Translate

الثلاثاء، 29 ديسمبر 2009

الأجندة المتصارعة في القرن الإفريقي

زيد يحيى المحبشي
منذ قديم الزمان ومنطقة القرن الإفريقي حاضرة بقوة في أجندة الأطماع الدولية الاستعمارية, ولذا كانت ولازالت واحدة من أكثر المناطق سخونة على ظهر البسيطة وسط غياب التوازنات وتسيُّد الفوضى الإقليمية وهي الضريبة الطبيعية لاستحقاقات لعنة الجغرافيا الجاعلة من هذه المنطقة بمثابة مجمع الأمن الإقليمي وبوابة العبور الوحيدة نحو عمق القارة السمراء والعالم باعتبارها تطل على البحر الأحمر وخليج عدن والمحيط الهندي وتتحكم في طريق الملاحة البحرية بين الشرق والغرب بشقيها العسكري والاقتصادي ، حيث بوابة الدموع- مضيق باب المندب- في حين مثّل اكتشاف النفط في الخليج العربي والنفط الإفريقي الواعد عاملاً إضافياً ومبرراً كافياً لدخول لاعبين جدد على الخط لمزاحمة أوربا في مناطق نفوذها التقليدي ولكل واحد منهم أسبابه وممارساته وسياساته وطموحاته لتمكين نفوذه وفرض أجندته .
هذا التسابق المحموم على المنطقة وصل ذروته في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة وبروز ما بات يعرف باللعبة الكبرى فيما يتعلق بإقامة مشروعي الشرق الأوسط الكبير والقرن الإفريقي الكبير وكلاهما مكملان لبعضهما البعض كون القاسم المشترك بينهما الرغبة الجامحة في إعادة تشكيل وترتيب خارطة التوازنات والتحالفات الإقليمية على ضوء المعطيات والتحولات الميدانية التي شهدتها منطقتي الشرق الأوسط وشرق إفريقيا خلال العقدين الأخيرين حيث قضايا الصراع مازالت في معظم دولهما ساخنة ومرشحة للمزيد من التعقيد والتناسل والتفريخ خصوصاً دول شرق إفريقيا بما تموج به من أزمات داخلية وصراعات حدودية وعرقية وطائفية وتدفق مخيف للسلاح وتزايد حالات الانفصال والأعمال الإرهابية ناهيك عن الصراعات الخفية الناشبة على أطراف ونقاط التماس العربي الإفريقي بين الإسلام والمسيحية ما بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 وما صاحبها من تنامي لدور القوى الإسلامية المتطرفة وتزايد العمليات الإرهابية للقاعدة وبروز إيران كلاعب رئيسي في القرن الإفريقي بالتوازي مع تراجع النفوذ الأوربي لصالح تعاظم الوجود الأميركي والإسرائيلي .
الصورة بمفرداتها المتنافرة والمتصادمة شكلت بيئة مناسبة لتبلور المشاريع الدولية والإقليمية بما لها من تفاعلات وتأثيرات بدت بصماتها واضحة فيما تشهده المنطقة من تحولات إستراتيجية عميقة قد ترسم ملامحها للعقد القادم، ولاشك بأن اهتمام وسائل الإعلام والمراكز البحثية الغربية المتزايد خلال السنوات الأخيرة بالمنطقة لم يأتي من فراغ بل هو إيحاء مباشر للتأكيد على أن ما يجري ليس سوى مقدمات لتحولات وترتيبات ما تخدم واضعيها ولا تخدم المنطقة وشعوبها بما لذلك من آثار كارثية على منظومة الأمن القومي الإفريقي والعربي على حد سواء.
يأتي هذا التحول في وقت لم يعد التأثير الإسرائيلي فيه على السياسة الأميركية مقتصراً على القضية الفلسطينية ومنطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بل تعداها منذ زمن مبكر إلى البحر الأحمر والقرن الإفريقي لتكتمل بذلك دائرة التدويل للممرات المائية ومنابع نهر النيل والفاشية الإسلامية والأزمات المتناسلة من رحم التدخلات الخارجية وتنور مشاريع التغيير وأجندة الصراعات في ظل ما نشهده من تحولات وتقاطعات للمصالح الإقليمية والدولية وغياب فاقع لأي معيار ناظم لوجود أية قوة إقليمية قادرة على إعادة التوازن والأمن والاستقرار .
