Translate

الثلاثاء، 12 أغسطس 2014

الجغرافيا الزيدية ودواعش اليمن

بقلم الدكتور/ حسـن علـي مجلـي*
استخدمت مصطلح (الجغرافيا الزيدية) نقلاً عن أحد الرفاق المصابين بـ (فوبيا الزيدية). والمصطلح دال بذاته على ما يجري الآن من جرائم قتل بشعة، حيث تم قتل عشرات الجنود ذبحاً في إحدى مناطق (حضرموت) يوم 8/8/2014م، لأنهم من (الجغرافيا الزيدية)، وهذا النوع من جرائم القتل هو أخطر أنواع الجرائم طبقاً لقانون المحكمة الجنائية الدولية، ويندرج ضمن جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية.
صارت العودة إلى الجذور الفقهية العقلانية الاجتهادية الثورية هماً طاغٍ في اليمن التي باتت تعاني من أزمة هُويَّة فكرية، في خضم تصاعد مد القوى المذهبية الرجعية الاستبدادية الإرهابية المتمثلة في الوهابية والسلفية وحركة (الإخوان المسلمين)، مدعومة بمراكز القوى القبيلية المتنفذة المتواشجة مع مراكز القوى العسكرية الطغيانية الرجعية الفاسدة وحلفائها من زعماء اللاهوت اليمني، حيث ازداد هذا المد السلفي الوهابي الإرهابي سرعةً وكثافةً وشمولاً لا مثيل له في تاريخ اليمن القديم والحديث.
جاء هذا المد الفكري الرجعي المذهبي الإرهابي في اليمن مواكباً لهزائم وانكسارات مشاريع التحديث وخيانات وانتهازية معظم (النُّخب) الثقافية وعجزها، والصراعات الدموية بين أجنحة الحكم على السلطة وتضخم سابق في مقولات (الأفندم الانقلاب) والأيديولوجيات (الثورية) الحارقة للمراحل التي اجتاحت الساحة اليمنية والعربية تحت ألوية القومية والماركسية والناصرية، حتى جاء انقلاب (عبدالرحمن الإرياني) وجماعته عام 1967م الذي شكل علامة فارقة في تاريخ اليمن والجسر الذي عبره قادة العصابات القبيلية والعسكرية الرجعيين الفاسدين إلى السيطرة التامة على الحكم والمشهد الثقافي في اليمن.
الظاهرة المسيطرة على عدد من الصحف والصحفيين في التعاطي مع الثوار (أنصار الله) والفقه والفكر الزيديين هي، النـزعة المذهبية الطائفية أو العنصرية بكل مسبقاتها وتحيزاتها وإسقاطاتها ومسكوتاتها وعماءاتها بل وضلالاتها، وفي المقابل تغيب أو تضعف اللحظة المعرفية الصحيحة بأداتها الفكرية الضرورية التي هي التحليل العلمي الموضوعي، وبغايتها التي هي الحقيقة التاريخية.
مشكلة التراث الفقهي الزيدي العظيم ومذهب العقل والاجتهاد والعدل والثورة على الحاكم الظالم، أن القوى الطغيانية المتخلفة، بمقولاتها ومضمراتها العنصرية والطائفية والمناطقية والمذهبية، عملت بدأب وما تزال، على إزاحة الفقه الزيدي الثوري بوسائل عديدة منها اغتيال مفكريه وعلمائه وإقصاء قضاته والتنكيل بمثقفيه وتهميشهم وإحلال أفكار ومذاهب وفتاوى رجعية وإرهابية (وهابية) و (سلفية) و (إخوانية) وخطاب ديني زائف محله، بينما بعض المثقفين حُسني النية والكَتَبَة الجهلة بهذا الفكر السياسي والفقهي العظيم يخدمون، بمعاداتهم له ولقواه المحركة، قوى التخلف والطغيان وخاصة عندما يسقطون ما تظنونه (حقيقة) على هذا الفكر من خارجه دون معرفة حقيقته أو إدراك طبيعة القوى التي تنتمي إليه أو تناضل تحت لوائه.
