Translate

الثلاثاء، 12 أغسطس 2014

الجغرافيا الزيدية ودواعش اليمن

بقلم الدكتور/ حسـن علـي مجلـي*
استخدمت مصطلح (الجغرافيا الزيدية) نقلاً عن أحد الرفاق المصابين بـ (فوبيا الزيدية). والمصطلح دال بذاته على ما يجري الآن من جرائم قتل بشعة، حيث تم قتل عشرات الجنود ذبحاً في إحدى مناطق (حضرموت) يوم 8/8/2014م، لأنهم من (الجغرافيا الزيدية)، وهذا النوع من جرائم القتل هو أخطر أنواع الجرائم طبقاً لقانون المحكمة الجنائية الدولية، ويندرج ضمن جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية.
صارت العودة إلى الجذور الفقهية العقلانية الاجتهادية الثورية هماً طاغٍ في اليمن التي باتت تعاني من أزمة هُويَّة فكرية، في خضم تصاعد مد القوى المذهبية الرجعية الاستبدادية الإرهابية المتمثلة في الوهابية والسلفية وحركة (الإخوان المسلمين)، مدعومة بمراكز القوى القبيلية المتنفذة المتواشجة مع مراكز القوى العسكرية الطغيانية الرجعية الفاسدة وحلفائها من زعماء اللاهوت اليمني، حيث ازداد هذا المد السلفي الوهابي الإرهابي سرعةً وكثافةً وشمولاً لا مثيل له في تاريخ اليمن القديم والحديث.
جاء هذا المد الفكري الرجعي المذهبي الإرهابي في اليمن مواكباً لهزائم وانكسارات مشاريع التحديث وخيانات وانتهازية معظم (النُّخب) الثقافية وعجزها، والصراعات الدموية بين أجنحة الحكم على السلطة وتضخم سابق في مقولات (الأفندم الانقلاب) والأيديولوجيات (الثورية) الحارقة للمراحل التي اجتاحت الساحة اليمنية والعربية تحت ألوية القومية والماركسية والناصرية، حتى جاء انقلاب (عبدالرحمن الإرياني) وجماعته عام 1967م الذي شكل علامة فارقة في تاريخ اليمن والجسر الذي عبره قادة العصابات القبيلية والعسكرية الرجعيين الفاسدين إلى السيطرة التامة على الحكم والمشهد الثقافي في اليمن.
الظاهرة المسيطرة على عدد من الصحف والصحفيين في التعاطي مع الثوار (أنصار الله) والفقه والفكر الزيديين هي، النـزعة المذهبية الطائفية أو العنصرية بكل مسبقاتها وتحيزاتها وإسقاطاتها ومسكوتاتها وعماءاتها بل وضلالاتها، وفي المقابل تغيب أو تضعف اللحظة المعرفية الصحيحة بأداتها الفكرية الضرورية التي هي التحليل العلمي الموضوعي، وبغايتها التي هي الحقيقة التاريخية.
مشكلة التراث الفقهي الزيدي العظيم ومذهب العقل والاجتهاد والعدل والثورة على الحاكم الظالم، أن القوى الطغيانية المتخلفة، بمقولاتها ومضمراتها العنصرية والطائفية والمناطقية والمذهبية، عملت بدأب وما تزال، على إزاحة الفقه الزيدي الثوري بوسائل عديدة منها اغتيال مفكريه وعلمائه وإقصاء قضاته والتنكيل بمثقفيه وتهميشهم وإحلال أفكار ومذاهب وفتاوى رجعية وإرهابية (وهابية) و (سلفية) و (إخوانية) وخطاب ديني زائف محله، بينما بعض المثقفين حُسني النية والكَتَبَة الجهلة بهذا الفكر السياسي والفقهي العظيم يخدمون، بمعاداتهم له ولقواه المحركة، قوى التخلف والطغيان وخاصة عندما يسقطون ما تظنونه (حقيقة) على هذا الفكر من خارجه دون معرفة حقيقته أو إدراك طبيعة القوى التي تنتمي إليه أو تناضل تحت لوائه.
تلمس في عدد من الكتابات الصحفية رغبة مسبقة ومصادرة على المطلوب في إدانة الفكر الزيدي الثوري العقلاني الذي يشكل فقه المصلحة والتقدم والعمل جوهره، ويعتبر (أنصار الله) بقيادة الزعيم الثوري السيد (عبدالملك الحوثي) قوته المحركة في محيط التكفير والارتداد عن الحرية و التقدم والحضارة باسم الإسلام، وفي الوقت ذاته يعمل أصحاب تلك الكتابات على تبرءة مراكز قوى التخلف والطاغوت القبيلية وقادة العسكر الانكشارية المتحالفة معها والمهيمنة على المدن و(شبه الدولة) الرخوة من أية مسئولية عن خراب اليمن (العظيم) وبؤس وفقر وضياع الشعب اليمني الأبي، وفي دوامة هذه الرغبة المسبقة في إدانة اليسار الإسلامي ممثلاً في (أنصار الله) وحلفائهم، ضاعت الحقيقة التاريخية بما هي كذلك، وستستمر ضائعة ما دامت لا يحترمها أولئك الكَتَبَة وبعض