اللهم هذا الجهد مني وأنت المستعان " .

... وكان زيد (ع) يردد بعد أن نذر نفسه لله: " والله لو علمت أن رضا الله عز وجل في أن أقدح نارًا بيدي حتى إذا اضطرمت رميت بنفسي فيها لفعلت " . وكان يقول: " والله لوددت أن يدي ملصقة بالثرى فأقع إلى الأرض أو حيث أقع، فأتقطع قطعة قطعة وأن الله أصلح بي أمة محمد" .

وأقبلت جنود الشام من تلقاء الحيرة، فحمل عليهم (ع) كأنه الليث المغضب، فقتل منهم أكثر من ألفي رجل بين الحيرة والكوفة، وأقام بين الحيرة والكوفة، ودخلت جيوش الشام الكوفة، ففرّق أصحابه فرقتين: فرقة بإزاء أهل الكوفة، وفرقة بإزاء أهل الحيرة. ولم يزل أهل الكوفة يخرج الواحد منهم إلى أخيه، والمرأة إلى زوجها، والبنت إلى أبيها، والصديق إلى صديقه فيبكي عليه حتى يرده، فأمسى عليه السلام وقد رقّ عسكره، وخذله كثير ممن كان معه، ودامت المواجهة بين المعسكرين طويلاً؛ جنود زيد يتناقصون وجنود الأمويين يتزايدون، والتفت الإمام زيد إلى نصر بن خزيمة وقال له: يا نصر أخاف أهل الكوفة أن يكونوا قد فعلوها حسينية! فقال نصر: جعلني اللّه فداك! أما أنا فوالله لأضربن بسيفي بين يديك حتى أموت!!

شهادته (ع):

وحارب الإمام زيد وأصحابه الأمويين وأبلوا بلاء حسنًا، فخاف جيش العدو واختبأ خلف الجدران يمطر جيش زيد (ع) بوابل من الأسهم، حتى سُمِع صوتًا ينادي: الشهادة... الشهادة، الحمد لله الذي رزقنيها. كان ذلك الإمام زيد يصيح بعد أن أصيب في ثاني ليلة من بدء الثورة بسهم في جانب من جبهته اليسرى، فنزل السهم في الدماغ. فجاء يحيى بن زيد إلى أبيه وهو يبكي، وأخذ يمسح الدم عن وجه أبيه ثم قال له: أبشر يا ابن رسول الله، ترد على رسول الله وعلي وفاطمة وخديجة والحسن والحسين وهم عنك راضون. فقال (ع): صدقت يا بني، فأي شيء تريد أن تصنع؟ قال يحيى: أجاهدهم إلا أن لا أجد الناصر. فقال زيد: نعم يا بني جاهدهم، فوالله إنك لعلى الحق وإنهم لعلى الباطل، وإن قتلاك في الجنة وقتلاهم في النار .

... وحين جاء الطبيب لينتزع السهم قال لزيد: إنك إن نزعته من رأسك مت. قال: الموت أيسر علي مما أنا فيه. فأخذ الطبيب الكلبتين فانتزعه، ومات صلوات الله عليه من ساعته.

... وهكذا رحل زيد (ع) - وهو لا يتجاوز الثانية والأربعين من عمره عام 122هـ على أغلب الروايات - فائزًا بالشهادة وقد أراح ضميره حين رفع راية الجهاد عالية بعد أن صبغها دم الشهداء ليصدق قول الله تعالى: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعدًا عليه حقًا في التوراة والإنجيل ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم}.

... ولا يحسب المرء منا أن الله غافل عما فعل المبطلون، فها هو الإمام علي بن أبي طالب (ع) يقول: " لما أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتل الحسين بن علي وصلب ابنه زيد (ع) قلت: يا رسول الله، أترضى أن يُقتل ولدك؟ قال: يا علي، أرضى بحكم الله فيّ وفي ولدي، ولي دعوتان: أما دعوة فاليوم، وأما الثانية فإذا عرضوا على الله عزّ وجل وعرضت عليّ أعمالهم. ثم رفع يديه إلى السماء وقال: يا علي أمّن على دعائي. اللهم احصهم عددًا، واقتلهم بددًا، وسلّط بعضهم على بعض، وامنعهم الشرب من حوضي ومرافعتي. قال: فأتاني جبريل وأنا أدعو عليهم وأنت تؤمّن فقال: قد أجيبت دعوتكما.

