Translate

‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالاتي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالاتي. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 28 سبتمبر 2023

الشعب اليمني العظيم يستعيد هويته الإيمانية بمولد النور طه


 

السياسية /مركز البحوث والمعلومات: زيد المحبشي

 

تحتفي الأمة الإسلامية في الثاني عشر من ربيع الأول من كل عام بمولد رسول الله صلى عليه وآله وسلم، وللاحتفاء بهذه الذكرى الغالية على قلوب الموحدين، نكهة خاصة في اليمن، خصوصاً بعد ما شهده هذا البلد المؤمن المُبارك من تغييرات جذرية عقب ثورة 21 سبتمبر 2014 بقيادة حفيد رسول الله السيد القائد العلم “عبدالملك بدر الدين الحوثي” حفظه الله ووفقه لكل خير، من أهم مُدخلاتها استعادة هذا الشعب العظيم هويته الإيمانية وأخلاقه العربية الأصيلة، ودوره الريادي في مُناصرة الإسلام وقضاياه، وسط مُحيطٍ عربي يموج بالتفسّخ والتعرّي الأخلاقي والديني، والانبطاح والتقزّم لأمّةٍ أراد الله لها العلّية وأراد لها حُكّامها من صهاينة العرب الضعف والوهن، أمّة جعلها الله شاهدة على الأمم وجعلها حُكّامها من صهاينة العرب مضحكة للأمم.

فعاليات إحياء ذكرى المولد النبوي في اليمن هذا العام تكتسب أهمية خاصة لإتيانها مع وصول اليمن إلى مراحل متقدمة من التصنيع العسكري، صار طُغاة العالم وأحذيتهم الإقليمية يحسبون لها ألف حساب، وفي هذا عزة وتمكين لأحفاد أنصار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبلادهم الميمون المبارك، بالتوازي مع تزايد الهجوم الغربي والصهيوني على الإسلام ونبيه عليه وعلى آله الصلاة والسلام، ما يجعل من فعاليات إحياء المولد النبوي المليونية لأحفاد الأنصار رسالة واضحة لكل من تُسِّول له نفسه الإساءة لنبي الرحمة، بأن شعب الأنصار حاضرٌ بكل قوّته للدفاع عن الإسلام ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورفع راية الإسلام خفاقة أبيّة، والإعلاء من مكانة الإنسان المسلم الذي كرّمه الله في مُحكم التنزيل على سائر مخلوقاته وأناط به مُهمّة إعمار الأرض بالخير والصلاح والفضيلة.

الإسلام في جوهره ثورة اجتماعية على الظلم والطغيان وكل ألوان الاستعباد والاستغلال لبني الإنسان، ولهذا كان أنبياء الله ورُسله عليهم السلام يحملون مشاعل النور والحق والحرية ويستقطبون بنور الحق كل المعذبين والمستضعفين في الأرض، والجماهير البائسة التي مزقتها أساطير الآلهة الدنيوية المُزيّفة روحياً، وشتتها الجاهلية فكرياً، ووقعت فريسة أشكال مختلفة من الاستغلال والظلم الاجتماعي.

لهذا كانت النبوة كظاهرة ربانية تُمثّل رسالة ثوريّة، وعملاً تغييرياً جذريّاً، وإعداداً ربانيّاً للجماعة المؤمنة، لكي تستأنف دورها الصالح في مجتمعٍ تسوده الفضيلة وترفرف فوق ربواته راية الحق والعدل.

هذه الثورة الإلهية تستدعي بأن يتسلّم شخص النبي الخلافة التي تُعتبر وسام السعادة للبشرية، ومن بعده أهل الصلاح من ذريته الطيبة الطاهرة، وبموجب هذا التكريم الإلهيّ للبشرية ببعثة الأنبياء والرُسل لم يعد بمقدور أحدٍ من طُغاة البشرية أن يستغلّ الآخرين أو يظلمهم أو ينهب ثرواتهم أو يغشّ في معاملتهم أو يكذب عليهم أو يسخر منهم، بل لا بُدّ أن يتعامل معهم – والخطاب هنا للحُكّام ومن بيده المسؤولية على بني الإنسان أياً كان نوعها ومُستواها – بالقسط والعدل والتعاون على أساس الحب والاحترام، وبسبب هذه المقاصد السامية حظي الإنسان في ظلّ الإسلام بالاحترام والتقدير والتحرر من عبودية غير الله “لا إله إلا الله” عكس سائر الأديان التي لم تَسلم من التحريف والتوظيف السياسي لصالح مصالح الأنا البشرية الهادمة لصروح الفضيلة والعدالة.

 

حروف مُضيئة من سيرته العطرة:

 

بينما كان سكان مكة غارقين في أحلامهم وشهواتهم وملذاتهم، والظلم بلغ مداه، والجهل في أوجه، والحريات قُيِّدت، والحقوق سُلِبت، والأفواه كُمّمت، والأحجار قُدِّست وعُبِدَت، والحدود عُطِّلت، والطفلة وئِدت، والمرأة صارت من سِقط المتاع تُباع وتُشترى، والطبقية تجذّرت وتغوّلت، والعنصرية أُثيرت وطغت، والفتنة تأجّجت نيرانها وأحرقت في طريقها البسطاء والمساكين والمستضعفين، وصار قانون الغاب سيد الموقف، والانحلال والانحطاط سلعة التفاخر البائرة في أوساط عِلية القوم.

في هذه الأجواء الملغومة كانت البشارة الإلهية بخروج نور الرحمة المُهداة للعالمين من بيت عبدالمطلب بن هاشم ليبدّد الله به حُجب الظلام.

مولده صلى الله عليه وآله وسلم في صبيحة يوم 2 وقيل 3 وقيل 8 وقيل 9 وقيل 10 وقيل 12 وقيل 17 وقيل 22 ربيع الأول، وقيل في ربيع الثاني، وقيل في رمضان، وقيل في صفر، وقيل في رجب، وهناك من علماء المدرستين من رجح 9 و12 و17 ربيع الأول، وما نميل إليه في أحد يوميّ 12 و17 ربيع الأول.

والمؤكد هنا أن مولده صلى الله عليه وآله وسلم بعد 55 يوماً من هلاك أصحاب الفيل عام 570، وفي رواية 20 أو 22 أبريل 571 م، وسنة 882 من تاريخ الإسكندر ذي القرنين عليه السلام، و40 سنة خلت من مُلك كسرى أنو شيروان.

وُلد صلى الله عليه وآله وسلم مختوناً طاهراً مُطهراً وحبله السري مقطوع، ولا صحة لدعاوى البعض فيما يتعلق بحادثة شق الصدر المُختلقة وإخراج مُضغة الشيطان منه لما فيها من قدح في حقه صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الرواية من الروايات الإسرائيلية المدسوسة، تحدّث عنها العديد من علماء المدرستين ونسفها من جذورها، وليست محل بحثنا هنا وإنما غرضنا التوضيح فقط.

بعد ولادته صلى الله عليه وآله وسلم أرسلت أُمّه رحمة الله عليها إلى جدّه رحمه الله تُبشّره بحفيده، فجاء مُستبشراً، ودخل به الكعبة، ودعا الله وشكره، وسمّاه “محمداً”، ولم يكن هذا الاسم مُعروفاً في العرب.

تُوفّي والده وهو لايزال في بطن أمّه، وتوفيت أمّه بالأبواء – موضع بين مكة والمدينة – وله 6 سنين.

فتولى جده رعايته، وتوفّي – بعد أن أوصى به إلى ابنه أبي طالب وله صلى الله عليه وآله وسلم 8 سنوات وشهرين و10 أيام، فكفله عمه أبو طالب شيخ الأبطح رحمة الله عليه – وكان مؤمناً موحداً عكس ما ادّعى البعض من عُتاة الوهابية وهناك العديد من الكتب حول إيمانه وعدم مقاربته المحرمات منها كتاب “أسنى المطالب في إيمان أبي طالب” وكذا الحال بالنسبة لأم رسول الله ووالده وجده ولم يشذّ عن الطوق من أبناء عبدالمطلب سوى أبو لهب، وظلّ فوقه 40 سنة يُعِزُّ جانبه، ويبسط عليه حمايته، ويُصادق ويخاصم من أجله.

وحكّمت قريش رسول الله في وضع الحجر الأسود بركن الكعبة وعمره 25 سنة، وفيها تزوج خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي سلام الله عليها، وتوفيت هي وكافل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وناصره أبو طالب عليه السلام قبل الهجرة بثلاثة أعوام، وبعثه الله إلى الخلق وهو في 40 سنة.

نزل إليه روح القُدس جبريل الأمين عليه السلام يوم الاثنين 12 ربيع الأول، وقبضه الله صبح يوم الاثنين 12 ربيع الأول، وقيل 28 وقيل 29 صفر، وفي بعض السِيَر في شهر رمضان، والأرجح عند أطياف المدرسة السُنية 12 ربيع الأول وعند إخواننا الجعفرية 28 صفر، والمؤكد أنه في سنة 63 من عام الفيل، و23 من عام البعثة، و11 من عام الهجرة، ودُفن صلى الله عليه وآله وسلم في حُجرته المباركة، في موضع وفاته، بمسجده بالمدينة المنورة.

وُلد صلى الله عليه وآله وسلم وبُعث وهاجر ودخل المدينة وقُبض يوم الاثنين، وفي هذا التوافق سِرٌ عظيم.

هذا هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طِفل ما تعرّى مع الصبيان، ولا شرب الخمر مع الشبان، ولا تعاطَ اللهو مع اللاهين كما يدّعي أقتام الوهابية، ولا عرف طريق البغايا، ولا سجد لصنم، حفظه الله في غُدوّهِ ورواحه، في جلوسه وترحاله، يقول عنه تلميذه ووصيه الإمام علي عليه السلام: “لقد قرن الله برسوله أعظم مَلك من ملائكته”.

وعند بلوغه سن اليافعين اشتغل في رعي الأغنام ليتعلم منها كيفية قيادة وسياسة الأمة وإدارة أمورها، لأن مهنة الرعي من أروع الدروس في تعلّم فنون التعامل مع الآخرين، كما أنها تغرس في النفس البشرية الصبر والتحمل وسعة الصدر.

عمل بعدها في التجارة بمال خديجة بنت خويلد سلام الله عليها، لكي لا يكون عالة على الآخرين، وليكسب قوته بعرق جبينه، وفي مرحلة متقدمة أصبحت له تجارته بدعم عمه أبو طالب سلام الله عليه.

أطلق عليه كفار قريش لقب الصادق الأمين لما لمسوه منه من صدق وأمانة وأخلاق عالية، كانت من أهم عناوين رسالته الخالدة: “إنما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق”، فكان مستودع أمانات قومه، والقاضي في فصل خصوماتهم وحلّ قضاياهم ومشاكلهم ونزاعاتهم المُعضلة، كما في حادثة وضع الحجر الأسود بمكانه بعد بناء الكعبة الذي كان له الشرف الأعلى في كل مراحلها وصولاً إلى تحكيمه في حل معضلة الحجر الأسود.

ومن أرض مكة القاحلة طلع ربيع الإنسانية، وسطع نور الحق واليقين فملأ الأرض عدلاً ونوراً بعد أن مُلئت ظُلماً وجورا.

أسرته بنو هاشم، وقومه قريش، وأمّته المسلمون، ووطنه شبه الجزيرة العربية، هذا هو وطنه، وتلك أمّته، وأولئك قومه، وهؤلاء عشيرته.

وهو صلى الله عليه وآله وسلم رجل الدنيا وواحدها حقاً، يتردد اسمه الشريف وتُصلي وتسلم عليه وعلى آله ملايين الشفاه، وتخشع لذكره ملايين القلوب في كل يوم وليلة خمس مرات على الأقل، وترتجّ وتتزلزل خشية وخوفاً بمجرد ذكره ملايين القلوب الكافرة به وبرسالته.

عُرف صلى الله عليه وآله وسلم بالتسامح والتواضع والحلم والذكاء والصدق والسخاء ومكارم الأخلاق، ولا عجب، فهو القائل: “أدبني ربي فأحسن تأديبي”، وهو من قال الله فيه: “وإنك لعلى خُلقٍ عظيم”، وأعجز برسالته الخاتمة للرسالات الإلهية أرباب البلاغة والبيان وأساطير الفلسفة والمنطق، وعلَّمه ربه فقال له “اقرأ”، فسُميت أمته أمة “اقرأ”، ولنا هنا أن نتساءل: لو كان صلى الله عليه وآله وسلم كما يذهب البعض أُميّ لا يقرأ ولا يكتب، فلما خاطبه الله سبحانه وتعالى بقوله “اقرأ”؟.

 

أمّة محمد بين الأمس واليوم:

 

استطاع صلى الله عليه وآله وسلم خلال 23 عاماً من الدعوة إلى دين الله بمرحلتيها المكية والمدنية، أن يصنع أعظم دولة عرفها التاريخ، أرسى قواعدها على مبادئ العدل والمساواة والعمل الصالح وحُب الآخرين واحترام حقوق الإنسان ومنع العنصرية والطبقية والتسلُّط والاستعباد.

وامتازت رسالته بالعالمية والصلاحية للخلود رغم تطور الزمن، عكس الديانات الإلهية الأخرى فقد كانت رسالتهم الإلهية محصورة في نطاق جُغرافي وعِرقي محدد، فقبلُ سايَرت الرسالة المحمدية عالم السيف والرمح والقوس والناقة كما أنها تساير اليوم عالم الصواريخ والأقمار الصناعية والطائرات والبواخر والكمبيوتر، دستورها القرآن الكريم، وهو كتابٌ إلهيٌ شاملٌ لكل مناحي الحياة الإنسانية ومحفوظٌ بحفظ الله إلى قيام الساعة عكس الكتب الإلهية الأخرى.

وهذا أمرٌ طبيعي لأنه صلى الله عليه وآله وسلم جاء بما لم يكن في حُسبان أحدٍ من الناس روحياً ومادياً، بِشِرعةٍ واضحة البيان والأركان، صالحة لكل زمانٍ ومكان، حوت في ثناياها خير الدنيا والآخرة.

الحديث عن حياة رسول الرحمة والمحبة والإخاء والعدل والانصاف والأمن والسلام هو حديث عن شخصية عجزت عن إدراك غاياتها عقول الناس، لأن حياته صلى الله عليه وآله وسلم تجمّعت فيها كل معاني النبل والفضيلة والكمال، وأصبحت مصدر إشعاع لكل القيم الشريفة والمُثل العليا.

