Translate

الاثنين، 8 يوليو 2013

ولادة هلال رمضان..قراءة شرعية فلكية


بقلم/ زيد يحيى المحبشي
منذ سنوات والأمة الإسلامية منقسمة على نفسها حول أهم فريضة من فرائض الإسلام وهي تحديد دخول وخروج شهر رمضان المبارك بعد أن صار للسياسة دورها في هذا الانقسام المقيت والمزري فهل سيكون رمضان هذا العام بعيداً عن آفة ولعنة الساسة لنشهد ولو لمرة واحدة صوماً موحداً يلملم شتات الأمة المكلومة؟!.. لا أعتقد ذلك، فما نشهده اليوم من انقسامات وصراعات على كل الأصعدة لا يبشر بخير ...
في هذه الوقفة التأملية لن نتطرق لدور السياسة والساسة في تحديد دخول شهر الله بعد أن فقدنا الأمل في توحدهم .. بل سنكتفي بتقديم قراءة سريعة ومتواضعة لموقف الشريعة المحمدية وموقف علماء الفلك من تحديد ولادة هلال الشهر الكريم لعلّها تقود إلى توحيد المنقسم السياسي ..
** الرؤية الشرعية
يقول الله سبحانه وتعالى: (ونزلنا عليك الكتاب "تبياناً" "لكل شيئ" وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين) .. والملاحظ في الآية الكريمة أن كلمة "تبياناً" أتت منكرة – أي مجردة من أحرف التعريف (ال) – والتنكير في الخطاب القرآني كما هو متعارفٌ عليه لدى علماء اللغة يعني أن الخطاب موجه للعموم وليس للخصوص وفي الكلمة التالية "لكل شيئ" توضيح لا جدال فيه .. ما نجد مداليله في قوله تعالى: (يسألونك عن الأهلة قل هي "مواقيت" للناس "و" الحج ) فقد وردت كلمت "مواقيت" منكرة وهذا يعني أنها للعموم وليس للخصوص لأن الله لم يقصر ذلك على فريضة "الحج" حصراً بل جعل "الحج" عطفاً على "مواقيت للناس" أي لكي يسترشد بها الناس في معرفة دخول الأشهر القمرية عموماً وشهر رمضان منها.
لقد جعل سبحانه وتعالى فرائض الإسلام من صلاة وصيام وحج مرتبطة بأشياء حسية يشترك في معرفتها كل من أحسن المراقبة لتلك العلامات، وكلها متعلقة بالشمس والقمر .. وجعل الأهلة "مواقيت" يُعرف بها بداية العقود ونهايتها، إذا رُبِطَت بالأشهر القمرية، كما هي مواقيت ركنين من أركان الإسلام، وهي الصوم والحج.
وسنة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم هي الفصل في هذا، والتي أولت اهتماماً كبيراً بدخول وخروج شهر الصيام، لأنه من أهم الأشهر، لما يترتب عليه من أداء فريضة الصيام التي افترضها الله على أمة محمد مرة واحدة من كل عام وجعلها في المرتبة الثالثة في قائمة أركان الإسلام بعد الشهادتين والصلاة لما لها من أهمية كبيرة في البناء الروحاني الإنساني واختصها لذاته عكس بقية الأركان (الصيام لي وأنا أجزي به).
لهذا لا غرابة أن نجد الشريعة المحمدية حريصة أشد الحرص على توضيح وتبيين هذه الفريضة بأتم بيان وربط دخولها وخروجها بالأهلة كما هو واضحٌ في آية المواقيت، حيث جعل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الرؤية شرطاً في تحديد ولادة هلال الشهر القمري.
والمشكلة هنا لا علاقة لها بموقف السنة النبوية من تحديد ولادة الشهر القمري المشروطة بالرؤية المجردة، بل بما حدث من خلاف كبير حول شرط الرؤية وماهيتها بين علماء المسلمين في القرون التالية للحقبة المحمدية: فهناك من قال بأن الرؤية بالعين المجردة فقط؟ .. وهناك من أفسح المجال في حال تعذر الرؤية المجردة لإمكانية الاعتماد على الحسابات الفلكية لإثبات ولادة الهلال القمري .. وهناك من أجاز الرؤية بالمناظير المكبرة (المراصد الفلكية) بالنظر إلى ما شهده العالم من تقدم تكنولوجي كبير .. ومنهم من رأى جواز استخدام الأقمار الصناعية لتحديد ولادة الهلال القمري.
وبعيداً عن الاختلاف المتواصل لعلماء المسلمين حول الوسيلة الأنجع والاسلم لتحديد ولادة الهلال القمري .. فقد حفلت السنة المحمدية بالكثير من الأحاديث الدالة على الرؤية وأبرزها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غُم عليكم فأقدروا له) كما في رواية البخاري ومسلم وفي لفظ: (لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غُم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) وهو حديث متفق عليه وفي رواية مسلم: (فأقدروا ثلاثين) وفي رواية مسلم والبخاري: (فصوموا ثلاثين يوماً) وفي رواية عبدالله بن عباس: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حال بينكم وبينه سحاب فكملوا العدة ولا تستقبلوا الشهر إستقبالاً).
هذه الأحاديث وغيرها الكثير تصب في خانة واحدة هي الاعتماد على الرؤية المجردة لا الحسابات الفلكية ولا حسابات الحاسب الآلي .. والسر في اشتراط الرسول الأكرم للرؤية المجردة دون سواها ما أورده صاحب التاج المذهب لأحكام المذهب من أحاديث نبوية توضيحية منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنا أمةٌ أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر كذا وكذا ثلاثاً حتى ذكر تسعاً وعشرين) وفي بعضها: (لا تصوموا حتى تروه .. ) إلى أخره.
ومعنى: (لا نكتب ولا نحسب) أي أننا لا نعتمد لعبادتنا الحساب والكتابة وإنما نعتمد على ما أمرنا الصادق المصدوق طاعة لله سبحانه واعتقادا منا أنه الحق.
ويذهب فريق من علماء الإسلام إلى أنه صلى الله عليه وآله وسلم لو أجاز العمل بالحسابات الفلكية لأصبح ذلك تكليفاً على جميع المسلمين في تحديد دخول الأشهر القمرية.
ومعلومً أن أكثرية الأمة على عهد رسول الله أمية ولذا سيكون في اقرار العمل بالحسابات الفلكية تعسير ومشقة كبيرة على المسلمين في حين أن الإسلام دين يسر ألم يقل صلى الله عليه وآله: (بعثة بالشريعة السهلة السمحاء), ويقول: (يسروا ولا تعسروا قربوا ولا تنفروا) ..
صحيح أن تحفظ الرسول الأكرم على مسألة الحسابات الفلكية كان لمصلحة عموم المسلمين لأن غالبيتهم على عهده لا تجيد الكتابة .. لكن بالعودة الى القرآن الكريم المبتدأ تنزيله بالحض على القراءة وما يترتب عليها من كتابة والخاتم تنزيله بالنهي عن الظلم، فهذا يعني أن الإسلام دين "العلم والعدل" وعليه يمكن تفسير توجيه الرسول الأكرم على أنه توجيه وقتي إلى أن يأتي من الأمة الإسلامية أجيالٌ تفقه علم الكتابة والقراءة وما يترتب على ذلك من علوم فلكية لا سيما وأن الحسابات الفلكية كما أثبت العلم الحديث فيها شيئ من الواقعية.