في هذه الوقفة السريعة سنحاول مقاربة السيناريوهات المحتملة لطبيعة هذا الصراع واحتمالات المواجهة أو التوافق وتحديداً فيما يتعلق بالمشاريع ذات التأثير المباشر على المنطقة كالأميركي والإسرائيلي والإيراني على هناك مشاريع منافسة كالصيني والأوربي والروسي لكنها تظل فرعية وذات تأثير منخفض كما أنها بشكل أو بأخر مشاريع تابعة في قوة التأثير على ديناميكية تفاعل المشاريع الرئيسية .
تجدر الإشارة أيضا إلى أن هناك توافق عجيب فيما يتعلق بتنامي ظاهرة القرصنة والإبقاء على حالة الفوضى والصراع ولكن في حدود تحول دون خروج الأمور عن السيطرة وكذا فيما يتعلق بحدود النفوذ والوجود ومساعي السيطرة على القرن الإفريقي والبحر الأحمر وباب المندب والمياه الإقليمية للمنطقة والاستفراد بثرواتها الطبيعية لكن ذلك يبد على النقيض تماما فيما يتعلق بالإرهاب والجماعات الإسلامية والقاعدة والتوازنات والتحالفات التي يجب أن تكون عليها المنطقة .

الأجندة الأميركية
لم تشغل المنطقة لسنوات طويلة حيزاً كبيراً في دائرة اهتمامات السياسة الأميركية الخارجية رغم وجودها القديم بهذه المنطقة حيث لم تكن تجد في النفوذ الفرنسي أو البريطاني تهديداً مباشراً لمصالحها لاسيما وأن النفوذ البريطاني ظل منساقاً ومتناغماً على طول الخط مع التوجهات الأميركية, غير أن انتهاء الحرب الباردة وسقوط القطبية الثنائية وبروز القطب الواحد فعودة تعدد الأقطاب مؤخراً وما صاحب ذلك من فشل ذريع للتدخل الأميركي المباشر على أكثر من صعيد دولي وانحسار نفوذه الكوني وظهور فاعلين دوليين وإقليميين لم يعد ممكنا تجاوزهم أو تجاهلهم وبروز مفاعيل جديدة لازمات لم تكن متوقعة بما فيها القاعدة والقرصنة وتنامي العداء واتساع رقعة الرأي العام المناهض للسياسات الأميركية، بما خلفته من مآسي وكوارث لم يعد بالإمكان حلحلتها ناهيك عن تداعياتها السلبية على المصالح الأميركية كل هذا كان مبرراً كافياً لتغيير بوصلة وأدوات التعاطي الأميركي ولكن بما يتلاءم وانجاز مشاريعه الكونية التي عجز عن تحقيقها بالتدخل العسكري المباشر أملاً في إعادة الوهج إلى القطبية الأحادية .
عوامل عديدة أدت إلى هذا التحول الطارئ أهمها: ازدياد أهمية المرتكزات الإستراتيجية التي تقوم عليها العلاقات الأميركية الإفريقية في عصر العولمة بما يتناغم مع محددات القرن الإفريقي الثابتة كالموقع والثروة وخطوط التجارة بما لها من أهمية في منظومة السياسة الكونية الأميركية، ناهيك عن تغير الرؤية الأميركية حيال الأزمات والصراعات التي تعاني منها المنطقة وإدراكها أهمية التركيز على المدخل السياسي والعسكري بما يخدم مصالحها الحيوية في منطقة القرن والبحيرات العظمى مستفيدة من فشل وإخفاق التركيز الأوربي على المدخل الاقتصادي والتنموي.
المشروع الأميركي في طابعه العام يطمح إلى حماية خطوط التجارة البحرية عبر المحيط الهندي والبحر الأحمر والوصول إلى مناطق الثروة ومصادر الطاقة ومحاصرة النظم غير الموالية واحتوائها ومحاربة التطرف والأصولية والحد من انتشار الأسلحة ودعم الأنظمة المتبنية للتصور الأميركي حيال الإرهاب خصوصاً وأن هذه المنطقة من المناطق التي تتكاثر فيها التهديدات لمصالح أميركا وحلفائها بصورة جعلتها ضمن الإستراتيجية الخاصة بالاحتواء خلال المرحلة المقبلة(2009 – 2015) .