كيف لا وهو المبعوث رحمة وهُداً ونوراً للعالمين، نعم إن الحديث عن هذه الشخصية الإنسانية الربانية ليس كالحديث عن حياة شخص آخر لا يمتاز عن الحيوان إلا أنه عرف أمسه وأدرك يومه ومات في غده، فحياته صلى الله عليه وآله وسلم مختلفة عن ذلك تمام الاختلاف، إذ هو الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، ولذا كانت حياته كلها حقائق تخضع لها عُقولنا، ونور ينسج ليل أفكارنا وظُلُمات صدورنا.

كلما زاد الإنسان المسلم حياة نبيه درساً، زادته شوقاً إليها، وعلماً ونوراً وعقلاً، لأن حياته صلى الله عليه وآله وسلم خالدة فياضة بالنور والهدى، مُتجددة بتجدُد الأيام، متطورة بتطور العقل، لها في كل جيل أثر، وفي كل أمة آية، وفي كل عصر قيمة ومكانة هامة.

ما أحوجنا ونحن نحتفل بمولد النور طه صلى الله عليه وآله وسلم إلى التذكير بأنه صلى الله عليه وآله وسلم “الآن”، ليس جسداً يرقد في المدينة المنورة، بل: “موقف وشعار وجبهة وراية وسيف”، موقف الحق ضد الباطل، وشعار الفضيلة ومكارم الأخلاق ضد الرذيلة والعادات الجاهلية الرعناء، وجبهة العدل ضد الظلم، وراية الحرية ضد العمالة، وسيف العدل في وجه الطاغوت والشيطان، فلا تضيعوا جبهته فتضيعوا، ولا تُنكسوا رايته فتسقطوا، لأنه رفيق الله لا السلاطين وأحزابهم، ومن عزّ بغير الله ذل.

والإسلام ليس مجرد طقوس وشعائر جامدة، بل ثورة شاملة وجذرية على مبادئ وعادات وأخلاق الجاهلية، ثورة على تاريخ طالما احتضن الفساد لا سواه، ثورة رسالية عالمية غير مسبوقة في تاريخ الإنسانية غيّرت مجرى التاريخ البشري كله، لأنها أكبر من التاريخ، وأقوى منه على الصمود والديمومة والخلود، ثورة رسالية حملت بين ثناياها آمال الإنسانية وأحلامها وتطلُعاتها، واحتضنت بين آياتها وسورها خيرات الأمم والشعوب وعزتها وكينونتها وكرامتها، ورفعت على الرؤوس لواء الحق والعدل والحرية والأمن والسلام والرحمة والتسامح والتعايش والإنصاف.

يا رسول الله يا نبي الرحمة يا من كنت تقول حتى جاءك ملك الموت عليه السلام: “أمتي أمتي”، وتسأله وأنت في نزعك الأخير: “أهكذا تنزع أرواح أمتي”، فيقول لك: “وأشد من ذلك”، فترمق بطرفك الشريف إلى السماء مُناجياً ربك: “إلهي شدِّد علي وخفف عنهم”.

ها هي أمتك اليوم تعيش النزع الأخير، وها هم الطُغاة الذين أسقطت عروشهم ينتزعون أرواح أحبابك وأحباب أهل بيتك عليهم السلام في اليمن وفلسطين والبحرين والإحساء والقطيف بلا رحمة وبلا إنسانية وبلا وازع وبلا ضمير، وها هي مكة والمدينة، البقاع الطاهرة المطهرة والمكرمة بمبعثك ونبوتك ورسالتك أصبحت ساحة مفتوحة يقصدها ما يُسمى بالفنانين من الكفار والمشركين والمثليين وغيرهم من شذاذ العالم لإقامة فعالياتهم الصاخبة بالمجون دون احترام أو مراعاة لقداستها وأهمية مكانتها لدى المسلمين.

ها هي أمتك يا رسول الله من الكثرة بمكان ولكنهم والعزاء لك كغثاء السيل، قادتهم متناحرون يلتقون بالسلام والعناق الأخوي الذي ظاهره الألفة والرحمة وحقيقته الباطنة التدابر والتقاطع والشحناء، وبعد لقاءاتهم التي لم تُقدم للأمة سوى الذل والهوان وتمكين أعداء الإسلام من بلاد الإسلام، وجعل أمة الإسلام تابعة ذليلة لطُغاة العالم من اليهود والنصارى، بعد تلك اللقاءات الطافحة بالكذب المعسبل والنفاق الدبلوماسي، يمسحون عرق المُجاملة ويشرعون في تقطيع وذبح بعضهم.

هذه هي أمتك يا نبي الرحمة والمستضعفين وهذا هو حالها، أمتك يا نبي الرحمة والعزاء لك لم تعد تحفظ من سجل الرسالة الخالدة سوى الاسم، ولم تعد تُجيد سوى رفع وترديد الشعارات المُجافية لواقعنا الذي بات أشبه ما يكون بالجاهلية الأولى.

يا حبيب الله ها هو أبو لهب يطل على أمتك من جديد رافعاً رايتك ومنادياً بشعاراتك، وباسم الحفاظ على دينك ينشر في أوساط أُمتك الكبت والإرهاب، ويصادر حُريتهم، ويشتري ذممهم وضمائرهم وولائهم.

يا حبيب الله ها هو أبو لهب يعود إلينا بأمواله وبناياته وعماراته ليحتقر أمتك ويستهين بها ويتلاعب بمصائرها، بينما أمتك كالسوائم.

يا رسول الله لنا في كلِ قُطرٍ عربي وإسلامي جُرحٌ ينزف وأخلاقٌ تنتحب وتعاليمٌ دينية تتلاشى، ومن أراد إعادة أمتك إلى المحجة البيضاء من القادة والعلماء الأحرار وصموه بكل المقذعات ورموه بكل الموبقات واتهموه بكل المنكرات واستشاطوا ضده غضباً وحركوا كل كلابهم المسعورة لإسكاته والقضاء عليه، وما نراه من تكالب تحالف العاصفة على اليمن الميمون في سنوات عدوانهم الثمان وسُعارهم المتطاير ضد أحرار المقاومة الإسلامية في فلسطين ولبنان والعراق ومحور الصمود والممانعة كاشف لأحفاد أبو لهب من صهاينة العرب وفاضحٌ لعدائهم الدفين والمتجذّر للإسلام ونبي الإسلام.

ووالله لو عاد إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن على ما نحن فيه من الضعف والوهن والابتعاد عن تعاليم الله لأخذ سوطاً وألهب به ظهور القادة والساسة والزعماء الغُثائيين من صهاينة العرب، وأعاد جمع أحرار أمته تحت رايته مُعلناً الجهاد المقدس من جديد لحماية الإسلام وحُرماته ومقدساته المُستباحة، وشرع في إعادة الحقوق المُستلبة من المسلمين المستضعفين، وكشف القناع عن علماء السلاطين وما ألحقوه بالأمة من خراب ودمار فكري ومعنوي، وجعل كلمة الذين آمنوا العليا وكلمة الذين كفروا السفلى كما أراد الله سبحانه وتعالى، ووضع يده الشريفة وقُدراته في يد كل مشروعٍ من شأنه أن يضرب أعداء الإسلام ويُذلّهم ويرفع راية أهل الحق ويُعزّ مُحبيه.

فهل حان الوقت للعودة الصادقة إلى ديننا والاقتداء بنبينا حين امتنع عن عطية الاستبعاد السياسي القرشي، فخدعها بالصبر عليها وعالجها بالترويض حتى أصبحوا المطية الذلول في فتح مكة!

 

الاثنين، 11 سبتمبر 2023

هل كانت احداث 21 سبتمبر 2014 ثورة أم انقلاب؟

بقلم زيد يحيى المحبشي


قبل الاجابة يجب الوقوف على ماهية الثورة وشروطها ومراحلها، بعدها يمكن الاجابة بحيادية وموضوعية. 


الثورة فعلٌ جماهيريٌ شامل، غايته تغيير الأوضاع القائمة، تغييراً جذرياً، في مرحلة تعتبرها نهاية المراهنة على التغيير والإصلاح من خلال النظام القائم، بالتوازي مع عجز المعارضة السياسية عن الإمساك بزمام المبادرة، وتهيبها من الإقدام على تحمل مسؤولية التغيير، ما يجعل من الجماهير هي المتصدرة للمعركة.


ويضع علماء الاجتماع ثلاثة شروط لا تقوم ولا تنجح الثورة أو يُكتب لها النجاح والبقاء والاستمرارية بدون توافرها:


 1 - أزمة "النظام/ السلطة" أو أزمة "سياسية - اجتماعية – اقتصادية"، مستفحلة وممتنعة على الاستيعاب، وهذا الشرط متوافر على الدوام.


2 – توافر الوعي السياسي بالحاجة إلى التغيير سبيلاً أوحداً لكسر نطاق أزمة السلطة أو أزمة الدولة.


3 – وجود تنظيم أو فعل سياسي ينهض بدور التوعية والتعبئة والقيادة والإنجاز نيابة عن المجتمع كله.


وهذه الشروط الثلاثة هي التعبير المباشر عن نضوج الشرط الذاتي للتغيير، والذي بدوره يجب أن يمر بثلاث مراحل متلازمة ومتأرجحة في نفس الوقت بين الصعود والانحدار والركود:


1 - مرحلة الهدم "الصعود": وفيها يتم إسقاط النظام القائم، وهذه المرحلة تنجح فيها كل الثورات تقريباً، لكن لا يمكن وصفها بالثورة الكاملة بل نصف ثورة ونصف انتصار.


2 - المرحلة الانتقالية "المراوحة والركود": وفيها يظهر كثيرون ممن يريدون سرقة الثورة وحرفها عن أهدافها سواء كانوا أطرفاً داخلية أو خارجية، وقد يكونوا من بقايا النظام السابق أو من أحزاب سياسية تريد ركوب موجة الثورة في آخر لحظة بما يسمى بالثورة المضادة.


3 - مرحلة بناء نظام بديل وأوضاع جديدة "الانحدار": وفيها يتم إقامة نظام بديل، وأوضاع جديدة، تتوافق مع أهداف الثورة والوعود التي قدمها الثوار للشعب، وهي الأكثر صعوبة، وفي كثير من الأحيان تتعثر الثورة في بناء أوضاع جديدة ما يدفعها إلى الانتكاسة، وهذا بطبيعته يتوقف على مدى تمكن الثوار من تجاوز المرحلة الانتقالية، ومدى قدرتهم على المناورة السياسية والتصدي السياسي للثورة المضادة التي قد تنشأ في المرحلة الانتقالية، باعتبارها تمثل نقطة العبور إلى المحطة الثالثة، والنقطة الفصل لمعرفة مدى نجاح الثورة من عدمه في مرحلتها الأولى، ومدى قدرتها على الانتقال السلس الى المرحلة الثالثة.


بالعودة الى احداث 21 سبتمبر 2014 فكل شروط تنضيج الفعل الثوري باعتقادنا توافرت، عكس انتفاضة 11 فبراير 2011، سواء لجهة أزمة النظام المتزايدة في الاستفحال والتعقيد بصورة لافتة للعيان منذ الحرب الأهلية في العام 1994، وما تلاها، من أحداث أدت الى الانفجار الكبير في 21 سبتمبر 2014، أو لجهة توافر الوعي بضرورة التغيير، وإن كانت ضريبته باهظة، لكن من يريد الحرية والحياة والكرامة لا بُد له من تحمل ضريبة ذلك، وعلى العكس تماماً من انتفاضة 11 فبراير فقد حظيت احداث 21 سبتمبر  بقيادة ثورية واعية وحازمة لجهة تنضيج الفعل الثوري وإيصاله الى بر الأمان، وتجاوز ألغام الثورة المضادة في مرحلة التحول، وبالتالي تمكنها من تجاوز المرحلة الأولى والثانية من مراحل الثورة، والشروع في المرحلة الثالثة وإن ببطئ شديد، وهي أصعب المراحل، وحملت لواء الدفاع عن الوطن وتحريريه من قوى التغول الاستعماري الإقليمي التاريخي، بعد أكثر من تسعة عقود من التبعية والوصاية على اليمن.


ولعظمة وأهمية ومكانة هذا الحدث التاريخي والمفصلي في حياة اليمنيين، يؤكد قائدها بأنها "ثورة نقيّة وخالصة، تحققت بمشاركة شعبية وجماهيرية واسعة من مختلف فئات ومكونات الشعب اليمني".


ورغم اختلافنا مع الطريقة التي يدير بها قادتها البلد في مناطق سيطرتهم، فالمؤكد عدم امكانية فصل هذا الفعل الثوري عن السياق السياسي الذي عاشه اليمن في مرحلة ما بعد ثورة 26 سبتمبر 1962، وما صاحبها من إقصاء وتهميش لشريحة كبيرة من الشعب اليمني، وحرمان مناطق معينة باسم الثورة، وبعد قيام الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990، استمر النظام في ممارسة هواية استعداء المكونات الرافضة التسبيح بحمده بذرائع واهية، كانت نتيجتها شن ست حروب ظالمة على صعدة "2004 – 2010".


وفي العام 2011 انخرط "الانصار" في صفوف حراك 11 فبراير على أمل إيجاد دولة حرة، عادلة، مستقلة، قابلة للحياة في اليمن، لكن دول الإقليم والمكونات الموالية لهم داخل اليمن حالوا دون ذلك، ما أدى الى فشل الفعل الثوري، وإعادة تخليق النظام السابق من جديد، وبتبعية أكثر انبطاحاً وإباحة لليمن.


وعليه فما جرى في 21 سبتمبر 2014 نتيجة طبيعية لكل هذه السياقات، ونتيجة طبيعية لإقصاء وتهميش نظام حراك 11 فبراير لشريحة واسعة من المجتمع اليمني، ونتيجة طبيعية لسلسلة من المظالم تعامل معها نظام "صالح" بروح التعالي، وصمت عنها الفاعلين السياسيين من أحزاب وشخصيات اجتماعية مؤثرة بل وحاول البعض تجيير موقف النظام السابق من قضية ومظلمة صعدة لصالحه مدفوعاً بالعصبية المذهبية ومصالح دول الجوار، والأهم من هذا أنها ثمرة من ثمار خطاب "الأنصار"، الذي دعا منذ لحظاته الأولى إلى الانتفاضة ضد الهيمنة وإسقاطها والعمل على استعادة ما اسموه الكرامة اليمنية والسيادة الوطنية وتحرير القرار السياسي من التدخلات الاقليمية.