الكُتّاب والمثقفين في موضوعيتها، بعيداً عن شاغل التثمين من حيث الربح والخسارة أو التبخيس وتزييف الوعي أو الخوف المزعوم على جنين (الدولة المدنية الحديثة) التي لا زالت في رحم الغيب وربما مجرد حمل كاذب يحول دون ولادته قوى التخلف والاستبداد والتكفير والفساد التي يحاربها (أنصار الله). والمعلوم أنه لا سبيل إلى احترام الحقيقة، في موضوعيتها، إلا باتخاذها موضوعاً للتحليل العلمي، لا شاشة للإسقاطات الذاتية المناطقية والمذهبية والعنصرية التي تختلط، في الغالب من الأحيان، بالعوامل النفسية التي يقوم فيها الاعتقاد المغلوط والعامل النفعي المبتذل والضيق مقام الحق والمبدأ والمصلحة العامة والفكر الخلاق المُحَرِّك والفاعل الأساسي والحافز الجوهري.
لو كانت كل الخسائر المترتبة على منهج الإسقاط الطائفي المناطقي العنصري المذهبي تتمثل في عجزه عن الوصول إلى الحقيقة التاريخية لهانت المصيبة نسبياً، ولكن هذا المنهج يتنطع لما هو أكثر من الفهم أو عدم الفهم، فهو يُنَصِّب نفسه في الأوقات العصيبة جَرَّاحاً يعمل على إخضاع الواقع اليمني لعملية جراحية ليستأصل منه ما يعتقد أنها أورامه الخبيثة أو زوائده الدودية، بينما هي، في الواقع، أعضاؤه الأكثر حيوية (قوى الثورة وفي مقدمتها أنصار الله)، ومن هنا بالذات خطورة منهج الإسقاط هذا، فهو ليس منهجاً أعمى فحسب، بل إنه ليستعين أيضاً، بدل العكاز لدعم معقتداته الخاطئة بخنجر مسموم هو تزييف الوعي أو مبضع مسموم هو الجهل ممزوجاً بالنفعية الشخصية المبتذلة والمصلحة الخاصة غير المشروعة.
وحسبنا أن نسوق من الواقع الذي ما زلنا نعيش إلى اليوم هذا المثال:
إن عدداً من الكُتّاب في اليمن يدافعون عن (التراث) بشكل عام ودون توضيح خيارهم، وفي الغالب يأخذون بما هو استبدادي ورجعي في التراث والواقع، ويصطفون إلى جانبه في مضمار معاداة الفكر الفقهي المتقدم وتشجيع الرجعية الوهابية والسلفية و (الإخوان المسلمون) ضداً على الفكر العقلاني والفقه الثوري الذي تعتبر المدرسة الزيدية المعتزلية أكبر وأعظم حاضن له في اليمن والعالم الإسلامي.
إننا بصدد ازدواجية خطيرة، هي الانشطار في الحقيقة نفسها بين (حقيقة تاريخية) ينادي بها العلماء والمفكرون والأكاديميون التقدميون و (حقيقة أيديولوجية) أو (دعائية) يتم فيها تزييف وعي الجماهير والزج بها في دائرتها الجهنمية ويتبناها الكَتَبَة المرتزقة من سفهاء القوم وجهالهم.
ما أضر أشد الضرر ببعض أدعياء (الوطنية) و (التقدمية) و (العلمانية) و (الثورية) و (الدولة المدنية الحديثة) هو أنهم يخوضون معركة إعلامية ضارية وخاطئة وخاسرة ضد اليسار الإسلامي وفي مقدمته (أنصار الله)، بينما لا زال قادة التحالف المشائخي - العسكري الطغياني التكفيري وأجنحته الإرهابية المسلحة التي تذبح عشرات الجنود الذين في عمر الزهور، لأنهم من (الجغرافيا الزيدية) و (روافض) يؤيدون (أنصار الله). يرتكب الإرهابيون أبشع الجرائم في اليمن، ويتحكم داعمو الإرهاب وأصحاب الفكر التكفيري بالبلاد ويستبدون بالمواطنين وينهبون المال العام والخاص ويحتكرون الوظائف العامة، ويبيحون الوطن للغزاة الرجعيين والإمبرياليين ويشرذمونه، وينشرون الإرهاب في كافة ربوع اليمن (بلد الإيمان والحكمة)، حيث يستيقظ الشعب كل صباح على أخبار سيطرة قوى الإرهاب والتخلف على مناطق مختلفة من اليمن وجرائم الاغتيالات تحصد التقدميين والثوار من (أنصار الله) وغيرهم من أساتذة الجامعات اليمنية والمفكرين والمثقفين والضباط والجنود بواسطة جماعات الذبح الهمجية المعادية لـ (الزيود) و (الحوثيين الروافض)، ويجري كل ذلك بينما لا يرتفع صوت قوي من هؤلاء الكَتَبَة المرابطين في خندق الصحافة ضد الثوار (أنصار الله) أو (الحوثيين) لإدانة هذه الجرائم البشعة وبيان مدى خطورتها على الشعب والوطن وتبصير الناس بمن ينفذها ويقف وراءها ويخطط لها ويشكل الحاضن الإعلامي والفكري لها؟!.
* أستاذ علوم القانون الجنائي - جامعة صنعاء