تلمس في عدد من الكتابات الصحفية رغبة مسبقة ومصادرة على المطلوب في إدانة الفكر الزيدي الثوري العقلاني الذي يشكل فقه المصلحة والتقدم والعمل جوهره، ويعتبر (أنصار الله) بقيادة الزعيم الثوري السيد (عبدالملك الحوثي) قوته المحركة في محيط التكفير والارتداد عن الحرية و التقدم والحضارة باسم الإسلام، وفي الوقت ذاته يعمل أصحاب تلك الكتابات على تبرءة مراكز قوى التخلف والطاغوت القبيلية وقادة العسكر الانكشارية المتحالفة معها والمهيمنة على المدن و(شبه الدولة) الرخوة من أية مسئولية عن خراب اليمن (العظيم) وبؤس وفقر وضياع الشعب اليمني الأبي، وفي دوامة هذه الرغبة المسبقة في إدانة اليسار الإسلامي ممثلاً في (أنصار الله) وحلفائهم، ضاعت الحقيقة التاريخية بما هي كذلك، وستستمر ضائعة ما دامت لا يحترمها أولئك الكَتَبَة وبعض الكُتّاب والمثقفين في موضوعيتها، بعيداً عن شاغل التثمين من حيث الربح والخسارة أو التبخيس وتزييف الوعي أو الخوف المزعوم على جنين (الدولة المدنية الحديثة) التي لا زالت في رحم الغيب وربما مجرد حمل كاذب يحول دون ولادته قوى التخلف والاستبداد والتكفير والفساد التي يحاربها (أنصار الله). والمعلوم أنه لا سبيل إلى احترام الحقيقة، في موضوعيتها، إلا باتخاذها موضوعاً للتحليل العلمي، لا شاشة للإسقاطات الذاتية المناطقية والمذهبية والعنصرية التي تختلط، في الغالب من الأحيان، بالعوامل النفسية التي يقوم فيها الاعتقاد المغلوط والعامل النفعي المبتذل والضيق مقام الحق والمبدأ والمصلحة العامة والفكر الخلاق المُحَرِّك والفاعل الأساسي والحافز الجوهري.
لو كانت كل الخسائر المترتبة على منهج الإسقاط الطائفي المناطقي العنصري المذهبي تتمثل في عجزه عن الوصول إلى الحقيقة التاريخية لهانت المصيبة نسبياً، ولكن هذا المنهج يتنطع لما هو أكثر من الفهم أو عدم الفهم، فهو يُنَصِّب نفسه في الأوقات العصيبة جَرَّاحاً يعمل على إخضاع الواقع اليمني لعملية جراحية ليستأصل منه ما يعتقد أنها أورامه الخبيثة أو زوائده الدودية، بينما هي، في الواقع، أعضاؤه الأكثر حيوية (قوى الثورة وفي مقدمتها أنصار الله)، ومن هنا بالذات خطورة منهج الإسقاط هذا، فهو ليس منهجاً أعمى فحسب، بل إنه ليستعين أيضاً، بدل العكاز لدعم معقتداته الخاطئة بخنجر مسموم هو تزييف الوعي أو مبضع مسموم هو الجهل ممزوجاً بالنفعية الشخصية المبتذلة والمصلحة الخاصة غير المشروعة.
وحسبنا أن نسوق من الواقع الذي ما زلنا نعيش إلى اليوم هذا المثال:
إن عدداً من الكُتّاب في اليمن يدافعون عن (التراث) بشكل عام ودون توضيح خيارهم، وفي الغالب يأخذون بما هو استبدادي ورجعي في التراث والواقع، ويصطفون إلى جانبه في مضمار معاداة الفكر الفقهي المتقدم وتشجيع الرجعية الوهابية والسلفية و (الإخوان المسلمون) ضداً على الفكر العقلاني والفقه الثوري الذي تعتبر المدرسة الزيدية المعتزلية أكبر وأعظم حاضن له في اليمن والعالم الإسلامي.
إننا بصدد ازدواجية خطيرة، هي الانشطار في الحقيقة نفسها بين (حقيقة تاريخية) ينادي بها العلماء والمفكرون والأكاديميون التقدميون و (حقيقة أيديولوجية) أو (دعائية) يتم فيها تزييف وعي الجماهير والزج بها في دائرتها الجهنمية ويتبناها الكَتَبَة المرتزقة من سفهاء القوم وجهالهم.