الثلاثاء، 23 مايو 2023

الذكرى 12 لنكبة وكالة الانباء اليمنية بصنعاء


بقلم زيد المحبشي

23 مايو 2011 يوم أسود لن ينمحي من الذاكرة في ذلك اليوم الأسود كنت نائما بالمنزل على غير العادة، وفي الساعة 11 ظهراً اتصل بي نائب مدير مركز البحوث والمعلومات بوكالة الأنباء اليمنية سبأ طالباً الحضور لمراجعة مقال عن رياح التغيير بمصر قبل النشر. لم تمضي سوى نصف ساعة على وصولي إلى المكتب بالطابق الرابع لأتفاجئ بانفجار الوضع بالحصبة واختراق إحدى الرصاصات النافذة المقابلة. صرخ أحد الزملاء انبطحوا. تسللنا من المركز زحفاً في قرابة الواحدة ظهراً الى الطابق الأرضي، وبقينا تحت القصف حتى الثامنة والنصف بعد العشاء. لم نكن نتوقع النجاة، وبفضل الله وتدخل بعض المشائخ والوجاهات الاجتماعية والسفراء الأجانب بصنعاء تم السماح لنا بمغادرة مبنى الوكالة 73 صحفياً وصحفية ظلوا تحت القصف قرابة 8 ساعات ونصف بكل أنواع الأسلحة، لم يكن معهم سوى أقلامهم وأربعة جنود فقط من حراسة البوابة دون أي جريرة اقترفوها سوى شهية القتل والترويع لدى المعتدين. انتهت حفلة الزار بمغادرة أخر زميل في التاسعة مساءاً، فكان هذا اليوم الأسود؛ اليوم الأخير في حياة الوكالة وأسرتها والتي كانت لحظتها تعيش عصرها الذهبي، بعد أن ذاع صيتها في الافاق؛ وصارت لها علاقات تعاون مع كبريات الوكالات الاخبارية في العالم؛ وكانت مقصد الباحثين من كل المستويات وليس هذا فحسب بل وكانت تصنف في الترتيب الثاني عربياً. ترى ما الذي تبقى منها بعد مرور 12 عاما من السنوات العجاف؛ تعاقب على حكم سبأ خمسة رؤساء تحرير؛ 4 بصنعاء وواحد بعدن؛ كلهم فشلوا في إعادة الحياة إليها، بل صارت الوكالة وكالتين؛ وكلا منهما يُغني على ليلاه؛ وأصبحت أسرتها إما مشردين أو حبيسي البيوت؛ باستثناء قلة قليلة لا يتجاوز عددهم بوكالة صنعاء كنموذج المئتين بعد أن كان طاقمها يفوق الألف وخمسمائة موظف. 12عاماً مرت لم تعد وكالة سبأ تحمل من رائحة هدهد سليمان الفواحة سوى الاسم والاسم فقط.

الاثنين، 20 مارس 2023

2015 .. عام العدوان الدموي على دُور العبادة بصنعاء


مركز البحوث والمعلومات: زيد المحبشي


يظل العام 2015 من أكثر الأعوام دموية في السجل الأسود لسنوات العدوان العبري الثمان، استهدفت الجماعات الإرهابية التكفيرية الوهابية المُتشددة المدعومة من السعودية، والتيارات الدينية اليمنية الموالية لبلاط الدرعية، أكثر من 12 مسجداً بأمانة العاصمة، أثناء أداء المصلين الصلاة، في بادرة خطير كان الهدف منها تمزيق النسيج الاجتماعي، وتلغيم التعايش المجتمعي الذي تفرد به اليمن عن غيره من البُلدان العربية والإسلامية لأكثر من 12 قرناً، وتحويله الى مستنقع وساحة لحرب مذهبية لا تُبقِ ولا تذر، لكن وعي ويقظة وبصيرة أحفاد الأنصار أسقطت كل رهاناتهم ومخططاتهم الشيطانية التدميرية.


الجوامع المُستهدفة:


 الإحسان، القبة الخضراء، قبة المهدي، المؤيد، البليلي، البهرة، الروضة، الصياح، النور، قطينة، بدر، الحشحوش.


أدوات الجريمة:


 تنوعت ما بين حزامٍ ناسف وسيارة مُفخخة وانتحاريين مجبسين.


استراتيجية الجريمة:


ركّزت على تنفيذ عمليات مزدوجة، تستهدف المصلين والناجين والمُسعفين في وقتٍ واحد، بمعنى إبادة جماعية لكل الحاضرين، في حقد يزيدي دفين.


الضحايا:


أكثر من 700 إنسان، غالبيتهم من الأطفال وكِبار السن، بينهم من أُصيب بإعاقات دائمة.

نصيب بدر والحشحوش منها 555 ضحية، بينهم أُسر انتهت تماماً، وأُسر فقدت كل أطفالها، وأُسر فقدت الوالدين معاً، وأُسر فقدت الأب والإبن والأخ وأخاه، وأُسر فقدت ثلاثة أجيال "الجد والإبن والأحفاد".

كما حصدت كوكبة من خيرت علماء اليمن، منهم:

السيد العلامة الدكتور مرتضى المحطوري، السيد العلامة عبدالملك المروني، السيد عبدالإله الكبسي، العلامة عمار اللاعي، العلامة محمد عبدالملك الغيثي.


بنك الأهداف:


تركّز اهتمام المعتدين على المساجد المُشتهِرة بمناهضتها للفكر الوهابي التكفيري الإرهابي، وفي هذا دلالة واضحة على أن تحالف البغي العبري كان يُعد العُدة للقضاء على شيعة اليمن، والنيل من نقاء وطُهر الإسلام المحمدي في بلد الأنصار، وتحويله الى حظيرة لأنعام التكفير الوهابية، وساحة لسادتهم وأولياء نعمتهم في البيت الأسود وتل أبيب، وبوابة للمشروع الاستعماري الاستيطاني القديم المُتجدد بنُسختيه: الشرق الأوسط الكبير والقرن الأفريقي الكبير، بعد فشل رهانات أبقار الأميركان وقُرود الصهاينة في العرق ولبنان، وتالياً صيرورة قُرود أبقار واشنطن في المشرق العربي واسطة العقد في رسم مستقبل المنطقة والتحكم في مسارها ومصيرها، وكعبة حُكام العرب المُشرّفة، والفرقان الحق المسخ لمُنظِّري التقريب البقري القُرودي بين الأديان، كتابهم المُقدّس، ومظلتهم للتعايش والسلام الكاوبوي الهوليودي، ودُعاة الحرية والكرامة من قوى المقاومة والممانعة الإسلامية عدوهم الأوحد، ومحتل أراضيهم المُقدّسة من الصهاينة اللُقطاء مُنقذ ومُحرر وصديق حميم وأخ رحيم، ويا للعجب من هكذا هول عظيم.


شواهد ذلك كثيرة، أكثرها تجلياً الاستهداف المُمنهج لدُور العبادة في اليمن من قبل طيران التحالف العبري، وتدميره أكثر من 1612 مسجداً، خلال سنوات الجمر الثمان من عدوانه الآثم على بلد الإيمان والحكمة، والمساعي المُستميتة لطمس الهوية الإيمانية لأحفاد الأنصار، ومسخ الأخلاق العربية الأصيلة.


مجازر عابرة من مسلسل دموي غير عابر:


1 - مجزرة بدر والحشحوش:


طالت استهدافات الجماعات الإرهابية في 20 مارس 2015 مسجدي بدر بجولة تعز والحشحوش بالجراف، أثناء صلاة الجمعة، نفذها أربعة انتحاريين يحملون أحزمة ناسفة، في عملية مزدوجة وضعت في بنك أهدافها تصفية المصلين والناجين والمُسعفين.


إذن فنحن أمام عملية وحشية غير مسبوقة في تاريخ البشرية، والمُلفت للنظر أن هذه الاستراتيجية الشيطانية كانت السمة الغالبة لعمليات تحالف البغي العبري في اليمن منذ انطلاقتها في 26 مارس 2015، أي بعد 6 أيام فقط من غزوة بدر والحشحوش، والتي لم تكن سوى مُقدمة لأمر جلل كان يُراد تمريره في اليمن، لكن عناية الله ويقظة المُخلصين من أبناء هذا الشعب المؤمن حالت دون مراميهم الشيطانية، وأسقطت كل مشاريعهم التدميرية، وحوّلت سهام مخططاتهم المسمومة إلى نحورهم.


ذلك العدوان الآثم تسبب في استشهاد 155 إنسان، وجرح 400 إنسان، بينهم 40 شخصاً اصابتهم بليغة، وبين كل 5 ضحايا طفل، بواقع 111 طفل بين شهيد وجريح.


واستبقت الجماعات الوهابية الإرهابية التكفيرية هذه العملية الإجرامية باغتيال المناضل والمجاهد والصحافي الكبير "عبدالكريم الخيواني"، في 18 مارس 2015، أي قبل يومين فقط من مذبحة بدر والحشحوش، وهو من الشخصيات الوطنية والثقافية المعروفة بكتاباتها النارية ضد تلك الجماعات الظلامية، منذ حادثة كول الشهيرة وفُقاعات جيش عدن أبين الإسلامي، وما تلاها من نوازل ونكبات "داعشية - قاعدية" ومؤامرات "إخونجية".


ويروي العلامة المجاهد "حمود الأهنومي" وهو أحد شهود مجزرة بدر وله كتابٌ عن شهداء المجزرتين، في مقالٍ مطوّل له عنهما، أن أستاذنا وشيخنا شهيد المنبر الدكتور المرتضى المحطوري كان مُسترسلاً في خُطبة الجمعة الدامية بالحديث عن الإعلامي المجاهد "عبدالكريم الخيواني" والثناء على شجاعته، كأول من رفع سقف الصحافة في اليمن، والتأكيد على ضرورة تطبيق الحزم وعدم التهاون مع المجرمين الذين انتزعوا روحه الطاهرة، متسائلاً بحُرقة وألم: "هل يجب أن ننتظر القتلة ليقتلونا واحداً واحداً؟".


وبينما هو يعود لتفاعله المعهود منه، ويُمهِّد للمصلين بأنه سيُخْبِرُهم بنكتة، قال إنه: "يخشى أن تنقُض الوضوء"، لكنه ما إن أكمل هذه العبارة حتى انتقضت عُرى الإنسانية، وتعرّى إسلامهم الأميركي، فتزلزل المسجد بسقوط عشرات الأبرياء بسرعة خاطفة.


هذا المسلسل الدامي من "الإرهاب اللا إنساني" أعاد للذاكرة مشهد مُماثل حدث في مدينة المحابشة من أعمال محافظة حجة أثناء ثورة 26 سبتمبر 1962، وكان أستاذنا المحطوري رضوان الله عليه أحد شهوده، كما يروي في مُستهل ورقة عمل بعنوان "الجهاد الإرهاب العنف تداول السلطة"، قدّمها في مؤتمر دولي نظّمه مركز القدس للدراسات السياسية في العاصمة الأردنية، تحت عنوان: "نحو خطاب إسلامي ديمقراطي مدني"، لم أعد أتذكر سنة انتظامه.


وكان شمال اليمن يومها يتعرّض لغارات همجية من الطيران المصري، لا تُفرِّق بين ما هو مدني وما هو عسكري، ومنها غارة استهدفت الجامع "المقدس" بمدينة المحابشة، وكان الدكتور المحطوري يومها طالباً بالمدرسة العلمية في منطقة "القرانة" الواقعة جنوب المسجد المُستهدف على بعد نحو 200 متر.


استُشهد في تلك الغارة كل المتواجدين في المسجد، وعددهم 75 إنسان، باستثناء شخص واحد من بيت "سليم"، كُتبت له النجاة، كانوا يحتمون بالجامع من عربدت ذلك الطيران الأرعن، وتطايرت أشلائهم على بُعد 500 متر في الاتجاهات الأربع، في مشهد بشع يُحاكي ما جرى في بدر والحشحوش وغيرها من مساجد صنعاء في العام 2015، وملا تلاها من جرائم "سعودية - إماراتية" بحق اليمنيين في سنوات العدوان العبري الثمان.


ولا يزال أبناء تلك البلاد يتناقلون مشاهد جمع الأشلاء المتناثرة لأحبتهم إلى اليوم، وقد حكى لي والدي رحمه الله عنها والدمع يقطر من عينيه وآهات وحشرجات الألم تُقَطِّعُ أوتار قلبه وتكتم أنفاسه.


والشاهد من كلام الدكتور المحطوري، وكان هدفه تقديم تعريف مُبسّط للإرهاب من الواقع المُعاش بعيداً عن التنظيرات الأميركية السُفسطائية:


"بعد اتصال من السيدة المُبجلة هالة سالم - المدير التنفيذي بمركز القدس للدراسات السياسية، بادرت إلى كتابة ورقة أُسطِّر فيها فهمي للإرهاب، والعنف، والتداول السلمي للسلطة؛ من خلال تجربتي ومُعاناتي الشخصية التاريخية، وقد عرفت العنف عن قرب، واكتويت بنار الإرهاب الفكري، والمادي، فلا أحتاج إلى معاناة لأُنبّش عن ذكريات الإرهاب، والعنف، والاستبداد.

لقد بدأ المسلسل الدامي منذ شاهدت بأم عيني وأنا في سن الثالثة عشرة أو أكثر قليلاً حين كنت مُختبئاً في جبل شرق قريتي؛ خوفاً من الطائرات التي كانت تقصف المناطق الشمالية من اليمن أيام حرب عبدالناصر، والسعوديين في اليمن، وكانت قُرَانا آهلة بالمزارعين وحيواناتهم ليس لها أي علاقة بالنشاط العسكري، بل كُنا في الصف الجمهوري، ومع ذلك لم نسلم من القصف والترويع.

إنما المشهد الذي لا أنساه حين مرت طائرة وقت صلاة الظهر، وقذفت مسجداً في مدينة المحابشة مُكتظاً بالمصلين، وكادت الطائرة أن تُلامس سطح المسجد؛ إذ لا يوجد مُضادات، فنسفت المسجد بمن فيه، كانوا خمسة وسبعين لم ينج منهم إلا واحد.

المشهد الثاني: يوم كنا بمسجد "القُرانة" مهاجرين لطلب العلم، فأقبلت في الصباح الباكر طائرة سوداء، فألقت من الشرق شريطاً كاملاً من القنابل ذرع مدينة المحابشة الوادعة المستطيلة في سفح الجبل، فألقيت بنفسي على الأرض؛ تفادياً للشظايا كما كانوا يعلِّموننا، وقد كنت متعوّداً على إرهاب كهذا، فصارت نيران جهنم الواصلة من الجو عبارة عن ألعاب تُصيبنا ببعض الذعر، لكني لم أفر بل ذهبت لمشاهدة آثار القصف، فشاهدت شيخاً عجوزاً فقيراً قاعداً ميتاً بجوار موقد لقلي نوع من الحُبُوب يعتصر منها لقمة عيش جافة له ولأسرته.