** الرؤية الفلكية
تعميماً للفائدة نورد هنا نبذة مختصرة عن رؤية علماء الفلك حول تحديد ولادة الهلال القمري إجتزئناها من دراسة مطولة للشيخ محمد أديب قبيسي نشرها موقع السيد العلامة محمد حسين فضل الله رحمة الله تغشاه في شهر رجب عام 1425 هـ ..
الولادة الفلكية للهلال القمري تتم عندما يقع مركز الشمس والأرض والقمر بينهما على خط وهمي واحد يقال له: "لحظة الإقتران" أو "فترة المحاق".
حسابات ولادة الهلال القمري"الاقتران" وإن كانت دقيقة جداً ويقينية بحيث لا يمكن احتمال الخطأ فيها من الناحية الواقعية إذا رُوعِيت الحسابات بدقة، إلا أن هذا لا يعني أن الهلال القمري يمكن أن يُرى لحظة الولادة، وهو ما دفع علماء الفلك قديماً وحديثاً إلى وضع معايير معينة وشروط محددة للتنبؤ بإمكانية الرؤية بعد تحديد لحظة ولادة الهلال القمري.
أولاً: المعايير القديمة: وهي التي تم العمل بها حتى بداية القرن العشرين الميلادي وأهمها:
(1) معيار الـ 12 درجة: والمقصود به من الناحية العملية أن رؤية الهلال القمري ممكنة مساء 29 من الشهر القمري إذا كان غروب القمر متأخراً عن غروب الشمس بمقدار 12 درجة، أي بمقدار 48 دقيقة من الناحية الزمنية .. وعلى اساس هذا المعيار وضعت الجداول من قبل علماء المسلمين المسماه بالأزياج وأبرزها زيج الخوارزمي.
(2) معيار انخفاض الشمس: تكون رؤية الهلال ممكنة إذا كان انخفاض الشمس تحت الأفق الغربي عند غروب القمر يساوي مقداراً معيناً يبلغ 9 درجات.
هذه المعايير والتعديلات التي جرت عليها قائمة على علاقة هندسية بين موقع القمر والشمس والمشاهد سواء من حيث الزمان كالمعيار الأول أو من حيث لمعان ضوء الشمس وأثره في الأفق بعد الغروب كالمعيار الثاني.
ثانياً: المعايير الحديثة: توالت التعديلات للشروط المقترحة المساعدة على التنبؤ بإمكانية رؤية الهلال وهي في غالبها مبنية على اعتبارات هندسية وفلكية حتى من قبل علماء فلك العصر الحديث وأهمها:
(1) المنظار الفيزيائي: تمكن الباحث الفرنسي في المرصد الفلكي للجامعة الأميركية ببيروت(فرانس برون) في العام 1977 من احداث تطور نوعي في هذا المجال عندما تطرق إليه من منظار فلكي فيزيائي مركزاً على الظروف الحقيقية والخاصة بالمشاهد والتي لاحظ فيها قدرة العين المجردة على التقاط صور الأجسام الساطعة.
(2) معيار يالوب: اقترح معياراً جديداً قائماً على المعايير القديمة ولكنه أكثر تطوراً وتعقيداً بالاستفادة من خبرته الطويلة في مجال الرصد حيث كان يعمل مديراً لمرصد غرينتش ورئيساً للجنة الأزياج التابعة للاتحاد الفلكي الدولي.
يقوم عمل معيار يالوب على تقسيم إمكانية الرؤية إلى أربع حالات، لأنه حسب اعتقاده يمكن رؤية الهلال بالمرقب أو بالمنظار فقط أو بمساعدة ذلك أولاً .. ثم من الممكن رؤية الهلال بالعين المجردة .. وإما يمكن المشاهدة بالعين المجردة كما في حالات الصحو التام وأخيراً الرؤية بسهولة بالعين المجردة مطلقاً.. وبناءً عليه قام يالو بتحديد ثلاثة عوامل رئيسية لعمل معياره هي:
أ – (عمر الهلال): والمقصود به مقدار الزمن الممتد بين لحظة الإقتران ولحظة غروب الشمس في منطقة معينة وهذا يختلف من مكان إلى أخر .. وتشير احصاءات ما يزيد على 50 سنة أن أصغر عمر للهلال تمت رؤيته بالعين المجردة كان 14 ساعة و48 دقيقة.
ب – (مكوث الهلال): وهو مقدار بقاء الهلال بعد غروب الشمس، أي الفترة الممتدة بين غروب الشمس وغروب القمر, ومعلومٌ أن أقل مكوث للقمر تمت رؤيته بالعين المجردة كان 29 دقيقة.
ج – (الاستطالة): وتعني بُعد مركز القمر عن مركز الشمس بالدرجات كما يرى من الأرض ويقال له"قوس النور- الشفق الاحمر بلهجة اليمن" وذلك لأن الرؤية ممكنة إذا كان الهلال "مركز الهلال" قد ابتعد عن مركز الشمس بحيث صار القمر يعكس مقداراً ممكناً من الضوء يمكن من خلاله رؤية ذلك.. ومعلومٌ أن أقل استطالة مسجلة كانت 6 – 7 درجات.
نسبة اضاءة القمر من العوامل المهمة أيضاً في إمكانية الرؤية.. فإذا كانت الاستطالة بين الشمس والقمر "صفر درجة" فإن الرؤية مستحيلة لأن القمر يكون في فترة المحاق وهذا يعني أنه مظلم ظلاماً تاماً أما إذا كانت درجة الاستطالة بين الشمس والقمر " 180 درجة " فإن القمر يكون بدراً.
** قاعدة عامة:
(1) إذا كانت ولادة الهلال قبل غروب الشمس وكانت فترة مكوثه بعد غروب الشمس بحيث يكون غروب الهلال بعد غروب الشمس أمكن القول بأن اليوم الثاني هو بداية الشهر الجديد.
"اذا كانت ولادة الهلال قبل غروب الشمس وغروب الهلال بعد غروب الشمس فإن اليوم الثاني بداية الشهر القمري الجديد".
(2) إذا كانت ولادة الهلال بعد غروب الشمس أو كان غروب القمر قبل غروب الشمس كان اليوم التالي مكملاً للشهر الأول.
"إذا كانت ولادة الهلال بعد غروب الشمس أو كان غروب الهلال قبل غروب الشمس فإن اليوم التالي المتمم للشهر الاول"
* نموذج تطبيقي:
شهر رمضان باليمن عام 1434 هـ
تمت ولادة هلال رمضان فلكياً صبيحة يوم الاثنين 8 يوليو 2013 الساعة العاشرة و16 دقيقة بتوقيت اليمن وفي مساء نفس اليوم مكث القمر بالأفق الغربي لمدينة الحديدة 5 دقائق فقط بمعنى أنه غرب بعد غروب الشمس بـ 3 دقائق و7 ثواني, ما جعل رؤيته بالعين المجردة متعسرة لكنه كان موجود فوق الأفق حكماً .. وكانت إضاءته أقل من واحد بالمائة من القرص وارتفاعه عن الأفق الغربي درجة واحدة قوسية وزاوية استطالته من الشمس 5 – 6 درجات قوسية تقريباً وكان اتجاه الهلال جنوب شرق وبالتالي وقوعه جنوب الشمس بـ 5 درجات
عمر الهلال لحظة غروب شمس يوم الاثنين 8 يوليو(والتي غابت عند الساعة السادسة و42 دقيقة حسب توقيت مدينة الحديدة) هو 8 ساعات و26 دقيقة
وعندما جمعنا لحظة ولادة الهلال ولحظة غروب الشمس كان الناتج 16 ساعة و58 دقيقة وبطرح عمر الهلال من ناتج جمع ولادة الهلال وغروب الشمس وإضافة ناتج الطرح الى الفترة الزمنية فالناتج (( 29 يوماً و8 ساعات و32 دقيقة)) وهذا يعني أن الشهر القمري الجديد قد دخل فعلا ولذا كان يوم الثلاثاء 9 يوليو 2013 هو اليوم الأول من شهر رمضان لعام 1434هـ بالنسبة لليمن،،،