التفريق ببين المذهب والتمذهب، والمذهبي والمتمذهب

بقلم الدكتور/ عبدالله الناصر حلمى
لكي يتوضح لنا الهدف من هذا المقال، ينبغي التفريق ببين المذهب والتمذهب، والمذهبي والمتمذهب، وبدون هذا التفريق سيظل الغبش مخيما؛ المذهب تعبد وجداني يختص بالعلاقة بين الإنسان وربه، وفق رؤية بشرية استمدها علماؤه من فهمهم لآية قرآنية، أو حديث شريف، أو نتيجة اجتهاد، في حين أن مذهبا آخر قد فهم الآية وفهم الحديث على نحو مخالف، لكن كلاهما كانا لا يحتكران الصواب، وإنما يقولان ما قاله الإمام الشافعي (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب)، وكان للإمام “الشافعي” قبل أن يرحل إلى “مصر” اجتهاد، ولما سكنها أصبح له اجتهاد آخر. ولما ذهب إلى العراق وقدم إماما لصلاة الفجر لم يقنت، مع أن مذهبه القنوت، فلما سئل عن ذاك أجاب بجواب أصبح قدوة ” سبحان الله ما جئت لأفتن على فلان أتباعه”. أو كما قال.
يسلمنا هذا المثل إلى أن المذاهب هي إطار لآراء علماء اختلفوا في الفهم، واجبرتهم الأماكن المختلفة على استنباط ما يتناغم مع حاجة تلك البلدان، وحاجة الناس فيها، ولكنهم لم يدخلوا آرائهم في إطار مقدس، لا يقبل رأيا آخر، أو يفرضونه على غيرهم فرضاـ ومن ثم لم يحتكروا الصواب، وكان التعامل بينهم يتم وفق القاعدة الشافعية، رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، أو قاعدة ما جئت لأفتن على فلان أتباعه.
 وأدى هذا الانفتاح إلى تطعيم الفكر في عملية تبادلية بمواد جديدة ساعدت على إنمائه في الاتجاهين واستفاد كل واحد من الآخر، إلى أن بدأت السلطة الحاكمة تنشئ لنفسها المذاهب السياسية باسم الدين، فأنشأ الأمويون مذهب الجبر ومذهب المرجئة، وأنشاء العباسيون فرعا من الكيسانية يسمى ”الجريانية” الخ.
 وبدأت هذه المذاهب تخترق رويدا رويدا بقية المذاهب، ولكنها لم تتمكن من اكتساحها- بسبب وجود الأئمة الكبار- إلى أن أقفل خليفة معتوه –المتوكل على الله العباسي- باب الاجتهاد، وأتبع تلك الخطوة بخطوة جائرة، فحصر
الفقه في أربعة مذاهب فقط. وبهذا التصرف الأرعن أقفل على المذاهب نوافذ التجديد ولواقح الأفكار الأخرى، فانعدم الزاد الرافد، ونضب الماء الوافد، فكانت النتيجة أن جفت الينابيع، ويبس الإبداع، وبقي الأتباع داخل هذا الإطار المقفل يقتاتون من تراث يتأسن وزادٍ لم يتجدد، وبالتالي يعيدون خلق أنفسهم من نفس التغذية ويكررون افكارهم من نفس الإناء، فهزلت المذاهب إلى حد بعيد، وكانت النتيجة أن تجمدت داخل أصدافها، ولما تجمدت تعصبت وأفرطت في التعصب، بل أكثر من هذا فلم تكتف بتجميد نفسها، بل سعت جاهدة إلى ان تجمّد غيرها، وبهذا كثرت النوافذ المغلقة ولم تعد تغذيها لواقح الأفكار.
أعطى التحول الذي طرأ على تديين الخليفة والخلافة الحق لرؤساء الدول أن تهيمن على المذاهب، ومنذ أن صلب “معبد الجهني” وسقط راس الجعد بن درهم لقولهما بحرية الإرادة ، ورفضهما مذهب السلطة الجبر، تدحرجت رؤوس مفكرين كثيرين، ومن ثم اصبح الخليفة حامي المذاهب وهو الذي يتصرف بحياة الناس فيقتل من يشاء ويعذب من يشأ، وكان الخليفة المعتصم العباسي هو الذي أمر بتعذيب الإمام احمد بن حنبل وأصبح الفكر في ظل هذه الحماية يكابد الامتحان العسير بل المصير العسير.
جففت السياسة بتحريم الاجتهاد وحصر المذاهب في أربعة –إذن- جذور الإيناع فلم تعد المذاهب الأربعة بالذات -وهي الأكبر والأوسع انتشارا- تطلع جديدا، ولا تثمر نضيدا، وأصبح الأتباع لا يملكون من زاد سوى ما يستجرونه في استرخاء لذيذ، ولم يعد لديهم سوى الموجود المتآكل، وحرصا على المتبقي بزغ التعصب من حمأة الانغلاق، ودخلت المذاهب بحماية السياسة في صراع مع الآخر لفرض مذهبها، مما ادى إلى صراع دام أبيح فيه مالا يباح، ليس بين ما يسمى “الشيعة” وما يسمى “السنة”، وإنما بين المذاهب المتجانسة بين “الحنفية” و “الحنابلة” و “الأشاعرة” و”الشافعية” وشهد التاريخ مذابح مروعة، ومصادرات واحرق كتب ونفي مفكرين وقتلهم، كما دخلت الشيعة مع بقية المتشيعين في صراعات دامية أيضا.
 وهنا دخلت المذاهب في مأزق. لم تعد هناك مذاهب سمحة تثمر، بل أصبح هناك تمذهبٌ شرس يجفف، ولم يعد ثمة اختلاف يوحد ، بل أصبح هناك خلاف يمزق.
كان الاختلاف نعمة مهداه من رب العالمين، و{ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين } وفسره رسوله الكريم: (اختلاف امتي رحمة) فأصبح خلافا عدائيا. لقد من الله سبحانه على عباده بالاختلاف من أجل الإبداع والتنوع، والإثراء والإخصاب، فجاء هؤلاء فجففوا الأبداع والتنوع، وفي ظل الخلاف تم رفض الآخر وتقوقع كل مذهب داخل صدف التعصب، ومن ثم العقم.
ونتيجة لهذا كله عقم الفكر فجفّت الحضارة ، وعقم الفقه فانتعش التسلط.
(2)
لا ينكر أحد أن الذهنية المذهبية العامة عند المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها قد سكنت في الأعماق واستوطنت الوجدان الجمعي منذ زمن طويل، وعندما داهمها العصر الحديث بأنماط جديدة -وبالذات الحزبية موضوع هذا الحديث- لم تجد مخرجا إلاّ إلى الانتقال إليها- أخذة معها إليها تراثها المتأسن، وتعصبها المقيت، وتصوراتها المغلقة، وحاولت أن تتقمصها، وتظهر بها، فخرجت على الناس بثياب فضفاضة او ضيقة او ناقصة، ولكنها أبقت عليها- يقينا- ثيابها الداخلية.