ما أضر أشد الضرر ببعض أدعياء (الوطنية) و (التقدمية) و (العلمانية) و (الثورية) و (الدولة المدنية الحديثة) هو أنهم يخوضون معركة إعلامية ضارية وخاطئة وخاسرة ضد اليسار الإسلامي وفي مقدمته (أنصار الله)، بينما لا زال قادة التحالف المشائخي - العسكري الطغياني التكفيري وأجنحته الإرهابية المسلحة التي تذبح عشرات الجنود الذين في عمر الزهور، لأنهم من (الجغرافيا الزيدية) و (روافض) يؤيدون (أنصار الله). يرتكب الإرهابيون أبشع الجرائم في اليمن، ويتحكم داعمو الإرهاب وأصحاب الفكر التكفيري بالبلاد ويستبدون بالمواطنين وينهبون المال العام والخاص ويحتكرون الوظائف العامة، ويبيحون الوطن للغزاة الرجعيين والإمبرياليين ويشرذمونه، وينشرون الإرهاب في كافة ربوع اليمن (بلد الإيمان والحكمة)، حيث يستيقظ الشعب كل صباح على أخبار سيطرة قوى الإرهاب والتخلف على مناطق مختلفة من اليمن وجرائم الاغتيالات تحصد التقدميين والثوار من (أنصار الله) وغيرهم من أساتذة الجامعات اليمنية والمفكرين والمثقفين والضباط والجنود بواسطة جماعات الذبح الهمجية المعادية لـ (الزيود) و (الحوثيين الروافض)، ويجري كل ذلك بينما لا يرتفع صوت قوي من هؤلاء الكَتَبَة المرابطين في خندق الصحافة ضد الثوار (أنصار الله) أو (الحوثيين) لإدانة هذه الجرائم البشعة وبيان مدى خطورتها على الشعب والوطن وتبصير الناس بمن ينفذها ويقف وراءها ويخطط لها ويشكل الحاضن الإعلامي والفكري لها؟!.
* أستاذ علوم القانون الجنائي - جامعة صنعاء

التفريق ببين المذهب والتمذهب، والمذهبي والمتمذهب

بقلم الدكتور/ عبدالله الناصر حلمى
لكي يتوضح لنا الهدف من هذا المقال، ينبغي التفريق ببين المذهب والتمذهب، والمذهبي والمتمذهب، وبدون هذا التفريق سيظل الغبش مخيما؛ المذهب تعبد وجداني يختص بالعلاقة بين الإنسان وربه، وفق رؤية بشرية استمدها علماؤه من فهمهم لآية قرآنية، أو حديث شريف، أو نتيجة اجتهاد، في حين أن مذهبا آخر قد فهم الآية وفهم الحديث على نحو مخالف، لكن كلاهما كانا لا يحتكران الصواب، وإنما يقولان ما قاله الإمام الشافعي (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب)، وكان للإمام “الشافعي” قبل أن يرحل إلى “مصر” اجتهاد، ولما سكنها أصبح له اجتهاد آخر. ولما ذهب إلى العراق وقدم إماما لصلاة الفجر لم يقنت، مع أن مذهبه القنوت، فلما سئل عن ذاك أجاب بجواب أصبح قدوة ” سبحان الله ما جئت لأفتن على فلان أتباعه”. أو كما قال.
يسلمنا هذا المثل إلى أن المذاهب هي إطار لآراء علماء اختلفوا في الفهم، واجبرتهم الأماكن المختلفة على استنباط ما يتناغم مع حاجة تلك البلدان، وحاجة الناس فيها، ولكنهم لم يدخلوا آرائهم في إطار مقدس، لا يقبل رأيا آخر، أو يفرضونه على غيرهم فرضاـ ومن ثم لم يحتكروا الصواب، وكان التعامل بينهم يتم وفق القاعدة الشافعية، رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، أو قاعدة ما جئت لأفتن على فلان أتباعه.
 وأدى هذا الانفتاح إلى تطعيم الفكر في عملية تبادلية بمواد جديدة ساعدت على إنمائه في الاتجاهين واستفاد كل واحد من الآخر، إلى أن بدأت السلطة الحاكمة تنشئ لنفسها المذاهب السياسية باسم الدين، فأنشأ الأمويون مذهب الجبر ومذهب المرجئة، وأنشاء العباسيون فرعا من الكيسانية يسمى ”الجريانية” الخ.