وشاهدتُ طفلاً في السادسة من عمره مرمياً في العراء، قد بُتِرت رجله من فوق الركبة، وبقيت مُعلَّقة، وهو يئن وينزف، وعنده عجوز تبكي لا تدرِ ما تفعل له، وأنا مبهوت أعيش الجهل، والوحشة، والمشاعر المُؤلمة، لم أُقدِّم لهذا الطفل أي مساعدة، فماذا أفعل؟! فلا إسعاف، ولا وسائل ولو بدائية، ولا شيء، فما زلنا كما خَلَّفَنَا نبيُّ الله نوح عليه السلام.

والأكثر إيلاماً أن تسمع الجماهير المنحطة تهتف لهؤلاء الإرهابيين القتلة من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر: نفديك يا عبدالقاهر .. أو بالروح بالدم نفديك يا فندم؟!".


وللأسف ما شاهده الدكتور المحطوري في الثالثة عشرة من عمره يتكرر بكل تفاصيله وللعام الثامن على التوالي، والأكثر مرارة أن يكون أحد ضحاياه، وأن نكون أحد شهوده، لأن الشاهد فارقنا، وأبقى لنا مرارة وعذاب وألم المُشاهدة، لكن دمه ودم رفاقه من اليمنيين الأبرياء لم يذهب هدراً، فها هو اليمن يغتسل بطُهر دمائهم الزكية من خُبث ورجس وأوساخ تلك الجماعات الظلامية وفي سنوات معدودة من الفُراق الأليم.


2 - هكذا يستقبل التكفيريون رمضان:


استهدفت الجماعات التكفيرية في 17 يونيو 2015، عدة أماكن في صنعاء، منها: المكتب السياسي للأنصار، مسجد القبة الخضراء بشارع هائل، مسجد الكبسي بشارع الزراعة، مسجد الحشحوش بحي الجراف، أثناء أداء صلاة المغرب أخر شعبان وعشية رمضان، ما تسبب في استشهاد 30 مُصلياً، في تأكيد واضح وجلي على أن تلك القوى الإجرامية مجرد "بيادق" كما أسلفنا بيد بقر وقرود دهاقنة الشرق الأوسط الجديد.


3 - مجزرة جامع قبة المهدي:


غيرّت الجماعات التكفيرية في 20 يونيو 2015، أدوات الجريمة، فاستبدلت الانتحاريين والأحزمة الناسفة بسيارة مُفخخة انفجرت قُرب جامع قبة المهدي بالتحرير، ما أدى إلى استشهاد شخصين وإصابة ستة آخرين.


4 - مجزرة جامع البهرة:


وهي جماعة شيعية تتبع المذهب الإسماعيلي، ولها تواجد بِعدة مناطق يمنية في الشمال والجنوب، منها أمانة العاصمة صنعاء، وكان جامعها في شارع سوق "الرمّاح" هدفاً لإحدى السيارات التكفيرية المُفخخة في 29 يوليو 2015، تسببت في استشهاد 5 أشخاص.


5 - مجزرة مسجد المؤيد:


يقع في الجراف من أمانة العاصمة، استهدفته تلك الجماعات الظلامية بعملية مزدوجة في 2 سبتمبر 2015، تسببت في استشهاد 34 إنسان وجرح 94 يمني.


6 - قرابين عيد الأضحى:


لأنهم أعداءُ الإنسانية، يكرهون كل مباهج البهجة والفرح، ويُزعجهم ابتهاج المسلمين بأعياد الله، لأنها هِبات ونفحات وكرامات، ولا أعجب أن يكون عباد الله الصالحين المُؤدين صلاة عيد الأضحى بجامع "البليلي" في صافية الأمانة هدفهم التالي، مُرسلين في 24 سبتمبر 2015 أحد انتحاريهم، لانتزاع فرحة الساجدين الراكعين العابدين الحامدين الشاكرين، ما تسبب في استشهاد 10 أشخاص واصابة 21 شخص.

الجمعة، 17 فبراير 2023

"الهجرة، الغربة، المحنة"

زيد المحبشي


من الابتلاءات التي مُني بها الرهط الصالح من آل البيت عليهم السلام، ومُني بذلك شيعتهم، ولا غرابة فذات الشوكة حُفّة بالمكاره والصعاب.


هذه الابتلاءات والمراحل التربوية تمنحنا فوائد كثيرة، سوف تكون لنا عوناً في إتمام البيت الإلهي الشريف، وفي تطبيق مناهجه ودستوره بحرفيته، كقانون عام في أرضية الواقع المُعاصر، بما فيه من مآسي وانحرافات عن نهج أولئك الرهط الصالحين.


من فوائد هذه الابتلاءات "الهجرة، الغربة، المحنة" تتولّد حالة الثبات عند المؤمن.


والمقصود بالمؤمن هنا، هو ذلك الإنسان الذي يختلف عن كل شرائح المجتمع وطبقاته، فحالة الصمود والصبر والتحدي والثبات عند المواجهة لكل المشاكل والصعاب، لا تتواجد عند غيره، وهي تزيد من هِمّته وعزيمته وإرادته، بل ويزداد وينطلق أكثر وأكثر نحو الهدف المرسوم والغاية التي من أجلها خُلق هذا الإنسان.


لكن هذه الحالة من الثبات تحتاج الى توطيد العلاقة والرابطة بين العبد وربه، ومفردات هذه العلاقة كثيرة، منها: "الذِكر، التسبيح، الخشوع، الخضوع، التوكل، الإنابة، التوبة، الركوع، السجود".


وأفضل مفردات هذه العلاقة، هي "الحُب"، قال الإمام الصادق عليه السلام: "إذا أحب الله عبداً ألهمه الطاعة، وألزمه القناعة، وفقّهه في الدين، وقوّاه باليقين، فاكتفى بالكفاف، واكتسى بالعفاف".


إذن فكلما تعمّقت هذه العلاقة، كلما ازدادت حالة الثبات عند المؤمن، فأمام المسيرة الإنسانية الإلهية تُوضع الكثير من الحواجز والمُعرقلات والعوائق والعقبات من أجل الحيلولة دون الوصول إلى الهدف المرسوم، وقد رأينا وسمعنا كيف تكالب الشرق والغرب على الفكر الإسلامي الأصيل المُتمثل في عترة أهل البيت عليهم السلام، لكي يُحرِّفوه عن المسيرة الصحيحة التي وضعها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وأيضاً تكالبهم على الإسلام المحمدي وإلصاق الكثير من التهم الباطلة به من أجل تنفير المجتمع الغربي منه وإظهاره كعدو وجودي للغرب المادي المتهاوي، وتكالبهم على كتاب الله ومحاولاتهم المستمرة لطمس آيات الجهاد والآيات الفاضحة لمكر وكيد وخداع اليهود منه، ومحاولاتهم المُستميتة لتشويه صورة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.


لكن الله سبحانه وتعالى وضع وسائل الدعم لهذه المسيرة، ولمن سار تحت لوائها، وقام بحملها، وتبليغها، والتوكل على الله سبحانه وتعالى تزيد حركة المسيرة فعالية وقوة ونشاطاً دون أي عائق، وتجتاز كل المُعرقلات والموانع دون توقف، لكن تبقَ حالة الثبات عند المؤمن هي "الفيصل".


المسيرة مستمرة دون توقف، الأمة، الحضارة، الإنسان، هل بإمكان العبد الثبات على مماشات المسيرة الإلهية أم يسقط عند أول اختبار؟.


فإذا سقط وكبت به قدمه، فإن ذلك لن يضُر المسيرة، ولن يُعرقل مسيرتها، بل هو الذي يُصاب بالضرر، لأنه خسر مواكبة هذه المسيرة الشريفة، والانطلاق معها لرضا الله تعالى.


وخيرُ مثالٍ على ذلك من القرآن الكريم، قوله تعالى: "واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث"، الأعراف 175 - 176.


هذه الآية الشريفة نزلت في حق "بلعم بن باعوراء" من بني إسرائيل، كان موسى عليه السلام يستغيث به في الدعاء، لأن دُعائه كان مُستجاباً، فأخذه الغرور بنفسه، وبسبب هذا الغرور سقط أثناء المسير، لكن المسيرة الإلهية مُستمرة.


هذه المسيرة الربانية ليست بالسهلة، فهي بحاجة الى الضغط النفسي، والسمو عن حُب "الهوى" و"الأنا"، لأن "الهوى" و"الأنا" من المُنزلقات الخطيرة في حياة المؤمن، والسبب الرئيسي للسقوط والتخلف عن المسيرة الإلهية، لذا لا بُد من "الصبر" في كل مجالات "الاختبار" و"التمحيِص"، كي يجتازهما بنجاح وتوفيق من الله، ويتمكن من مواكبة المسيرة الإنسانية في كل مراحل تقدُمها وتطورها.


هذا مفهوم بسيط جداً عن مثلث الاختبار الإلهي لعباده المؤمنين "الهجرة، الغربة، المحنة"، لكن محتواه عظيم، فإذا كانت الغُربة كُربة، والهجرة عذاب، ومُقدمات المحنة للبلاء "التمحيص"، فإن أشد وأقسى أنواع "الغُربة" و"الهجرة"، غُربة المرء عن دينه، وهجرته لتعاليمه، فتكون الندامة والحسرة والألم والأسى، وتجرُّع ويلات ذلك ليس في الدنيا فحسب، ولكن تمتد مراراتها إلى الأخرة.


فهل من وقفة مُراجعة وتدارُس وتأمل أم عتو ونفور وتجبُّر وغرور وخُيلاء؟؟.


وإذا رمى بكم الزمان الى ديارٍ لا تدين بملتكم فهل سيجرفكم تيار التغريب فيمن أخذ من المتساقطين على جانبي طريق ذات الشوكة أم تصمدون كمن صمد من أهل بيت نبيكم عندما جار عليهم الزمان وأخذتهم أيدي الطُغاة الأقتام بالغلبة والقهر والقوة والبطش والاجرام، فصبروا وثبتوا وزاد رسوخ ايمانهم قوة وعزيمة لا تلين ولا تستكين؟؟.


نسأل الله أن يجعلنا من الثابتين على خطه، والمواكبين لمسيرته، والمطبقين لنهجه، والسائرين على نهج أهل بيت المصطفى، والمتمسكين بحبلهم المتين وصراطهم المستقيم.

الخميس، 16 فبراير 2023

قراءة في فكر الشهيد السيد حسين الحوثي


 الحوثي


بقلم زيد المحبشي


“أنا لا أعدكم بشيء، ولكني أعدكم أن لا أمثاكم في باطل”..


بهذه الكلمات الوجيزة خاطب الشهيد السيد حسين بدر الدين الحوثي ناخبيه في الانتخابات البرلمانية التي جرت عام 1993، بما تحمله من معاني نبيلة، وقيم صادقة، وواقعية ومسؤولية وشفافية، على عكس الشعارات المُعتادة من المتنافسين في الماراثونات الانتخابية الدنيوية بمختلف مسمياتها، ومُجافات تلك الشعارات للواقع، كانت كلمات “السيد الحوثي” نابعة من القلب، وانعكاس طبيعي لتعامله مع محيطه ومجتمعه في كافة مراحل حياته، ولا عجب فهو العالم العارف بالله، قبل أن يكون مُمثلاً لناخبيه في البرلمان، وحفيد الهادي إلى الحق مُحيي الفرائض والسنن "يحيى بن الحسين" عليه السلام، وابن تُرجمان القرآن المرجع العَلَم شيخ الزيدية في زمانه السيد الأجل بدر الدين الحوثي، وسليل الأطائب من عترة النبي المصطفى صلوات الله وسلامه عليهم.


إذن فنحن أمام شخصية استثنائية في تاريخ اليمن المعاصر، تدخّلت في تكوينها وصقلها العناية الربانية، لحكمة إلهية، أتت في مرحلة فارقة من تاريخ الأمة، أصبح الإسلام فيها غريباً، وصار المسلمون في أوطانهم غُرباء، وتحول يمن الأنصار  إلى مرتع لقوى الاستكبار العالمي والجماعات التكفيرية، فكان لا بُد من قائم حق، يُعيد إحياء ما اندرس من معالم الدين، ويعيد الحياة والفاعلية ليمن الأنصار الموقع والتاريخ والإنسان، بعد ثمانية عقود ونيّف من الموات والتبعية للدرعية، واستلاب الإرادة اليمنية والقرار اليمني، واستباحة سيادة البلاد ونهب ثرواتها والانبطاح لقوى الشر والاستكبار العالمي.


لم يتعمّر رحمة الله عليه طويلاً فمولده بـ”الرويس” من أعمال محافظة صعدة في شعبان 1379 هـ، واستشهاده في 26 رجب 1425 هـ، وما بينهما 46 خريفاً، شهدت اليمن خلالها ولادة مدرسة قرآنية تجديدية إحيائية حسينية، لها سماتها وخصائصها، وهي واحدة من المدارس الإحيائية التي زخر بها الفكر الزيدي خلال تاريخه العريض، وإحدى أبرز وأهم المدارس الإحيائية في القرنين الأخيرة في عالمنا العربي المكلوم، لكنها تفرّدت عن سابقاتها بالحياة والديناميكية وعالمية النظرة والرؤية، والتشخيص الدقيق للأمراض والأزمات العاصفة بالأمة الإسلامية، وتقديم الحلول الناجعة في زمن العقم السياسي والفكري والمذهبي.


ترك لنا رحمة الله عليه عشرات الخُطب والملازم، هي ثمرة سنوات من الخلوة والتأمل في كتاب الله، جسّدت مُتجمعة الجانب النظري لمدرسته القرآنية الفريدة في مبانيها ومعانيها وغاياتها ومقاصدها، وقدّمت رؤية واعية لمشكلات وتفاعلات الواقع على كافة الأصعدة محلياً وعربياً ودولياً، وكشفت حقيقة العدو التاريخي لأمة الضاد، وما يُحاك ضدها من مخططات استعمارية وتدميرية، وما نشهده من تكالب عالمي على مشرقنا العربي المكلوم عقب عملية طوفان الاقصى المباركة شاهد حي على رؤيته البعيدة المدى وتحذيراته المبكرة من هذا الخطر الداهم.


هذا العدو للأسف يعمل الأعراب اليوم على كسب رضاه ولو على حساب أمتهم وشعوبهم ودينهم وشرفهم وكرامتهم وسيادتهم، وتقديم فروض الولاء والطاعة له، في صورة مُزرية ومُخزية ومُهينة، تجعل الأمة على يقين بصوابية توجه الشهيد حسين الحوثي، وصوابية رؤيته التحذيرية من مغبة الابتعاد عن كتاب الله والركون إلى أعداء الله، والتفريط في الثوابت والمقدسات، وما يترتب على ذلك من ذل وهوان واستلاب لأوطاننا وثرواتنا ومقدراتنا وكينونتنا وإنسانيتنا وحريتنا وكرامتنا ومقدساتنا.