وعلى ضوء ذلك كله ومن أجل بناء أحزاب حقيقية فعلينا أولا أن نتخلص من الأغلال الداخلية، وأول هذه الأغلال الاعتقاد بأن المذاهب دينا ملزما، في حين أن الدين لا يتمثل في مذهب واحد، وإلا كانت الكارثة، والناحية الثانية علينا أن نتعرف على نشأة الأحزاب العربية لمعرفة العائق الذي جعل من معظم هذه الأحزاب مذاهب كسيحة، ولابأس هنا أن أعيد باختصار ما كتبته في عام 1419/ 1998 وعام 1421هـ/ 2000 من مقالات حملت اسم "نحو ثقافة جديدة" تحدثت فيما تحدثت عنه عن الأحزاب: العوائق وضرورة التغيير، وليس في نيتي إعادة ما كتبت ولكني اشير إلى أهم النقاط التي تناولتها آنذاك وذكرت ان الأحزاب العربية تأسست من البداية على قاعدتين متناقضين، وأضيف الآن قاعدة ثالثة هي التمذهب، وقلت ما معناه: إن التحرك بوسائل معيقة لابد أن يحث عن التفتيش عن السبب، وفي وسعي أن أجزم أن البداية حملت دائها في نفس اللحظة التي تنفست فيها، بل يمكن القول بأن الروح الحزبية قد وئدت ساعة ما ولدت. اقتبس العالم العربي فكرة الحزبية أصلا من الغرب، لكنه سيرها بوقود من الشرق، أعني انه اقتبس لوائحها الداخلية من الحزب الشيوعي بالتحديد، بينما استمر بوقود عربية استوردها من الغرب، ونتيجة لذلك لم يتلاءم الوقود مع المحرك، فأدى إلى أن تغرز عجلة الأحزاب في الرمال واستمرت تراوح مكانها، وكأنها تجري بها رخاءا في كل اتجاه، بينما هي مستمرة تحفر الرمال وتثير الغبار من حولها فيعميها عن حقيقة واقعها المنغرز تماما فتظن أنها تتحرك منطلقة إلى الأمام في سرعة رائعة، في حين أنها تغرق في الرمال المتحركة بسرعة أكبر. لهذا نفهم لماذا معظم الأحزاب العربية دكتاتورية.
هذا الموقف جاء نتيجة تضاد أساسي بين طبيعتين متنافرتين. ومن ثم تجاذب النظام الحزبي العربي منذ مولده عاملان متضادان، أوقعا الحزبية منذ البداية ضحية تخاصمهما الطبيعي، فكان شأنهما أشبه ما يكون بمن يحاول أن يجمع سيفين في غمد واحد؛ فكانت النتيجة أن تمزق الغمد، وتثلّب السيف.
فنشأة الأحزاب في الغرب يختلف عنها في الشرق؛ ففي الغرب ولدت الحزبية مع مولد الديموقراطية، فهي في الحقيقة توأمها، ومنذ اللحظات الأولى تشابكا أذرعا للعمل من أجل حماية المكتسبات وتطويرهما؛ مشكلين سياجا واقيا ضد الدكتاتورية أو العودة إليها، أو إعاقة الخطى الديمقراطية، مستهدفين تقليم أظافر الدكتاتورية وخلع أنيابها، وقلع أضراسها. وبمولد الحزبية في الغرب أصبحت الانتخابات الديمقراطية طريق الأمة لدفع من ترضى الأكثرية عن برامجه الحزبية إلى الحكم.
عملية بسيطة لم تضطر إلى السرية لتكيف وسائلها وفقها، إذ لا حاجة لها بها، فظروفها لا تستدعي ذلك. ومن هنا لم تتطلب إنشاء خلايا ولا فروعا سرية، ولا شيء من تلك التكوينات الطويلة العريضة التي تعتمد على شبكة معقدة ودقيقة من العلاقات التنظيمية داخل سرداب طويل. لقد نشأت الأليات الحزبية في الأقباء المظلمة نتيجة ارهاب سياسي ساحق فكانت تلك الأليات مجنا يحميها البطش السياسي وعندما انتصرت تلك التنظيمات بخلاياها الواسعة تحولت إلى دولة بفعل جهود المنتمين إليها.
كانت الأحزاب الغربية والشرقية مختلفتا النشأة والهدف وجاءت الأحزاب العربية فاقتبست بدون استيعاب كامل طبيعتيهما، واحتفظت في الوقت نفسه بتمذهبها، ومن ثم مشت على عكازات ثلاث: مذهبية، وغربية، وشرقية، وكل واحدة لها مقاييسها الخاصة طولا وعرضا، فعرجت خطاها، واضطرب مشيها، ووجدت الأحزاب العربية نفسها تمارس ما يمارسه الحكام. وعليه فالأساس هو إن لم تخلع الأحزاب (بعد أن ساد نوع من الحرية وانتفت عوامل النزول إلى الأقباء) القداسة الدينية عن التمذهب فإنها-أي الأحزاب- سوف تظل تستجر ماضيها الاحتكاري وتخلد إليه.
إن الحزب وسيلة تهدف إلى تحقيق الرخاء والعدالة الاجتماعية وتحقيق المساواة وضمان المواطنة المتساوية، وإذن فهو-كالمذاهب في أصلها النقي من هذه الناحية- وهو عليه أن يطور نفسه لأنه بكل بساطة لم يستمد شرعيته من الانتخابات فيطرح وفق ثوابته برنامجه الانتخابي حسب مقتضيات الحاجة المطروحة كما هو معروف ويعرفه الناس.
إذا سلمنا بأن المذاهب هي في الأصل نتيجة اجتهادات بشرية فليس من الصعوبة ان نتخلص من التقديس ومن ثم يتعامل الناس وفق اجتهادات بناءة.
وإذا ادركنا مثلا لأن للمذاهب نظريات مختلفة في السياسة الزراعية -وقد كانت الزراعة هي بترول الأيام الخوالي-، فذهب البعض إلى نظام الشراكة وذهب الآخر إلى نظام “القبال”، أدركنا أن هذا التصور نشأ من اجتهادات مختلفة نتيجة حاجة إنسانية اختلفت المذاهب في الاستفادة منها.
وهكذا نجد أنه عندما تنزع المذاهب صبغتها المقدسة تتحول تلقائيا إلى حزب نقي يتعامل وفق رؤى اجتهادية. ومن هنا فإن الأحزاب الحقيقية لا تجد غضاضة أن يكون في اعضائها “زيدي” أو “شافعي” أو “حنفي” أو “إسماعيلي” واليمنيون هم ذلك كله، ولكن أن يكون هناك “حزب زيدي”، و “حزب شافعي” و “حزب حنفي” و “حزب إسماعيلي” فهو التمذهب بذاته، وسيكون الحزب مذهبا ونعود حتما إلى مربع التمذهب. ولدينا من “التمذهب” ما يوجع الرأس.
صحيح أن الحرية تتيح للإنسان او للجماعة ان تشكل أحزابها وفق معتقدها المذهبي، لكن المشكلة ليست في المذهب السمح، وإنما في التمذهب الشرس، والتمذهب في حد ذاته عدو الحرية، وليس من الحرية أن تقتل الحرية باسم الحرية. ولو اكتفى المتمذهبون بالحكم اللفظي لهان الأمر، لكنهم يتبعون القول العمل فيشحذون سيوفهم ومخالبهم فكيف يمكن ان تكون هناك حرية في ظل السيف المصلت والخنجر المسموم؟.
أخلص من هذا إلى القول بأن على الأحزاب الجديدة أن لا ترسي أساساتها على الخلاف، أي التعصب، وإنما على الاختلاف أي تنوع الآراء، وترفض التمذهب، وتقبل المذهب، باعتباره تعبدا ذاتيا واجتهادات تقبل الخطأ وتقبل الصواب.