الثلاثاء، 2 يوليو 2013

العلامة المحقق الشهيد الحسين بن ناصر بن عبدالحفيظ المهلا (استشهد في26 رجب 1111 هـ)



إعداد// حمود عبدالله الأهنومي و أحمد حميد المهلا *
هو القاضي العلامة الحسين بن ناصر بن عبدالحفيظ بن عبدالله بن سعيد المهلا النيسائي القدمي الخزرجي الأنصاري، ولد ونشأ بهجرة آبائه الشهيرة قرية الشجعة، وتتلمذ على جده القاضي عبدالحفيظ (ت 1077 هـ ) وهو العالم الذي رحل إليه طلاب العلم من الآفاق للقراءة لديه في تلك الهجرة المباركة، فأخذ عنه لمدة عشرين سنة في الفقه، والنحو والصرف، والمعاني والبيان، وأصول الفقه، وأصول الدين، واللغة، والفرائض، والتفسير، والمنطق، وكتب الطريقة وغيرها من أنواع العلوم، حتى أجازه إجازة عامة، ووصفه جده عبدالحفيظ حين أجازه بأنه: " الولد الحفيد، العلامة، المحقق، عين علماء عصره في المعقول والمنقول، ومرجع نحارير الزمن الذين لهم ملكة في الفروع والأصول"، كما تتلمذ على والده ناصر بن عبدالحفيظ، وعن السيد العلامة محمد بن الحسن بن القاسم (ت 1079 هـ) مؤلف "سبيل الرشاد" وكانت له به علاقة متميزة، كما استجاز من المحدث الحسن بن علي العجيمي الحنفي اليمني الأصل المكي الدار ( ت 1113 هـ )، وجرت بينهما مباحثات ومراسلات.
وصفه المؤرخون والرحالة بالعلم الغزير والتحقيق العجيب والموسوعية المذهلة في العلوم المختلفة، ومنهم الشيخ عبدالرحمن بن محمد الذهبي الدمشقي (ت 1128 هـ ) الوافد إلى اليمن، الذي كان قد اطلع على مكاتباته للعجيمي إلى مكة، فلما لقيه في بندر اللحية فوجد منه "بحرا لا يدرك ساحله"، ووصفه في كتابه "نفحات الأسرار المكية" بأنه كان آية من آيات الله، ومنحة، منحه الله تعالى من أحب عبادته ورضاه، وأنه خاتمة المجتهدين، وبقية علماء آل البيت العاملين، وذكره صاحب "نفحات العنبر" بأنه كان "إماما في العلوم محققاً، وبحراً متدفقاً"، ووصفه تلميذه ابن الوزير بالآتي "الحافظ إمام المتأخرين، وأكمل المتبحرين، وحافظ سنة سيد المرسلين، والمدعو في متأخري الحفاظ بأمير المؤمنين، بركة الأنام وشرف الإسلام".
ولما اقتعد للتدريس بهجرته في الشجعة بالمحابشة وفي القويعة بالشاهل أخذ عنه أتباع كثيرون وطلاب من الشرفين وغيرها واستجازه كبار العلماء في عصره، منهم علامة اليمن ومؤرخها عبدالله بن علي الوزيري ( ت 1147 هـ )، ووالد مؤلف طبقات الزيدية وهو السيد العلامة القاسم بن المؤيد محمد بن الإمام القاسم بن محمد (ت 1127 هـ) أجازه في مؤلفه "شرح البوسية"، كما أخذ عنه الرحالة والسياح مصطفى بن حسين اللطيفي الحموي المتوفى بحلب الشهباء سنة 1123 هـ، وهاجر إليه العلامة علي بن عبد الله التهامي الحبوري من حبور ظليمة للدراسة عنده، وقرأ لديه في المنطق (إيساغوجي) وشرح متن الكافل، وفي كشاف الزمخشري، وقد عاد الحبوري إلى بلده بعد أن استشهد شيخه سنة 1111 هـ في فتنة السيد إبراهيم المحطوري.
وأهم تراث خلّفه هذا الإمام هي تلك المؤلفات العديدة والتي اشتهرت في عصره قال تلميذه المؤرخ ابن الوزير في طبق الحلوى:
"إنها طبقت الآفاق وسار ذكرها مسير الشمس في الإشراق"، منها الفقهية والتارخية والأدبية، ومنها مطمح الآمال، وقد طبع، ولعلى أهمها كتبه المخطوطة والموجودة في كثير من مكتبات اليمن والعالم، ومنها المتحف البريطاني، وهو (المواهب القدسية شرح المنظومة البوسية)، وهو ستة أجزاء، شرح فيه منظومة البوسي شرحا عجيبا أبان فيه عن علومه الواسعة وأنظاره الدقيقة، وتضلعه العميق، وكان يشرح ما ورد لدى العلامة البوسي من الفصول والأبواب، ثم يستدرك عليه في الأحكام الفقهية التي لم يتناولها بقوله: وبقي على الناظم أشياء، ثم يذكر أبياته والتي بلغت آلاف الأبيات، وأما البوسي فهو العلامة الفقيه إبراهيم بن محمد البوسي المتوفى سنة 790 هـ الذي كان قد نظم (التذكرة الفاخرة) لشيخ الإسلام الحسن بن محمد النحوي، في منظومته التي سماها (الزهرة الزاهرة في فقه العترة الطاهرة).