 وبدأت هذه المذاهب تخترق رويدا رويدا بقية المذاهب، ولكنها لم تتمكن من اكتساحها- بسبب وجود الأئمة الكبار- إلى أن أقفل خليفة معتوه –المتوكل على الله العباسي- باب الاجتهاد، وأتبع تلك الخطوة بخطوة جائرة، فحصر
الفقه في أربعة مذاهب فقط. وبهذا التصرف الأرعن أقفل على المذاهب نوافذ التجديد ولواقح الأفكار الأخرى، فانعدم الزاد الرافد، ونضب الماء الوافد، فكانت النتيجة أن جفت الينابيع، ويبس الإبداع، وبقي الأتباع داخل هذا الإطار المقفل يقتاتون من تراث يتأسن وزادٍ لم يتجدد، وبالتالي يعيدون خلق أنفسهم من نفس التغذية ويكررون افكارهم من نفس الإناء، فهزلت المذاهب إلى حد بعيد، وكانت النتيجة أن تجمدت داخل أصدافها، ولما تجمدت تعصبت وأفرطت في التعصب، بل أكثر من هذا فلم تكتف بتجميد نفسها، بل سعت جاهدة إلى ان تجمّد غيرها، وبهذا كثرت النوافذ المغلقة ولم تعد تغذيها لواقح الأفكار.
أعطى التحول الذي طرأ على تديين الخليفة والخلافة الحق لرؤساء الدول أن تهيمن على المذاهب، ومنذ أن صلب “معبد الجهني” وسقط راس الجعد بن درهم لقولهما بحرية الإرادة ، ورفضهما مذهب السلطة الجبر، تدحرجت رؤوس مفكرين كثيرين، ومن ثم اصبح الخليفة حامي المذاهب وهو الذي يتصرف بحياة الناس فيقتل من يشاء ويعذب من يشأ، وكان الخليفة المعتصم العباسي هو الذي أمر بتعذيب الإمام احمد بن حنبل وأصبح الفكر في ظل هذه الحماية يكابد الامتحان العسير بل المصير العسير.
جففت السياسة بتحريم الاجتهاد وحصر المذاهب في أربعة –إذن- جذور الإيناع فلم تعد المذاهب الأربعة بالذات -وهي الأكبر والأوسع انتشارا- تطلع جديدا، ولا تثمر نضيدا، وأصبح الأتباع لا يملكون من زاد سوى ما يستجرونه في استرخاء لذيذ، ولم يعد لديهم سوى الموجود المتآكل، وحرصا على المتبقي بزغ التعصب من حمأة الانغلاق، ودخلت المذاهب بحماية السياسة في صراع مع الآخر لفرض مذهبها، مما ادى إلى صراع دام أبيح فيه مالا يباح، ليس بين ما يسمى “الشيعة” وما يسمى “السنة”، وإنما بين المذاهب المتجانسة بين “الحنفية” و “الحنابلة” و “الأشاعرة” و”الشافعية” وشهد التاريخ مذابح مروعة، ومصادرات واحرق كتب ونفي مفكرين وقتلهم، كما دخلت الشيعة مع بقية المتشيعين في صراعات دامية أيضا.
 وهنا دخلت المذاهب في مأزق. لم تعد هناك مذاهب سمحة تثمر، بل أصبح هناك تمذهبٌ شرس يجفف، ولم يعد ثمة اختلاف يوحد ، بل أصبح هناك خلاف يمزق.
كان الاختلاف نعمة مهداه من رب العالمين، و{ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين } وفسره رسوله الكريم: (اختلاف امتي رحمة) فأصبح خلافا عدائيا. لقد من الله سبحانه على عباده بالاختلاف من أجل الإبداع والتنوع، والإثراء والإخصاب، فجاء هؤلاء فجففوا الأبداع والتنوع، وفي ظل الخلاف تم رفض الآخر وتقوقع كل مذهب داخل صدف التعصب، ومن ثم العقم.
ونتيجة لهذا كله عقم الفكر فجفّت الحضارة ، وعقم الفقه فانتعش التسلط.