كما حرصت مدرسته على تصحيح المفاهيم المغلوطة التي حاول أعداء الإسلام غرسها وإشاعتها، سواء من خلال المنابر الإعلامية بمسمياتها المختلفة، أو من خلال مشائخ التكفير والتابو، أو من خلال التنظيريين العلمانيين والاستشراقيين والليبراليين، أو من خلال المُبشرين، أو من خلال السموم التي تبثها المنظمات الدولية في مجتمعاتنا وهي أكثر خطراً وفتكاً لتلبُّسها بشعارات أموية براقة.


وما يُحسب لتلك المدرسة المُقدّسة أيضاً إحياء “الشعور بالمسؤولية”، في زمن الخمول والخنوع والتميُع، وإحياء “المبادئ الإنسانية”، في زمن الغاب والرأسمالية المتوحشة.


عاش رحمة الله عليه مع القرآن وللقرآن، ما جعل أعداء القرآن يضعونه على قائمة أعدائهم الوجوديين، وأتى بعد فترة من خمول علماء الزيدية وتقوقعهم في المحاريب، وانفصالهم عن واقع الناس، وعن تفاعلات محيطهم الاجتماعي والسياسي والفكري المحلي والإقليمي، وقضايا وطنهم وأمتهم، رغم ما يُحتّمه واقع هذا الفكر الثوري التحرري من تصدُّر المشهد، والوقوف ضد سلبياته، ومقارعة المظالم الناجمة عن ولاته، والحفاظ على بيضة الدين من التحريف والتأويل والتدجين، والمبادرة لنصرة المظلومين والمستضعفين.


وكأبيه وأجداده لم يستطع الصمت أمام ما يشاهده من مظالم وقضايا وأزمات وتضليل فكري وديني وانبطاح وتدجين وخنوع وذل وهوان لأمة أراد الله لها العِلِّية والتمكين إن هي تمسّكت بالعترة والقرآن الكريم، وأراد لها حُكامها الركوع والخضوع لشياطين البيت الأسود وخنازيرهم في فلسطين المحتلة، فقرر منذ وقتٍ مُبكر تشمير السواعد وقيادة مسيرة الجهاد الفكري والعملي على كافة الأصعدة وبمختلف الوسائل، ومقارعة الباطل والمبطلين، وإعادة الأمة الى القرآن، وإعادة القرآن إلى حياة الأمة كما أراد الله، ليكون دستور حياة تعيشُه الأمة في كافة مناشط الحياة، وتُبدِّد بنوره دياجير ظُلمات الظَلَمَة المتفرعنين، لا كتاب جامد تنسج عليه العناكب خيوطها في رفوف خزائن المساجد المنسية والمهجورة.


قاد ثورة فكرية ثقافية شاملة ضد الثقافات المغلوطة والوافدة والدخيلة والعقائد الباطلة التي تُؤسس وتُشرِّع للطغيان والظلم، وثار على الثقافات المنحرفة التي أوصلت المئات من الطواغيت إلى سِدة الحكم، وهيئت لهم الساحة ليحكموا الأمة بالقهر والغلبة والنار والحديد والمكر والخداع والحيل.


واستخدم في ثورته كل الوسائل المشروعة، بدءاً بتنوير العقول وهو حجر الأساس، من خلال إنشاء العديد من المدارس التنويرية الدينية والرسمية، كما استخدم منبر البرلمان خلال تواجده فيه، بعد فوزه في انتخابات عام 1993 على لائحة حزب الحق، ومن خلاله عمل على محاربة العقود الربوية وصفقات الديون الإفقارية، وكان قد شارك في تأسيس الحزب عام 1990 ليكون نافذة سياسية لمحاربة الطغيان والفساد السلطوي وإرساء قيم الحق والعدل.


ويومها بدء نظام صنعاء يشعر بخطر هذا المُجدد القادم من جبال “مران” النائية على مستقبل نظامه ومصالح أولياء نعمته في البيت الأسود، فعمل على إفراغ الحزب من محتواه، وتكبيل تحركات “السيد” البرلمانية والسياسية، ليقرر “السيد” في العام 1996 مغادرة الحزب والبرلمان.


هذا التحرر أتاح له الحركة بحرية، ومع هذا التحرر بدأت مرحلة جديدة في تاريخ المدرسة القرآنية، سواء فيما يتعلق بكشف المخططات الأميركية والصهيونية في المشرق العربي وتداعياتها على مستقبل الأمة وكينونتها، أو ما يتعلق بتوسيع النشاط الثقافي والتوعوي والإرشادي والتنويري، أو فيما يتعلق بمقارعة الظلمة والظلم ومظالم النظام الحاكم، وفي مقدمتها رفضه سلام الله عليه العدوان الآثم على المحافظات الجنوبية والشرقية صيف عام 1994، وما ترتب على ذلك الموقف الديني والإنساني والأخلاقي والوطني من تبعات جعلت النظام يُرسل في 16 يونيو 1994 حملة عسكرية غاشمة لمعاقبته وأنصاره في “مران” و”همدان”، لم تُوفّر شيئاً في طريقها، فطالت نيران حقدها حتى منزل السيد ووالده في مران، واعتقلوا العشرات من أبناء تلك المناطق لأكثر من عام، في حقد يزيدي غير مسبوق في تاريخ اليمن المعاصر.


ولم يكتفِ نظام صالح والإصلاح بذلك، بل وحاولوا مراراً تصفية “السيد”، لكن عناية الله حالت دون ذلك، ليُقرروا في العام 2004 التوجه للقضاء عليه في عرينه، بتوجيه وتخطيط أميركي صهيوني، في سابقة مُشينة، بعد أن أحسّ الأميركان والصهاينة بتعاظم وتوسع المشروع القرآني وخطورته على أجندتهم الإستعمارية في المشرق العربي.


وكان لهم ذلك في 26 رجب 1425 هـ، بعد حرب ظالمة دامت أكثر من 80 يوماً، فأحرقوا “السيد” وأسرته ومجموعة من رفاقه الجرحى بالقنابل في أحد كهوف جبل مران، بطريقة أعادت نكئ الجروح الكربلائية من جديد، ذكرتنا بما جرى لأبي عبدالله الحسين بن علي سلام الله عليه في كربلاء العراق، لكنهم لم ينالوا من فكره القرآني الرباني، بل أصبح فكره بعد رحيله حديث الناس، ومهوى الأفئدة الباحثة عن الحياة القرآنية الحرة والكريمة، وأصبحت له دولة وصوت مُؤثر في أحداث المنطقة سلماً وحرباً، ورسم مستقبلها.


وبعد سنوات معدودة تهاوى ذلك النظام الظالم، واعترفت حكومة صنعاء في 21 أغسطس 2013 رسمياً بعدم مشروعية حروب صالح والإصلاح الظالمة ضد “السيد” وأبناء صعدة، واعتذرت عن ذلك الفعل المُشين، وسلّمت في 5 يونيو 2013 الجثمان الطاهر لذويه.


لقد انتصر دمُك الطاهر وفكرك القرآني المُّستنير، وأصبحت صرخة المستضعفين التي أطلقتها في زمن الصمت والعقم العربي تتردد على لسان كل المظلومين والمعذبين والمستضعفين في العالم، ومدرستك لم تعد حبيسة جبال مران، بل صار لها جامعات ومعاهد وكليات ودولة، وأنصارك أصبحوا حديث كل العالم ومفخرة كل الأحرار، فنم قرير العين، لروحك السلام

الجمعة، 2 سبتمبر 2022

وأنتم الأعلون سنداً

 

بقلم زيد يحيى المحبشي 


يقول الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل "كنتم خير أمة أخرجت للناس"، "كنتم" من أفعال الماضي الناقصة تفيد التمام والدوام، وتلك الأمة هي أمة الوسط التي شرّفها الله بأن تكون شاهدة على الناس يوم الأشهاد: "لتكونوا شهداء على الناس".

من بطحاء مكة كان انبعاث حضارتها على يد النبي الأمي، فحصدت المجد والعزة، وذلك نتاجٌ طبيعي لما اتصف به الرعيل الأول لصانعي حضارة الإسلام من عبقرية الطموح إلى الحياة المُثلى، والتسابق في خيرات الترقي على سلالم الكمال البشري وصولاً إلى مرحلة حق وعين اليقين الوارد فيها "والله لو كُشِفَ لي الغطاء ما ازددت يقيناً".

بالإضافة إلى النبوغ المعرفي الجاعل من الحُفاة الرعاة منارة أضاءت الكون بأسره، وبطولة للتغيير الكاسرة أغلال الانعتاق والكبت والتحجر والتقوقع بإرادة ماضية وعزيمة أصحاب العزم بعيداً عن محادل التسييس والتفتير والتفريخ.

إن الإسلام هو المنطلق لبروز حضارة العرب ومرد ذلك عقيدته المُحرِرة والمُحرِّضة على صُنع الحضارة الإنسانية المثالية وجوهره ثوابته ومصادره الداعية إلى إعمالها دون استثناء "الإيمان يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل"، "الإيمان قولٌ باللسان وعملٌ بالأركان واعتقادٌ بالجنان".

وبيان ذلك القرآن الكريم الكتالوج والدستور المُنظم أدق معالم الحضارة الإسلامية، إذ تمثلت في مُقدمة حقائقه أهمية الإيمان بالله الخالق الواحد الذي لا شبيه له ولا نِدّ ولا عديل، وهي حقيقة تدخل في إطار تحرير الإنسانية من أغلال المعتقدات المنحرفة المُبقية للإنسان أسيراً لها والمُمانعة له من الانطلاق نحو اكتشاف الحقيقة وبالتالي الحد من الإبداع والنبوغ في سبيل خيرية الإنسانية.

من هنا جاءت العِلِية لهذه الأمة بفعل المضارع وليس الماضي مع أدوات النهي الجازمة "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين".

أي "الأعلون سنداً" كما فسرها السيد قطب رحمه الله في ظِلال القرآن عبر ثلاثة فصول متوالية وأي سندٍ أعظم من سند الله وألطافه الحامية للأمة من الوقوع في منزلقات المهاوي، والمُحصِّنة من أمواج الفتن والمحن والابتلاءات المتلاطمة.

"ولا تهنوا" إعجاز حوى إخباراً بأن الأمة سوف تتكالب عليها الأمم مُمارِسة ضدها ضُغوطاً جمة لحجمها عن مواصلة مسيرة السلام والمحبة والتحرر من عبودية الإنسان، وما يشهده القدس، من خطط جهنمية لتهويده أنصع مثال، في ذات الوقت الذي تمارس فيه أميركا وحلفاؤها الضغوط على زعمائنا لمواصلة المسيرة الإستسلامية.

والعجيب أن هذا على طرف واحد هو الحلقة الأضعف في حين أن أنَّات وصرخات المقدسيين لإنقاذ أُولى القبلتين وثالث الحرمين فاضحة لأوهام السلام وكأن الآية تقول لنا:

لا تنسلخوا من عروبتكم، لا تركنوا إلى معسول كلام عرقوب البيت الأسود، لا ترضخوا لضغوطه، فلكم في تاريخ هؤلاء الصهاينة القاطرة أيديهم بدمائكم، عِظة وعبرة، أنتم بُناة حضارة لا معاول هدم.

مُتبِعاً ذلك ببشارة الخلاص "ولا تحزنوا" أي حتى لو أصابكم البلاء من الظلمة المُريدين لكم المهزومية والاستسلام فناضلوا لأنكم أصحاب الأرض.

"ولا تحزنوا" لأن الله يقول: "إن مع العُسر يُسرا"، فجعل العُسر المعرفة عُسراً واحداً، ويُسر الفرج النكرة يُسران في الدنيا بانفراج الغُمة، وذلك لا يكون إلا بتقديم قرابين العشق الإلهي وفي الأخرة بالأجر الجزيل والمثوبة الغامرة في مقعد صدق للشهداء الأبرار، ألم يقل الله تعالى "إذ يقول لصاحبه لا تحزن"، أي لا تخاف ولا تستوحش.

وتتوضح صورة ذلك مع "إن كنتم مؤمنين"، الشرطية الكفيلة بالخروج من الدوامة.

الأمر لا يتوقف على مؤامرة تهويد للقدس، وإنما يمتد إلى ما صرنا فيه كأمة عربية من القزامة بمكان، بعد أن تمكن منا داء الأمم في زمن العمالقة المتكتلة والمتحدة بينما نحن خارج نطاق التغطية، رغم علم الجميع أنه لا مكان في عالمنا إلا للأقوى، ولذا فنحن بين خيارين لا ثالث لهما: إما "أن نكون" أو "لا نكون"، فإن أردنا "أن نكون" توّجب علينا التشمير عن سواعد الجد والعمل والله ناصرنا "كم من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله".

 و"أن نكون" لا تكون إلا بالجدولة العملية لأن "نروي ظمأ القلوب بالتسامح البيني عذباً فُراتاً لذةً للشاربين، وما أكثر الظمأ، أن نطحن بذور المحبة المقدسة لتصير خُبزاً ملائكياً وما أكثر الجياع، أن نرسم من الوجع أقواس فرح، أن نصوغ من الألم شموس أمل، من الجُرح النازف أقمار تفاؤل، من البشاعة ينابيع جمال، من الكراهية أشجار مودة، من الرجمة سهول رحمة، من الكآبة حدائق غبطة، من القلق أزهار طمأنينة، من البرد والقحط صلوات دفء، من الحِرمان دعوات مغفرة وعطف وحنان".

وأن نجعل من أنفسنا مُنطلقاً للتغيير، وننفض عن أنفسنا جلباب الذل والهوان، ونكسر قيود الخوف من الأخر، ونحرر أنفسنا من أغلال عُقدة الأنا وإدعاء التأمثل والتطهر .. ألخ.

حينها فقط سنكون الأعلون سنداً بدلاً من الإندكاك في إرادة الأهواء والنزوات والتماهي في سلطات الأقفاص.

الثلاثاء، 14 يونيو 2022

القتل باسم الرب آفة العصر

بقلم زيد يحيى المحبشي

لقد كان "سان جوست" أكثر شجاعة من "ماكسميليان روبسبير" عندما قال: يجب الحكم إما بالفضيلة أو الإرهاب، لأن الوقت لم يحن بعد لفعل الخير!!..

والسبب: إقرار "جوست" علناً بعدم وجود وسيلة يُنظر إليها من ناحية فعاليتها وليس من ناحية أخلاقيتها سوى العنف والإرهاب.