لقد تألّق العلامة الشهيد المهلا في هجرته الشجعة كأسلافه وأهل بيته، وأقبل عليه الطلاب ينهلون من علمه ومعارفه، وقد عايش الأئمة القاسميين وهم المهدي أحمد بن الحسن بن القاسم (ت 1092 هـ )، والإمام المؤيد محمد بن إسماعيل بن القاسم (ت 1097 هـ) واثني عشر سنة من حكم المهدي صاحب المواهب محمد بن أحمد بن الحسن بن القاسم (ت 1130 هـ)، ويبدو من خلال كتابه مطمح الآمال أن مخالفات اعتاد عليه العمال لا سيما في الجهات الشرفية أثقلت كاهل المواطنين وضاعفت أعباءهم الاقتصادية، وتحيلّ هؤلاء العمال على أخذ أموال الأوقاف للعلم والعلماء لحسابهم الخاص، وفي هذه الأثناء كانت بلاد الشرفين ممر التجارة المنتعشة والقادمة من بندر (اللحية) وبندر ميدي إلى شهارة والأهنوم وخمر وبلاد المشرق، وانتشر حينها التجار المعروفون بالبانيان وهم تجار الهند المغولية، الذين لم تخل منهم مدينة من مدائن اليمن، وصار بيدهم مفاتيح التجارة والمال مما أثار حنق البعض، كما كان لليهود أدوار اقتصادية وحرفية مؤثرة جعلتهم يستحوذون على حيز جيد من المال.
في الربع الثالث من شهر رجب سنة 1111هـ  ظهر  إبراهيم بن علي المدومي المحطوري الذي اتخذ من حصن مدوم (كحلان الشرف) مقرا لعملياته، وكان بارعا في الطلاسم والشعبذة، واستطاع أن يجن دّحوله كثيرا من القبائل والمواطنين باستثارة حسهم المحلي ضد عمال البلاد المحليين الذين كان كثير منهم يظلمون الناس، وضد التجار الهنود (البانيان) باعتبارهم أجانب، وكذلك ضد اليهود لأنهم ليسوا بمسلمين، وكان من الطبيعي أن يتناقض مع العلماء لأنه ليس بعالم ويعلم أنهم سيقفون حجر عثرة أمام تهوره وقتله للناس بغير حق ومن دون دليل، وقد التف حوله كثير من القبائل الذين لم يكن لهم حظ في العلم والمعرفة طمعا في المال وانتقاما من هؤلاء، ومن السهل أن تنتشر في أوساط هذه القبائل الخرافة والأساطير، فإضافة إلى ما كان لدى المدومي المحطوري هذا من قوة التأثير فقد كان يعطيهم ما يسميه المؤرخون (الطلاسم) لكي يقوي عزائمهم، وبذلك حقق بعض الانتصارات الخطيرة والسريعة ضد جيش الدولة القاسمية التي كانت عاصمتها قرية المواهب القريبة من مدينة ذمار البعيدة نسبيا من (الشرفين)، فانتشرت الشائعات عن الخوارق التي تميز جيشه عن غيره؛ مما أعطاه دفعة كبيرة لمواصلة توسعه حتى وصل ثلاء وخمر.
استمرت حركة المدومي المحطوري أربعة أشهر، وقتل من البانيان واليهود أعدادا كبيرة واستولى على أموالهم، هذه الأموال استطاع بها تحريك الجيوش الجرارة ضد القاسميين، وكانت حصيلة هذه الفتنة مقتل عشرات الآلاف، وبقدر السرعة التي ميزت نجاحات حركته كانت نهايته ثم قُتل في مدينة صعدة بعد أن فر إليها، ورغم أن للعلامة المهلا دورا في نقد السياسات التي سلكها عمال الشرفين إلا أن عداء حركة المدومي المحطوري للعلم والمعرفة جعل المهلا وأمثاله من العلماء عرضة لسيوفهم فاحتز رأسه، وعلق هو ورأس الشيخ حسين بن حسن المحبشي وولده على شجرة طنب بساحة شمسان ،أمام المحطوري، كما قتل كثير من العلماء غيره.
ووري جسد المهلا رحمه الله في قريته مدوم، وذهبت قصة مقتله كل مذهب، وارتاع الناس من هذه الحادثة، وسج لّت له الذاكرة الشعبية كرامات تعكس مدى حب الناس له وتعلقهم به، ويتداول كثير من الناس حتى اليوم أن قبر المباشر لقتله وهو من بعض القرى المحيطة بمدوم يحترق كل ليلة، وكلما وضعوا فوقه شيئا من الأحجار لا يلبثون أن يجدوه في اليوم التالي وقد اسود لونه، مما يعكس حالة الحزن التي أصيب بها أهالي الشرفين من هذا المصاب الجلل.
مصادر الترجمة:
طبقات الزيدية، وتتمة الإفادة، نشر العرف، مطمح الآمال للمترجم نفسه، أعلام المؤلفين الزيدية، هدية العارفين.
* نقلاً عن: مفتاح المجد،العدد(11) 29 رمضان 1433هـ، وهي مجلة نصف شهرية تصدر من مديرية المفتاح-محافظة حجة