آلية التنفيذ
مثلت عملية تفجير سفارتي أميركا في نيروبي ودار السلام في آب/ أغسطس 1998 وما صاحبها من ضربات عسكرية أميركية لمصنع الشفاء السوداني بدعوى استخدامه في صناعة أسلحة كيميائية لصالح ابن لادن نقلة نوعية على صعيد تزايد الاهتمام الأميركي بهذه المنطقة والمتعاظم بصورة لافتة ما بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 وما تمخض عنها من توجه نحو محاربة ما يسمى بالإرهاب ووضع السودان والصومال واليمن على قمة المرحلة الثانية لهذه الحرب بدعوى أنها توفر ملاذات آمنة للقاعدة وعناصرها الفارين من أفغانستان وبالتالي إنشاء قاعدة عسكرية أميركية في جيبوتي في حزيران/ يونيو 2003 وطرح مبادرة مكافحة الإرهاب في شرق إفريقيا وتأكيد مركزيتها في محاربة الإرهاب.
كل ذلك لم يكن سوى مقدمة لما هو اكبر من القاعدة والإرهاب وهو ما بدا واضحاً مع نهاية العام 2004م عندما أطلق البيت الأبيض مشروع القرن الإفريقي الكبير بالتزامن مع إعلان مشروع الشرق الأوسط الكبير والكشف عن التوجه لإنشاء القيادة العسكرية المركزية "آفريكوم" في شباط/ فبراير 2007م لتولي مهام على مستوى القارة الإفريقية باستثناء مصر, تمهيداً للانفراد الأميركي برقعة الشطرنج للشرق الأوسط والقرن الإفريقي والبحر الأحمر والبحيرات العظمى وهو طموح قائم ومستمر بغض النظر عن هوية حكام البيت الأبيض .
القرن الإفريقي الكبير في خضم الأحداث العاصفة بالمنطقة والسعي الأميركي المتواصل لاستغلالها لصالح أهدافه الإستراتيجية يبدو أنه سيكون من أكثر الساحات الكونية سخونة في العقد المقبل إذ من المتوقع حسب المصادر الأميركية أن يضم دول القرن الإفريقي التقليدية: جيبوتي والصومال وإثيوبيا وإريتريا وجنوب السودان بعد فصله المتوقع في استفتاء العام 2011 إلى جانب دول البحيرات العظمى: كينيا وأوغندا وتنزانيا والكونغو الديمقراطية وراوندا وبورندي .

القرن الإفريقي الكبير
في طابعه العام يحمل أبعاداً تتعدى توفير قاعدة إمدادات خلفية لمشاريع أميركا في الشرق الأوسط إلى إعادة ترتيب المنطقة بما ينسجم مع المصالح الأميركية الإستراتيجية في إفريقيا والشرق الأوسط وبما يكمِّل صورة الشرق الأوسط الكبير فيما يتعلق بخارطة النفط والغاز والإرهاب التي هي واحدة في مبانيها ومعانيها سواء في الشرق الأوسط أو أوراسيا أو شرق إفريقيا في حين نجد أن الإرهاب مجرد عامل تابع فيما النفط وهو الأساس في قائمة الاستثمارات الأميركية المستقبلية عامل مستقل والرهان هنا على النفط الإفريقي باعتباره المخزون الأكبر عالميا لاسيما في المنطقة الممتدة من السودان إلى سواحل كينيا وهو المحركة الأساسي لهذا المشروع.
في التفاصيل يطمح المشروع إلى الربط بين المناطق الحيوية ذات البعد الجيواستراتيجي كشرق إفريقيا والبحيرات العظمى بما يضمن الهيمنة على التفاعلات المستقبلية في هذا الجزء الهام من العالم على خلفية النجاح الأميركي النسبي في التركيز على المدخل السياسي والعسكري على حساب الفشل الاقتصادي والتنموي الأوربي بالتوازي مع توحد المخاوف الأميركية والأوربية من تنامي العلاقات الصينية الإفريقية ودخول إيران كلاعب أساسي وما ترتب على ذلك من تخفيف لحدة التنافس الأميركي- الأوربي في السنوات الأخيرة لصالح أميركا وتدعيم مواقفها في صراع الكبار وتحقيق رغبتها في الانفراد بالنفط الإفريقي ومحاصرة الإرهاب والدول المارقة كإيران وإريتريا ما بعد 2007 والرغبة في إقامة منطقة تحوي مجموعة المصالح الإستراتيجية الأميركية وتؤمنها .