 تُهم باطلة:

الكثير من الجماعات الدينية العصبوية المتزمتة في عالمنا العربي فضلت ومنذ وقتٍ مبكر السير على نهج "جوست" لأنه في اعتقادها الوسيلة الأنجع للسيطرة على الفردوس الأرضي وحكم الدول تحت شعار "الإسلام هو الحل" ولو كان على حساب خراب الديار وهلاك الحرث والنسل وما ترتب على ذلك من كوارث على الإسلام والمسلمين أبسطها توفير الذريعة وعلى طشت من ذهب للمستشرقين الأميركيين والغربيين للترويج والتسويق عبر وسائل الإعلام لتهمتين في غاية الخطورة، هما:

1 – استعصاء الإسلام على الحداثة.

2 – أن المسلمين لا يمكن أن يكونوا إلا متعصبين.

ربط مسار السياسات الدولية المتغطرسة تجاه قضايا المشرق العربي والأوضاع العربية الداخلية المتأزمة ببوصلة العنف المتلبس بالدين في العقدين الأخيرة لم يكن سوى انعكاسة طبيعية لتلك التهم الباطلة مسنودة باعتقاد غربي طاغي بأن العلة الأساسية لكل الصراعات المتأججة في عالمنا العربي مردها الدين وأن المعتقدات والتوجهات الدينية هي التي أوغرت كل هذه الصراعات وليس استعمارهم البغيض.

وهي تهم باطلة والإسلام بريئ منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب لسببين:

1 – أن الله لا يرضى بممارسة صنوف الإيذاء بين بني البشر باسمه.

2 – أن الدين شيئ جميل والبشر هم الذين يجعلون منه أمراً قبيحاً وعنيفاً.

فكيف إذا كان هذا الدين هو الإسلام خاتمة الرسالات والأديان السماوية ودين السلام والمحبة والعدالة والمساواة والكرامة والتسامح

.

فما هو العنف المقدس أو الظلم تحت مظلة الدين إذن؟ هذا ما نحاول الوقوف على حقيقته في هذه القراءة السريعة

صراع شيطاني:

واحدة من الحقائق المسلم بها لدى كل البشر، هي: أن الصراع باسم الدين بكل مستوياته شأن عالمي وموجود في كل الأديان السماوية والأرضية .. امتد مع نشوء البشرية وصراع هابيل وقابيل .. وعانت منه كل البشرية على مر العصور والأزمنة .. 

وهو غالباً ما يُعلن ويُمارس تحت شعارات براقة لاعتقاد هواته بأن الله يغفر العنف ما دام وأنه يُمارس باسمه .. 

ولذا فهو في مفهوم الكاتب والمفكر اللبناني "علي حسين غلوم" ومفهوم كل العقلاء: "اعتقاد شيطاني خاطئ ولا أساس له في كل الشرائع، بل هو نابعٌ من الفهم المشوه والتأويل الحرفي اللا واعي للنصوص الدينية وعدم فهم السياقات التي نزلت فيها هذه النصوص".

كما أن الأديان وإن كان لها تأثير كبير ومحوري على الوجدان الإنساني أكثر من أي فكر أخر، إلا أن هذا لا يعني أن الروح الدينية تنطلق من فكرة إلغاء الأخر بل تدعو إلى الانفتاح عليه ومحاورته واستخدام الحكمة والمنطق كوسيلة للإقناع.

العلامة محمد الشيرازي بدوره يرى أن: "اللجوء إلى العنف باسم الدين، أمر قبيح، لأن للأديان دور كبير ومباشر في نشر ثقافة السلام والتعايش السلمي ودرء النزاعات وما ينجم عنها من مفاسد .. 

فقد أنزل الله الأديان لتزكية النفوس البشرية وتطهير القلوب وإقرار الخير في الأرض"

لا للخراب والدمار وسفك الدماء المحرمة.

 مفاهيم متعددة لأفة واحدة:

الحديث عن مفهوم العنف المقدس يستدعي الحديث عن مفاهيم أخرى ذات ارتباط وثيق به، لما لذلك من أهمية في الوقوف على حقيقته التدميرية ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

1 - التطرف الديني: 

ونعني به مجموعة من الأشخاص أو الجماعات أضافوا إلى العقائد الدينية أكثر مما تحتمل، ولذا فهم يتصرفون وفق هذه العقيدة المزيدة والمحرفة وعبر آلية وأقبية العنف، أي تحول الدين إلى مطية لممارساتهم العنفية.

2 - الأصولية الدينية:

ونعني بها مجموعة من الأشخاص أو الجماعات نصّبوا أنفسهم وكلاء للحديث نيابة عن الله، ولذا فهم يوجهون أحكامهم ضد المخالفين لهم في الفكر أو العقيدة أو المذهب من منطلق عقيدتهم وتأويلاتهم الحرفية والمحرفة للنصوص الدينية المقدسة،

وبالتالي إضفاء الشرعية على أعمال القتل والاغتيال والإيذاء والهجوم والتكفير وغيرها من الأعمال الوحشية التي يستمرئونها في تعاملهم مع المخالفين لهم.

3 - العنف المقدس والعنف السياسي:

العنف المقدس في أبسط صوره هو الذي يظهر في المجتمعات المتدينة أو الآخذة بالدين أو المحكومة بالدين ..

وعلى العكس من ذلك "العنف السياسي" فهو وإن كان أكثر شيوعاً وتأثيراً في المجتمعات الإنسانية إلا أنه يتلون ويتمظهر بأشكال عديدة حسب مقتضيات الحال، الدين أو المذهب أحدها وليس كلها.

العنف السياسي أيضاً وإن كان يمتد ليخل بالعلاقات الدولية والسلم الدولي عن طريق ما بات يعرف بتصدير الأزمات الداخلية من قبيل إتهام دولة أو دول مجاورة بدعم مجموعة أو مجموعات سياسية على حساب مجموعة أو مجموعات أخرى وما يجري في اليمن وسورية والعراق ولبنان يدور في هذا الفلك .. إلا أنه في طابعه العام متسمٌ بالحراك والتنوع والتجدد، ولذا فهو من ضروريات الحياة ما دامت الإنسانية بحاجة إلى سلطة ونظام يدير شؤونها ويدبر أمورها ..

عكس العنف المقدس الدائر في فلك الجمود والتقوقع والانغلاق والأحادية والإلغاء.

 العدوانية باسم المقدس:

يعرف علماء النفس العنف بأنه: سلوك غريزي هدفه تفريغ الطاقة العدوانية الكامنة داخل الإنسان .. وهو يمثل استثناء في حياة الإنسان ترجمته الظروف غير العادية إلى قناة للتعبير الجاد عن الشعور الغاضب الذي يختزنه الجمهور ..

وهو لا يتقيد بقواعد وثوابت بل إنه يكتسب فعاليته وقوته من كونه غير مقنن وغير مقيد بقواعد ثابتة، متفق عليها ويمكن الاعتماد عليها في تقنينه وضمان عدم تجاوزه للحدود المرسومة ..

ما يجعله أكثر إخافة ورعباً وتدميراً من العنف السياسي، لأن القواعد التي يتقيد بها هي فقط كل ما يخدم القضية التي يناضل من أجلها، هذا إذا كانت له قضية أصلاً.

بعض الجماعات أو الفئات قد تحدد العنف كأداة مؤقتة ووسيلة آنية فرضتها ظروف استثنائية، والمشكلة هنا أن القائمون على العنف قد يسيطرون لبعض الوقت على مساراته لكنهم لا يستطيعون السيطرة كل الوقت، لأن خطورته نابعةٌ في الأساس من كونه يمتلك من الخصائص الذاتية والتدميرية ما يجعله قادراً على تجاوز كل الوسائل الأخرى، بحيث يصبح الوسيلة الوحيدة التي تسيطر على السلوك الحركي العام ..

وهنا يستنفذ العنف الغاية ويحتويها ليصبح هو الهدف الأول والأخير ..

وبمعنى أخر تغلب واقع الوسيلة على الغاية ما يؤدي إلى إدخال ممارسة العنف في صلب الجسم الثقافي والسياسي كله، وهذه أم المصائب.

والمصيبة الثانية تكمن في التحول الدراماتيكي الذي يمكن أن يحققه العنف عندما يعجز كوسيلة أساسية عن الوصول للغاية المنشودة، بحيث يتحول بالتدريج إلى أداة للتدمير الذاتي والخارجي فتفقد الجماعة القدرة على إعادة التوازن الداخلي والحفاظ على التماسك وبالتالي تلاشي سلطتها الداخلية والجماهيرية.

أما خاتمة الأثافي فتكمن في عدم توقف مشكلة العنف عند كونه أداة بل قد يتحول إلى فكرة عقائدية تتجه إلى حالة من التقديس الجامح لفكرة العنف والإيمان الذاتي والمطلق كما هو حال الجماعات الدينية  المتزمتة بمختلف مسمياتها، والتي حولت المجتمع كله وبلا استثناء إلى عدو وهمي، بحيث صارت ترى من نفسها الأحق بالبقاء والأحق بالأفضلية والأحق بالحكم والسيطرة المطلقة والأحق باحتكار تمثيل الله في أرضه.

الأربعاء، 24 فبراير 2021

مولد الامام علي بن أبى طالب عليه السلام

زيد يحيى المحبشي، مركز البحوث والمعلومات، 24 فبراير 2021

"الامام علي بن أبي طالب عظيم العظماء، نسخة مُفردة، لم ير الشرق ولا الغرب صورة طبق الأصل، لا قديماً ولا حديثاً".

بهذه الكلمات البسيطة اختصر الكاتب "شبلي شميل" حكاية الامام علي وشخصيته، إنه وليد الكعبة وشهيد المحراب، رجلٌ مهما حاول المرء الإلمام بصفاته وسجاياه فلن يستطيع ذلك، ولا عجب فقد كان سلام الله عليه "أُمةٌ في رجل".

وما أثير حول شخصيته في أوساط المسلمين خلال الـ 14 قرناً الماضية، من جدل ولغط وصخب وضجيج وانقسام، لم يُثار حول أي شخصية في التاريخ البشري، وهذا أمرٌ طبيعي لأننا أمام شخصية عظيمة لا تتكرر.

يحتلُ شهر رجب الأصب مكانة مميزة في تاريخ المسلمين، ففيه كان دخول اليمنيين في الإسلام على يد الإمام علي عليه السلام طواعية، وفيه كان مولد سيد الوصيين وابن عم خاتم الأنبياء والمرسلين، إنه شهر الإمام علي بلا منازع، وشهر شعبان شهر النبي، وشهر رمضان شهر الله.

فمن هو هذا الرجل العظيم الذي كان مولده سبباً في ولادة جديدة لليمنيين، بعد قرونٍ من التشتت والتمزق والتناحر؟


وسام الولادة:

والده أبو طالب بن عبدالمطلب بن هاشم، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، فهو سلام الله عليه يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جهة الأب عند عبدالمطلب، ومن جهة الأم عند هاشم، وهي أول هاشمية وَلدت لهاشمي، وأول امرأة بايعت النبي عندما دعا النساء للمبايعة، وهاجرت الى المدينة وتُوفِيت فيها، وكفّنها النبي بقميصه، واضطجع في لحدها، وقال كما يذكر الإمام يحيى بن الحسين الهاروني في الافادة: "أما قميصي فأمان لها يوم القيامة، وأما اضطجاعي في قبرها فليوسع الله ذلك عليها".

مولده سلام الله عليه في جوف الكعبة في يوم الجمعة 13 رجب قبل البعثة بـ 10 سنوات وبعد عام الفيل بـ 30 سنة، وقيل لم يولد قبله ولا بعده مولودٌ في الكعبة، وهذا أول تكريم وأول وسام له من الله، ويذكر الزركلي في الأعلام أن مولده عليه السلام سنة 23 قبل الهجرة، وفي تحديد اليوم بالميلادي يذكر الناطق بالحق أبي طالب يحيى بن الحسين الهاروني أنه في يوم 7 أيلول/ سبتمبر، وبحسب سنة الزركلي يكون مولده في العام 600 ميلادي.

يقول الرواة أن أبوطالب عليه السلام خرج يوماً يمشي هوناً، فزوجته فاطمة بنت أسد تتلوى من ألم المخاض، وعندما شاهده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سأله عن السبب، فأخبره بالأمر، فأشار عليه بأخذها الى الكعبة، علّ الله يخفف عنها الألم، وجاءت الى الكعبة تسأل من الله تخفيف الألم وتسهيل الولادة، وما أسرع ما أنجبت وليدها المبارك، فسماه والده "علياً"، وعمّت الفرحة قلب والده وابن عمه محمد الصادق الأمين، ورفعت أمه رأسها الى السماء، تشكر ربها على هذه المكرُمة التي خصّها ووليدها بها.

ومن لطيف ما يُروى أن فاطمة بنت أسد عليها السلام عندما وصلت الى الكعبة فُتح لها الباب، وفي رواية انشق لها الجدار فدخلت الى البيت الحرام ووضعت مولودها، ومكثت داخله ثلاثة أيام، وهذه مكرُمة إلهية، اختص الله بها هذا المولود المبارك دون سائر الناس، لحكمة أرادها الله.

وعن الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام: إن فاطمة بنت أسد كانت في الطواف، فضربها الطلق، فدخلت الكعبة، فولدت أمير المؤمنين عليه السلام فيها.

وأكد الحاكم أن مولد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في جوف الكعبة من الأخبار المتواترة غير القابلة للتشكيك، وهو كلام ابن الصباغ وغيرهم من رواة ومؤرخي المدرستين، ومنهم من قال أن فاطمة بنت أسد تعلقت بأستار الكعبة فقط، ودعت الله أن يُفرِّج عنها، والصحيح أنها ولدت الإمام علي داخل البيت الحرام، والحديث في هذا مبسوطٌ في كتب المدرستين.

قال نشوان بن سعيد الحميري:

ولدتهُ في حرم الإله وأمنِه .. والبيت حيث فناؤه والمسجدُ

بيضاء طاهرةُ الثياب كريمة .. طابت وطاب وليده والمولدُ

في ليلة غابت نحوس نجومها .. وبدا مع القمر المنير الأسعدُ

ما لف في خرق القوابل مثله .. إلا إبن آمنة النبي محمدُ

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتيمّن بتلك السنة، وبولادة علي عليه السلام فيها، ويسميها سنة الخير، وسنة البركة.

وهو ثالث ثلاثة من الموحدين المسلمين بعد النبي وخديجة بنت خويلد، وثاني موحد يدين بدين الإسلام من الرجال.

كنيته سلام الله عليه: أبو الحسن، أبو الحسين، أبو السبطين، أبو الريحانتين، أبو تراب، ولقبه: أمير المؤمنين، إمام المتّقين، قائد الغُرّ المُحجّلين، يعسوب الدين، الأنزع البطين، سيّد الأوصياء، أسد الله الغالب، المرتضى، حيدر.