الأربعاء، 26 يونيو 2013

فضيلة العلامة عز الإسلام محمد بن يحيى بن هادي يايه

عالم في الفقه، له معرفة في غير ذلك من العلوم.
 مولده في 1297 هـ / 1880 م في بلاد (بني سعيد)، من ناحية (الأهنوم)، ووفاته في 1369 هـ / 1950 م في مدينة (المحابشة)، من بلاد حجة.
نشأ في بلاد (الأهنوم)، ودرس على عدد من علمائها؛ منهم: (قاسم بن محمد الوادعي)، ثمّ رحل إلى مدينة صنعاء؛ فدرس على العلامة (علي بن محمد حميد الدين)، والعلامة (محمد بن علي زائد)، وغيرهما، وواصل الدراسة أيضًا في مدينة (شهارة) على عدد من علمائها؛ منهم: (عبدالله بن أحمد المجاهد)، و(محمد بن سعد الشرقي)، و(محمد بن عبدالله الغلبي)، وغيرهم.
ولاه الإمام (يحيى بن محمد حميد الدين) القضاء في ناحية (حجور الشام)، سنة 1326ه/ 1908م، ثم بلاد (الشرفين)، سنة 1345ه/ 1926م، وكان يقوم بالتدريس إلى جانب عمله، وكلفه الإمام (أحمد) بتأسيس مدرسة علمية في مدينة (المحابشة) سنة 1361ه/ 1942م، فقام بذلك، وتولى إدارتها والتدريس فيها.
قال عنه المؤرخ (إسماعيل بن علي بن حسين الأكوع) في كتابه: (هجر العلم ومعاقله في اليمن): " ولما طلب منه الإمام (أحمد) مبايعته إمامًا، اشترط موافقته بتسهيل الإمام (أحمد) الحُجَّاب للناس، للدخول إليه لقضاء حوائجهم".