(2)
لا ينكر أحد أن الذهنية المذهبية العامة عند المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها قد سكنت في الأعماق واستوطنت الوجدان الجمعي منذ زمن طويل، وعندما داهمها العصر الحديث بأنماط جديدة -وبالذات الحزبية موضوع هذا الحديث- لم تجد مخرجا إلاّ إلى الانتقال إليها- أخذة معها إليها تراثها المتأسن، وتعصبها المقيت، وتصوراتها المغلقة، وحاولت أن تتقمصها، وتظهر بها، فخرجت على الناس بثياب فضفاضة او ضيقة او ناقصة، ولكنها أبقت عليها- يقينا- ثيابها الداخلية.
وعلى ضوء ذلك كله ومن أجل بناء أحزاب حقيقية فعلينا أولا أن نتخلص من الأغلال الداخلية، وأول هذه الأغلال الاعتقاد بأن المذاهب دينا ملزما، في حين أن الدين لا يتمثل في مذهب واحد، وإلا كانت الكارثة، والناحية الثانية علينا أن نتعرف على نشأة الأحزاب العربية لمعرفة العائق الذي جعل من معظم هذه الأحزاب مذاهب كسيحة، ولابأس هنا أن أعيد باختصار ما كتبته في عام 1419/ 1998 وعام 1421هـ/ 2000 من مقالات حملت اسم "نحو ثقافة جديدة" تحدثت فيما تحدثت عنه عن الأحزاب: العوائق وضرورة التغيير، وليس في نيتي إعادة ما كتبت ولكني اشير إلى أهم النقاط التي تناولتها آنذاك وذكرت ان الأحزاب العربية تأسست من البداية على قاعدتين متناقضين، وأضيف الآن قاعدة ثالثة هي التمذهب، وقلت ما معناه: إن التحرك بوسائل معيقة لابد أن يحث عن التفتيش عن السبب، وفي وسعي أن أجزم أن البداية حملت دائها في نفس اللحظة التي تنفست فيها، بل يمكن القول بأن الروح الحزبية قد وئدت ساعة ما ولدت. اقتبس العالم العربي فكرة الحزبية أصلا من الغرب، لكنه سيرها بوقود من الشرق، أعني انه اقتبس لوائحها الداخلية من الحزب الشيوعي بالتحديد، بينما استمر بوقود عربية استوردها من الغرب، ونتيجة لذلك لم يتلاءم الوقود مع المحرك، فأدى إلى أن تغرز عجلة الأحزاب في الرمال واستمرت تراوح مكانها، وكأنها تجري بها رخاءا في كل اتجاه، بينما هي مستمرة تحفر الرمال وتثير الغبار من حولها فيعميها عن حقيقة واقعها المنغرز تماما فتظن أنها تتحرك منطلقة إلى الأمام في سرعة رائعة، في حين أنها تغرق في الرمال المتحركة بسرعة أكبر. لهذا نفهم لماذا معظم الأحزاب العربية دكتاتورية.
هذا الموقف جاء نتيجة تضاد أساسي بين طبيعتين متنافرتين. ومن ثم تجاذب النظام الحزبي العربي منذ مولده عاملان متضادان، أوقعا الحزبية منذ البداية ضحية تخاصمهما الطبيعي، فكان شأنهما أشبه ما يكون بمن يحاول أن يجمع سيفين في غمد واحد؛ فكانت النتيجة أن تمزق الغمد، وتثلّب السيف.
فنشأة الأحزاب في الغرب يختلف عنها في الشرق؛ ففي الغرب ولدت الحزبية مع مولد الديموقراطية، فهي في الحقيقة توأمها، ومنذ اللحظات الأولى تشابكا أذرعا للعمل من أجل حماية المكتسبات وتطويرهما؛ مشكلين سياجا واقيا ضد الدكتاتورية أو العودة إليها، أو إعاقة الخطى الديمقراطية، مستهدفين تقليم أظافر الدكتاتورية وخلع أنيابها، وقلع أضراسها. وبمولد الحزبية في الغرب أصبحت الانتخابات الديمقراطية طريق الأمة لدفع من ترضى الأكثرية عن برامجه الحزبية إلى الحكم.