المشروع الأميركي في بدايات ظهوره سعى إلى تحقيق هدفين هما: زيادة قدرات المنطقة في مجال إدارة الأزمات وحل الصراعات وتحسين الأمن الغذائي وهو ذات الطموح للمشروع الأوربي حيال شرق إفريقيا في 2006م لكنهما أصيبا بالفشل الذريع, ما دفع واشنطن إلى ابتكار آليات جديدة لتحقيق طموحاتها وأهدافها والتي صارت تستهدف إنشاء بنية تحتية لمصلحة شركات التعدين والنفط والصناعات العسكرية الأميركية والإسرائيلية وضمان الانفراد بالنفط باعتباره البديل المستقبلي لنفط الخليج العربي وبحر قزوين المهدد بالنضوب ومحاصرة نمو النفوذ الصيني والإيراني وخلق مناطق نفوذ تحقق المصالح الأميركية لاسيما وأن القرن والبحيرات لا يمكن فصلهما عن مجمل المصالح الأميركية في المنطقة برمتها .
الخطوط العريضة لمشروع القرن الإفريقي الكبير صحيح أنها متمحورة حول المصالح السياسية والعسكرية والاقتصادية بدرجة أساسية وقد حصلت واشنطن على الكثير من الامتيازات في هذا المجال لكن غير صحيح أن المشروع سيصيب في صالح شعوب المنطقة بدلالة عدم مغايرة محركاته الخفية لذلك الذي شاهدناه في الشرق الأوسط الكبير ما يعني أن الغاية من المشروعين تكميل عملية التقسيم الكانتوي للمنطقتين وإعادة رسم التوازنات الإقليمية وفقاً للمحددات الطائفية والعرقية في إطار إعادة النظر في تقسيمات اتفاقية سايكس بيكو وهو ما يكشف سر النزاعات العرقية والدينية التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الأخيرة والتي كان لأميركا وإسرائيل الدور الرئيسي في تأجيجها لاسيما تلك الناشبة بين المسيحية والإسلام .
ومعلومٌ أن دول منطقة القرن والبحيرات إما ذات أغلبية مسلمة كجيبوتي والصومال أو أغلبية مسيحية كأوغندا وكينيا أو مختلطة كأثيوبيا وتنزانيا وإريتريا كما تشكل قبائل التوتسي المسيحية امتداداً تداخلياً في معظم دول البحيرات ولها مساعي حثيثة لتحجيم قبائل الهوتو المسلمة التي بدأت تتراجع بصورة كبيرة أمام التوتسي بفعل الدعم الأميركي والإسرائيلي في وقت تشير فيه الإحصاءات إلى أن غالبية الصراعات المحلية ذات بعد ديني .
إذن فهناك مساعي واضحة لتغليب الكفة المسيحية على الكفة الإسلامية في منطقة القرن الإفريقي الكبير بدلالة ما نلاحظه من تحيز أميركي وغربي إلى جانب المسيحيين ورفع ممنهج لوتيرة الربط بين الإرهاب والإسلام رغم ذهاب الدراسات الغربية إلى أن المسيحيين كانوا أكثر تنفيذاً للعمليات الإرهابية وليس المسلمين كما هو الحال جيش الرب في أوغندا وهذا بدوره منسحب على أعمال القرصنة التي تم ربطها عن قصد مؤخراً بالإسلام وسط بروز المخاوف من توجه القوى الإسلامية الصومالية في حال استتب لها الأمر وتمكنت من إعادة توحيد الصومال تحت رايتها نحو تشكيل محور إسلامي ضاغط مع القوى الإسلامية السودانية على إثيوبيا الحليف الاستراتيجي لأميركا وإسرائيل والقائم عليها مزاد الرهان في إشراع الأبواب المؤصدة أمام المشروع الأميركي إلى جانب كينيا كما الرهان أيضا في قيادة الحرب بالوكالة على الإرهاب الإسلامي في شرق إفريقيا والحرب على الدول المارقة وتسهيل أي تحرك أميركي محتمل في حال تهديد المصالح الأميركية بالمنطقة والأهم ضمان أمن إسرائيل في مواجهة أي احتمالات مستقبلية لفرض قيود على مضايق البحر الأحمر والملاحة فيه .