الأحد، 23 يونيو 2013

لا خلاف ديني بين الزيود والشوافع



كان رجال الدولة العثمانية في جميع أيام حكمهم لليمن يسعون إلى بذر بذور الشقاق بين أهل البلاد، فتارة كانوا يستميلون إليهم الشوافع ويضربون بهم الزيود، وتارة كانوا يستعينون ببعض الزيود لضرب الشوافع!! وقد بثوا داخل بلاد اليمن وخارجها دعاية باطلة خلاصتها أن الزيود والشوافع لا يحب بعضهم بعضاً وأنهم يتحينون الفرص لإيقاع بعضهم ببعض، وأن هناك اختلافاً في العقائد الدينية بينهم.
ومما يُؤسف له أن نجد بعض كُتاب العرب في هذا الوقت يأخذون بهذه الدعاية فيكتبون عن العرب فصولاً في هذا الباب كلها أباطيل.
أنا لا أنكر أن هناك بعض اختلافات مذهبية ثانوية بين الزيود والشوافع، ولكني لا أُعِيرَها أية أهمية، لأنه لا شأن لها من الوجهة القومية، ولا من الوجهة الدينية، واليك بعض الامثلة:
يجوز عند الزيود تحليف اليمين للمدعي والمدعى عليه، ولا يجوز عندهم أن يُقال آمين في نهاية فاتحة القرآن الكريم.
وفي الطلاق لا يعتبر الزيود قول الرجل لامرأته طلقتك ثلاثاً، إلا بمثابة قوله طلقتك مرة واحدة، فيجب على من أراد طلاق امرأته ثلاثاً أن يُعيد هذه العبارة ثلاث مرات – في ثلاث حيضات متتابعة دون مواقعة أو مراجعة - .... إلى غير ذلك من الاختلافات اليسيرة.
والزيود جمع (زيدي) نسبة إلى زيد بن علي، ومذهب زيد بن علي فرع من فروع مذاهب المعتزلة!!، فلا يجوز والحالة هذه أن يُطعن في الزيود من الوجهة الدينية، وما من عاقل من المسلمين يجرؤ على الطعن في مذهب زيد بن علي.
وقد قال أحد الأدباء الذين زاروا اليمن في كتاب كتبه عن رحلته ان حكم الإمام يحيى حكم زيدي لا حكم عربي، وأن الشوافع ليسوا راضين عنه وأنهم محرومون من الوظائف، وهذه الأقوال مُبالغٌ فيها كثيراً، فجلالة الإمام يحكم جميع البلاد على السواء، ولا يفرق بين حقوق رعيته، لإختلاف مذهبهم أو دينهم، وهو لا يحترم الشوافع فقط، بل يحترم اليهود أيضاً، الذين هم أقلية ضئيلة، ويعاملهم كمعاملة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم في صدر الإسلام لأهل الذمة.
وأما الشوافع فهو يحترمهم كثيراً ويعتمد على بعض كبار رجالهم، وقد عين منهم الكثيرين في وظائف مختلفة، فالمزجاجي من الشوافع وهو عامل الإمام في لحية – اللحية بالحديدة – وأخوه عبدالله عامل في زبيد ومحمد باسلامة عامل إب وهو أيضاً من الشوافع ومأمور خزينة الإمام من الشوافع واسمه الحاج لطف.
كما أن كثيرين من أئمة الجوامع هم من الشوافع، والمثال على ذلك الشيخ طاهر إمام جامع بئر العزب في صنعاء، وجميع من ذكرت هم من الموظفين الكبار.
وأما الموظفون الصغار من الشوافع المستخدمون في اليمن، لا يحصى عددهم، كما أن وزير خارجية الإمام القاضي محمد راغب هو من الشوافع أيضاً ويُنسب إلى أصل تركي.
ويجدر بالذكر هنا أن معظم الكُتاب الذين كتبوا عن اليمن عقيب الحرب العالمية، لا تخلوا كتاباتهم من الدعايات والأغراض، وذلك لأن بعض الدول الأجنبية أخذت تزاحم على هذه البلاد، ولا تمر سنة إلا ونجد في صنعاء مندوبين كثيرين أوفدتهم دول مختلفة أو شركات اجنبية لمفاوضة الإمام في بعض الشئون السياسية والاقتصادية.
وقد إتفق أنني عندما زرت صنعاء في إحدى رحلاتي المتعددة كانت فيها وفود ألمانية وأميركية وإيطالية وبريطانية وروسية.
وبكل أسف أن هذه الدول وتلك الشركات، وجدت لنفسها خارج اليمن بعض الدُعاة المأجورين!! الذين أخذوا يكتبون عن اليمن أشياء كثيرة تسويداً لصفحته!! ومعظم هذه الأشياء إفتراء وإختلاق!!.))
المصدر// نزيه مؤيد العظم "رحلة في بلاد العربية السعيدة سبأ ومأرب"، الجزء الأول، مؤسسة فادي برس- لندن، الطبعة الثانية 1985م، ص 57 - 58