الأحد، 13 يوليو 2014

القاضي العلامة محسن بن عبدالرحمن المحبشي

القاضي العلامة محسن بن عبدالرحمن بن حسين بن عبدالرحمن بن حسين بن عبدالوهاب بن حسين بن حسن بن ناصر بن حسين بن حسن بن علي بن هادي بن محمد بن ناصر بن فتح الله المحبشي

"1338 – 1405 هـ"

قاضي، مفتي، عالم في الفقه فروعه وأصوله، له مشاركة في علوم أخرى، إداري.

مولده بمدينة شهارة، في ربيع الأولى 1338 هـ، الموافق ديسمبر 1919، ووفاته بصنعاء في 24 رمضان 1405 هـ، الموافق 12 مايو 1985.

نشأ وترعرع في كنف والده، وكان والده أحد الرموز العلمية والقضائية المشار إليها بالبنان في اليمن آنذاك، ومنه استقى الأدب والعلم ومحامد الأخلاق والكرم ونُصرة المظلوم وإغاثة الملهوف وإعانة ابن السبيل ومواساة الفقراء والمساكين، فكان والده مُعلمه ومُؤدبه وقدوته ومثله الأعلى.

تابع والده في حِلّه وترحاله، وتنقلاته القضائية في مناطق عديدة من اليمن حتى استقر به المقام في الحديدة، ناهلاً منه ومن علماء ومشائخ وفقهاء هذه المناطق، العلم والفقه والأدب ومكارم الأخلاق، فكان والده بمثابة المعلم والمؤدب الأول والمثل الأعلى والنبع الصافي الذي ترعرعت على ضفافه شخصيته.

 

التحصيل العلمي:

عُرف منذ طفولته بحبه وشغفه بالعلم والعلماء، فلم يكن همه كما يحكي ولده المرحوم القاضي عبدالقدوس ما كان عليه غالبية الشباب من أبناء جيله، بل كان نشيطاً ومثابراً في طلب العلم، كثير الانزواء للاطلاع والقراءة ومذاكرة دروسه، طموحاً متقداً ذكاءاً وحكمة وفطنة ونباهة وفصاحة.

اجواء الأسرة العلمية والروحانية ساعده على التفرغ التام لطلب العُلا، حتى صار الغرة الشاذخة في أعيان عصره وهو لا يزال في عقده الثاني، فما من بلد يتعين فيها والده إلا ونهل من علمائها ومشائخها وفقهائها العلوم والمعارف.

 وفي شهارة ومعمرة الأهنوم أخذ تعليمه الأولي، انتقل بعدها إلى صعدة وأخذ على يد علمائها الفقه وأصوله وبرع فيه، إلى جانب علوم العربية في النحو والصرف واللغة والمعاني والبيان وعلوم الحديث وأصول الدين والمواريث "الفرائض" والمنطق وشرح الأزهار والثلاثين المسألة وكافل بن لقمان ومجموع المتون وغيرها من فنون العلوم، التي انكب عليها فهماً وحفظاً وتحقيقاً حتى استقر به المقام بالحديدة بعد تعيين والده حاكماً لها.

ومن العلماء الذين أخذ عنهم وأجازوه اجازات عامة: والده وعمه القاضي يحيى بن حسين المحبشي، والعلامة يحيى الستين، والعلامة محمد المتميز، والعلامة أحمد مرق، والعلامة أحمد بن قاسم بن أحمد الشمط الأهنومي (وهو أيضاً استاذ والده)، والعلامة محمد مسفر، والعلامة إبراهيم سهيل، والعلامة حسن سهيل، والعلامة يحيى بن قاسم العزي (من علماء مدرسة حورة بحجة)، والعلامة محمد بن حسن بن حسين المحبشي، والعلامة حسن بن علي المعاذيب، والعلامة إسماعيل حطبة، والعلامة حسن بن علي عباس، .. وغيرهم.

 

المناصب القضائية:

نظراً لما عرف عنه من غزارة علمية وفكرية، وذكاء ونجابة وفطنة وحصافة ونباهة، تم تعيينه في العام 1366 هـ المصادف 1947 م، حاكماً للحديدة، خلفاً لوالده، وهو لا يزال في الثامنة والعشرين من عمره، وذلك بناءاً على عريضة رفعها إلى مقام الإمام أحمد، نائب حاكم الحديدة وقتها القاضي حسين الحلالي، اقترح فيها تعيينه حاكماً للواء الحديدة، واستمر في هذا المنصب إلى أن قامة الثورة في 26 سبتمبر 1962، حيث تم إعتقاله وإيداعه سجن الحديدة، ومنه تم نقله إلى سجن صنعاء، وبعد مُضي عام كامل صدرت التوجيهات بإطلاق صراحه، وإعادته إلى منزله بالحديدة حاكماً لها بعد الثورة.