أنجب سلام الله عليه كما يذكر صاحب الإفادة 20 ولداً، و22 بنتاً، منهم:

الحسن المجتبى، والحسين شهيد كربلاء، والعقيلة زينب الكبرى، وأم كلثوم الكبرى، والمحسن درج صغيراً، أمهم فاطمة بنت رسول الله، تزوجها الإمام علي في نهاية صفر 2 هـ.

محمد أبو القاسم، أمه خولة بنت جعفر/ وقيل خولة بنت حزام بن قيس، من بني حنيفة.

أبو الفضل العباس، وجعفر، وعثمان، وعبدالله، أمهم أم البنين فاطمة بنت حزام بن خالد العامرية الكلابية، من ولد عامر بن صعصعة.

أبو بكر، وعبيدالله، أمهما ليلى بنت مسعود، من ولد خثعم بن أنمار بن نزار.

عمر، ورقية، أمهما أم حبيب الصهباء بنت حبيب بن ربيعة بن بُجير التغلبية، من ولد تغلب بن وائل.

عمر الأصغر، أمه مُصطلقية.

محمد الأوسط، ومحمد الأصغر، وعمر الأوسط على قول بعضهم، والعباس الأصغر، وجعفر الأصغر، لأمهات أولاد شتى. 

عبدالرحمن، أمه أُمامة بنت أبي العاص بن الربيع، وأمها زينب بنت رسول الله.

يحيى، وعون درجا صغيرين، أمهما أسماء بنت عُميس بن النعمان الخثعمية، من ولد خثعم بن أنمار بن نزار.

والعقب في أولاده لخمسة فقط، هم: الحسن والحسين ومحمد والعباس وعمر.

وفي بناته لأربع، هن: زينب الكبرى، وزينب الصغرى، وأم الحسن، وفاطمة.

وبقية أسماء البنات مبسوطةٌ في كتب التاريخ لمن أراد الاستزادة.


 عظمة الحياة:

أخذ النبي الإمام علي من أبيه في سنة القحط، فربَّاه في حجره المطهر، فتخلَّق بأخلاقه، وظهرت فيه آثار بركاته، ولازمه كظله في حله وترحاله منذ أن تفتحت عيناه، واستقى منه كل معاني الطُهر والنقاء والفضيلة والزهد والتقى والورع والنبل والشهامة والكرم والبذل والعطاء والشجاعة والإقدام والتضحية، ونهل منه العلوم بشتى أنواعها، فصار في فترة وجيزة "الغرة الشاذخة" في أعيان زمانه في كل فنون المعرفة، بشهادة معلمه خاتم المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم: "أعلمكم علي"، و"الغرة الشاذخة" في أعيان زمانه في الشجاعة والعدل والزهد والورع وإدارة الدولة والتكتيك العسكري.

وتشرّب سلام الله عليه من مُعلمه ومُربيه تعاليم السماء، حتى قال صلى الله عليه وآله وسلم فيه: "علي مع القرآن والقرآن مع علي".

قال العلامة أحمد بن محمد الهادي في كتابه القيّم "التاريخ الإسلامي": تولى رسول الله إعداد شخصية الإمام علي حتى صار نسخة ثانية له فكراً، وعقيدة، وسُلوكاً، عدا الرسالة وما يتعلق به.

وليس هذا بغريب على باب مدينة علم المصطفى: "والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيما نزلت وأين نزلت وعلى من نزلت، إن ربي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً صادقاً ناطقاً"، "سلوني عن كتاب الله، فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليلٍ نزلت أم بنهار، في سهل أم في جبل".

شارك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل معاركه وفتوحاته باستثناء غزوة تبوك، أستخلفه وهو القوي الأمين على المدينة المنورة، وكان رجل المهمات الصعبة في كل تلك المعارك، والفارس الذي لا يُشقُ له غبار.

وبعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بـ 24 عاماً تمت مبايعته بالخلافة في يوم الجمعة 18 ذي القعدة 35 هـ، وفي هذا اليوم كان غدير خم – الجمعة 18 ذي الحجة 10 هـ - ولهذا الاتفاق شأن عظيم كما يذكر المولى الحُجة مجدالدين المؤيدي.

وفي سنة 36 هـ قاتل الناكثين، وهم أصحاب الجمل طلحة والزبير، وعائشة وأتباعهم، وكان عدد القتلى 30 ألفاً.

وفي سنة 37 هـ قاتل القاسطين – معاوية وأهل الشام ومن معهم – بصفين، وانقضت وقعاته عن 70 ألف قتيل،

منها: ليلة "الهرير" قتل فيها الامام علي عليه السلام 600 شخص، بـ 600 ضربة، مع كل ضربة تكبيرة.

وفي سنة 39 هـ قاتل المارقين، وهم الخوارج بالنهروان.

ووفاته عليه السلام في 21 رمضان 40 هـ، عن 64 عاماً، خاض خلالها أكثر من 60 حرباً، ولم يكن لديه أي مانع من أن يقاتل جيشاً كاملاً، إذا تعدّى هذا الجيش على مظلومٍ واحدٍ حتى يأخذ حقه منهم.

وهكذا انتقل سلام الله عليه من مرحلة الولادة بالحرم الشريف إلى مرحلة الحِراب، ذوداً عن حِياض الدين الخاتم، ليختمها بالشهادة في محراب مسجد الكوفة، فما عسانا قوله عن هذا العظيم في هذه الفسحة، وهو القائل عند مبايعته بالخلافة سنة 35 للهجرة: "والله لا يغيب عنكم رسول الله إلا عينه"، وكفاه من عظيم المجد نزول كرائم القرآن فيه، وإنزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، له في آية المباهلة بمنزلة نفسه: "قل تعالوا ندعو أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم".

ومن مآثره سلام الله: نهج البلاغة، والصحيفة العلوية.


قالوا عنه:

قال الإمام أحمد بن حنبل: ما جاء لأحدٍ من أصحاب رسول الله من الفضائل ما جاء لعلي بن أبي طالب.

وقال الخليل بن أحمد الفراهيدي، إن: احتياج الكلّ إليه واستغناؤه عن الكلّ، دليل على أنّه إمام الكلّ.

وقال ابن أبي الحديد المعتزلي: اُنظر إلى الفصاحة كيف تُعطي هذا الرجل قيادها، وتُملِّكه زمامها، فسبحان مَن منح هذا الرجل هذه المزايا النفيسة والخصائص الشريفة، أن يكون غلام من أبناء عرب مكّة لم يُخالط الحُكماء، وخرج أعرف بالحكمة من‏ أفلاطون وأرسطو، ولم يُعاشر أرباب الحِكم الخُلقية، وخرج أعرف بهذا الباب من سقراط، ولم يُرَبّ بين الشجعان، لأنّ أهل مكّة كانوا ذوي تجارة، وخرج أشجع من كلّ بشرٍ مشى على الأرض.

وقال جبران خليل جبران: إنّ علي بن أبي طالب كلام الله الناطق، وقلب الله الواعي، نسبته إلى مَن عداه من الأصحاب شبه المعقول إلى المحسوس، وذاته من شدّة الاقتراب ممسوس في ذات الله.

وقال الإمام محمّد ابن إدريس الشافعي: عجبت لرجل كتم أعداؤه فضائله حسداً، وكتمها مُحِبّوه خوفاً، وخرج ما بين ذين، ما طبق الخافقين.

وقال الدكتور طه حسين: كان الفرق بين علي ومعاوية عظيماً في السيرة والسياسة، فقد كان علي مؤمناً بالخلافة، ويرى أنّ من الحقّ عليه أن يُقيم العدل بأوسع معانيه بين الناس، أمّا معاوية فإنّه لا يجد في ذلك بأساً ولا جُناحاً، فكان الطامعون يجدون عنده ما يريدون، وكان الزاهدون يجدون عند علي ما يُحبّون.

وقال الفخر الرازي: مَن اتّخذ عليّاً إماماً لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه.

إذن لا غرابة أن تتملّك الدهشة العالم الأزهري المصري "محمود أبو ريه" في كتابه القيم "أضواء على السنة المحمدية"، مما لحق الإمام علي عليه السلام من جفاء وتجاهل وغمط في حياته، على قُرب عهدٍ من رسول الله، ومن قومٍ يُفترض أنهم الأكثرُ معرفةً بحقه ومكانته، ونكتفي هنا بإشارة عابرة لما ضمّنه هذا العالم المنصف في كتابه القيِّم، من ذلك تساؤله في صفحة 249 عن سبب تعمد المشايخ ومن تابعهم من المُحَدِّثة والرواة وكتبة التاريخ تجاهل ذكر اسم الامام علي فيمن قام بجمع القرآن رغم سابقته وأعلميته وأحجيته وإجماع الجميع على أنه أعلم الصحابة بعد رسول الله، وأكثرهم قُرباً منه ومجالسة له، وهذا مثال بسيط لما لحقه سلام الله عليه من ظلم وغمط.

حقاً إن الأمر لعجيب، وما علينا إلا أن نقول كلمة لا نملك غيرها، هي: لك الله يا علي ما أنصفوك في شيئ، لا في حياتك، ولا بعد مماتك!!!

الأحد، 21 فبراير 2021

المكفوفون يدفعون فاتورة العدوان..!

إجلال العمراني، 20 فبراير 2021

لم تكن الإعاقة في يومٍ من الأيام حاجزاً أو عائقاً أمام صاحبها، بل أفاقاً وأبواباً جديدة تُفتح أمامه، ولم يكن المكفوفين في الغالب الأعم عالة على أسرهم بل متعهم الله بذكاء وفطنة يفتقر لها المبصرون، فمنهم الموظف ومنهم المدرس،…، وكفل لهم القانون نسبة 5 % من الوظائف المخصصة لذوي الإعاقة ومنهم المكفوفين، وخصصت الدول طرق وممرات خاصة بعبور المعاقين، ووفرت الأجهزة الخاصة بهم من لغة برايل.. ألخ.

في اليمن الصورة معاكسة تماماً فقد حوّل عدوان تحالف عاصفة الإثم والبغي، وحصار دار الندوة الجائر حياة ومعيشة المكفوفين ليس إلى جحيم فقط، بل وحكم عليهم بالموت، وهم لا زالوا على قيد الحياة.

منذ بداية العدوان الغاشم تعرضت المدارس والمراكز والجمعيات الخاصة بالمكفوفين لتدمير ممنهج ومتعمد، من ذلك على سبيل المثال لا الحصر استهداف طائرات التحالف في 5 يناير 2016، مركز النور بالصافية من أمانة العاصمة صنعاء، دون مراعاة لحرمة هكذا أماكن.

كما تسببت غارات العدوان وصواريخه وقذائفه المنهمرة على اليمن للعام السادس دون كوابح دينية ولا أخلاقية ولا إنسانية، ودون تفريق بين ما هو مدني وما هو عسكري، في رفع عدد المكفوفين، إلى مستوى يُنبئ بجيل كامل ممن خطف أعراب التحالف العبري نور أبصارهم، وحوّل حياتهم إلى ظلام دامس، وهذه بكل حزن وألم من أكثر جرائم تحالف العدوان المسكوت عنها فضاعة.

احتجاز العدوان المتكرر لسفن المشتقات النفطية، كان له هو الأخر تداعيات كارثية على حياة المكفوفين، فقد تسبب انعدام المشتقات في توقف العشرات من الجمعيات والمراكز الخاصة برعاية وتأهيل المكفوفين عن العمل بحسب مدير مركز النور للمكفوفين “حسن إسماعيل” في حديث صحفي مع وكالة الصحافة اليمنية بتاريخ 17 أكتوبر 2019، وبالتالي زيادة معاناة آلاف المكفوفين، كما تسبب نقل البنك المركزي الى عدن وتجفيف العدوان موارد الدولة في عجز حكومة الإنقاذ الوطني عن القيام بواجباتها في رعاية المعاقين بصفة عامة، والمكفوفين بصورة خاصة، وعجزها عن دفع النفقات التشغيلية للمراكز والجمعيات الخاصة بالمعاقين.

النزوح القسري جراء غارات وقذائف العدوان، كان المكفوفين أكثر الشرائح معاناة في أوساط النازحين، بدءً بمشقة الانتقال من الأماكن المستهدفة إلى الأماكن الآمنة، وما يرافق رحلة العذاب هذه من مخاطر خصوصاً في اجتياز المناطق الوعرة، وما حدث في أبريل 2019 لسكان قرية الخزنة، المعروفة بقرية العميان، الواقعة في منطقة بني حسن من أعمال مديرية عبس في محافظة حجة، والتي يعاني غالبية سكانها – 200 شخص – من العمى، أبسط مثال.

حيث تسبب اندلاع المواجهات بين مرتزقة العدوان والجيش واللجان الشعبية في نزوح أكثر من 18 ألف إنسان من منطقة بني حسن، منهم سكان قرية الخزنة، الى مديرية بني قيس بمحافظة حجة.

ويصف أحد مكفوفي قرية الخزنة معاناتهم خلال فرارهم من نيران الحرب لموقع بوست بتاريخ 16 أبريل 2019: “خرجنا من المنزل بملابسنا فقط، نتلمس الطريق برعب ولا نعلم إلى أين سنذهب، مشينا حتى كلّت أقدامنا،..، حياة النزوح صعبة على الإنسان الصحيح المبصر فكيف بالمكفوف الذي بات بلا مأوى، يفترش الأرض، ويلتحف السماء”.

ولا تنتهي معاناة المكفوفين في المناطق المستهدفة عند هذا الحد، بل وتستمر معاناتهم في مناطق الإيواء بما في ذلك صعوبة الوصول الى مناطق توزيع المساعدات الإنسانية، وانعدامها في أحيان كثيرة، وصعوبة التنقل في أماكن الإيواء، وعدم توافر الرعاية الصحية والمياه النظيفة، والمأوى، والأكثر فضاعة غياب المنظمات الدولية، وإن حضرت فبصورة محدودة، وخجولة، دون أن يكون لحضورها أي تأثير جوهري ومستديم في تخفيف معاناة المكفوفين.

وعن الأوضاع المعيشية للمكفوفين في ظل العدوان والحصار وانقطاع المرتبات، فحدث ولا حرج، إنهم وحدهم من يدفع فاتورة العدوان العبري الجائر على بلادنا، وأكثر شرائح المعاقين اكتواءً بنيرانه.

وتتفاقم معاناة المكفوفين جراء تدهور الأوضاع الاقتصادية بسبب الحرب والعدوان، ولم تعد الجمعيات المتخصصة تقدم لهم الرعاية الصحية والتعليمية، باستثناء عدد بسيط من الجمعيات المعتمدة على المشاريع الخيرية التي تعود عوائدها لهذه الشريحة.