قاعدة آفريكوم
عوامل عديدة أدت إلى التوجه لإنشائها وجعل إحدى دول القرن الإفريقي المقر الرئيسي لها أهمها: فشل التدخل العسكري في الصومال وفشل التدخل بالوكالة أيضا عبر إثيوبيا وتمكن إيران من تحويل نقاط الإخفاق الأميركية إلى مكاسب سواء فيما يتعلق بنسج علاقات وطيدة مع السودان أو متنامية مع اريتريا وعدد من الفصائل الإسلامية الصومالية بالتوازي مع تنامي أعمال القرصنة وظاهرة الإرهاب الدولي في الصحراء الإفريقية ومخاوف تحول الصومال إلى قاعدة إستراتيجية للقاعدة بعد محاصرتها في باكستان في الوقت الذي انصب فيه اهتمام إدارة أوباما على أفغانستان ومحور باكستان- الهند- إيران باعتباره المدخل الرئيسي لإحكام القبضة على شرق وجنوب آسيا وقاعدة الانطلاق لمحاصرة القاعدة والقوى الإسلامية المتطرفة مع بروز العديد من العوائق الحائلة دون ذلك والمنتجة بصورة أو بأخرى تداعيات كارثية بدت علاماتها واضحة في تزايد عنف القاعدة وأخواتها ونجاحها في نقل عناصرها إلى منطقة القرن والبحيرات العظمى وبناء قواعد هناك وسط رغبة جامحة لتحويل موريتانيا إلى قاعدة إنطلاق والسودان والصومال مع احتمال ضم اليمن إلى قاعدة مواجهة قادمة استعدادا لعرقلة المشروع الأميركي الإفريقي .
المبررات الأميركية السابقة تظل في حقيقتها ثانوية لسبب بسيط هو تزايد الاعتماد الأميركي على مصادر الطاقة الإفريقية وزيادة الضغوط على قوات كينتكوم واريوكوم نتيجة الحرب الدائرة في العراق وأفغانستان ولذا لم يكن أمام البيت الأبيض من خيار لتخفيف الضغط على قواته العاملة في أفغانستان والعراق سوى التوجه إلى إنشاء قيادة آفريكوم المركزية مستفيداً من وجود قاعدة له في جيبوتي لاسيما وان قوانينها لا تعارض الوجود الأجنبي على أراضيها كما لأميركا تواجد عسكري بحري وجوي قُبالة السواحل الصومالية ناهيك عن النجاح في استغلال أزمات المنطقة لصالح الحصول على امتيازات خاصة شملت الموافقات الصريحة بشأن إنشاء قواعد عسكرية أو تكثيف التواجد العسكري وكله سيصب في النهاية لصالح وضع اللبنة الأولى لمشروع القرن الإفريقي الكبير .
إنشاء القيادة من ناحية أخرى يشكل انعطافة مهمة على صعيد الاهتمام الأميركي بإفريقيا عموما والقرن الإفريقي خاصة ومنحه وزن اكبر بسبب تنامي حاجة أميركا للنفط الإفريقي وهي أيضا خطوة ضرورية في سياق الحرب الوقائية ضد القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي والحيلولة دون حصول القاعدة على ملآذات آمنة في القرن الإفريقي والبحيرات العظمى حيث تشعر واشنطن أن هذه المنطقة تشكل قاعدة خلفية للقاعدة والمصدر الرئيسي للتهديدات المحتملة مستقبلاً للمصالح الأميركية .