وفي سنة 1383 هـ، الموافق 1964، تم تعيينه رئيساً لفرع استئناف لواء الحديدة، وهو أحد الفروع التي أستحدثت بعد الثورة، إلى جانب فرع تعز، لتخفيف الضغط عن صنعاء، وكان حاكم الحديدة وقتها القاضي المرحوم أحمد بن محمد بن علي الوزير.

بعدها صدر قرار وزاري بإلغاء نظام الفروع، واستبداله بإنشاء محكمتين بالحديدة هما الأولى والثانية، فتم تعيين القاضي أحمد الوزير رئيساً للمحكمة الأولى، والقاضي محسن المحبشي رئيساً للمحكمة الثانية، كما شغل منصب قاضي الأهلة، وكانت أحكامه لا تُرد في تحديد دخول وخروج شهر رمضان، وبعد وفاته انتقلت مهمة قاضي الأهلة إلى حياة القاضي المرحوم عبدالرزاق بن عبدالله المحبشي.

في العام 1976 م أصيب بجلطة نقل على إثرها للعلاج في لندن، وبعد تماثله للشفاء في ذات العام صدر قرار قضى بتعيينه بالمحكمة العليا، وفي 20 مايو 1980 أُحيل للتقاعد، بعد أن عاودته الجلطة للمرة الثانية، أصيب على إثرها بالشلل، ومن يومها وهو طريح الفراش إلى أن فارق الحياة في 24 رمضان 1405 هـ الموافق 12 يونيو 1985، إثر إصابته بجلطة ثالثة بعد خمس سنوات من المعاناة والصراع مع المرض، وحياة حافلة بالعطاء والعمل والصبر والإيمان.

وبرحيله فقدت اليمن عالماً جليلاً وقاضياً كان مضرب الأمثال في تواضعه وورعه وزهده وتقواه وعدله، تاركاً سيرة عطرة، وذكرى طيبة، لا يزال شذاها يشنف الأسماع إلى يوم الناس.

 

صفحات مشرقة:

حفل السلك القضائي في اليمن بالكثير من الرجال العظماء، ممن تعاطوا فصل الخصومات بين الناس بمسؤولية، وأدّوا ما أُنيطوا به من أعمال قضائية بنزاهة وأمانة، وسطروا على صفحات التاريخ صورة مشرقة لميزان العدالة، خصوصاً الرعيل الأول ممن عايشوا العهدين الملكي والجمهوري، فصاروا نجوماً في سماء العدالة، يُنظر إليهم بالإعظام والإجلال والاحترام، لما قدموه لليمن من عطاء لا ينفذ، ولما حققوه من عدالة لازالت إلى اليوم مضرب الأمثال، وحديث المجالس والمحافل.

وفي مقدمة هؤلاء العظماء يلمع اسم القاضي العلامة محسن المحبشي، فقد كان بشهادة أعيان عصره بسيطاً نزيهاً عفيفاً زاهداً، لا يلتفت إلى مطامع الدنيا، ولا يأبه لزخارفها، حكيماً صبوراً، ذا رؤية وبُعد نظر وسعة صدر، صادقاً في القول والفعل، لا يحقد على أحد، مثالاً في أقواله وأفعاله للعالم الرباني، ومثالاً في علمه وثقافته للعالم الموسوعي، صاحب ملكة قضائية نادرة، يفصل في المنازعات، بيُسر وسهولة، صارم في الحق، لا يخشى في الله لومة لائم.

إن المتأمل للعقود الثلاثة التي قضاها في خدمة العدالة على قصرها، يجد الدقة في الحكم، والصرامة في الحق، والسرعة في إصدار الأحكام القضائية وتنفيذها، والحرص الشديد على توخي واستيضاح البينة، والشجاعة في الانتصاف للمظلومين والاقتصاص من الظلمة حتى لو كان الإمام ذاته، وكانت أحكامه بشهادة مجايليه مقتضبة ومختصرة ومطابقة لشرع الله، ولذا لم يُنقض له حكم، إلا النادر.

كما أنه لم يحتجب يوماً عن المتقاضين، فكانت الناس تأتيه أحياناً في أوقات متأخرة من الليل ومع ذلك يقضي بينهم، وهذه السجايا من الاشياء النادرة في قُضاة عصرنا.

وكان يقضي وهو ماشي في الطريق، وكل ذلك لشدة خشيته وخوفه من وقوع حيف أو ظلم على أحدٍ ولا يسعَ لرفعه.

وكثيراً ما كان يقضي في العهد الملكي بين الإمام والرعية دون محاباة أو مجاملة لأي منهما، ومن ذلك قصة "الحاج عطية" وفحواها: أن الحاج عطية كانت له أرض بالدريهمي، فقام بالبناء عليها، وذات يوم مر الإمام من جانبها، فقال: كيف هذا يبني والأرض ملك الإمام؟.

فأمر بإيقاف عطية عن البناء، ما اضطر عطية لرفع دعوى على الإمام أمام القاضي المحبشي، وهو بدوره قام بإبلاغ الإمام وطالبه بالرد على الدعوى ومناصفة غريمه أو تخصيص وكيل شرعي ينوب عنه.

وكانت النتيجة أن حكم المحبشي بعد استيضاح البينة لصالح "عطية"، دون أن يخشى سطوة وبطش الإمام.

وهذه القصة حقيقة تاريخية لايزال أبناء تهامة يتناقلونها إلى اليوم.

لهذا السبب اكتسب مكانة اجتماعية متميزة، وذكرى عطرة في قلوب وذاكرة أبناء تهامة، وذلك لما لمسوه من أخلاق عالية، وتواضع جم، وحرص شديد على إحقاق الحق وإنصاف المظلوم، وسجل قضائي ناصع.

فكم هم قضاتنا اليوم وخصوصاً فئة الشباب أو ما يسمى بقُضاة الملازم، بحاجة إلى استرجاع تاريخ وسجل وسيرة ذلك الرعيل من رجال القضاء العظماء، إذا ما أرادوا الوقوف على أبجديات أدب وأخلاق التقاضي والعدالة في أسمى تجلياتها، ليحذوا حذوهم، وينهجوا نهجهم، ويقتفوا أثرهم، والسعي الجاد للاستفادة العملية مما خلّفوه من سجل قضائي ناصع، إذا ما أرادوا أن يكونوا خير خلف لخير سلف.