الأربعاء، 5 يونيو 2013

(لقد رأى من آياتِ رَبِه الكبرى)

زيد يحيى المحبشي
يحتفل المسلمون في أنحاء المعمورة في 27 رجب من كل عام بذكرى عظيمة على قلوب المؤمنين هي ذكرى "الإسراء والمعراج" إمتثالاً لقوله سبحانه وتعالى: "ومن يُعَظِم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب" الحج/32 .
معجزة الإسراء والمعراج واحدة من الآيات الإلهية الكبرى التي أيد الله بها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بعد حصار قريش لبني هاشم في الشعب وموت الناصر - أبي طالب شيخ الأبطح -  والونيس - خديجة الكبرى - ونكبة وصد أهل الطائف، فكان فرج الله لنبيه بالإسراء والمعراج: "لنُرِيَهُ من آياتنا.." الإسراء/1
(من) تبعيضية بمعنى بعض آياتنا وليس كل آياتنا؛ تثبيتاً لقلب نبيه حتى يتحمل كل ما يلاقيه من سخرية واستهزاء وعذاب قريش وغيرها.
الإسراء والمعراج هدية ربانية أتت لتنفيس وتفريج كرب المصطفى عما كان يلاقيه من ألم صدود وجحود أهل الطائف وألم تعقب ورفض كفار قريش، وهي بالمرتبة الأولى رحلة استكشاف للكون .. وما في قوله تعالى: "لقد رأى من آيات ربه الكبرى" النجم/ 18
(من) تبعيضية بمعنى بعض آيات ربه الكبرى وليس كلها، من الغموض وعدم الإفصاح وعلامات التعجب والاستفهام عما رآه صلى الله عليه وآله وسلم ما يكفي لتبيين أهمية هذه المعجزة التي كرم الله بها نبيه.
معجزة الإسراء والمعراج التي يحتفي بها المسلمون في السابع والعشرين من شهر رجب الأغر كما هو واضح من مسماها تتكون من مرحلتين
الأولى: الإسراء من المسجد الحرام - محطة الإنطلاق - على ظهر البراق إلى المسجد الأقصى - محطة الإستراحة - والصلاة بأرواح الأنبياء إماماً في تلك البقعة الطاهرة والتهيؤ النفسي والمعنوي لبدء المرحلة الثانية: من الرحلة المقدسة وهي العروج إلى السماوات العلى؛ والمعراج كالسلم يصعد فيه إلى سماء الدنيا ثم إلى سِدرة المنتهى وهي مجرد رمزية لتوصيف عملية الانتقال من عالم الخلق الى عالم الخالق .. وفي كليهما تنقل صلى الله عليه وآله وسلم روحاً وجسداً .. وفي كليهما لم يتحدث صلى الله عليه وآله وسلم عن كل ما رآه بل عن شيئ يسير فقط تناقله الرواة فأضافوا إليه ما خُيل لهم أنه صالح لشرح آيات الله الكبرى التي رآها صلى الله عليه وآله وسلم .. فكان بعضها بحسن نية وبعضها من دس المنافقين ليشوشوا علينا أمر ديننا وليجعلوه مع العقل السليم والفطرة السليمة والسنة السليمة على اختلاف وتناقض .. فيتسرب الشك إلى القلوب ثم الكفر والجحود.
وحسبنا أن القرآن الكريم قد وصفها بـ"الكبرى" وهذا الإجمال في الوصف لطفٌ من الله لنا .. لأن عقولنا أقل من مستوى تلك المعلومات التي اختص الله بها نبيه مع أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يرى إلا ما أذن الله له أن يراه .. وقد وصف سبحانه وتعالى محافظة نبيه على حدود اللياقة والأدب وعدم مد النظر إلى ما لم يُأذن له برؤيته فقال سبحانه: "ما زاغ البصر وما طغى، لقد رأى من آيات ربه الكبرى" النجم/17 – 18
ولنا أن نتصور ما شئنا من آيات الله الكبرى التي أطلع عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكن شريطة أن نعرض ذلك على كتاب الله فما وافقه فهو الصواب وما خالفه فهو باطل مردود .. وعقل المخالف بلا شك محتاج إلى طبيب وليس القصد الإطالة وتصحيح وتنقية ما روي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الرحلة العظيمة المباركة وإنما الوقوف على الحكمة من هذه المعجزة الإلهية ..
وقد عرفنا أن القرآن الكريم جعل الحكمة "الصريحة" في ذلك: تثبيت قلب الرسول الخاتم بما رآه من آيات ربه الكبرى ليزداد هُدى ونوراً وصبراً على تحمل ما لاقاه ويلاقيه بعد موت أبي طالب وخديجة من ضروب الإهانة والسخرية والتعذيب ..
 والحكمة "الضمنية": اشعار الرسول الخاتم وأمته بوحدة الشريعة السماوية المنزلة عليه والرسل من قبله فهو صلى الله عليه وآله وسلم لم يأتِ بشيئ جديد ولم يكن أول من تلقى الإهانة والتعذيب في سبيل الله، فقد تلقاها من قبله إبراهيم الخليل وموسى الكليم، ويشير إلى هذا رحلته صلى الله عليه وآله وسلم إلى بلد الأنبياء "القدس الجريح" وتعريجه على طور سيناء جبل الكليم موسى عليه السلام وإتفاقه بأرواح الأنبياء عليهم السلام.
لذا وجدت قريش في هذه الحادثة التي سمتها "خرافة" مرتعاً خِصباً لنشر الأقاويل والأكاذيب والدعايات المغرضة ضد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .. ويأبى الله إلا أن يُتِمَ نوره ولو كره الكافرون .. وتظهر آيات ذلك في وصفه صلى الله عليه وآله وسلم لبيت المقدس وصفاً دقيقاً كأنه يراه الساعة وإخباره صلى الله عليه وآله وسلم ببعير لقريش في الطريق وما شرد منها وما جرى لماء قافلتهم ومتى يصلون مكة .. وبرغم من كل ذلك: أمن من أمن وصدق، وكفر المعاند الجهول الغوي.
الاسراء والمعراج ببساطة إعجازٌ أبهر الكافر والمعاند والزنديق والمنافق .. وأظهر مدى علم الله وضآلة العلوم الحديثة التي لا زالت تدور في محك بسيط من سماء الله المليئة بالأسرار والعجائب