اللافت هنا انسجام هذا التوجه مع مساعي بناء قاعدة النفوذ الجديدة لتكتمل بذلك الصورة مع ما يجري في الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا ولذا لم يكن من قبيل المصادفة أن يتزامن هذا التوجه مع إعلان واشنطن إلغاء منظومة الدفاع الصاروخي من شرق أوربا في حين أن التحركات الأميركية في السنوات الأخيرة لم تكن سوى مقدمة لتأسيس وضع جديد وإحداث جنية من التوازنات داخل إفريقيا بالتوازي مع تكثيف الوجود العسكري وتشكيل قيادة فرعية ضمن القيادة الوسطى الممتدة من آسيا الوسطى إلى القرن الإفريقي بغرض تنسيق العمليات ضد الإرهاب كما هو حال القوات المشتركة في القرن الإفريقي تمهيداً لإخراج قيادة آفريكوم إلى حيز الوجود وبذلك تكون أميركا قد ضمنت تدويل الأزمات والبحار وخصوصاً البحر الأحمر وخليج عدن وقناة السويس وباب المندب إلى جانب ضمان تدويل منابع مياه نهر النيل وتهيئة البيئة لتمرير أجندتها وتهيئة المناخ السياسي العام لأي مواجهة محتملة مع إيران سواء كانت مباشرة أو بالوكالة عبر إسرائيل وضمان الاستجابة الفورية والتدخل السريع في أوقات الأزمات والاهم من هذا وذاك ضمان الانفراد بتدوير لعبة التنافس القائمة بما يحقق مصالحها الإستراتيجية الآنية والمستقبلية .

الأجندة الإسرائيلية
الاهتمام الإسرائيلي بمنطقة القرن الإفريقي والبحيرات العظمى منسجم كليةً مع الاهتمام الأميركي كون هذه المنطقة تشكل أهم موقع استراتيجي من الناحية الأمنية منذ ولادة الدولة العبرية ونقطة الارتكاز لتحقيق الاتصال بوسط وجنوب إفريقيا وتحقيق مصالح إسرائيل الاقتصادية والأمنية ولذا نجدها شديدة الحرص على إيجاد عمق لها في البحر الأحمر والقرن الإفريقي بما في ذلك إنشاء قواعد عسكرية في بعض دوله كإريتريا بما يتيح لها رصد أي نشاط عسكري عربي ضدها واستخدام التفوق الإسرائيلي لكسر أي حصار عربي مستقبلاً ضد إسرائيل وسفنها في البحر الأحمر ومدخله الجنوبي وكسر دائرة العزلة العربية على إسرائيل وبالتالي ضمان الاتصال والأمن للخطوط البحرية العسكرية والتجارية من المحيط الهندي إلى البحر الأبيض المتوسط والحيلولة دون أن يكون البحر الأحمر بحراً عربياً خالصاً.
استخدمت إسرائيل العديد من الأساليب لتمرير أجندتها مستغلة وجود أقليات يهودية في منطقة القرن الإفريقي بما لها من دور في تغذية الصراعات العرقية والطائفية والحدودية وتوظيفها لصالح السياسات الإسرائيلية واللعب على المتناقضات الفجة واستغلال كل الثغرات حتى يبقى قادة الأقليات الحاكمة في المنطقة مرتبطين بتل أبيب وسياساتها كما استغلت علاقاتها مع إثيوبيا وإريتريا على سبيل المثال ضد السودان واليمن إلى جانب دعمها طموحات الانفصال كما في بونت لاند الصومالية ومحاولة استغلالها الحرب الدائرة هناك للفوز بتأجير ميناء بربرة أو على الأقل الفوز بتعهد إقليم صوماليا لاند بتقديم تسهيلات وامتيازات لاستخدام الميناء ناهيك عن مساعيها الدءوبة للحيلولة دون وجود حكومات قوية خاصة ذات التوجه العربي أو الإسلامي والترويج لوجود علاقات وثيقة بين الإسلاميين والقاعدة والقراصنة وتشكيل ورقة ضغط على السودان ومصر من خلال مساعي تدويل منابع نهر النيل وضرب القوى الإسلامية واستكمال مخطط نقل يهود الفلاشا من المنطقة وسط رغبة جامحة في السيطرة والتغلغل الكامل في شؤون دول شرق إفريقيا والبحر الأحمر وتأمين نطاق الأمن الحيوي الجنوبي لإسرائيل حيث المدخل الجنوبي للبحر الأحمر واكتساب وسيلة ضغط جديدة على الدول العربية لدفعها نحو التطبيع المجاني والسلام الاقتصادي والانخراط في المواجهة المحتملة مع إيران.