دفنه (ع):

ثم تساءل القوم عن مكان دفنه ومواراته، وارتأوا دفنه في العباسية وإجراء الماء عليه. ولما كان معهم عبد سندي أفشى سر قبر زيد (ع) إلى الحكم بن الصلت ودلّهم على الموضع بعد أن أُعلِن في الشوارع عن جائزة مغرية لمن يدل على موضع دفنه، فما كان منهم إلا أن استخرجوه على بعير قد شُدّ بالحبال، فألقي جسده الشريف من البعير على باب القصر فخرّ كأنه جبل. فأمر به فصلب بالكناسة(مزبلة الكوفة)، ومكث مصلوبًا عاريًا- والعنكبوت تنسج خيوطها لتستر عورته كلما أُزيحت- إلى أيام الوليد بن يزيد حتى أمر يوسف بن عمر بإنزاله وفصل رأسه وحرقه وذروه في الفرات وهو يقول: والله يا أهل الكوفة لأدعنّكم تأكلونه في طعامكم وتشربونه في مائكم .

... لم يكفهم قتله حتى تعاقبه ... ... نبش وصلب وإحراق وتغريق

أما رأسه الشريف فقد أمر هشام أن يطاف به في البلدان حتى انتهوا به إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وهناك ضجّت المدينة بالبكاء من دور بني هاشم، وأُمر أهل المدينة أن يتبرؤوا من علي وزيد بن علي عليهما السلام. وأخيرًا أُخذ الرأس إلى الجامع الأعظم في مصر، ومنه أخذ سرًا ودفن هناك، ويقال أن الدعاء عنده مستجاب والأنوار ترى عليه .

... وبعد قتل زيد بن علي (ع) انتقض ملك بني أمية وتلاشى إلى أن أزالهم الله ببني العباس.

قال اليعقوبي: "ولما قتل زيد وكان من أمره ما كان، تحركت الشيعة بخراسان، وظهر أمرهم وكثر من يأتيهم ويميل معهم، وجعلوا يذكرون الناس أفعال بني أمية وما نالوا من آل رسول اللّه فلم يبق بلد إلا فشا فيه هذا الخبر ".

وبعد سنوات من استشهاد زيد (ع) خرج الإمام يحيى بن زيد في خراسان يواصل مسيرة أبيه بأهدافها السامية وهو يقول:

يا ابن زيد أليس قد قال زيد  ..  كن كزيد فأنت مهجة زيد

من أحب الحياة عاش ذليلا  ..  واتخذ في الجنان ظلا ظليلا

آثار الإمام زيد (ع) العلمية:

تعدّ مصنفاته (ع) من أوائل ما كتب في تاريخ الثقافة الإسلامية، ومن تلك الكتب والرسائل:

1 ـ مجموع الإمام زيد الفقهي والحديثي، وهو مطبوع باسم " مسند الإمام زيد ".

2 ـ تفسير غريب القرآن، طبع مؤخراً بتحقيق الدكتور حسن محمد الحكيم.

3 ـ مناسك الحج والعمرة، طبع في بغداد.

4 ـ مجموع رسائل وكتب الإمام زيد، وهو الآن تحت الطبع ويحتوي على:

(1) رسالة الإيمان، وتشتمل على شرح لمعنى الإيمان والكلام على عصاة أهل القبلة.

(2) رسالة الصفوة، وتشتمل على تعريف صفوة اللّه من خلقه والكلام عن أهل البيت وأن اللّه اصطفاهم لهداية الناس.

(3) رسالة مدح القلة وذم الكثرة، وتشتمل على مناظرة جرت بينه وبين أهل الشام في القلة والكثرة، وجمع فيها كثيراً من آيات القرآن الدالة على مدح القلة وذم الكثرة.

(4) رسالة تثبيت الوصية، وتتضمن استدلالات على أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أوصى لعلي عليه السلام بالخلافة من بعده.

(5) رسالة تثبيت الإمامة، وتتضمن استدلالات على أن علياً عليه السلام كان أولى الناس بالخلافة بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.

(6) رسالة إلى علماء الأمة، وهي الرسالة التي وجهها إلى العلماء يدعوهم فيها إلى القيام بمسئولياتهم وتأييده في ثورته.

(7) رسالة الرد على المجبرة، وهي عبارة عن بضع صفحات أوضح فيها موقفه من القدر، وضمنها ردًا على غلاة المجبرة.

(8) رسالة الحقوق، وهي عبارة عن نصائح وتعاليم خُلُقِيَّة وجهها إلى أصحابه ومن بلغته من المسلمين.

(9) مناظرة لأهل الشام في مقتل عثمان والقلة والكثرة.

(10) الرسالة المدنية، وهي عبارة عن جوابات أسئلة وردت إليه من المدينة.

(11) مُجَمَّع يشتمل على بعض مناظراته وأجوبته وخطبه وأشعاره ورسائله وكلماته القصيرة.

(12) الرسالة الشامية، وتتضمن إجابات على استفسارات لأحد أصحاب الإمام زيد بعث بها من الشام.

(13) جواب على واصل بن عطاء في الإمامة.

(14) مجموعة من الأشعار والأدعية المنسوبة إليه.

المصدر:

http://www.azzaidiah.com/kotob_mojamaah/taragem/serat_alemam_zaid.html