السبت، 18 مايو 2013

اضاءات زيدية

بقلم//القاضي العلامة صلاح بن أحمد فليته رحمة الله تغشاه
إن الاستئثار يُوجب الحسد, والحسد يُوجد البغضاء, والبغضاء تُوجب الفُرقة, والفُرقة تُوجب الضعف, والضعف يُوجب الذل, والذل يُوجب زوال الدولة وزوال النعمة وإهلاك الأمة..
  والتاريخ يُحدثنا والوجدان والعيان يشهدان لنا, شهادة حق, أنها حينما تكون السخائم والمآثم, فهناك فناء الأمم وموت الهمم, وفشل العزائم, وفشل العناصر, والاستعباد والاستعمار والهلكة والبوار,  وتغلب الأجانب, وسيطرة العدو, أما (حينما) تكون الآراء مجتمعة والأهواء مؤتلفة, والقلوب متآلفة والأيدي متماسكة, والبصائر متناصرة والعزائم متآزرة, فهناك العز والبقاء والعافية والنعمة والغلبة والقوة والملك والثروة والكرامة والسطوة, ويجعل الله لهم من مضايق البلاء فرجاً, ومن حال السوء مخرجاً, وكان العز مكان الذل والأمن مكان الخوف..
هيهات أن يتحد المسلمون ما لم يتساعدوا, وهيهات أن يَسعَدوا ما لم يتحدوا, ليس الإتحاد ألفاظاً فارغة وأقوالاً بليغة وحِكَماً بالغة مهما بلغت من دون إعمال جِد ونشاط متحد, وأخلاق فاضلة ونفوس متضامنة, وسجايا شريفة, وعواطف كريمة مع اشتراك في الفوائد, وميزان عدل وقسط, وليس من العدل أن يُهضَم أحد حقوقه, أو يقال له إذا اشتكى: إنك مُفَرق أو مُشَاغب, بل يُنظَر إلى حقيقة الحال, فإن كان طلبه حقاً نصره, وإن كان حيفاً أرشده وأقنعه وجادله بالتي هي أحسن, مجادلة الحميم لحميمه والأخ لأخيه, لا سخط ولا سباب ولا منابزة بالألقاب بل المرونة والصبر والاحتمال, وبالخُلق والأخلاق الحسنة يبلغ غاية المراد, ومقابلة السيئة بالحسنة من أفضل الأعمال, ومعالجة القطيعة بالصلة من أشرف الأفعال... وقد قيل: " عند الشدائد تذهب الأحقاد "...
إذا اجتمعت الأهداف وتآزرت البصائر ووُجِدَ الائتلاف وكان كل واحدٍ منا يسعى في صالح الآخر, واندفع الجميع نحو العمل الجِدِي والحركة الجوهرية, وحرروا أخلاقهم, وكبحوا جماح أهوائهم ونفوسهم بأرسان العقل والروية والحنكة والحكمة, فيجد كل واحد منا أن مصلحة أخيه المسلم هي مصلحة نفسه فيسعى لها كما يسعى لمصالح ذاته, ذلك حيث ينزع الغل من صدره والحقد من قلبه, وينظر كل واحد منا لأخيه نظر الإخاء لا نظر العداء وبعين الرضاء لا بعين السخط, وبلحظ الرحمة لا الغضب والنقمة, ويعلم أنه لا عِزَة له ولا قوة إلا بعزة أخيه وقوته وعونه ..
والملاك في ذلك اقتلاع رذيلة الحرص والجشع والغلبة والاستئثار والحسد والتنافس, لأن هذه سلسلة شقاء وحلقات بلاء يتصل بعضها ببعض ويجر بعضاً إلى بعض حتى تنتهي إلى هلاك الأمة وتهوي بها المهاوي والشقاء والتعاسة ..
وأعلم أنه لم يبقى ذو حس وشعور في أنحاء المعمورة إلا وقد عرف وتحقق بضرورة الإتحاد وجمع الكلمة والاتفاق ومضرة الاختلاف والافتراق, حتى أصبح هذا الشعور والعرفان وجدانياً محسوساً وأمراً واضحاً ملموساً, فلا بُد إذاً من التدارك وجمع الكلمة والوحدة قبل أن يقضي الافتراق على الجنس البشري الحي فيدخل في خبر كان ويعود كأمس الدابر ونعوذ بالله والله المستعان.
* المصدر: القاضي العلامة صلاح بن أحمد فليته, النصيحة العسجدية, مكتبة التراث الإسلامي – صعدة, الطبعة الأولى 1995 (بتصرف من عدة مواضع بالكتاب)