الأجندة الإيرانية
لإيران طموح قديم في الوصول إلى البحر الأحمر والقرن الإفريقي ولذا لم يكن غريباً أن يحتل هذا الطموح مكانة خاصة في قائمة اهتمامات السياسة الإيرانية الخارجية في السنوات الأخيرة وتحديداً ما بعد وصول محمود أحمدي نجاد إلى الحكم في 2005م وما صاحب ذلك من توجه ممنهج لنقل الحرب من مضيق هرمز والخليج العربي إلى خليج عدن وباب المندب بدلالة خروج التدخل الإيراني في الشؤون الداخلية للمنطقة من دائرة السرية والمراوغة إلى دائرة العلن والتدخل المباشر بما ينسجم وتوسيع نطاق ما أسمته طهران "الجهاد البحري" باعتباره يشكل المدخل الرئيسي لإستراتيجية السيطرة على الممرات المائية تحسباً لأي انفجار محتمل مع الغرب حول ملفها النووي ناهيك عن طموحات فتح ممرات بحرية وبرية تسهل الوصول إلى مناطق الأزمات في الشرق الأوسط عبر تأمين وجود إيراني قريب من هذه المناطق وتوفير أوراق ضغط جديدة للمساومة في الشرق الأوسط .
أسباب عديدة أدت إلى تسليط الضوء على المشروع الإيراني في المنطقة المتغول على خلفية مفاعيل التدخل الأميركي المباشر ما بعد حربي الخليج الثانية والثالثة بما لهما من إفرازات على صعيد الجدل العربي الرسمي حول المشروع الإيراني وخطورته على المنطقة والتحولات السياسية الخارجية لإيران القائمة على التدخل المباشر وسط غياب فاقع لأي مشروع أفرو - عربي متفق عليه- مؤثر ومكافئ- والاكتفاء في كثير من الأحيان بدور المتأثر في حين أتاحت الإخفاقات الأميركية في منطقة القرن الإفريقي والبحيرات العظمى على خلفية عدم وفاء واشنطن بالتزاماتها تجاه حلفائها هناك لطهران فرصة طالما حلُمت بها لنسج علاقات اقتصادية وسياسية وأمنية خصوصاً مع السودان واريتريا وبعض الفصائل الصومالية الإسلامية وغيرها و تعزيز وجودها العسكري البحري في البحر الأحمر وخليج عدن وقُبالة السواحل الصومالية تحت ذريعة محاربة القرصنة إلى جانب وجود قاعدة عسكرية إيرانية في ميناء عصب الاريتري والقيام بتهريب الأسلحة إلى الحركات المتمردة في اليمن والصومال وتسهيل نقل عناصر القاعدة من أفغانستان إلى جنوب اليمن وكذا تدريب عناصر التمرد الحوثي بمعسكر دنقللو الاريتري وإلحاحها المتكرر على صنعاء لتدوير وتنشيط ميناء ميدي..الخ .
كل هذا إن دل على شيء فهو يدل على أن إيران بدأت من الناحية العملية بنقل معركتها إلى منطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر ما دفع العديد من المراقبين للنشاط الإيراني غير الطبيعي مؤخراً في المنطقة إلى الجزم بأن البحر الأحمر مرشح في المرحلة المقبلة ليكون حلبة جديدة لمواجهات مسلحة إقليمية دولية بما لذلك من تداعيات كارثية على الصومال والسودان واليمن وربما دول افريقية أخرى على خلفية الحراك الإيراني غير المسبوق لفتح جبهات جديدة في القرن الإفريقي خصوصاً وأن الاتفاقية الأمنية الإسرائيلية الأميركية المبرمة قبل مغادرة بوش الابن البيت الأبيض بستة أشهر – منتصف 2008 - قد بدأت سريانها من خلال إستراتيجية جديدة يتم رسمها في البحر الأحمر والمحيط الهندي حيث الصراع الدولي المحتمل لسبب بسيط هو قيام تلك الاتفاقية على منهجية تجزئة الأمن الاستراتيجي لمنطقة البحر الأحمر وهو ما تتحسب له إيران جيداً كما تدرك بأن هذا ليس سوى مقدمة لحصارها بحرياً في وقت باتت فيه تعاني شبه عزلة عربية وإسلامية ودولية، بدلالة إقدامها في منتصف نوفمبر الماضي على تعزيز قواتها البحرية المتواجدة في البحر الأحمر وخليج عدن بالأسطول الرابع .