ولا توجد إحصائية دقيقة عن عدد المكفوفين، بسبب توقف عمل معظم الجمعيات الخاصة بهم، كما لا توجد إحصائية دقيقة عمن فقدوا أبصارهم بسبب غارات العدوان، وهذا هو الأهم، ومع ذلك تؤكد رئيسة جمعية الأمان لرعاية الكفيفات بأمانة العاصمة صنعاء “صباح حريش” في تصريح لموقع “إرفع صوتك” بتاريخ 28 فبراير 2017 أن عدد المكفوفين والمكفوفات في اليمن يتجاوز 76 ألف شخص، منهم 5 آلاف كفيف وكفيفة فقط يستفيدون من الخدمات والأنشطة التي تقدمها الجمعيات المعنية برعاية المكفوفين.

وتحدثت منظمة العفو الدولية في العام 2020 عن 4500000 معاق، بواقع 15 ‎% من إجمالي السكان في اليمن، المقدر عددهم بنحو 30 مليون نسمة، 90 % منهم يعيشون تحت خط الفقر، فيما تسبب العدوان السعودي الإماراتي في تسجيل نحو 15 ألف معاق بشكل رسمي، إضافة إلى آلاف من ذوي الاحتياجات الخاصة لم يتم تسجليهم.

بينما تحدثت الأرقام غير الرسمية في 2018 عن تسبب العدوان في إعاقة 92 ألف مدني، وتفاوتت نوعية الإعاقة بين جزئية، سمعية، بصرية، بتر أطراف، حركية في الرأس، والعمود الفقري، معظمهم من النساء والأطفال، وفي يوليو 2019 تحدثت وزارة الصحة بصنعاء عن 100 ألف شخص معاق بسبب العدوان، بينهم بتر أطراف، وإصابات في العمود الفقري، وفقدان النظر، واختلال في المخ، وفشل كلوي.

هذه الأرقام المرعبة لعدد المعاقين حركياً وبصرياً وسمعياً، خلال السنوات الست الأخيرة جعلت موقع “دويتشه فيله” الألماني يعتبر حرب العاصفة بمثابة يوم القيامة على شريحة المعاقين اليمنيين.

الثلاثاء، 9 فبراير 2021

السرطان يقتل اليمنيين


مركز البحوث والمعلومات: زيد المحبشي، 9 فبراير 2021

جعل العدوان السعودي الإماراتي من اليمن أرضاً وإنساناً حقل تجارب لصواريخه وقذائفه وقنابله وغازاته المحرمة دولياً، وعلى مرئ ومسمع الأمم المتحدة والمجتمع الدولي وأدعياء حقوق الإنسان في هذا العالم الأصم والأبكم والمنافق، وأمعن في تدمير كل ما أمكنه الوصول إليه من البنية تحتية، والصحية بوجه خاص، بوحشية تحاكي وحشية التتار، ما تسبب في انتشار الكثير من الأمراض المستجدة والمستولدة والمندثرة والمنقرضة، وموت عشرات الآلاف من اليمنيين الأبرياء، والحكم على مئات الآلاف من أصحاب الأمراض المستعصية والمزمنة بالموت البطيئ، وخصوصاً مرضى السرطان.

وتسبب الاستخدام المفرط للأسلحة والغازات المحرمة دولياً في تفاقم وتضاعف أعداد المصابين بالسرطان بمختلف أنواعه، بصورة لم تعهدها اليمن منذ عقود خلت، وهو ما يُنذر بخطر قادم وكارثة محققة.

في هذه القراءة المقتضبة سنكتفي بحديث الأرقام عن ضحايا السرطان، في بلدٍ كان، فحوّله عبيد الصهاينة والأميركان إلى خبر كان، ولغة الأرقام أكثر بلاغة من الكلام، وأصدق تعبيرا عما وصل إليه حال اليمنيين من معاناة لم تشهدها البشرية منذ أربعين عاماً، وعدوان مارس بحق اليمنيين كل ما أنتجه وابتكره حثالات العالم من قذارات، غير آبهٍ بكل نواميس السماء والأرض، ما أوجد في اليمن حالة مأساوية ستظل وصمة عار في جبين المجتمع الدولي ودهاقنة الفيتو لسنوات إن لم يكن لعقود قادمة.

تتحدث الإحصائيات الرسمية الصادرة عن المركز الوطني لعلاج الأورام في مارس 2018، عن استقبال المركز عند افتتاحه في العام 2005 نحو 11 ألف إصابة بالسرطان، وسجل العام 2006 نحو 13269 إصابة، ليرتفع عددهم في العام 2007 إلى 19 ألف، وسجل العام 2011 نحو 22 ألفاً، وفي العام 2016 قفز عدد المصابين إلى 25 ألف حالة، وفي العام 2017 تم تسجيل أكثر من 30 ألف حالة، بفارق 8 آلاف إصابة في الأعوام الثلاثة الأولى من العدوان، عما كان عليه الحال في 2011 بداية تأزم الأوضاع في اليمن؛ والبداية الفعلية للتجهيز السعودي الإماراتي لعاصفة الإثم العبرية.

وزارة الصحة العامة والسكان بحكومة الإنقاذ في تقرير لها بتاريخ 5 فبراير 2021 تحدثت عن تسجيل 71 ألف إصابة خلال سنوات العدوان الست، وإضافة 9 آلاف إصابة سنوياً إلى قائمة المنكوبين بالسرطان، منهم 15 % أطفال، وارتفعت حالات الإصابة بمرض سرطان الدم في أوساط الأطفال بأمانة العاصمة صنعاء من 300 إلى 700 حالة، نتيجة استخدام العدوان السعودي الإماراتي للأسلحة والغازات المحرمة دولياً في عطان ونقم، وإصابة ألف طفل في بقية المحافظات، و300 طفل حالتهم الصحية تستدعي السفر إلى الخارج للعلاج بصورة عاجلة؛ لكن من يهتم لأطفال اليمن في هذا العالم المنافق.

وسُجلت 10 آلاف حالة جديدة في العام 2017، لم يحصل منهم على العلاج بشكل مناسب سوى 40 % بحسب منظمة الصحة العالمية، وفي العام 2018 أكدت المنظمة تلقى أكثر من 60000 مريض بالسرطان (12 % منهم أطفال) العلاج في المركز الوطني لعلاج الأورام في صنعاء منذ العام 2005.

محذرة في سبتمبر 2019، من وفاة 35 ألف مريض بالسرطان في اليمن، إن لم يتوفر التمويل اللازم لعلاجهم: "‏لا ينبغي أن يُعد ‎السرطان بمثابة عقوبة إعدام، لكنه في ‎اليمن أصبح كذلك، ..، سيصبح الموت مصير 35 ألف مريض بالسرطان في اليمن إن لم يتوفر العلاج بسبب انقطاع التمويل، ..، عدم توفير علاج السرطان سيتسبب في خسارة العديد من الأرواح بسبب هذا المرض".

وتتحدث إحصائيات مرصد السرطان العالمي التابع لمنظمة الصحة العالمية، كما يذكر موقع "اليمني الأميركي" في تقرير له بتاريخ 30 ديسمبر 2020، عن وفاة 12103 حالات من مرضى السرطان في اليمن، خلال العام 2020، منها 6436 إناث، و5667 ذكور، وتسجيل 16476 حالة إصابة جديدة، منها 9317 إناث، و7159 ذكور.

وفي سبتمبر 2020 تحدثت منظمة الصحة العالمية عن تشخيص 11 ألف حالة إصابة جديدة بالسرطان كل عام في هذا البلد المنكوب.

وتحدث وزير الصحة بحكومة الإنقاذ في سبتمبر 2019 عن إصابة 5 آلاف طفل يمني سنوياً بالأورام السرطانية.

الأمينة العامة للمجلس الأعلى للأمومة والطفولة "أخلاق الشامي" في حوار مع موقع "العهد" اليمني بتاريخ 12 يناير 2021 أكدت وجود تزايد ملحوظ في أعداد الإصابات بالأمراض المستعصية خلال سنوات العدوان، وارتفاع معدل المصابين بالسرطان من 2.3 % إلى 5.5 %.

وتتوزع نِسب معدلات الإصابة بالأمراض السرطانية المنتشرة في اليمن بحسب منظمة الصحة العالمية، وفقاً لتقرير نشرته صحيفة الثورة اليمنية بتاريخ 20 ديسمبر 2020 على النحو التالي:

1 - سرطانات الجهاز الهضمي، 8.13 %.

2 - سرطان الفم واللثة، 7.10 %، تحتل الحديدة المرتبة الأولى في عدد الإصابات بهذا النوع من السرطانات.

3 - سرطان الغدد اللمفاوية، 5.10 %.

4 - سرطان الثدي، 4.10 %، ويمثل سرطان الثدي 25 % من أنواع السرطانات التي تصيب نساء اليمن.

5 - سرطان الدم، 9.8 %.

هذه الأرقام المرعبة تمثل الحالات التي تصل إلى مراكز الأورام، بينما هناك حالات كثيرة لا تستطيعُ الوصول إلى مراكز العلاج، وتموتُ خارج دائرة الرصد، بسبب تكاليف ومشقة التنقل، خصوصاً مع انقطاع المرتبات وتدمير العدوان شبكات الطرق والجسور الرابطة بين الأرياف والمدن.

كما أن الأرقام الصادمة لتزايد عدد الوفيات، نتيجة طبيعية لعدوان نُزعت من قلبه الأسود الإنسانية والرحمة، وحصار جائر منع دخول أكثر من 362 صنفاً من الأدوية مثل اليود المُشِع والأجهزة المتخصصة للعلاج بالإشعاع والرنين المغناطيسي.

وتعاني اليمن في ظل العدوان السعودي الإماراتي وحصاره الجائر من نقص حاد في الأدوية الخاصة بمعالجة الأمراض السرطانية، وانعدامها بشكل كامل من الأسواق اليمنية خلال العامين 2016 / 2017، ولم يتبقَّ سوى نوع واحد من أصل 50 نوعاً، بحسب مدير المركز الوطني لعلاج الأورام بصنعاء الدكتور "عبدالله ثوابة"، ونضوب المصادر المُشِعّة التي تُستخدم في وحدة العلاج بالإشعاع، وتوقف جهازين عن العمل، ولم يتبق لدى المركز الوطني لعلاج الأورام سوى جهاز واحد يعملُ بفاعلية 38 %، وهو مهدد بالتوقف في أيّ وقت. 

وتوقف البرنامج الوطني للإمداد الدوائي والمركز الوطني لعلاج الأورام بصنعاء عن توزيع الأدوية المجانية للمرضى، وأعلن إفلاسه، وفقاً لصحيفة الثورة اليمنية في تقرير لها بتاريخ 2 ديسمبر 2020، بسبب عدم تمكن حكومة الإنقاذ من دعم البرنامج والمركز وعدم قدرتها على توفير النفقات التشغيلية للعام الثالث على التوالي؛ وتحديداً منذ العام 2018، وتُقدر الميزانية السنوية للبرنامج والمركز بـ 12 مليون دولار، ولم يتبق أمام المركز سوى دعم خارجي ضئيل جداً، ما يجعله مهدداً بالتوقف عن أداء خدماته في أي لحظة، وهو ما ينذر بكارثة محققة.

عجز مراكز الأورام عن القيام بمهامها جعل مرضى السرطان يهيمون على وجوههم بحثاً عن الأدوية في الأسواق التجارية، وبأسعار باهظة، حيث تبلغ تكلفة الجرعة الدوائية في الحد الأدنى 200 – 500 دولار، وإحجام الكثير منهم عن شرائها، بسبب صعوبة وقساوة الحالة المعيشية وقطع العدوان كل سبل ومصادر الرزق أمام اليمنيين، ما تسبب في تزايد معدلات الوفيات في أوساط مرضى السرطان.

ولم تتوقف معاناة مرضى السرطان عند حدود التكلفة الباهظة للجرع الدوائية، بل وأمعن العدوان في تدمير أكثر من 290 مرفقاً صحياً، منها مركز الأمل للآورام السرطانية، ما دفع بالمرضى إلى تكبد معاناة السفر والتنقل من محافظة إلى أخرى، من أجل تلقي العلاج، وبالتالي زيادة الأعباء المالية، وزيادة معاناتهم، وتفاقم أوضاعهم الصحية.

وتعظم الكارثة عندما نعلم بأن غالبية مرضى السرطان من الأسر الفقيرة والمعدمة، التي بالكاد تستطيعُ الانتقال للعلاج في مركز المحافظة أو المديرية القريبة منها، والتي في الغالب لا يتواجدُ بها مراكز متخصصة بعلاج الأورام، مما يضطر الكثير منهم إلى تحمل آلامهم وأوجاعهم، والموت بصمت في مناطقهم.

وخاتمة الأثافي هجرة العديد من الأخصائيين المتخصصين من ذوي الخبرة الطويلة في علاج الأورام، وغيرهم من الأطقم المتخصصة، بسبب تردي الأوضاع المعيشية واستمرار انقطاع المرتبات، وإذا لم يتحسن الوضع فإننا سنواجه مشكلة كبيرة، فالعديد من الأطباء سيضطرون لمغادرة البلاد بحثاً عن فرص أفضل للعيش، بحسب مدير عام المركز الوطني لعلاج الأورام بصنعاء الدكتور "علي الأشول".

كما كان لإغلاق مطار صنعاء الدولي وفرض الحصار الجوي والبري والبحري على اليمن، تبعات كارثية على الحالات المرضية المستعصية والمزمنة، ومنها مرضى السرطان، وزيادة معاناتهم، وخاصة أولئك الذين لم يجدوا الخدمات العلاجية اللازمة لحالاتهم في اليمن، ولديهم القدرة على السفر للعلاج في الخارج، بحسب الدكتور "عبدالله ثوابة"، نتيجة لزيادة تكاليف السفر، ومنع العدوان سفر حالات كثيرة منهم لأسباب سياسية ما تسبب في وفاة العديد منهم، ناهيك عن المخاطر التي يتعرّضُ لها المرضى أثناء انتقالهم من مناطق حكومة الإنقاذ إلى مطار عدن، أو مطار سيئون، الواقعين تحت سيطرة قوى الاحتلال، تمهيداً لسفرهم إلى الخارج، بالإضافة إلى مشكلة استيراد ونقل الدواء، والذي يتأخر عادة شهور عديدة إما بسبب بُعد المسافة، أو بسبب تعنت العدوان في احتجاز السفن في عرض البحر، وما يترتب على ذلك من زيادة أسعار الأدوية، وتكاليف نقلها.