عملية بسيطة لم تضطر إلى السرية لتكيف وسائلها وفقها، إذ لا حاجة لها بها، فظروفها لا تستدعي ذلك. ومن هنا لم تتطلب إنشاء خلايا ولا فروعا سرية، ولا شيء من تلك التكوينات الطويلة العريضة التي تعتمد على شبكة معقدة ودقيقة من العلاقات التنظيمية داخل سرداب طويل. لقد نشأت الأليات الحزبية في الأقباء المظلمة نتيجة ارهاب سياسي ساحق فكانت تلك الأليات مجنا يحميها البطش السياسي وعندما انتصرت تلك التنظيمات بخلاياها الواسعة تحولت إلى دولة بفعل جهود المنتمين إليها.
كانت الأحزاب الغربية والشرقية مختلفتا النشأة والهدف وجاءت الأحزاب العربية فاقتبست بدون استيعاب كامل طبيعتيهما، واحتفظت في الوقت نفسه بتمذهبها، ومن ثم مشت على عكازات ثلاث: مذهبية، وغربية، وشرقية، وكل واحدة لها مقاييسها الخاصة طولا وعرضا، فعرجت خطاها، واضطرب مشيها، ووجدت الأحزاب العربية نفسها تمارس ما يمارسه الحكام. وعليه فالأساس هو إن لم تخلع الأحزاب (بعد أن ساد نوع من الحرية وانتفت عوامل النزول إلى الأقباء) القداسة الدينية عن التمذهب فإنها-أي الأحزاب- سوف تظل تستجر ماضيها الاحتكاري وتخلد إليه.
إن الحزب وسيلة تهدف إلى تحقيق الرخاء والعدالة الاجتماعية وتحقيق المساواة وضمان المواطنة المتساوية، وإذن فهو-كالمذاهب في أصلها النقي من هذه الناحية- وهو عليه أن يطور نفسه لأنه بكل بساطة لم يستمد شرعيته من الانتخابات فيطرح وفق ثوابته برنامجه الانتخابي حسب مقتضيات الحاجة المطروحة كما هو معروف ويعرفه الناس.
إذا سلمنا بأن المذاهب هي في الأصل نتيجة اجتهادات بشرية فليس من الصعوبة ان نتخلص من التقديس ومن ثم يتعامل الناس وفق اجتهادات بناءة.
وإذا ادركنا مثلا لأن للمذاهب نظريات مختلفة في السياسة الزراعية -وقد كانت الزراعة هي بترول الأيام الخوالي-، فذهب البعض إلى نظام الشراكة وذهب الآخر إلى نظام “القبال”، أدركنا أن هذا التصور نشأ من اجتهادات مختلفة نتيجة حاجة إنسانية اختلفت المذاهب في الاستفادة منها.
وهكذا نجد أنه عندما تنزع المذاهب صبغتها المقدسة تتحول تلقائيا إلى حزب نقي يتعامل وفق رؤى اجتهادية. ومن هنا فإن الأحزاب الحقيقية لا تجد غضاضة أن يكون في اعضائها “زيدي” أو “شافعي” أو “حنفي” أو “إسماعيلي” واليمنيون هم ذلك كله، ولكن أن يكون هناك “حزب زيدي”، و “حزب شافعي” و “حزب حنفي” و “حزب إسماعيلي” فهو التمذهب بذاته، وسيكون الحزب مذهبا ونعود حتما إلى مربع التمذهب. ولدينا من “التمذهب” ما يوجع الرأس.
صحيح أن الحرية تتيح للإنسان او للجماعة ان تشكل أحزابها وفق معتقدها المذهبي، لكن المشكلة ليست في المذهب السمح، وإنما في التمذهب الشرس، والتمذهب في حد ذاته عدو الحرية، وليس من الحرية أن تقتل الحرية باسم الحرية. ولو اكتفى المتمذهبون بالحكم اللفظي لهان الأمر، لكنهم يتبعون القول العمل فيشحذون سيوفهم ومخالبهم فكيف يمكن ان تكون هناك حرية في ظل السيف المصلت والخنجر المسموم؟.
أخلص من هذا إلى القول بأن على الأحزاب الجديدة أن لا ترسي أساساتها على الخلاف، أي التعصب، وإنما على الاختلاف أي تنوع الآراء، وترفض التمذهب، وتقبل المذهب، باعتباره تعبدا ذاتيا واجتهادات تقبل الخطأ وتقبل الصواب.