الأجندة الإيرانية في إطارها العام ترمي إلى تعقيد حياة الأميركيين في الجزيرة العربية والقرن الإفريقي وإحباط المخطط الغربي لتشديد الحصار البحري عليها في مياه الشرق الأوسط وإيجاد قاعدة انطلاق نحو شرق إفريقيا حيث تدور حروب مكملة لما يجري في العراق وأفغانستان وصولا إلى خلق إستراتيجية أمنية إقليمية تضطلع فيها إيران بدور المهيمن الطارد لأي وجود قوي من قبل أية قوة اقليمية أخرى وبالتالي جر أميركا إلى طاولة مفاوضات جديدة.
غير أن الصورة مختلفة تماما في إطارها الخفي كون إيران مدركة تماماً بأن المنطقة بأسرها مقدمة على تغييرات شاملة بما فيها إعادة تشكيل التحالفات والتوازنات ومحاولات الدفع بمشروعي الشرق الأوسط الكبير والقرن الإفريقي الكبير إلى الأمام ولذا فهي أمام خيارات لم يعد بالإمكان استبعادها من قائمة التعاطي الدبلوماسي والسياسي مع قضايا المنطقة بما فيها التدخل المباشر في سباق مع الزمن لإثبات كينونتها وحضورها وأنها صارت فاعلاً إقليمياً ودولياً لم يعد ممكنا تجاوزه في التوازنات المتوحرة في رحم المرحلة المقبلة ولو كان ذلك على حساب علاقاتها مع دول المنطقة وشعوبها وأمنها واستقرارها مادام وأنه في خاتمة المطاف سيضمن لها فرض أجندتها على طاولة لعبة الكبار.
التحرك الإيراني لفرض أجندته يأتي في سياق إستراتيجية واسعة يتداخل فيها الإقليمي بالدولي ولذا لا تأخذنا الدهشة أمام ما نشاهده من توافق غريب وعجيب بين الأجندة الأميركية والإسرائيلية والإيرانية وشراكة إستراتيجية واضحة على تفكيك واقع المنطقة في شكل تغيير في الخرائط السياسية من جهة وعن طريق الدمج الكتلوي المعتمد أساساً على التناقضات المذهبية والطائفية والعرقية وصولاً إلى حافة التصادم الذي ينتهي بالتقسيم والتفتيت والاحتراب والتشرذم وهو الدافع الحقيقي طبعاً للتدخل الإيراني في شؤون المنطقة المستمد قوته ليس من القدرة على فعل التدخل في المحيط الخارجي وإنما من صلب الشراكة القائمة بين الأجندات الثلاثة .

المصادر
- أحمد إبراهيم, الدور الإسرائيلي في إشعال حرب الصومال , الجزيرة نت , 7 كانون الثاني/يناير 2007.
- رداد السلامي, الصراع العالمي على القرن الإفريقي واليمن, موقع التغييرنت , 13 تشرين الأول /اكتوبر2009.
- سامي السيد أحمد محمد, القرن الإفريقي..صراع دولي على النفط والجغرافيا ,معهد البحوث والدراسات الإفريقية.
- د.عبدالكريم العجمي الزياني, القرن الإفريقي , موقع اللواء الأخضر – ليبيا .
- فؤاد معمر, القرن الإفريقي الكبير .. مشروع أميركي لحرب جديدة في إفريقيا, مركز الناطور للدراسات , 11 تشرين الثاني/نوفمبر2009.
- نجيب اليافعي, الإستراتيجية الدائمة لإيران في النفوذ باتجاه الممرات المائية والنفط , صحيفة الأهالي اليمنية , 27 تشرين الأول/أكتوبر 2009.
- د.أبا الحكم, التصعيد في صعدة .. بداية تفكيك المنطقة , موقع شبكة البصرة , 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2009 .
- الوجود الأميركي في القرن الإفريقي , ندوة علمية, مركز الراصد للدراسات السياسية والإستراتيجية , 31 أيار/ مايو 2009.
- الصراع في القرن الإفريقي, ملف خاص, موقع موسوعة مقاتل من الصحراء.