 

الأنشطة المعرفية والاجتماعية:

أعطى جُل وقته للقضاء، مما صرفه عن التأليف، باستثناء مجموعة من المقالات التوعوية التي كان يكتبها بعد الثورة لإذاعة الحديدة "البرنامج الإرشادي".

كما أن مجلسه كان على الدوام عامراً بمذاكرة العلوم الشرعية والفكرية والثقافية والأدبية، وكان بيته مفتوحاً على الدوام لذوي الحاجة، وموائد كرمه مبسوطة أمام الفقراء والمساكين وابن السبيل، وكان صاحب مروءة إذا أعطى لا ينتظر رد الجميل، وكان يعيل الكثير من فقراء الحديدة دون أن يعرفوا مصدر أرزاقهم.

هذا هو القاضي محسن المحبشي، العالم الزاهد، والصوام القوام، والكريم المفضال، والتاريخ النابض بالحياة.

ويكفينا هنا أن نختم بمقولة رائعة للزميل حمدي أحمد البهلولي، لخص فيها حقيقة شخصية عالمنا الجليل، وذلك في مقالٍ كتبه عن الفقيد عام 2007، ونشرته صحيفة القضائية – حيث يقول في مقدمة مقاله:

شهد الزمان وأهله بك كلهم ** وصحائف الأحكام والإفتاء.

ما خِفت يوماً في قضائك لائماً ** وإن أتاك لمجرمٍ شفعاء.

نفسُك على نصر الحقوق حريصة ** والعدل منك عمامة وغطاء.

جسدت هذه الأبيات المختارة جزءاً من شخصيته، وشكلت شخصيته مزهرية احتضنت أسمى الصفات وأزكاها في الورع والاستقامة والسمعة الطيبة العطرة التي سيظل شذاها يعبق في ذاكرة ووجدان الأجيال المتعاقبة ليرتشفوا من فيض جوانبها أروع الصور والأمثلة.

 

طرفة تاريخية:

يروى أن والد الرئيس الأسبق لإتحاد الغرف التجارية والصناعية "محفوظ شماخ" ذهب في العام 1947 الى الحديدة، ورغب في شراء أرض لاستثمارها زراعياً.

فقال عامل الإمام آنذاك المرحوم يحيى عبدالرحمن عبدالقادر: لا يمكن لغريب أن يشتري أرضاً عندنا.

فاشتبك معه الشيخ شماخ وكان مقارعاً (بالعدني الفصيح "علاجي") ورفع برقية الى الامام أبلغه فيها: إذا كان النصارى الإنجليز لا يقولون لنا في عدن بأننا غرباء، فما بال والي جلالتكم، ونحن في أرض أمير المؤمنين؟

فأتاه رد الامام في نفس اليوم، وكان مضمونه: إن قال العامل ذلك فقد كفر؟!.

وأبلغ عامل اللاسلكي والي الحديدة بشكوى شماخ ورد الإمام عليها.

ومن فوره قام الوالي بإنجاز كل الإجراءات في زمن قياسي، ثم ذهب مسرعاً إلى قاضي الحديدة آنذاك محسن المحبشي طالباً منه تجديد إسلامه وولائه.

فاستغرب القاضي من أمره، وحثه على الكف عن هذا الطلب لأنه مسلم، فألح عليه بتنفيذ طلبه، فاستجاب لذلك على مضض، وأبلغ الإمام بما حدث.

فرد الإمام: والله لقد عصم دمه مني.

أي أن الإمام كان سيسفك دم عامله في الحديدة لأنه قد كفر.

ومما يروى عن القاضي المحبشي اصداره حكمين شرعيين في عهد حكم الامام أحمد يحيى حميد الدين، بحق بعض أراضي الحديدة، ونفذهما الإمام، وتقيد بهما.

أولاده: عبدالملك، عبدالقدوس، عبدالرحمن، محمد

 

قالوا عنه:

1 - القاضي العلامة عبدالله بن أحمد بن محمد الخطيب – عضو المحكمة العليا سابقاً، عضو جمعية علماء اليمن:

 القاضي التقي محسن المحبشي، من اجلَّ القضاة علماً وقدراً وورعاً وكفاءة في مجال القضاء وغيره،..، تولى القضاء بمحكمة لواء الحديدة وعمره 28 سنة بدلاً عن والده، كانت سيرته في القضاء نظير سيرة والده حتى كسب ثقة الناس، كان عند حضور المتخاصمين يستمع إلى الدعوى والإجابة ثم يناقشهم حول ملابسات القضية بأسلوب يعمل فيهم عمل السحر، ثم يصلح شأنهم بمجرد كلام باللسان، وبعد موافقتهم عليه يرد إليهم مستنداتهم ويحرر مضمون الصلح باختصار إلى عاقل الحارة أو من يرتضونه لتطبيقه، ولا يحرر أحكاماً إلا في القضايا ذات الأهمية، وله فيها أيضاً اليد الطُولى، والقدح المُعلى، وسرعة الإنجاز، وتيسير تنفيذها بسهولة غريبة.

وكان يقابل الناس في الصباح مبكراً إلى قبيل الظهر ثم يتواجد بعد صلاة العشاء فيُنجز القضايا بشكل عجيب.

وكنت أجالسه في جميع أحواله للتعاون معه أكثر من بقية الأعضاء، وقد أنوب عنه إذا غاب أو أُسندت إليه أعمالاً أخرى في زبيد أو غيرها، من قبل الوزارة، فيما يتعلق بالأوقاف ونحوها.

وقد استمر في القضاء هناك إلى العام 1396 هـ تقريباً، حينها أصيب بمرض أقعده، ولم يوجد بعده من يسد مسده.

وبيده إجازات عامة من جميع مشائخه في العلم، وهو بدوره أجازني إجازة عامة في جميع ما ذُكر مع الرواية عنه في جميع مقروءاته.

والخلاصة أن هذا الرجل من أجلَّ أعلام القضاء في اليمن، ولن يأتي الزمن بمن يماثلهم.

2 - القاضي العلامة عبدالله بن علي الأنسي – نائب رئيس محكمة استئناف – عضو الشعبة الشخصية بالأمانة:

علمٌ من أعلام القضاء، ورمزٌ من رموز العدالة، إنه الوالد العلامة القاضي محسن المحبشي، فلقد عرفته حاكماً للواء الحديدة قبل الثورة وبعدها، لا يختلف عليه اثنان في عدله وحلمه وعلمه وثباته في أحكامه وقراراته.

كان لا يخاف في الحق لومة لائم، يتسم بالخلق الكريم، والتواضع العظيم، إلى جانب حزمه وصرامته في إحقاق الحق وإبطال الباطل، بيد راسخة في الشريعة الغراء، وصدر يعتبر موسوعة في العلوم المعقول منها والمنقول والفروع والأصول.

كما كان إلى جانب ذلك شريفاً عفيفاً نزيهاً، ومؤمناً تقياً، صالحاً.

3 - حمدي البهلولي:

بكت السماء وناحت الغبراء ** وجرت دموع العالمين دماء.

وأجهشت القلوب حزينة ** تبكي ولكن ما النحيب دواء.

ونعى الجميع إلى العدالة تاجها ** ونعى إلى كل الصفات عزاء.

وإلى المروءة والشهامة بدرها ** وإلى السجايا من لقاه ضياء.

**

قاضي القضاة بلا مرا ** مولى المكارم والهمم.

المحسن المسدي بما ** أعطاه ربي من كرم.

وهو الحسام بلا افتراء ** مولى التهايم والقمم.

هو محسن ابن المحبشي ** ما جار يوماً أو ظلم

السبت، 21 يونيو 2014

تأملات



"هناك قانون يكاد يكون ثابتاً في الحركة التاريخية مؤداه: أن الأمم لا تتقدم إلا بالعمل، ولا يصلح حالها إلا بالعدل .. وأن الأمم دائماً أقوى من الحكومات .. وأن الحكام لا يبدعون وإنما الأمم هي التي تبدع إذا ما توفرت لها الإدارة السليمة وتم توظيف إمكانياتها في خدمتها .

هذا القانون يصدق على الحضارة العربية الإسلامية والتاريخ الإسلامي، كما يصدق على أي حضارة أخرى في التاريخ: العدل والعمل قوام كل حضارة ناجحة .. العدل مع العمل هما سبيل البناء .. والفساد مع الظلم يمهدان الطريق للسقوط"

    ... الدكتور قاسم عبده قاسم – أستاذ العصور الوسطى بجامعة الزقازيق

الأحد، 8 يونيو 2014

دردشة على طريق التقارب المذهبي



شهد العالم العربي والإسلامي عقب الحرب العالمية الأولى العديد من المبادرات والمطارحات والمناظرات والمباحثات العلمية بين علماء السنة والشيعة، على أمل تسوية الخلافات السياسية والدينية بين المسلمين، حكاماً وشعوباً، فرقاً ومذاهب، وخلق صيغة روحية علمية، تعيد إحياء التسامح والحب والاحترام المتبادل في أوساط أمة الضاد، بعد قرون من الصراعات المذهبية المزرية والانقسامات الجاهلية المقيتة.
هذه الجهود الرائعة وإن لم يكتب لها النجاح، إلا أنها عكست رغبة إيمانية حقيقية لدى كبار علماء الفريقين حول ضرورة استمرار التواصل والتوافق على انتقاء المبادئ المتفق عليها، في كل فرقة إسلامية، وما أكثرها، والتخلي عما يسيئ عمله، من أي طرف كان، والاجماع على أن الاعتداد بشخصية الإمام علي بن أبي طالب بوصفه المثال الذي ينبغي الاحتذاء به، لا ينبغي أن يفضي إلى التعريض ببقية صحابة النبي أو أن ينتقص من أقدارهم..
في هذه الدردشة السريعة نقف لحظة تأمل مع إحدى تلك المبادرات الرائعة، ذكرها "إبراهيم الراوي – المتوفي سنة 1946" أحد كبار فقهاء السنة الشافعية ببغداد ضمنها كتابه الصادر عام 1930 تحت عنوان "داعي الرشاد إلى سبيل الاتحاد" لخص فيه حصيلة عامين من الحوار الراقي والمطارحة العلمية الهادفة مع العالم الشيعي "محمد مهدي السبزواري – المتوفي سنة 1931 " من أجل الوصول إلى نظرية متكاملة في تعامل أصحاب المذاهب الإسلامية بعضهم مع الأخر، ومما لفت انتباهي في تلك المساجلات، دعوة "السبزواري" إلى أهمية تبني علماء الأمة سنة وشيعة المشتركات، عبر ما أسماه:
1 – ترك التعصب الجاهلي الذي كان سبباً عظيماً للنفاق المؤدي إلى انحطاط المسلمين وتقهقرهم، وتأخرهم.
2 – ترك الطعن في صحابة الرسول والقدح فيهم.
3 – ترك المجادلات المذهبية والمكابرات الطائفية، فهي – برأيه – من بواعث اختلاف الكلمة والنزاع.
4 – رفع الأسماء التي أوجبت الاختلاف كالسني والشيعي والزيدي والوهابي، فإذا سُئل عن مذهبه يكتفي بالقول: "أنا مسلم"، وهذه الأسماء هي التي أوجبت – بنظره – الاختلاف في نظام أبناء الدين الواحد.
5 – عدم تعرض أحد المذاهب للمستحبات والمندوبات الواردة عند أصحاب المذهب الاخر، مثل: عدم تعرض الوهابيين للزيارات المستحبة لدى سائر المسلمين.
6 – احترام كل طائفة للطائفة الاخرى، وعم التمييز بين طائفة واخرى، فلا يفرق أحد أبناء الطوائف بين من يدين بمذهبه، وبين من يخالفه